حديث
لقاء حافل مع دورنمات
دورنمات في مصر
افتح الحنفية ينزل كوكايين
المساحة الحرجة
ضحك الجنازات
مهزلة دورنماتية
الأب الغائب
ملعبة التليفزيون
وهوى النجم
جولة في عقول القراء
أسرع يا بني وصور «إيزيس» بين الحكيم ومطاوع
لكي نعيش الحاضر لا بد أن نعرف المستقبل
حتما سأكتب قصتها
حديث
لقاء حافل مع دورنمات
دورنمات في مصر
افتح الحنفية ينزل كوكايين
المساحة الحرجة
ضحك الجنازات
مهزلة دورنماتية
الأب الغائب
ملعبة التليفزيون
وهوى النجم
جولة في عقول القراء
أسرع يا بني وصور «إيزيس» بين الحكيم ومطاوع
لكي نعيش الحاضر لا بد أن نعرف المستقبل
حتما سأكتب قصتها
عزف منفرد
عزف منفرد
دراسات ومقالات
تأليف
يوسف إدريس
حديث
تهمة لا أنفيها
قالت الشائعات: إن فترة المرض حولت فناننا الكبير إلى متصوف يرى الله في داخله، ثم جاءت كتاباتك الأخيرة شبه مؤكدة لهذه الشائعات.
فماذا عن رد هذه «التهمة»؟!
ضحك وهو يقول: هذه تهمة لا أنفيها، وشرف لا أدعيه؛ فالذي لا يرى الله في داخله، ليس هو فقط غير متصوف، أو غير مؤمن، ولكنه غير إنسان بالمرة، ولست من أولئك الذين يحبون أن يتحدثوا عما يؤمنون به؛ فأنا في داخلي معمل إيمان لا يتوقف عن البحث والتنقيب، والتجريب والرفض، والعدول والقبول، معملي هذا غير ملتزم بإصدار نشرة دورية عن «أحدث» ما وصل إليه!
وأعتقد أن «الشائعات» صيغت بهذه الطريقة كي أبدو في نظر الناس كأني لم أكن مؤمنا بالله، ثم آمنت به أخيرا بعد المرض، لكن كيف وضعت «حيثيات» قضية خطيرة كهذه وأنا نفسي لا أعرف عنها شيئا؟!
بيني وبينك، أنا لا أستطيع أن أضع إجابة محددة لهذا السؤال، لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل؛ أنا لا أكاد أعرف من أنا! أعرف الله، سبحانه، أو أعرفه للآخرين؟! كل ما أستطيع قوله في هذا المضمار هو أني أكون، في معظم الأحيان، صادق الإيمان بالكلمة حين أكتبها، وبالفعل حين أفعله.
ترى، هل أجبتك؟!
فلنستبعد حكاية الزعامة
شغلت بتأمل طريقته في الكلام؛ هو أحد فنانينا الكبار الذين بمقدورهم أن يسيطروا على الكلمة المنطوقة، أكثرهم تتجلى عظمة مواهبهم عندما يمسكون بالقلم، لكنهم عندما يتكلمون فلا فرق بينهم وبين سائر الناس.
يوسف إدريس يتكلم بنفس البراعة التي يكتب بها، رأيته مرة في بيت رجاء النقاش «يحكي» لمن حوله عن مشكلة ما صادفت أحد معارفه؛ طريقة «الحكي» عنده تأخذ شكلا دراميا دون أن يقصد، كان يقدم في الحكاية أشياء ويؤخر تفاصيل، ثم يكشف عنها شيئا فشيئا، والذين يجلسون حوله يحبسون الأنفاس، وكلما توغل في «الحكي» ظهرت مفاجآت جديدة ومشوقات، كل هذه بطريقة عادية جدا وبلا جهد، والسؤال الخالد: «وماذا بعد؟» واضح على وجوه الجالسين.
إذن، قلت لنفسي لحظتئذ: أنت أمام قصاص بالسليقة؛ من غير المعقول أن يعقد لواء الزعامة في فن القصة القصيرة في عالمنا العربي لإنسان ما، ما لم يكن هذا الإنسان قد ولد ليكون قصاصا.
دكتور يوسف، اتفق النقاد، وبما يشبه الإجماع، على زعامتك للقصة العربية القصيرة، إلا أن الناقد الكبير جبرا إبراهيم جبرا يقول إن قصصك مبنية على «رؤية روائية»؛ بحيث تبدو القصة وكأنها «رواية مكثفة»؛ ومن ثم فهو يعتبرك روائيا لا كاتبا للقصة القصيرة، وهل ثمة «دفاع»؟!
رفع كفه إلى أعلى وقال بلهجة المحتج:
أولا:
فلنستبعد حكاية «الزعامة» هذه، ويكفينا ما يغص به عالمنا العربي من زعامات!
ثم أراح يده على المائدة وعاد إلى صوته الطبيعي.
ثانيا:
أنا أوافق الأستاذ الكبير جبرا إبراهيم جبرا على مسألة «الرؤية»؛ فالرؤية الروائية لا تختلف عن الرؤية القصصية القصيرة إلا إذا اختلف الإنسان الطويل عن الإنسان القصير، كلاهما إنسان؛ ولهذا فأنا أضحك عندما يقال: هذا كاتب روائي، وهذا كاتب أقصوصة، كلاهما كاتب روائي وكاتب أقصوصة، كأن في هذا نوعا من التعريف مع أنه في رأيي نوع من اللاتعريف، المهم في الموضوع كله هو «الرؤية»، سواء كان الشكل الفني هو القصة القصيرة أو الرواية، وعلى كل حال فإن القصة، بنوعيها، قد انفصلت تماما في عصرنا الحديث عن جدتها وأمها؛ أعني عن الملحمة والحدوتة، صارت نوعا آخر جديدا له وظيفة أرقى بكثير من «طريق الندامة»، و«سكة السلامة»، والموعظة الحسنة، لكن هذا موضوع يطول شرحه، هو في حاجة إلى بحث؛ ربما كتاب.
