دموع البلياتشو
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
ژانرونه
نظرت للرجل الصغير الذي يحتضن طفلتيه وإلى زوجته الملتصقة به، ورأيت كيف يمسخ الخوف من الجوع والمجهول الغامض وجه الإنسان إلى وجه كلب جائع أو أرنب صيد مذعور. تأملتهم طويلا وسمحت لهم بالعبور إلى المجهول وراء الحدود، ولم أقل شيئا، وما فائدة الكلمات لجوف خال لا يملؤه إلا اللحم مع الخبز مع الأرز؟ وطلبوا جرعة ماء فسقيتهم وتمنيت لهم السلامة والنجاة من اللصوص وقطاع الطريق، وأدركوا من سخريتي وقلة حيلتي أن لا داعي لسؤال آخر فتحرك موكبهم الصغير في اتجاه الوادي الأخضر الذي ينبسط للناظر بعد عبور الممر الجبلي الوعر. •••
بقيت وحيدا تحت قبة السماء، مستندا إلى الحاجز الخشبي حينا ومتمشيا على العشب وشجيرات الشوك المتناثرة مع الحصى في المكان، نظرت إلى الزهرة المتألقة في الأفق وقلت أخاطبها: أيتها اللؤلؤة الباكية فوق أرض الوسط المضطربة! هل شعرت بهذا الناسك الذي يبكي في كوخي وربما يذرف مثلك دموعه المؤجلة من زمن بعيد؟ وماذا تنفعني دموعه أو تنفع بدلي ورفاقي وبقايا أهلي المشردين في ولاياتها الممزقة؟ إنه لا يعرف شيئا عن حياتي وقد لا يعرف عنها شيئا، وكيف أروي عليه قصة سجني سنوات بتهمة ترويج الأشعار الملتهبة كشواظ الجمر المحترق، ثم الحكم علي مع بعض رفاقي بالإعدام ونجاتي بالصدفة، ولماذا أحكي له هذا وماذا يستفيد أو أستفيد منه؟ ما الداعي لأن أخبره بحضور الإمبراطور نفسه يوم تنفيذ الحكم وأمره بإنزالي من فوق المشنقة ونفيي إلى الحدود حتى أتعلم كتابة شعر آخر تتألق فيه النجوم وتتنفس الأزهار وتطير الفراشات والعطور وأنسام الربيع وأحلامه وأحزان الخريف والشتاء؟ وماذا يملك أن يفعل لو قلت إنني عشت هنا في المنفى وحين صدر الإذن بسفري إلى «سونج» لرؤية أهلي عرفت أن الغزاة الجدد قد قتلوا الإمبراطور الذي كان يحب الشعر كما قتلوا أمي وأبي؟ حتى قبرهما لم أستطع الاهتداء إليه ولا تقبيل حفنة من ترابه والسجود على بابه، وإخوتي الصغار لم يكن أحد منهم في بيتنا القديم؛ لأن بيتنا القديم كان قد اختفى ولم يبق منه حتى الهشيم المتفحم، ورفاق ثورتنا الذين نجوا من الشنق ولم ينجوا من الجوع والضياع والشتات لم أعثر لهم على أثر ولا على من يدلني على أنبائهم، وفيم السؤال وقد شاع الاضطراب العظيم وانطلق الموت وفي يده المنجل يحصد سنابل الأعمار الباقية، وفي ركابه الطغاة الكبار والصغار والسفاحون والقواد المنتصرون الفرحون بالدماء والأشلاء؟ أيها الناسك الإلهي الذي سألته عن الماء الذي يغلب الصخر فأخذ يملي على صبيه المسكين عن التمسك بالطريق والحفاظ على السكينة والفضيلة والاعتدال وتجنب التهور والخيلاء! •••
وتوالت الأيام والليالي السبعة، كنت أفتح الباب همسا، وأتكلم وأسير همسا على أطراف أصابع قدمي، وأسب المهربين والهاربين بصوت هامس حتى لا أحرج السكينة ولا ألامس وعاء الصمت، وكان صوت العجوز يعلو شيئا فشيئا ويرتفع في كل يوم عن اليوم الذي سبقه، وخيل إلي أنه كان يوجهه إلى داخله عندما كان يتكلم عن الحكيم الذي يعمل للباطن لا للعين، وكان يسقطه في أعماق بئره كلما ذكر التخلي عن النفس والعالم والتخلص من كل الشهوات إلا شهوة عدم الاشتهاء، والتواضع للحضيض للارتفاع إلى القمة، والبدء بتغيير النفس قبل التفكير في تغيير العالم، والتأخر عن الصفوف لإحراز التقدم، وترك العمل لكي يعمل كل شيء من نفسه، كانت صورة الماء الرقيق الضعيف تؤكد حضورها في صوره المتلاحقة عن الوداعة والسكينة والسر والصمت والرضا والقناعة، وكذلك لم تغب عن حكمه التي سمعت