إذا كان الإحساس الخاص والإحساس العام والذوق الأدبي والشرائع لا تصلح مستندات كافية لقضاء الضمير وسداد حكمه، فإذن أين نجد مستنداته القوية المتينة؟ يقال: في البداهة شيء منها؛ فلنبحث في البداهة أو البديهة. (4-1) استقلال قوة الضمير
وتمهيدا للبحث نستخلص هنا بيان الأستاذ مويرهد عن الضمير: «(1) الضمير شيء بسيط غير مشتق «أي أنه قوة مستقلة». (2) إن أحكامه بديهية في حالة حدوث الأفعال أو في حالة تصورها بالشكل الذي تتهيأ به، فيشجب الكذب والجبن مثلا، ويوافق على الصدق والشجاعة من غير أن يعلل حكمه. (3) لذلك له سلطة خاصة فيأمر من غير نظر إلى الاعتبارات الأخرى كاللذة والنفع. (4) لذلك هو عام؛ أي موجود عند جميع الأشخاص الأصحاء العقل. ولا نعني بعموميته أنه موجود في كل شخص وسلالة راقيا بالتساوي، كما أن قوة تمييز الألوان والأشياء وقوة التعقل غير موجودة بالتساوي عند كل الأشخاص والسلالات، بل نعني أن هذه القوة موجودة في داخل كل شخص كما أن قوة التمييز موجودة أيضا.»
1 (4-2) غريزية البداهة
وبداهة الضمير في أحكامه غريزية كسائر الغرائز، وكونها غريزية جعلها قابلة للتطور كسائر الغرائز، تبعا لتطور عقلية الإنسان واجتماعيته؛ ولهذا تختلف قوة البداهة عند الأفراد والأمم والقبائل؛ فبالبديهة يسارع الهمجي إلى حمل حربته للدفاع مع إخوانه عن قبيلته، وبالبديهة يسارع السياسي المتمدن إلى حل المشكلة السياسية بالمساومة تداركا لنشوب الحرب.
فالضمير في حكمه البديهي لا يعتمد على سبب أو تعليل، بل هو صوت داخلي يصدر على الفور قائلا: إن الكذب إثم والصدق فضيلة مثلا، ولا يستمد رأي التعقل إلا متى اختلط عليه الأمر بين خيرين أو شرين. (4-3) نشوء البديهة
وهنا تسأل: كيف نشأت البديهة وكيف تتطور؟ من أين جاء هذا الصوت على الفور؟ نقول:
أولا:
إن البديهة في الأصل قضاء اجتماعي غرس في الذهن على تمادي الزمان مبادئ الحق والصواب والجودة إلخ؛ فصارت وراثة طبيعية، فهي كسائر القوى العقلية التي اقتضاها الاجتماع الإنساني فأصبحت راسخة، وكسائر النزعات التي اقتضتها الطبيعة فصارت غرائز.
ثانيا:
إن التربية الاجتماعية لا تزال تغرس في الذهن هذه المبادئ، فالإنسان منذ يولد إلى أن يشب لا يرى حوله إلا قدوة السلوك والتمييز بين الجيد والرديء، والحق والباطل، والصواب والخطأ، فلا بدع أن تزداد هذه المبادئ فيه انغراسا. وانغراسها على هذا النحو يقرر بداهتها. هذا برهان آخر على أن البداهة وراثية.
ناپیژندل شوی مخ