دموع البلياتشو
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
ژانرونه
قال وهو يوسع من ابتسامته المشرقة فتسطع الأنوار من جبينه وتطارد الظلال الهاربة أمامها: سمعت من يقول على لسانك إن العارف لا يتكلم، والمتكلم لا يعرف، وأنا عشت حياتي حتى اليوم لأعرف وأعلم وأحاول أن أصلح بالكلمة والاسم، علمني يا سيدي عن الطريق. - الطريق يا بني لا اسم له، لو كان له اسم ما كان هو الطريق - عميق هو وبلا قرار - هو المنبع والأصل وسر الأسرار. - لكنه تجلى يا سيدي وكشف عن نفسه للحكماء القدماء، وأنت تجلس بينهم وتعرفهم وتنطق بكلامهم وتتقن طقوسهم وشعائرهم ومواعظهم. - هذا صحيح يا بني، ولكن الذين تسأل عنهم قد تعفنوا وصارت عظامهم ترابا، لقد اتحدوا بالطريق فكانوا هم الطريق، تمسكوا به وحققوه بالسكينة والبساطة والوداعة، لم يتكلموا عنه بالخطب والمواعظ ولم يقيموا له الطقوس والشعائر، كانوا هم الطريق ولم يدقوا بالطبول ليدعوا الناس إليه. - لكنهم علموا مواطنيهم يا سيدي وأفادوهم، حببوا إليهم الفضيلة وعملوا على تهذيبهم بالخير والإحسان والمحبة، أنا أيضا أريد أن أفيد مواطني ولا أضرهم. - إذا أردت أن تفيدهم فتخل عن غرورك الذي يزين لك أنك تفيدهم، وإذا أردت أن تغيرهم فابدأ بتغيير نفسك قبل أن تطمح لتغييرهم. - وهذا هو الذي قادني إليك يا سيدي، علمني ماذا أعلم وأعلم كي تصلح المملكة والحاكم والمحكوم. - سمعت أن التاجر الناجح يخفي ثروته في حرص، وأن الرجل العظيم ينهض للعظمة عندما تحين ساعته، لكن قبل أن تحين هذه الساعة توضع العراقيل أمامه. اسمع نصيحتي يا ولدي، لا تضع العراقيل أمامك. - لم أفهم يا سيدي، أرجوك أن توضح ما تريد. - الحكماء القدماء الذين تتكلم عنهم قد عملوا بغير عمل، وعلموا بغير علم، وأصبحوا القدوة والمثل لأنهم لم يدعوا الناس إلى الفضيلة والعدالة والإنسانية، لقد تمسكوا بالطريق فسار الناس على الطريق، رجعوا إلى الأصل والبداية فأحب الناس السكينة والسلام ورجعوا مثلهم للأصل والجذور، تخلوا عن أنفسهم وتخلصوا من شهواتهم وتعففوا عن التعالم والظهور، فكف الناس عن التنازع والصراع والتظاهر والادعاء والحذلقة والتفاخر والنصب والخداع. لا تنس ما قلته لك، إنهم لم يعرفوا الطريق ولم يسموه، ولكنهم اتحدوا به وكانوه؛ لذلك لم يفقدوا أنفسهم ولم يفقدوه.
لكنهم اليوم يتصارعون حتى أصبحت المملكة أشلاء ممزقة، ويغرقون في الشهوة والرذيلة حتى احتاجوا لمن يصلحهم ويدعوهم للمعرفة والفضيلة.