ماهية القصة
قلت مرة إن القصة فن دقيق جدا وخطير جدا، ومتقدم جدا حتى على العقلية السائدة في العالم اليوم، والبشرية حتى الآن لم تكتشف «ماهية» القصة!
هل نطمع في شيء من التوضيح؟
نظر قليلا إلى سفينة بعيدة بدت لنا تصعد وتهبط في خط الأفق قبل أن يقول: الفن باعتباره نوعا من التكوين البيولوجي للإنسان، لم يكتشف دوره تماما بعد، وأعتقد أنه لن يكتشف إلا إذا اكتشفت كل أسرار الحياة.
ولنتأمل الحقيقة البسيطة التي تقول إن النبات يحزن ويفرح ويستجيب للموسيقى وللحنان، ما دام هذا يحدث لأبسط أشكال الحياة؛ للنبات، فكيف الحال بالإنسان؟! ألا تعتقد أن الفن يتخذ أبعادا أعمق ملايين المرات عند ذلك المخلوق الذي هو أرقى ما وصل إليه تطور الكائنات؟!
القصة، بالنسبة للفن، هي سلم التطور كله، هي تقريبا، أول فن يستجيب له الطفل، ثم تظل معه في رحلة الحياة يستجيب لها في كل مراحل عمره، حتى وهو في قمة نضجه.
هذا النوع من الفن الذي يعمل على كافة هذه المستويات، لا بد طبعا أن يتضمن كافة الفنون الأخرى؛ اللغة، والموسيقى، وإيقاع الحياة، وتوهج الخيال، وتغيير المكونات الداخلية الدقيقة في الإنسان، جمالية كانت أو فكرية.
القصة تحتل - في الفن - المقامات الموسيقية السبعة؛ ومن هنا فهي فن دقيق وخطير لم تكتشفه البشرية بعد.
وظيفتي مساعدة الآخرين
هذا يقودنا إلى سؤال هام أدخلت نفسك فيه دون أن تدري، كنت تقول إنك أكثر ميلا إلى العزف على العاطفة البشرية، وأقل حماسا للعقلانية المحضة على أساس أن التأثير على الوجدان يحدث أثرا أعمق من التأثير على العقل، لكنك في الفترة الأخيرة أوليت المقال عناية خاصة بحيث جعلته أشبه بالدراسة المركزة؛ الأمر الذي شكل - في رأيي - خطرا على إنتاجك الفني من ناحية، ويناقض قولك الأول من ناحية، فما قولك؟
ما إن انتهيت من السؤال حتى رأيته يتجهم ويصمت صمتا تاما ؛ من ميزات فناننا الكبير أن ما في داخله يتضح على وجهه في التو واللحظة، بعد فترة ليست بالقصيرة خرج عن صمته: سؤالك هذا ليس هو الأول، تلقيت رسائل كثيرة تطالبني بالكف عن كتابة المقال، كيلا أهدر موهبتي القصصية والمسرحية، لكن هناك عدة قضايا في هذا الشأن؛ القضية الأولى هي: أن الكتابة ليست فقط شكلا فنيا، والكاتب في عصرنا الحديث هو المنبه لقومه، المقلق، الموحي، هو الذي إذا نام الناس صحا، وإذا صحوا نام، إذا انحرفوا يمينا اتجه يسارا، وإذا سدروا في يساريتهم توسط أو أيمن؛ إنه الضابط للحركة، البوصلة، العازف على الناي إذا كان للحكمة ناي.
القضية الثانية هي: أنني لا أكتب بناء على تحديد دقيق لوظيفتي في الحياة؛ فلست أعرف لي وظيفة غير محاولة مساعدة الآخرين ليساعدوني، وحين أرى عقل أمتي هو الغائب، فلا أفكر لثانية واحدة في أي شيء سوى أن أعتبر نفسي مجندا، تماما كالمجند إجباريا في القوات المسلحة للدفاع عن الوطن العقل، أو العقل الوطن، يجب أن تعرف أن ثمة هجوما رهيبا - وبأشعة ليزر - على الأمة العربية، لا أعني الأرض العربية فقط، وإنما أعني العقلانية العربية.
عندما يكون عقل أمتي في خطر، فلتذهب جميع الأشكال الفنية - القصصية والروائية والمسرحية - إلى الجحيم، إن الكتابة ليست هزلا، وإذا كنا قد ذللناها وأسميناها أدبا أو فنونا جميلة، فأعتقد أننا فعلنا هذا عن تخلف شديد في إدراك، ليس فقط ماهية الفن ودوره في الحياة، بل ماهية الحياة ذاتها وقيمتها، الكتابة عمل خطير؛ إنها العقل والوجدان والروح تنسكب على الورق، وقد أدرك أعداؤنا هذا من زمن طويل، وتمكنوا من هزيمتنا فنيا وفكريا، وسهل عليهم بعد ذلك أن يهزمونا عسكريا، الهزيمة كانت إنسانيا أولا؛ لأن الإنسان هو الذي يقاتل وليس سلاحه، الجزء المقاتل في الإنسان هو إرادته، والكلمة الصادقة هي إرادة الإنسان، عندما أقول «الكلمة» فإنما أعنيها بمعناها الواسع الشامل لكافة ما يحرك النبضة في الكائن الحي.