منها كلمات متناثرة أو قرأتها بعد أن تسلمت الأوراق من يد الغلام ذي الوجه الأبيض المستدير والابتسامة الساحرة الساخرة، حتى كانت ليلة زلزلت فيها الأرض تحت كوخي الصغير وتفجرت الحمم من البركان الراقد في قلب الجبل المتجهم الصامت. كنت قد أغمضت عيني في الكنة المجاورة للحجرة التي يملي فيها كلماته على الغلام بعد أن قدمت لهما طبقي الحساء مع الأرز في هدوء الأشباح الحيية، وكانت عيني قد غفلت قليلا بعد أن تساقط عليها تعب النهار كما يتساقط المطر من السحاب على شجرة ذابلة أو بحيرة راكدة، ودوى صوت المعلم في أذني كأنه أبواق النذير التي يطلقها قائد جبار على مدينة أطبق عليها الحصار، تحول الصوت الرفيع النحيل إلى زمجرة وتتابعت قذائف النار من البركان المتفجر وانقلب جدول الماء الوديع إلى شلال يصب سيلا من الحمم، كان الحكيم يتكلم عن الحاكم الحكيم ويحذره وينذره ولا يكتفي بنصحه وتعليمه: ما يعلمه الناس أعلمه أنا أيضا، المتجبر لا يموت ميتة طيبة، افعل بغير أن تتدخل بالفعل، احكم بغير أن تلجأ للقوة، أتريد أن تغزو العالم وتصنع منه ما تشاء؟ أبدا لن تفلح في ذلك أبدا، العالم وعاء الله، من يلامسه بالعمل يفسده، من يتشبث به يفقده، تجنب التطرف! تجنب التهور! تجنب الخيلاء! الأسلحة أدوات الشر، لا تسكن بالقرب منها! إن أردت أن تكون الحاكم الحكيم للبشر فلا تفكر في أن تهزم غيرك أو تغزو مملكته بالسلاح، هذا السلاح سوف يعود فينقلب عليك، وحيث تكون الجيوش تنمو الأشواك والأحراش، حيث تزحف الجيوش تزحف السنون العجاف، تقول وماذا أفعل لو غزا الأعداء؟ تتم عملك ثم تتوارى، تحارب معركتك ولا تحتفل بالنصر، تحقق هدفك ولا تمجد نفسك، لأن من يجد الانتصار جميلا هو الذي يفرح برؤية الدماء، من يفرح برؤية الدماء فقد خالف الطريق، وكل من يخالف الطريق فلا بد أن ينتهي ولما يزل في شبابه، إذا كان الشعب يجوع فلأن حكامه يرهقونه بالضرائب التي تزيد عن طاقته. إذا كان اللصوص وقطاع الطرق يتزايدون، فلأن القوانين التي يضعها الحاكم قد زاد عددها، احكم بغير أن ترزح فوق صدر الشعب! قده بغير أن تضر به! كن خيرا مع الأخيار ومع الأشرار كذلك خيرا! اجعل قلب الشعب هو قلبك والق الجميع كأنهم أطفالك! لا تشته أن تبرق كالجوهرة ولا أن ترن كالمعدن الرنان! تذكر أن الحكام القدماء الذين كانوا نموذج المملكة سموا أنفسهم باليتامى والعجزة والفقراء. كن كالماء، كن كالماء، عندئذ تغسل قذارة العالم وتصبح سيد المملكة، عندئذ تحمل ذنوب العالم وتغدو ملك العالم. •••
كان الحكيم قد تعب وأتعب الغلام فوق طاقته، قال له الآن يمكنك أن تخلد للنوم وتجفف المداد يا ولدي، أما أنا فقد جفت دموعي التي أمليتها عليك، حاول أن تغمضهما قليلا قبل أن نستأنف رحلتنا، وفي الصباح سلمها للحارس الفقير وسيعرف أنها وصيتي التي كتبتها بدموعي المؤجلة. •••
في الصباح وبعد أن قضيت ليلة لم يغمض لي فيها جفن سلمني الصبي الأوراق وهمس في أذني بما قلته في البداية، وانكفأت بعد ذلك ليالي أخرى على الأوراق ولم أكتف بأن أبللها بدموعي، كنت قد صممت منذ تلك الليلة العاصفة على أن أحملها للعالم وأوزعها على الناس وأعلمها وأحفظها في قلبي لو حدث أن انتزعها مني أمثال المفتش الأعور، وكان لا بد أن أهجر المخفر والمنفى وأرجع إلى مساكن البشر وفي قلبي هذا الكتاب العجيب. أما أنتم يا من ستقرءونه بعدي فاذكروا، حين تشاهدون اسم الحكيم يسطع على غلافه، ذلك الغلام الصغير الذي دونه في سبعة أيام وليال لا تتكرر، واذكروا أحد الفقراء الذي انتزع من الحكيم وصيته التي ملأها بدموعه المؤجلة.
1
ناپیژندل شوی مخ