فوزارة الإعلام منذ أن تولاها المرحوم صلاح سالم في أول الثورة إلى أن تولاها الوزير صفوت الشريف ومر عليها الدكتور عبد القادر حاتم والمرحوم جمال العطيفي والأستاذ فائق والأستاذ محمد حسن الزيات، جميعا وإلى الآن ينفذون فلسفة إعلامية واحدة، تلك التي تمنح أو تمنع الأخبار حسب ما تراه الدولة ومصلحتها، وحسب ما يشتمون من اتجاهات رئيس الدولة، ابتداء من الرئيس جمال عبد الناصر إلى الرئيس حسني مبارك.
حدثت تغيرات كثيرة في الأربعة والثلاثين عاما الماضية، ولكن بقيت فلسفة الإعلام المصري كما هي لم تتغير؛ لا لعيب في هذا الوزير أو ذاك، ولا لأن هذا أكثر تبحرا في العلوم الإعلامية من ذاك، وإنما لأن التوجيه واحد والتوجه واحد.
وكان حريا بنا، وبالذات منذ أن تولى الرئيس مبارك الحكم، وأصبح تعدد الأحزاب واقعا ملموسا، وأصبحت صحف المعارضة تنشر كل ما يعن لها وما لا تستطيع حتى أن تغذيه المحطات الأجنبية، كان حريا بنا أن نبدأ نفكر في فلسفة جديدة للإعلام القومي (أو الحكومي إن شئت)، فلسفة جديدة؛ لأن الخبر الذي لا تنشره «الصحف القومية» تنشره صحف المعارضة بأعرض بنط ويحتل مساحة من اهتمام الرأي العام أكثر بكثير مما لو كانت الصحف القومية قد نشرته بكل الحقيقة والموضوعية؛ ذلك لأن الرأي العام يتصور أن مجرد عدم نشره في الجريدة القومية معناه أن وراء هذا «التعتيم» الإعلامي ما وراءه، وأن الحقيقة أدهى وأمر، في حين أن من الممكن ألا يكون هذا هو الوضع.
ولكنها «الفلسفة» التي تعتبر أن نشر أي خبر فيه مساس بأي جهاز من أجهزة الدولة خطيئة كبرى، تلك الفلسفة التي تؤدي بالدولة نفسها إلى أن تركب رأسها ولا تستجيب لضغط الجماهير و«تغير» أو توقف الموظف المتهم أو تأمر بتكوين لجنة لتقصي الحقائق في قضايا أصبحت محل شك عام، وكأنها تتصرف باستمرار على أنها حكومة متهمة وعلى أن الاتهام حقيقي، ومن واجبها أن تتستر عليه، في حين أن حكومة كالحكومة المصرية مترامية الأطراف، فيها الفاسد وفيها الشريف النظيف، فيها المرتشي وفيها الذي يترفع عن أي هوى، ومن المحال أن يكون كل موظفيها أو كل أجهزتها يقوم عليها ملائكة لا يخطئون ولا يقترفون أي إثم!
كان مفروضا أن تتحول قاعة مجلس الشعب، لا إلى مبارزة «راديفير» بين المعارضة والحكومة، ولكن إلى مؤتمر قومي عام، يناقش بهدوء شديد وبكلمات معدة، وبمعلومات «فلسفة» الإعلام التي تسيطر عليه الدولة، سواء أكان إذاعة أم صحافة أم تليفزيونا تجاه أوضاعنا الجديدة في ظل التعدد الحزبي والإعلامي، فالخطأ ليس خطأ الشريف أو رئيسة التليفزيون أو رئيس الإذاعة، الخطأ خطأ الفلسفة التي قام بها وعليها الجهاز، والذي تغيرت العصور وتراكمت الطبقات الجيولوجية بعضها فوق بعض من حكم اشتراكي شامل إلى منابر، إلى حزبية وتعدد، من مصر كلها قطاع عام، إلى مصر قد أصبح قطاعها الخاص هو الغالب، من مصر لا تستورد، وإنما تنتج من الإبرة إلى الصاروخ، إلى مصر تستورد الإبر والمسامير وتستعير من أمريكا الصواريخ، أيمكن أن يحدث هذا كله ويظل الإعلام هو الإعلام، وتظل فلسفته هي نفس الفلسفة؟!
مستحيل!
ولا يزال الأمر أيضا مستحيلا.
فلا بد من تغيير فلسفة إعلامنا لتتلاءم مع أوضاعنا الجديدة، ويصبح الوزير أو المسئول الذي يخرج على تلك الفلسفة هو المخطئ وهو الواجب محاسبته، أما الآن فالحساب لا بد أن يكون للفلسفة التي يحكم على أساسها الوزير، والتقاليد التي جرت عليها أجهزة الإعلام منذ قيام الوزارة الأولى إلى الآن.
هذه الفلسفة الإعلامية الجديدة لا يمكن أن تشكل هي الأخرى وتتبلور إلا في ظل رؤيا واضحة للمستقبل أو هدف عظيم نحلم به للمستقبل أو للمشروع القومي العام؛ إذ إن تحديد ذلك الهدف، وتحديد إلى أين نحن سائرون سيحدد لنا بالضرورة والتأكيد كيف نسير الآن وكيف نمضي، ليس فقط في أجهزة إعلامنا، ولكن في قطاعنا العام، في تسليحنا، في ديوننا وكيف نسددها، أو كيف نشترك مع الآخرين المديونين ونكون - على غرار دول عدم الانحياز - ما أسميته في مفكرة سابقة منظمة الدول المديونة أو اختصارا «م. د. م».
أخذنا مثلا من الإعلام، والآن نأخذ مثلا آخر، ويا له من مثال عجيب! فبعيدا عن الأمثلة الحساسة الأخرى التي تساقطت فوق رءوسنا طوال الأشهر الثلاثة الماضية، لنأخذ مثلا قريبا جدا، حكاية الصيادلة والصيدليات، كانت مصلحة الضرائب تحاسب الصيادلة بخصم 2٪ من ثمن الدواء من المنبع، والمنبع كان كله - إلا فيما ندر - شركات قطاع عام تنتج الأدوية وشركات استثمار مشتركة، وكانت جميع تلك الشركات تورد ما تحصل عليه من ضرائب إلى وزارة الخزانة.
ناپیژندل شوی مخ