إني أعتبر نفسي مجندا للدفاع عن عقلي وكياني أولا؛ لكي أدافع بهما عن عقل بني وطني، وحين يصل الأمر إلى مرحلة الالتحام بالسلاح الأبيض وأنعزل أنا فوق السطح لأكتب قصة أسلي بها المحاربين، أعتقد أن المسألة تصل عندئذ إلى درجة الخيانة. أما عن المؤرخين، فإنهم أحرار إذا اعتبروا ما أفعله هو العبث بعينه؛ لأنني - كما يقولون - أهدر موهبتي القصصية والمسرحية فيما يسمونه كتابة المقالات، ومن يدري، ربما لن يبقى مني - إذا بقي شيء - إلا ما يقال إني أهدره؟!
الحرام، والحلال
أثناء حديثه كانت عيناه تتوهجان، ترسلان ذلك البريق الذي لا تجده إلا عند أولئك الذين وصفوهم بأنهم ملئوا الدنيا وشغلوا الناس، ربما هو يمتاز عن الكثيرين منهم بأن الكلمة عنده مقرونة بالفعل في أكثر الأحيان؛ وربما لهذا السبب تجده يركز على الجانب الإيجابي في الضحية الإنسانية، وفي أغلب أعماله الفنية، وقلت لنفسي، وأنا أرى توتره، لا بد من سؤال جديد - وبأقصى سرعة - لنخرج عن جو السؤال السابق: سمعتك مرة في إحدى الندوات تقول: إن مشكلة «الخطيئة» مشكلة أجنبية غريبة علينا، ومع ذلك نعالجها في أعمالنا الفنية، بينما المشكلة التي نقابلها في مجتمعنا هي «الحرام»، والفارق دقيق بين الخطيئة والحرام، ولكنه أساس، ثم دارت مناقشة جانبية في الندوة نسيت بعدها أن تقول لنا عن هذا الفارق، ألا تعتقد أنها فرصة الآن لتكمل ما بدأته؟! - الخطيئة، بشكلها المسيحي، تتضمن أن الإنسان كائن خاطئ بطبعه، وقد جاء الإسلام ليغير هذا المعنى، ثم طورت المدارس الإسلامية هذا التغيير إلى فكرة «الحرام»، ومعناها أنه ليس هناك خطيئة أبدية، ولكن هناك أفعالا حلالا وأفعالا حراما، وهذا الفهم أكثر عدلا بالنسبة للإنسان وأكثر تحريرا لإرادته.
لكن أغرب ما في الأمر أن الديانة المسيحية - وفقا لتعاليم السيد المسيح، عليه السلام، ترفع هذه الخطيئة عن كاهل الإنسان باعتبار أن السيد المسيح قد حمل عن البشر خطاياهم كلها، بينما ارتدت المذاهب الأوروبية المسيحية إلى فكرة أن الإنسان كائن خاطئ أساسا لتستطيع أن تحكم قبضتها على الناس.
الشخصية العربية
ما دمنا قد تحدثنا عن «البشر» بصفة عامة في مفهومين مختلفين، فما قولك في سؤال عن «الإنسان العربي» وحده؟ - أي سؤال؟ - في كتابك القيم «اكتشاف قارة» حللت الشخصية الألمانية والشخصية اليابانية؛ قلت إن الأولى تتحكم فيها عقدة التفوق بينما مركب النقص هو الذي يتحكم في الثانية، ترى، ما أهم مزايا وعيوب الشخصية العربية في رأيك؟
وقف ودار حول المائدة واقترب من جهاز تليفون الكازينو، رفع السماعة وأدار القرص لمرة واحدة، ثم أعاد السماعة إلى مكانها وجاء ليجلس بجواري، أشعل لنفسه سيجارة، وقال بصوت هادئ: سأغادر الإسكندرية إلى الزقازيق غدا، إن كنت ستسافر إلى القاهرة غدا، تعال معي. - شكرا، سأقضي بضعة أيام بالإسكندرية، لكنك قلت لي إنك ستقضي هنا عشرة أيام. - مللت، لا بد من السفر إلى الزقازيق، ومنها إلى الريف.
هذا هو السر إذن؛ كثرة الأسفار هي التي مكنته من التحرك في عالم متسع، من يراجع أعماله الفنية يدهش لتنوع هذا العالم وثرائه، إنه يكتب عن القرية بنفس القوة التي يكتب بها عن المدينة، أحيانا تجد أحداثه تدور في «العزبة» الصغيرة، وكأنه ولد فيها، وأحيانا تجده يتحرك في مدينة أوروبية، وكأنه من أهلها، وقطع علي أفكاري بقوله: الشخصية العربية تختلف عن الشخصيتين الألمانية واليابانية؛ هي شخصية - كما يسمونها في علم النفس - الاكتئابية المرحة؛ تتردد باستمرار بين المرح والاكتئاب، نحن لا نحتمل الحزن طويلا، ولا نحتمل المرح طويلا، في حالة حزن إذا مرحنا، وفي حالة مرح إذا حزنا.
أهم عيوب الشخصية العربية هو التعقل، نادرا ما تصاب بالجنون، تكتئب حقا حين تسوء الظروف، لكنها لا تجن، لا تجد عندنا أحدا ينتحر مثلا.
هذا العيب نفسه هو الميزة؛ نحن شعب عاقل جدا؛ لأنه متوازن، وهذا هو السبب الذي جعلنا نعيش كل هذه الآلاف من السنين - وتحت أسوأ الظروف - دون أن نفقد شخصيتنا، دون أن ننتحر. - ما رأيك في أن نعود إلى الأدب؛ كي يكون ختامها مسكا؟ - موافق. - ما الذي ينقص أدبنا ليصبح أدبا عالميا؟ - هذا السؤال أجاب عليه زميلي وصديقي الأستاذ الطيب صالح إجابة جميلة أوافقه عليها تماما؛ العالم ليس هو العالم الكبير الذي يشمل البشرية كلها، بل هو الذي يبدأ صغيرا ثم يتسع، والمفروض في الأديب أن يخاطب العالم الصغير، عالمه، فإذا نجح في مخاطبة عالمه فإنه يكون بمثابة من نجح في مخاطبة العالم كله.