خرجت كلماتي غاضبة كالإعصار وصحت: أتريد أن تغيرهم قبل أن تتغير؟ أن تعظهم بالطريق قبل أن تسير عليه؟! تخل يا بني عن تكبرك! تخلص من تظاهرك وطموحاتك العريضة! ارجع إلى البساطة والسكينة قبل أن تنهض يوما من مرقدك وتتهدم كالجبل العظيم وتنكسر، اذهب يا ولدي وغير نفسك! اذهب يا ولدي. •••
آه! ما كان أحراني أن أحبس كلماتي ولا أخرجها من بئر الصمت، لقد انتشر صيت هذا الرجل السمين الواسع الفم والابتسامة وذاعت شهرته هو وتلاميذه. أسس مدرسته ومذهبه وطبع وجهه على أرض مملكة الوسط الشاسعة، وها أنت أيها العجوز تسمع الجميع يتحدثون عن الفضيلة والإنسانية والخير والإحسان والعدالة والاعتدال بعد أن اختفت جميعها وعمت المذابح والضوضاء واليأس من الماضي والحاضر والمستقبل، آه! ليتني ما أطلقت الكلمات ولا تركتها تخرج من نبع الصمت ! ليتني ما عنفت المسكين ولا طردته، ولقد رجع فيما سمعت إلى تلاميذه فقال لهم إنه رآني فرأى التنين، وعرفني ولم يعرف كيف اعتليت الريح وصعدت فوق السحب إلى السماء. سأصبح أسطورة وسيصير هو إلها ومؤسس مذهب وديانة، ستتردد كلماته وتحفظ قواعده وتقام طقوسه وتعاليمه وشعائره ويكثر تلاميذه وتعلن الحكومات الاعتراف به، لكن من يدري ماذا يخبئ له القدر؟ ربما أدرك في النهاية أن الحكمة مستحيلة على الأرض، أن كلماتها سهلة وبسيطة، ولكنها عصية على الفهم والتنفيذ، ربما تخلى عنه تلاميذه كما تخلى عني تلاميذي، وربما تهدم في النهاية كما يتهدم الجبل المنهار، وذبل كما تذبل الشجرة العظيمة حين تجف وتتيبس قبل أن تميل وتتحطم، أليس هذا هو قدر الكلمة حين تخرج من نبع السر وتدخل في زحام البشر؟ •••
نعم يا ولدي الكامل كالطفل الراضع من ثدي الأم، يا ثوري الحر الصبور الذي يحمل الجبل المهدم والشجرة الذابلة، ماذا تقول يا ولدي؟! اقتربنا من نهاية الطريق؟ ليت البداية الأزلية تعرف النهاية! ليت الطريق يدري كم يتعذب السائر على الطريق؟ اقتربنا من الحدود وظهرت الحواجز، وحارس الجمرك يقترب أيضا وسوف يطالبنا بالضريبة ويفحص الأمتعة؟ وتقول سيسألنا ولا بد أن نجيب؟ ماذا نملك يا ولدي غير الكلمات الخرساء؟ فقير هو وطويل ونحيل كالجرادة؟ ومتى استغنت الجرادة عن الأخضر والخضرة بالكلمات؟ أقلت له إنني كنت أعلم أن الماء وهو أضعف الأشياء يفتت الصخر ويهزم أقوى الأشياء؟ وهو يسأل ويريد مني أن أجيب؟ أجل أجل يا ولدي، من يسأل يستحق أن نقدم له الجواب، لكن ماذا تنفعه الكلمات وهل أشبعت الجائع أو كست العاري؟ ليكن يا ولدي ما دمت تريد، ولتخرج كلماتي من فقر الصمت إلى صمت الفقراء!
3
أحد الفقراء
وقال حارس الجمرك الفقير عند آخر مخفر للحدود:
وقفت أمام الكوخ الذي ضمهما سبعة أيام وليال ورحت أتابعهما وهما يصعدان الطريق الحجري المؤدي إلى الممر الغائر في جوف الجبل، في يدي الأوراق التي سلمها لي الصبي ومعها ابتسامته الحبيبة الخاطفة التي لمعت على وجهه الصغير المستدير مثل الزهرة التي تلمع الآن في السماء الصافية، ما تزال كلماته الهامسة المرتجفة التي أسرها إلي وقد سبقه المعلم إلى مربط الثور الأسود تتردد في سمعي: هذه هي كلمات الحكيم، واحد وثمانون حكمة أملاها علي ثم سكت، حفظها في جوفه طوال عمره، وعليك أن تحفظها في جوفك، قلت له وأنا أقرب فمي من أذنه: تأكد أنني سأحفظها في قلبي وأدونها على لوح صدري، إذا ضاعت الأوراق التي تعبت في كتابتها من يدي فلن تضيع أبدا من عقلي ودمي.
قال ضاحكا: ولكن كل واحدة منها تزن جبلا.
ناپیژندل شوی مخ