دموع البلياتشو
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
ژانرونه
دخل العجوز من باب الكوخ بعد أن انحنيت له الانحناءة اللائقة، ظل صامتا طوال رحلة العودة وعذبتني أسئلتي: لماذا يغادر عجوز في مثل سنه أرض المملكة؟ أتراه ناسكا سئم وحدته وأراد أن يسافر ويرى العالم؟ أم تراه قد حاول وحاول مع الحكام الكبار والصغار ولما يئس اختار الخروج؟ هل نفاه أحد منهم وطرده من مملكته أم تركه واقفا أمام بابه كالكلب الضال فعاد أدراجه إلى الصومعة التي كان يعيش فيها؟ وهل جرب ما جربه المعلمون والحكماء القدماء من ألوان التعذيب والعقاب، أم لقي الحفاوة والتكريم وآثر الاعتكاف في أيامه الأخيرة؟ وإذا كان أحد قد كرمه فلماذا يخلو جرابه إلا من أرغفة يابسة وغليون وكتاب وحيد من تراث الآباء والأجداد؟
أسرعت إلى المصباح الصغير المعلق على الجدار فوضعته على المائدة وأشعلته، ونبهني صوت الحكيم الذي رن في أذني أقوى مما تصورت: الورق يا ولدي، الورق والريشة والمداد، هيا فالوقت يمر!
قلت في أدب وأنا أنحني باحترام شديد: ليس قبل أن تتلطف بشرب الشاي الأخضر أو طبق الحساء.
أشاح بيده قائلا: وليس قبل أن نستحق كرم ضيافتك يا بني. وبينما رحت أعد الأوراق والدواة والريشة الطويلة، كان هو يتجول بعينيه في أرجاء المكان، لم يسأل عن شيء ولم يفتح فمه بكلمة، أدركت من نظراته إلي وإلى الكتب والأوراق والرسوم المتناثرة على المائدة الصغيرة والجدران الخشبية الواطئة أنه فطن إلى حالي وفهم أنني أسلي وحشتي بالكتابة والقراءة وملء الفراغ بالعصافير والأشجار والأزهار والبشر والأسماك والحيوانات في خطوط وانحناءات وأشكال ودوائر ورسوم غير دقيقة ولا معبرة بصورة مرضية. ورفت الأسئلة في فضاء رأسي كالفراشات المضطربة وأنا حائر بأيها أبدأ، وهل يسمح العجوز بالحوار معه؟ ورحت أنظف المائدة وأرتب مقاعد القش المتناثرة، بينما المعلم يتكور على نفسه وينكمش في جلسته مثل قط عجوز يتأهب للانقضاض، لم أجد الفرصة مواتية فانسللت إلى الكنة الملاصقة التي يفصلها عن الحجرة الوحيدة ستارة عليها رسم تنين مطرز بخيوط صفراء باهتة، وأخذت أعد للضيفين طبقي الحساء بالأعشاب ومعهما قطع من الجبن والزبد الذي أهدانيه آخر العابرين من الحدود، ولم أنس أرغفة الخبز وبعض الأرز الذي تبقى من غداء الأمس، قدمت الوجبة الهزيلة في صمت وخرجت دون أن أجسر على النظر في وجه العجوز أو ملامسة وحدته وصمته. •••
قبل أن أغلق الباب ورائي وأفتح صدري لأنسام المساء الندية سمعت الصوت الرفيع النافذ الذي انغرز في جلدي كشوكة حادة: «إنه التاو، ولأنه لا يوصف ولا يسمى، فقد سميته الطريق.» واشتقت أن أعرف كنه هذا الذي لا يوصف ولا يسمى فتوقفت قدمي على العتبة، وانساب الصوت كأنه يهبط من السماء داخل غمامة بيضاء، واستطعت أن أتبين بعض كلماته وأميز رنين دقاته دون أن أفهم ترابط عباراته أو أرى تسلسل حلقاته المدوية: «ولأنه بغير اسم، فقد سميته الطريق الأبدي، طريق السماء هو، مبدأ السماء والأرض، منبع كل الأشياء وكل الأسرار.»