وأقول لك شيئا: إن أهم ما في الأمر هو الصدق؛ هل نحن صادقون حقا في مخاطبة عالمنا؟! إن صدقنا سنصل إليه، وإذن، علينا أن نحاول الوصول إليه أولا، ثم نفكر بعد ذلك في الوصول إلى العالم الكبير.
لقاء حافل مع دورنمات
حين كنت طالب علم أقرأ المراجع الطبية، وأقرأ أحيانا كتبا لأساتذة الأدب في القرن التاسع عشر كانت صورة أولئك الأساتذة - سواء في العلم أو الأدب - تأخذ عندي طابعا مبالغا فيه تماما؛ كنت أتصور أن ذلك الرجل العظيم الذي باستطاعته أن يكتب هذا المرجع أو يحيط به، بل أحيانا يكتشف ويخترع تلك المعلومات لا يمكن أن يكون مثلنا أبدا، وكنت لا أفعل هذا عن تصور رومانسي لإنسان خرافي أو من عالم آخر كتب أو ألف، ولكن الكاتب أو العالم يعطينا فيما يكتبه خير ما عنده، أو بالأصح، معجزته الخاصة التي وصل إليها وحده، وقياسا على هذا نتصور نحن أن كل شيء فيه - مثل إنتاجه - معجزة هو الآخر ومن مجموع تلك المعجزات التي تكون شخصه يتبدى لنا في صورة أسطورية تماما، بل إني لأذكر أني بعد أن أصبحت كاتبا وصدر كتابي الأول «أرخص ليالي» كنت مدعوا إلى حفل في إحدى السفارات، ووجدت ضمن المدعوين الدكتور طه حسين يصطحبه سكرتيره الأستاذ فريد شحاتة، وكنت أعرف أن الدكتور طه حسين قد قرأ كتابي وأعجب به تماما، وأنه أوصى المرحوم الأستاذ سامي داود أن يخبرني أنه يريد أن يراني، وها هو ذا طه حسين أمامي لا تفصلني عنه إلا بضع خطوات، وما علي إلا أن أذهب إليه وأسلم عليه وأقول له اسمي، فلا حرج إذن ولا إحراج، ولا داعي للوجل، والرجل هو الذي يطلب لقائي، ومع هذا لم أستطع أن أخطو خطوة واحدة تجاه الأستاذ العميد الذي قرأت له «الأيام» و«المعذبون في الأرض» و«أديب»، والذي كنت أضعه هو والأستاذ توفيق الحكيم في برج فني خاص أقول لنفسي إنني أبدا لن أستطيع بلوغه، وهكذا مضت الحفلة وغادرها طه حسين ولم أقابله إلا بعدها بعام حين اصطحبني المرحوم سامي داود بما يشبه الإرغام للقائه في فيلته بالزمالك في ذلك الحين.
تذكرت كل هذا، وأنا في طريقي للقاء فردريك دورنمات أعظم كاتب مسرحي معاصر - في رأيي المتواضع - ذلك أني حين دعتني «البروجيلتسيا» وترجمتها: «من أجل سويسرا»، وهي الهيئة التي تشرف وتشجع وترعى الأدب والفن السويسريين، وكان رفيقي في الرحلة أستاذنا الدكتور لويس عوض، جعلوا لنا برنامجين مختلفين؛ فالدكتور لويس آثر أن يزور المتاحف والمكتبات والأماكن التاريخية، وأن يعتكف بعيدا عن الخلق يتأمل كل ما قرأ عنه في تاريخ سويسرا وأماكنها المشهورة حتى الصخرة التي كتب الشاعر الإنجليزي بايرون قصيدة مشهورة بجوارها، بينما كان اهتمامي الأول أن أتعرف على الناس؛ كتابا وفنانين، ومسرحيين من مختلف أنحاء سويسرا.
وهكذا افترقنا.
