هذا الإحساس الأدبي يقرب ما بين الجميل والجيد، كما أنه يقرب بين الجيد والصواب والحق، حتى نكاد نرى هذه المبادئ الأولية مبدأ واحدا. والحقيقة أنها متفرعة من مبدأ واحد حتى نكاد نحكم أن الجميل مثلا هو الجيد الوحيد، أو أن كل جيد جميل وبالعكس.
والحقيقة أنه مهما قرب الإحساس الأدبي بين الجيد والجميل يبقى بينهما فرق يميز أحدهما عن الآخر؛ فاستحسان الجميل يرجع للذوق، واستحسان الجيد يرجع للحكم الأدبي، فنقول: إن هذه الصورة جميلة لأنها توافق ذوقنا، ونقول: إن صنع هذه الصورة للذكرى أمر جيد؛ لأن وجداننا حكم بجودته؛ ففي الحالة الأولى لا ينتقد ذوقنا إلا أهل الفن، وأما في الحالة الثانية فينتقد حكمنا الرأي العام. استحسان الجميل ذوق عقلي لا يحتاج إلى تعليل ولا يناقش فيه، وأما استحسان الجيد، أو بالأحرى استصوابه، فيستلزم تعليلا وتفسيرا. وكل ما يستلزم التفسير يستلزم الحكم بكونه جيدا أو غير جيد؛ وبالتالي يحتمل النقد.
هذا هو الفرق بين الجيد والجميل؛ ولذلك يوجد فرق بين الإحساس الأدبي والإحساس الفني. وقد تطرف بعض الباحثين - ومنهم شفتسبري وهتشنصون - فتصوروا الإحساس الأدبي ذوقا أدبيا مماثلا للذوق الفني؛ مثلا لو سألك سائل: لماذا تشمئز من كونك عاري الجسد وأنت وحدك في منزلك؟ فقد تستهجن سؤاله، وإن أصر على طلبه الجواب قلت له: لأن لي عينين تريانني نفسي في المرآة فأستقبح نفسي، وإذا قال لك: هب أنك كنت في الظلام، فتقول: مع ذلك أستهجن عريي؛ لأن أدبي يستنكر عري الجسد، وإلا فأنا حيوان لا أحترم نفسي.
ومعنى ذلك أن الذوق الراقي يرشد إلى الجيد، كما أنه يشمئز من المنكر، وأن السنة الذوقية الأدبية غريزة، أو غريزة ثانوية على الأقل تستنكر المنكر حتى ولو كان خفيا كاستنكار العري في الظلام. (1-2) الذوق الأدبي غير كاف للحكم
فبهذا الاعتبار يمكن أن يقال: إن الإحساس الأدبي نوع من الذوق، وإنما لكونه هكذا لا يعتمد عليه كل الاعتماد في إدراك الحق والصواب؛ لأنه كذوق لا يقبل التعليل، وبالتالي لا يقبل النقد ولا يصلح قاعدة للحكم الأدبي؛ لأن الحكم الأدبي محصور في دائرة التعليل والنقد. كذلك الذوق الفني، متى كان يقبل التعليل، وبالتالي يقبل النقد والحكم، خرج من دائرة الإحساس الفني إلى دائرة الإحساس الأدبي.
ومع ذلك، لا يكفي الإحساس الأدبي أساسا للحكم في موضوعه، فإذا قلت للشعراء: هذا الشعر جميل أو غير جميل، فقد يخالفونك ويبرهنون لك الخلاف، وحينئذ تخرج المسألة من دائرة الذوق الفني إلى دائرة الذوق الأدبي؛ ولذلك إذا كان الذوق الأدبي عرضة للتعليل والتفسير كان بطبيعة الحال خاضعا للحكم التعقلي. ومع ذلك، هذا الاعتبار لا يكون قاعدة أدبية كافية، وإنما هو درجة راقية في الشخصية الأدبية تساعد كثيرا في الحكم. هو ظاهرة اجتماعية ترقى بالترويض والتهذيب. ذو الإحساس الأدبي لا يضطر إلى إنعام النظر في المبادئ الأدبية؛ لأن هذه المبادئ مندمجة في ذوقه الراقي المهذب. (1-3) تكون المبادئ العمومية
على أننا في الأدبيات نحتاج إلى مبادئ عمومية غير خاصة بذوي الذوق الراقي فقط، بل بجميع طبقات الناس على السواء، كما أننا نحتاج إلى معرفة ما يكون الذوق الأدبي الراقي في سائر الجنس البشري. وبهذا الاعتبار يختلف الإحساس الأدبي عن الإحساس «أو الذوق» الفني. وإذا كان المرء ضعيف الذوق الفني فلا ينتفي أنه عضو أدبي سليم في جسم المجتمع، ولكن إذا كان ضعيف الإحساس الأدبي كان عضوا مريضا في جسم المجتمع.
وإذا تعمقنا في تحليل الإحساس الأدبي، المشار إليه آنفا، بلغنا إلى الضمير ، وهناك نجد جذوره، وقد نجده متصلا بالبديهة أو قسما منها، إذا لم يكن هو إياها بعينها؛ فالبديهة تعلم أن الأفعال صواب أو خطأ بحسب طبيعتها الداخلية، لا بحسب الغايات الخارجة عنها التي تتجه إلى تحقيقها؛ فالصدق مثلا يعد واجبا لا لأنه أمر جوهري للشخصية الاجتماعية، ولا لأي سبب خارجي، بل لأنه صواب وحق بحد ذاته. فهو صوت في الضمير جازم بالحكم بلا اعتراض ولا تأويل، هو إدراك المرء المطابقة التامة بين أفعاله وقاعدة الحق والصواب القائمة في يقينه، فإن ظهر في هذه القاعدة عيب؛ فلأن العيب في الضمير نفسه أيضا؛ أي إن الضمير عليل.
والمرء الذي لا يفعل بضمير سليم يرتكب الخطأ طبعا، ولكن إن كان المرء حسن الضمير وفعله خطأ؛ فلأن في قاعدته الأدبية عيبا: فتاجر الخمور لا يعد عليل الضمير، وإنما العلة في قاعدته الأدبية؛ وهي «أن التجارة حرفة محللة»، فهو لا يرغم السكير على شراء خمره، وإن لم يبعه هو الخمر باعه إياه سواه.
كذلك الجلاد لا يعد عليل الضمير، وإنما العلة في قاعدته الأدبية؛ وهي أنه ليس إلا آلة لتنفيذ الحكم بالموت على المجرم. ففظاعة تنفيذ هذا الحكم تنسب لقانون الحكومة لا له، فإذا اقتنع يوما ما أن الحكم بالموت أمر فظيع على كل حال، ويجب أن يبطل من العالم؛ أصبح قبوله لوظيفة الجلاد خطأ أو إثما، كذلك تاجر الخمور إذا اقتنع بأن هذه التجارة حرام وبقي متاجرا بها عد أثيما. (2) الإحساس الأدبي العام (2-1) انبثاث المبادئ في المجموع
ناپیژندل شوی مخ