تطلعت إلى أعلى فرأيت الزهرة ترمقني كدمعة كبيرة ناصعة وقاسية، تجمدت في عين السماء الصامتة، أنا الذي أقف على الأرض وأشقى عند آخر حدود المملكة يأتي هذا العجوز المتدثر بالسواد والصمت فيحملني كشيطان أخرس إلى سماء الأسرار، وأنا الذي كتبت الشعر وألهبت به مشاعر الغضب والثورة في القلوب أستمع الآن إلى شعر يرفعني فوق الأرض ويلفني في ردائه الضبابي؟ وقبل أن أهبط العتبات الثلاث لأراقب ركبا صغيرا بدأت أصداء ضوضائه وروائح الغبار الذي يثيره تتخلل أذني وتسري في رئتي، لم أشعر إلا وقد أنزلني العجوز على الأرض وأصدر لي أمرا حازما ارتعشت له مفاصلي : تخلص من الشهوة، وسوف ترى سر الأسرار، إذا بقيت محكوما بالشهوات، فلن ترى طرف ثوبه. وسألت نفسي قبل أن أخطو إلى حاجز الحدود: وهل يستطيع فقير مثلي أن يشتهي شيئا؟! •••
كان الركب الصغير ينحدر نحو حاجز الحدود كأنه كتل صخرية متباعدة تتساقط عليها نقط الضوء والخيوط الحمراء الباقية من الشفق المنطفئ الذي داهمته السحب السوداء الزاحفة من جانب الأفق الغربي، وبقى لدي متسع من الوقت للتفكير في هذا الشيطان الصامت الذي بدأ يفتح فمه بكلام لا أفهمه، من هو هذا العارف الذي لا يتكلم ومع ذلك يستجيب لسؤالي بكلام لا يقل سوادا عن ردائه الأسود؟ كيف أعرفه أو يعرفني وهو يأبى الحوار بيني وبينه؟ أتراه أحس بي وبحاجتي إلى معرفة سر الماء الذي تحدث عنه الصبي ففتح نبع أسراره وأخذ يمليها على غلامه لأتملاها فيما بعد؟ من أنت أيها الزائر الأسود؟ ومن أي ليل خرجت؟
ألحت علي الأسئلة وانقلبت الفراشات التي اضطربت في رأسي الغبي قبل قليل إلى خفافيش تتصادم في عتمة جهلي ودهشتي ووحشتي الممتدة بغير نهاية كالطريق الذي سمعت وصفه له، وحدثتني نفسي أن أسترق الخطى إلى الباب وأنصت لعلي أسرق شعاعا من النور يضيء الظلام المخيم حولي وفي، وضعت أذني على الباب فرنت كلمات أخرى أحسست أنها تطلق من داخلها خفافيش جديدة: أنا لا أعرف اسمه، أخاطبه بالطريق حتى يكون له اسم، إذا اجتهدت في تسميته قلت العظمة، والعظمة معناها أن تفقد نفسك كي تجده، أن تفقد نفسك معناه أن تبتعد وتتخلى، أن تبتعد وتتخلى معناه أن ترجع لنقطة البداية، وأن ترجع لنقطة البداية معناه أن تعود إلى الأصل، وأن تعود إلى الأصل معناه أن تجد السكينة، وأن تجد السكينة معناه أن تكون أبديا، وأن تكون أبديا معناه أن تكون متجليا، حقا! من لا يعرف الأبدية يوجد الشر بغير عقل، ومن يعرفها فهو صبور، والصبور هو الحر، والحر هو الذي يعرف كل شيء، ومن يعرف كل شيء هو السماوي، والسماوي هو الذي يلزم الطريق ويحافظ عليه فيحفظه . •••
كانت ضجة الركب الصغير قد بدأت تعلو وتجذبني إليها، ومع أن الكلمات المظلمة ظلت تتردد في سمعي وتدق كالأشباح المزعجة أبواب عقلي بلا فائدة فقد كان من الضروري أن أباشر عملي، ومضيت إلى الكشك الملاصق للحاجز وأعددت العدة للقيام بالتفتيش على الأمتعة وتحصيل الضريبة وتدوين كل ما يلزم تدوينه، وهاجمتني صورة المفتش الأعور الذي ينتظر حضوره بين يوم وآخر لمراجعة الأوراق وتحصيل العوائد وإفراغ الصندوق الأسود مما فيه قبل أن يغادرني شبحه الكريه إلى مخافر الحدود المجاورة.
كان العمل بسيطا لا يحتاج إلى عناء التفتيش والمساومة والاستعطاف التي تعودت عليها كل مرة، وكان الركب مؤلفا من أسرة صغيرة من الفلاحين المعدمين الذين هربوا أمام الغزاة الذين أغاروا على ولاية هان. وكان المشهد مألوفا لا يحتاج إلى الأسئلة والتفاصيل، والأب والأم اللذان افترسهما الجوع والرعب واحتضنا طفلتين شاحبتين لا يفتحان شهية موظف الجمرك لفحص متاع أو طعام لا وجود لهما. وكان عقلي وسمعي متجهين ناحية الكوخ الذي أخذت تتسرب منه بعض الأصوات المختلطة عندما مال علي الأب قائلا: في محافظة هان اضطراب عظيم، وفي المحافظات الأخرى بؤس وكرب وجوع ودماء، هذا يا ولدي هو الاضطراب العظيم. لا تظن أنك بعيد عنه يا ولدي، لا تظن أنك عنه بعيد.
ناپیژندل شوی مخ