يستفاد مما تقدم أن القواعد الأدبية تختلف باختلاف الضمائر السليمة في درجة تروضها وتهذبها، فقد تكون قاعدتك الأدبية غير قاعدتي؛ ولهذا نختلف في الحكم بالرغم من أننا كلينا سليما الضمير، وإنما هناك إحساس عام تلجأ إليه الضمائر السليمة، وتستمد منه القواعد الأدبية.
فإدراك الصواب والخطأ في الأفعال قوة كامنة في كل الناس، وإنما هذه القوة متفاوتة فيهم، وهي في بعضهم مروضة أكثر من بعض. وأما المبادئ التي تحوم حولها مدارك الناس فإنما هي قائمة في الإحساس العام الذي يكون المبادئ الأدبية العليا، وإليها تلجأ الضمائر في اتخاذ قواعدها للحكم؛ لأن هذه المبادئ منبثة في المجموع. (2-2) الإحساس العام غير كاف للحكم
ولكن الإحساس العام يختلف أيضا باختلاف الأقوام والأزمان، حتى باختلاف طبقات الناس وأعمارهم؛ لأن مرجعه إلى العقلية، والحقيقة العقلية غير مقررة في العقل الاجتماعي؛ وبالتالي يكون الحق الأدبي المسند إلى العقل الاجتماعي غير مقرر أيضا. فإذا عرض للعقل الإنساني مبدأ أدبي أعمق من مبادئ الإحساس العام حدث ارتباك عند الضمير؛ ولذلك لا يستطيع الضمير أن يستند على الإحساس العام وحده، كما رأينا أنه لا يستطيع أن يستند على الإحساس الأدبي الفردي، الذي رأينا أنه يكاد يتحد بالبديهة كشيء واحد.
وحينئذ يصبح الضمير نفسه عرضة للوقوع تحت الحكم فيما إذا كان صائبا أو مخطئا، وحينئذ ترانا كأننا في حاجة إلى ضمير أعلى يحكم على الضمير المعتاد، فإن كان ثمة لنا ضمير آخر يحكم على الضمير فلا نجده إلا في التعقل. إذن الضمير يحتاج إلى التعقل مع الإحساس العام والإحساس الأدبي الفردي أو البديهة؛ فإذن لا غنى لنا في الارتشاد إلى المبادئ أو القواعد الأدبية عن التعقل. وكما أن لنا تعقلا فكريا يعيننا على استنتاج الحقائق من الظواهر العلمية، كذلك لنا تعقل أدبي يعيننا على استنتاج سنن الحق أو المبادئ الأدبية. (3) الحكم بحسب الشرائع (3-1) هل يمكن أن تكون الشريعة قاعدة للحكم الأدبي؟
الشريعة قرار أجنبي عن الضمير، قرار بصواب الأمر أو بخطئه. ويعني بها أية شريعة؛ دينية أو سياسية أو أدبية، نافذة بحكم التقليد. فحكم الشريعة قد يسكت له الضمير؛ لأنه صادر من سلطة فوق سلطانه، وبهذا الرضى لا يكون السلوك أدبيا؛ لأنه غير مسند إلى حكم الضمير، لخلوه من الإرادة الحرة، ولاحتمال أن يكون بين حكم الشريعة وحكم الضمير تضارب أو تباين؛ فهو إذن طاعة لوصية أو أمر خارجي، لا سلوك أدبي.
وإذا تضاربت الشرائع أو ناقضت بعضها بعضا، كما لو ناقضت الشريعة السياسية الشريعة الدينية، أو الشريعة الأدبية التقليدية؛ كأن تجيز الشريعة السياسية الطلاق، والدين والعرف يحرمانه، أو كأن تحرم الشريعة الدينية الربا، والسياسية تحلله باعتبار أنه مرابحة لا ربا، التجأ الضمير إلى التعقل لتفسير الشريعتين والتوفيق بينهما؛ إذن لا تعد الشريعة حكما أدبيا مقررا للصواب أو الحق.
حتى الشرائع الدينية تتصادم؛ فشريعة المسيح الذي قال: إنه لم يأت لينقض بل ليكمل، مناقضة لشريعة موسى؛ موسى قال: «عين بعين.» والمسيح قال: «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر.» والشريعة المدنية لا تقول هذا ولا ذاك، بل تقول: «قاضه؛ فيعاقب بحبس وغرامة.»
إذن يتعذر عليك أن تجد في الشرائع قواعد عامة تعد قواعد أدبية يستند إليها العقل في الحكم؛ ولهذا كان المشترعون يحاولون أن يضعوا لكل حالة من الأحوال قانونا خاصا بها. ومع تعدد الشرائع وتفرعها وتوسعها، لم يستطيعوا أن يحصروا جميع الأحوال ويحددوا لها شرائع معينة، ولا أمكنهم أن يجعلوا الشرائع جامعة مانعة غير متضاربة ولا متناقضة، بل يستحيل أن تكون الشرائع كذلك، كما أنه يستحيل حفظها في الذاكرة لتكون مستندا في الحكم. وهب أن هذا المستحيل صار ممكنا، فالاستناد على الشريعة ينفي أدبية السلوك نفيا باتا، ويلغي وظيفة الضمير؛ لأنه لا يبقى محل للاختيار حين يقال: هذا حق وهذا باطل، أو هذا صواب وهذا خطأ. (3-2) لا
وإذا شئنا أن نستخرج من الشرائع عموما قاعدة أدبية عامة لنجعلها مستندا للحكم، فلربما انتهينا عند الآية الذهبية: «حب قريبك كنفسك.» فهي قاعدة أدبية لا قانون شرعي. ومع ذلك، هل تعصم من الخطأ وتغني عن حكم الضمير؟ هب أن لي هذه الفضيلة، أي إني أحب خير غيري كخير نفسي، فإذا كان خير غيري يناقض خيري فماذا أفعل؟ هنا يجب أن أزن بين الخيرين وأرى أيهما أرجح فأفعله؛ إذن أراني محتاجا إلى قاعدة أخرى لا تستند إليها، هي الموازنة بين الخيرين للعلم أيهما أرجح؟ وإذن أراني مضطرا للالتجاء إلى «التعقل» وانتداب الضمير ليقوم بوظيفته في إصدار الحكم الأدبي.
فترى مما تقدم أن الشرائع مهما عدلت وكانت محكمة فلا تعد قاعدة للحكم الأدبي، وإنما هي وصايا وأوامر تطاع رضوخا لسلطة نافذة. نعم ، إنها زبدة أحكام أدبية، ولكنها أصبحت خارجة عن دائرة التعقل الأدبي، وبالتالي هي خارجة عن دائرة بحثنا. لا تعد الشريعة حكما أدبيا إلا متى قبلها الضمير وأمر بإجراء الفعل بموجبها؛ لأن الحكم الأدبي هو ما يصدر من داخل النفس لا ما يوجب عليها من خارجها، ولا يقبلها الضمير إلا إذا كانت موافقة لحكمه ومزكية له. (4) البديهة
ناپیژندل شوی مخ