وفي حفل عشاء صغير أقامه الكاتب السويسري أدولف موشك وزوجته الكاتبة لزوجتي ولي، وحضره عدد آخر من الكتاب، أسرني ذلك الجو الأسري البسيط الذي يحيا فيه الكاتبان: زوجة وزوج، ولم يخل الأمر من مداعبات أطلقتها عن التناقض الكامن بطبيعته بين الحياة زوجا وزوجة وبين الزمالة في العمل، فكلاهما كاتب ناجح، وحين انتهينا من العشاء ورحنا نتحدث جاءت سيرة «دورنمات»، وهنا وجدت حناجر الكتاب والكاتبات المجلجلة بدا وكأنها ازدردت لقمة كبيرة أوقفت الكلمات في الحلوق، وحين استؤنف الحديث استؤنف على هيئة كلمات متناثرة عن دورنمات، فمن قائل: لقد ماتت زوجته التي كان يعبدها وتزوج بأخرى وهو عجوز هكذا! ومن قائل: إن وزنه قد زاد كثيرا وإنه قليل الحركة جدا. ومن قائل: إنه يعاني من السكر ... أخبار محزنة على طول الخط، خاصة وقد كنت أتمنى أن ألقاه في هذه الرحلة إلى سويسرا، ولم أجد بدا من أن أبوح بأمنيتي تلك لهم، وجاءت الكلمات تترى تقول: إن دورنمات لا يقابل أحدا، إنه «سوبر ستار» الآن، ولا يقابل أحدا، كثيرون من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء يحاولون لقاءه، ولكنه باستمرار يرفض، لقد أصبح مغرورا تماما، ويوشك غروره أن يقتله في بيته المنعزل في نيوشاتل وابتسمت في سري، لكأننا في القاهرة أو في أية عاصمة عربية أخرى؛ لا رحنا ولا جينا! إن آراء الكتاب في بعضهم البعض، وإن اتخذت طابع «الموضوعية» حين تقال علنا، إلا أنه حين يصبح الأمر مسألة نميمة وآراء تقال في دائرة مغلقة، فإن كل مستور من الآراء يظهر أو بالأصح كل مستور من الغيرة أو الحقد يطفو على السطح وينطق به اللسان، ودورنمات كاتب موهوب جدا بالنسبة لبلد أوروبي صغير كسويسرا لم يعرف عنه إنتاج عباقرة الكتابة أو الموسيقى أو التصوير، وقد أخذ دورنمات طريقه إلى العالمية بسرعة شديدة، فهو يكتب بالألمانية، ومن السهل ترجمته، فقد كتب أول مسرحية له اسمها: «الأعمى والشهاب» عام 1948، وبعد عشر سنوات بالضبط كانت مسرحيته الثانية «زواج مستر مسيسبي» تقدم في برودواي في نيويورك عام 58، ناهيك عن مسرحيته المشهورة جدا «زيارة السيد العجوز» التي كتبها عام 56 (وعمره وقتها 35 عاما)، وقدمت أيضا في نيويورك، وفي كل عواصم الدنيا تقريبا، وترجمت إلى العربية، وقدمت هنا عدة مرات، كان آخرها الصيف الماضي، وإنتاج دورنمات في المسرح 18 مسرحية، فقد كتب أيضا «علماء الطبيعة»، وقدمت في مصر من ترجمة الصديق الكبير أنيس منصور، الذي زاره، وكتب عنه في الستينيات، و«روميلوس العظيم» عن آخر أباطرة الدولة الرومانية، و«هرقل ينظف إصطبل أوجياس»، و«فرانك الخامس»، و«آخر حرب الشتاء في التبت»، و«هكذا كتبت»، وأيضا اقتبس مسرحيات لشكسبير وجوته وغيرهما؛ تسع مسرحيات للآن، كتبها دورنمات، ولكنه أصبح بها أستاذ مسرح النصف الثاني من القرن العشرين؛ ذلك أن هذا الرجل يتمتع بموهبة القدرة على خلق الأسطورة الحديثة التي يحرك بها الواقع الآسن ويجعل منه فنا عظيما (وسنأتي إلى هذه النقطة في الحوار معه).
ودورنمات كروائي يأتي من الدرجة الثانية من موهبته ككاتب مسرح، وقد كتب عدة روايات؛ منها: «القاضي والمحكوم عليه» عام 55، و«الشك» 53، و«الإغريقي يبحث عن الإغريقية» 55، و«اللعبة الخطرة» 56، و «الالتماس» 58.
أجل ما بهرني في دورنمات ككاتب مسرح هو قدرته على اختراع حدوتة مسرحية معاصرة، بينما العادة جرت في معظم كتاب المسرح أن يلجئوا إلى الميتولوجيا الإغريقية مثل «أوديب» و«بيجماليون» و«إلكترا» و«الذباب»، يعيدون كتابتها برؤية حديثة ومبتكرة، أما أن «تخترع» أسطورة حديثة تماما، منتزعة من صميم عصرها ومتناقضاته، فتلك لا بد موهبة من نوع فذ تماما.
ومن هنا يختلف دورنمات عن معاصريه من كتاب المسرح العالميين مثل آرثر ميللر وتينيسي ويليامز وبيكيت ويونسكو وموروجيك وغيرهم.
إن لكل شيخ طريقته، هذا صحيح، ولكن هذا الشيخ نسيج وحده. •••
لم يفعل الحديث الذي دار بعد العشاء، إلا أن ثبط همتي تماما في لقاء دورنمات، مع أني لم أكن مشغوفا جدا بلقائه، فقد علمتني التجربة أن «سماعك بالمعيدي خير من أن تراه»، ثم إن خجلي الريفي الذي لم يزاولني أبدا فعل فعله فخفت أن أطلب من السيدة «زايفل» المسئولة عن زياراتنا موعدا مع دورنمات فتعتذر، ولو بلباقة، كدأبها مع كل من يطلب من الكتاب الذين يزورون سويسرا - هكذا قال لي الكتاب والكاتبات في حفلة العشاء.
صرفت النظر كما قلت، ولكن أثناء زيارتنا - زوجتي وأنا - لمنطقة سان مورتيز ولقائنا بممثل البروهيلفسيا هناك الذي اتضح أنه من الشعب الرومانشي الذي يقطن في منطقة جبال الألب، والذي له لغة خاصة وأدب خاص وحركة فنية ثقافية خاصة، والذي لا يتجاوز عدده المليون، وبعد جولة في قمم جبال الألب اصطحبنا المسئول لزيارة صديقة له وصديق يعيشان في واد صغير يقع بين جبلين بالقرب من سان مورتيز، والوادي صغير جدا والأرض والبيوت فيه غالية الثمن تماما، فلا يقل ثمن البيت فيه عن مليون فرنك سويسري، مع أنه لا يتعدى أي بيت من بيوت الفلاحين الذين كانوا يقطنون ذلك الوادي من زمن غير بعيد.
