دموع البلياتشو
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
ژانرونه
أصررت على متابعة كلماتي: الحاكم الحكيم الذي يعمل ولا يمجد عمله لا يغضب أحدا، والذي يتم عمله ثم يتوارى لا يثور عليه أحد. نظر إلي باستخفاف وازدراء، فأسرعت أقول: ألم أحك لك عن القائد الحكيم «فان لي»؟ لقد ذهب لرد الأعداء وانتصر عليهم في المعركة ثم اختفى، وبقي الشعب في الشوارع واقفا في انتظاره بالأناشيد وأكاليل النصر دون أن يعلم أنه استقل قاربا صغيرا انطلق به في النهر الأصفر ولم يره أحد حتى الآن.
اقترب مني الإمبراطور وهو يصيح في وجهي: كل هذا سمعته منك وحفظته ورددته على مسامع وزرائي وقوادي وعمالي في المدن والقرى القريبة والبعيدة، مع ذلك ثار الناس علي في كل مكان وعلى الوزراء والقواد والعمال.
قلت وأنا أغمض جفني كأنني أتلو صلاة للآلهة: الناس لا تثور على من يتبع طريق السماء. لأنك رجالك حادوا عن الطريق ثار الناس ولجئوا للصراع والنزاع بدلا من الوفاق مع الطبيعة والقناعة والاتضاع.
سأل متهما وهو يحاول أن يكتم غيظه: الدماء تسيل وما زلت تتكلم عن القناعة والوفاق والاتضاع؟!
قلت في غضب: لأنهم حادوا عن الطريق العظيم سالت الدماء، لأنهم ملئوا عقولهم وأفرغوا بطونهم وأثقلوا ظهورهم بالضرائب ثار الناس. كل شيء في القصر على ما يرام، بينما الحقول تملؤها الأعشاب الضارة ولا تجد من يحرثها. مخازن الغلال فارغة، والموظفون والحكام يتدثرون بالثياب الزاهية ويتحزمون بالسيوف الغالية ويتخمون بطونهم بالطعام والشراب، ما معنى هذا؟ معناه أنهم تجبروا مثل قطاع الطريق وليس هذا هو الطريق. قال وهو يتفرس في وجهه كأنه يراقب معتوها أصابه مس من الجنون: نعم ليس هو الطريق الذي أوصلك إلى قصري وجعلك أمينا على تراث أجدادي. قلت متجاهلا حراب سخريته: ادفع الشر بالخير والإحسان؛ لأن الحب ينتصر في الهجوم ولا يجرح أثناء الدفاع، والسماء تسلح بالحب من لا تريد أن تراهم مهزومين.
نفض يديه يائسا: ولذلك أرسلت الجنود والأسلحة الكافية لقمع الثوار، وحين تأتيك أنباء الانتصار ستكون في طريقك إلى المنفى بإرادتك قبل أن أرسلك إليه بإرادة جنودي وقيودي وحراس سجوني.
قلت وأنا أجمع كل حكمتي وغضبي في عبارات سريعة يمكن أن يسمعها قبل أن يخرج من الباب: الأسلحة أدوات الشر؛ لذلك لا يسكن الحكيم بالقرب منها، إنه إذا انتصر لم يجد في الانتصار جمالا؛ لأن من يجده جميلا هو الذي يفرح بقتل غيره من البشر، ومن ينتصر في المذبحة ويحتفل بانتصاره فهو في الحقيقة يحتفل بجنازة. الأسلحة والجنود أدوات الشر، أدوات الشر، لا يقترب منها سيد المملكة الذي تمسك بالطريق، لا يستخدمها الحكيم الذي يرعى أبناء شعبه كأنهم أطفاله، لا، لا، لا. •••
لم تكن هذه هي أول مرة تخرج فيها كلماتي من كهف الصمت فتقطع ألسنتها وتعود إليه كالخفافيش المشلولة العمياء، ولم تكن أول مرة تنطلق من بئر الصمت فيجرها الأوغاد في وحل العالم وأحاول بعد ذلك أن ألملم أشلاءها وأطهرها في ماء من جديد. نعم يا ولدي الذي يسير أمامي على الطريق كالطفل الكامل الذي يرضع من ثدي الأم ولا يعرف الكلام، وأنت يا ثوري الحر الصبور الذي ربما كان أقربنا للأصل والجذور، نعم لم تكن أول مرة تخرج فيها الكلمات عن الطريق فتعضها الأنياب وتوصد في وجهها الأبواب وتهيم جائعة ضالة كالكلاب. آه ما أتعسها وأبشعها حين تسرق منها الأنوار وتفرغ من سر الأسرار وتصبح مضغة في فم الدجال والسمسار والثرثار، وآه من هذا الثرثار! •••
دخل علي بعد أن أبلغني الحاجب أنه قادم من مملكة «لو» وأن اسمه هو الحكيم المشهور «كونج-فو-تزو». دخل صومعتي المكدسة بأكوام الكتب والوثائق والأوراق والعتمة والغبار كأنه مارد قوي اغتسل لفوره في ماء البحر وخرج نظيفا لامعا صبوح الوجه تسبقه ابتسامة عريضة يشهرها في وجهي كالسيف الناصع أو كالقنديل الساطع. كان قصيرا ممتلئ البدن كبير البطن، له شفتا ثور وفم أشبه بالبحر، انحنى أمامي في أدب شديد، وكرر الانحناء حتى تصورت أنه قضى حياته في تعلم فروض الطاعة وأداء طقوس الواجب والاحترام من الأبناء للآباء ومن البشر للآلهة والملوك والحكام، وبعد أن أذنت له بالجلوس وتطلع طويلا إلى جسدي الطويل النحيل ووجهي الصخري الذي لم يفارقه التقطيب والعبوس بدأ في حذر يخرج الكلمات من فمه الواسع كأنه صراف يعد النقود: يسمونني في بلدي المعلم والحكيم، لكنني سمعت عنك فجئت أسألك كالتلميذ الصغير وأتعلم منك ما يتعلمه العصفور من النسر الكبير.
قلت في حذر وأنا لا أخفي إعجابي ببشاشته وحذقه وذلاقة لسانه وثقته في نفسه: النسر الكبير يرقد عاجزا في عشه وهو يتقلب في الصمت وينتظر الموت، ماذا تريد أن تعرف يا بني؟
ناپیژندل شوی مخ