دخلنا المنزل، فهو بيت مثل بيوت الفلاحين في قرانا مصنوع من الخشب ومزود بفرن للتدفئة ولإعداد الطعام، كل ما في الأمر أن الأسرة لا تنام فوق سطح الفرن كعادتنا في الأرياف، ولكنها تنام في الحجرة التي تقع أعلى الفرن مباشرة، والتي تتكفل حرارة الفرن بتدفئتها طوال الليل والنهار، وعلى كوب الشاي الذي أعدته ربة البيت ورحنا نرتشفه بنهم بعد الجولة الحافلة في المناطق الجبلية الوعرة ذات الهواء البارد تماما، عرفها المسئول بنا، وعرفنا بها، وذكر لنا أن أخاها يعتبر من أهم الناشرين في اللغة الألمانية بسويسرا، وهنا، وفي التو، قرنت بين الناشر وبين الكاتب، وسألتها إن كان قد نشر شيئا لدورنمات؟ فقالت: أجل. قلت: إذن، تعرفين دورنمات؟! - بالتأكيد. - أأستطيع أن أعرف منك رقم تليفونه؟ - ها هو ذا، ولكن، لماذا؟
وهنا ذكرت لها رغبتي في لقائه والحديث الذي ثبط همتي، إلى آخر القصة.
ولمحت التردد على وجهها مخافة أن أطلب منها أن تحدد لي موعدا معه، فقلت لها على الفور: لا عليك، يا سيدتي، أنا لن أكلفك بالاتصال به، سأقوم أنا بهذا، وأجرب حظي.
وحين عدنا إلى الفندق في سان مورتيز، أخرجت الرقم وطلبته، ورد علي صوت رجل يتحدث بالألماني، فسألته بالإنجليزية: مستر فريدريك دورنمات؟ - يا، يا (نعم بالألمانية). - (مواصلا بالإنجليزية) أنا اسمي فلان، وأنا كاتب مسرحي مصري، وأود لقاءك ليس لحديث صحفي، ولكن لحوار حول قضايا مسرحية تشغلني وتشغل كتاب المسرح المصري والعربي، أفهمتني يا مستر دورنمات؟ - متى أستطيع أن ألقاك؟
قال كلاما بالألمانية فناولت السماعة لمرافقنا الرومانيشي مندوب البروهيلفسيا، وظل يقول: يا، يا، يا.
وأخيرا نحى السماعة جانبا وأغلق فوهتها، وقال بالإنجليزية طبعا: إن مستر دورنمات يرحب بلقائك يوم الثلاثاء القادم، في منزله بنيو شاتل، وهو يترك لك حرية اللقاء على الغداء 12 ظهرا، أو على مشروب بعد الظهر في الثالثة، فما رأيك؟ - الثالثة يوم الثلاثاء، إذن.
وقد كان.
وكان عجبي شديدا أن تم الأمر بهذه السهولة! •••
قامت مدام زويفل المسئولة عنا بترتيب كل شيء: آلة تسجيل، كاميرا، ومترجم يجيد الألمانية والإنجليزية واللغة العربية، حتى كان عليه أن يلقانا في محطة نيوشاتل للقطارات في الساعة الثانية بعد الظهر.
ومن أعظم الأشياء الموجودة في سويسرا شبكة السكك الحديدية التي تحملك إلى أي بقعة من سويسرا رغم وعورة جبالها وكثرتها وتعدد أنواعها، نوع لصعود الجبال، ونوع للسهول، ونوع دولي يحملك إلى أي مكان في أوروبا، والأهم من هذا دقتها الشديدة، وقد كان علينا مرة أن نغادر سان مورتيز ونغير القطار الذاهب إلى لوشيانو في محطة ما لا أذكر اسمها، وكنا وحدنا، وسألت مدام زويفل عبر التليفون، كيف سأعرف المحطة؟ قالت: انظر في ساعتك؛ حين تصبح السابعة وثلاث دقائق استعد للنزول؛ فالقطار يصل إلى المحطة في السابعة وأربع دقائق. وفعلا، في السابعة وأربع دقائق كنا نهبط من القطار على رصيف المحطة التي فشلت في تذكر اسمها، لكأنه نوع من التعرف على المكان بالزمان، إن صناعة الساعات لم تنشأ في سويسرا عبثا، وأنا شخصيا لدي ساعة سويسرية دقيقة لا أحتاج إليها كثيرا في مصرنا الغالية، لم أحتجها تماما إلا هناك؛ فخطأ في نصف دقيقة قد يكلفك قطارا هاما يفوتك، أو موعدا لقيام طائرة.
في الثانية تماما كان المترجم هناك، بالضبط في بوفيه الدرجة الأولى واقفا على الباب، ودون أن نتبادل كلمة كنا قد تعارفنا.
كان المطر قد بدأ يتساقط، وما إن خرجنا من باب المحطة حتى أصبح سيولا، وكان العثور على تاكسي في هذا الجو مسألة صعبة تماما، ووجدنا أن خير طريقة هي أن ننتظر مسافرا قادما بتاكسي لنأخذه، وأفلحت الطريقة، وسألنا السائق عن العنوان، فأكد أنه يعرفه، وسار بنا في شوارع خلت من المارة تقريبا، إلى أن أصبحنا نسير في شارع مواز لبحيرة نيوشاتل، وبدأ السائق يعد أرقام البيوت، وبدأ يبرطم، فكل الأرقام موجودة إلا رقم منزل دورنمات، المطر والبرد والشارع المتعرج كالجبل الملاصق له لا تلمح فيه أثرا لإنسان أو لحياة، وتصورت أن السائق سرعان ما يزهق وينفض يده ويعود بنا إلى المحطة حيث كنا، ولكن يبدو أن الرجل أخذها مسألة تحد، فمضى يطرق الأبواب؛ بعضها يفتح له ويجيب بالتأسف، وبعضها يهز رأسه علامة اللاعلم، ويروح السائق ويجيء في الشارع المتعرج الطويل، وأخيرا جدا يطرق بابا نلمح من خلفه رأسا يهتز بالمعرفة، ويعود السائق متهللا وكأنه أرشميدس، يقول: وجدتها وجدتها! وبعد دقائق نكون أخيرا أمام باب دورنمات.
فتحت لنا الباب سيدة شابة حسبتها أول الأمر زوجة دورنمات الجديدة، ولكن اتضح فيما بعد أنها «شغالة» البيت، ومن ممر ضيق نفذنا إلى حجرة واسعة منخفضة بضع درجات، وكان دورنمات جالسا إلى مكتبه، قام وتقدم ناحيتنا مرحبا، ومسلما.
الرجل في تمام صحته، قصير القامة، في الخامسة والستين يبدو نشط الحركة، ليس سمينا أو زائد الوزن كما قالوا، ولا يمشي على عكاز كما زعموا، أشيب الشعر يضع منظارا، على وجهه آيات ترحيب صادقة، ترحيب متواضع أشد ما يكون التواضع.
ولم يكن دورنمات أول كاتب ملأت شهرته الآفاق أقابله، فمن قبله لقيت سارتر وإيليا أهرنبورج في النمسا، وآرثر ميللر وجون إيدابك وسول بيللو من أمريكا، وكل منهم كنت أحس لديه بكم ما من الشعور المغتربة للذات وبالذات، إلا هذا الرجل الذي بدا لي شيخا صغيرا طيبا، فيه من ملامح الطفولة أكثر مما فيه من ملامح الشيوخ.
كان حائط بأكمله من حجرته مصنوعا من الزجاج ويطل من عل على بحيرة نيوشاتل والجبل المنحدر إليها، مكان عمل جميل جدا لفنان رسام وكاتب معا.
رحت أتأمل الرجل، هذا هو دورنمات إذن، الذي خلبت أفكاره لبي وجعلتني أتساءل عن كنه ذلك الكاتب المسرحي الذي «يخترع» تلك الأفكار. - أستاذ دورنمات، أنا شديد الإعجاب بمسرحك لسبب قد يخالفني فيه الكثير من نقادك، فنقادك يشيدون بك لأنك أحللت الصدفة محل القدر الإغريقي القديم، وجعلت التفكير العقلاني في أحيان كثيرة موجات من العبثية واللامفهومية، وفي مثل هذا الجو غير المعقول لا يمكن وجود الأبطال، ويقولون: إنك حطمت النظرة المنمقة المرئية للعالم المتمدين بما أدخلته عليها من النظرة النسبية للحقائق، وفي مكان البناء السليم المتكامل والقوانين الأخلاقية المطلقة، في مكان هذا حلت بيروقراطية المجتمع الحديث لتضع رؤية عينية للكون؛ حيث يستحيل فيها الإنسان ومأساته إلى سخرة (فارس) اجتماعية، نقادك يقدرونك لهذا، ولكني معجب بك لسبب آخر تماما.
أجاب دورنمات بابتسامة ماكرة: أي سبب؟
قلت: لأنك كمسرحي، خالق لما أسميه الأسطورة الحديثة، فالواقع كما هو، أنت تعرف وأنا أعرف لا يصلح بذاته كمادة مسرحية، لا بد من حيلة مسرحية يلجأ إليها كاتب المسرح ليجعل هذا الواقع إما أن ينقلب رأسا على عقب، وإما أن يعتدل إذا كان مقلوبا؛ لنستطيع أن نراه في ضوء جديد تماما وبرؤية جديدة تماما، فمثلا في مسرحية «زيارة السيدة العجوز» أنت تريد أن تتحدث عما يحدثه العامل المادي في النفوس البشرية، وكيف يتسلط عليها ويغيرها، غيرك كان يلجأ لعرض هذا الموضوع في قالب درامي مهما بلغت درجة إتقانه فسوف يكون مباشرا، أنت اخترعت قصة السيدة التي غادرت القرية منبوذة من حبيبها، والتي عادت إليها بعد أن أصبحت غنية جدا ورصدت مليون دولار لمن يقتل لها حبيبها السابق، هذه «الاختراعة» المسرحية جعلتنا نرى الموضوع بطريقة مسرحية مثلى، وجعلتنا نراه وكأننا لم نره من قبل مع أننا نراه كل يوم. أردت لقاءك إذن، ومناقشتك؛ لأننا في العالم العربي نعاني ككتاب مسرح (وأنا منهم) لخلق هذه الاختراعات المسرحية المصرية والعربية الحديثة لنرى واقعنا وواقع العالم اليوم على ضوئها.
قال: إنه لشيء غريب، ولكننا في خلقنا للأسطورة الحديثة، كما تسميها نجد أنفسنا في النهاية وقد عدنا إلى أساطير الأقدمين، إلى الميثولوجيا الإغريقية مثلا، إن النظرة الكونية الشاملة الكاملة كانت منذ خمسين عاما مضت لا يمكن الوصول إليها على وجه الدقة، ولكننا الآن نستطيع أن نقول: إننا نقف على أرضية نظرة كونية ثابتة، نحن لدينا اليوم فكرة شبه يقينية عن ماهية المادة.
قلت: إنني سعيد بسماع هذا، فأنا أحتاج وأنا أكتب مسرحياتي إلى أن أقف على أرضية كونية ثابتة، وحين كنت أكتب مسرحية لي اسمها «الفرافير» احتجت أن أعثر على قانون واحد يشمل كل مادة الكون من أصغر ذراتها وإلكتروناتها إلى أكبر مجراتها.
قال: وهل وصلت إليه؟
قلت: وصلت إلى ما تفضلت وأسميته أنت: «شبه اليقين» فبإمعان التفكير وصلت إلى أن المادة في حالة نبض مستمر، تتجاذب مكوناتها، من مكونات الذرة، إلى مكونات المجرة، وتظل تتجاذب إلى أن تصل إلى ما أسميته المسافة الحرجة لتبدأ قوى التجاذب تتحول فجأة إلى قوى تنافر منفجر هائل، وهذا القانون يشمل حتى العلاقات البشرية من تقارب وحب ثم تنافر وتباعد، ومن العلاقات داخل المجتمعات، وبين الدول، وهكذا.
قال: وماذا دفعك للبحث عن ذلك القانون الجديد؟! أولم تكفك القوانين الحالية لتفسير السلوك البشري؟!
قلت: إن القوانين الحالية لعلم الطبيعة والكيمياء والبيولوجي والأنثروبولوجي لم تكن لتسعفني لتفسير العلاقة بين السيد والفرفور (وهنا تكفل المترجم بتلخيص مسرحية الفرافير التي يعرفها ودرسها، وقد سعدت بهذا؛ لأنني هنا أمام كاتب قد قرأت معظم وأهم أعماله، بينما هو بالكاد لا يعرف إلا أني مجرد كاتب مسرحي مصري، فكان ضروريا أن يعرف شيئا عن إنتاجي).
قال: أنا لا أستطيع أن أناقشك في تصورك عن هذا القانون الكوني الواحد، ولكني شخصيا أومن بقانون واحد آخر هو قانون الصدفة، إن العالم الذي نحيا فيه بما يحتويه من بشر ليس له قدر محتوم يسير إليه وينتهي بنهايته؛ ولهذا نحن لا يمكن أن نتنبأ بما سيحدث لهذا العالم غدا؛ لأن العالم يسير بطريق الصدفة العشوائية، ولا يمكن التنبؤ على وجه الدقة بما سوف يحدث؛ فالأمر متروك لقانون الصدفة المحضة.
قلت: هل تعتقد يا أستاذ دورنمات أن المسألة مجرد صدفة، حتى لو كانت قانونا؟
قال: نعم، أنا أعتقد أن الحتمية - حتى التاريخية منها - قد استبدلت بالاحتمالية، بمعنى أن هناك «احتمال» أن يحدث هذا الشيء أو ذاك.
قلت: ألا يمكن أن تكون الاحتمالية طريقا للحتمية، أو بالأصح، هل من الممكن أن تؤدي الاحتمالية إلى الحتمية؟ سألت المترجم: هل سؤالي مفهوم؟ قال المترجم: لا.
قلت: بمعنى آخر: الاحتمالية مهما كثرت فلها حدود، فهل يمكن أن تؤدي الاحتمالية في النهاية إلى الحتمية؟
سألته هذا السؤال وفي خلفية تفكيري ما يقوله النقاد عنه من أنه نظرا لما أصابه من إحباط نتيجة لانعدام العدالة الكونية، وثبوت أن الفلسفات كلها غير يقينية، أصبح يؤمن أن البطولة في العالم انحصرت في تمرد الفرد المعزول ضد النبوءة الميئوس منها؛ وعلى هذا الأساس بنى عملا من أعماله الفذة التي سنتحدث عنها فيما بعد وهو «التيه».
قال: لنعد إلى قانونك الذي تصورته عن الكون (قانون النبض الكوني أو التجاذب للتنافر) أنا آخذ هذا القانون مأخذا علميا جادا، أو بالأصح افتراضا علميا جادا، فمن المعروف أن الكون الآن في حالة تمدد (حسب نظرية أينشتين) أو ما نسميه مرحلة التنافر، فهل هناك قوة داخلية فيه تستطيع أن تبدأ مرحلة التجاذب؟
أسعدني أنه عاد ليناقشني في افتراضي ويأخذه ذلك المأخذ الجاد.
قلت: إنه لا يتحدد - حسب افتراضي - من تلقاء نفسه، إنه يتحدد؛ لأنه بالضرورة ينجذب أو تنجذب أطرافه إلى أكوان بعيدة أخرى، بمعنى أن المادة الكونية كلها - من الذرات إلى المجرات - تتجاذب بنفس السرعة، بل وتقطع في انجذابها نفس النسبية من المسافة - إلى أن تصل إلى النقطة الحرجة فتنفجر متنافرة ثم تعود لتتجاذب، وهكذا.
فالقوة أو القانون الأساسي ليس شيئا من خارج الكون، ولكنه كامن داخله، التجاذب للتنافر.
قال: إنه احتمال وارد، بل هو في الحقيقة تفسيرنا نحن الكتاب، أو افتراضاتنا عما يجري داخل الكون ومادته، إن فكرة الكون نفسها هي تصورنا نحن عن الكون، إن فكرة جاليليو عن الكون كانت صحيحة في عصرها تماما، ولكنه لم يكن يملك الأدوات أو الأجهزة التي تمكنه من إثباتها عمليا والتأكد من صحتها، وصحة أن المادة تدور في حلقات وحول نفسها، ونحن الآن عائدون إلى تصورات أخرى عن الكون، وما الفن إلا تجسيد لتصورنا نحن عن هذا التصور.
قلت: لو أخذنا دورنمات حين بدأ يرسم ويكتب في أوائل بداياته أعوام 43، 44، 45، وأخذنا تصوره للكون، هل تغير هذا التصور؟
قال: أنا كنت أدرس الفلسفة، وكان اكتشافي للفيلسوف نقطة تحول في حياتي، فقد كان صاحب نظرية التلقي وصاحب نظرية التفرقة بين التفكير والوجود، وصاحب الرأي القائل بأن الإنسان يفكر في الكون مستعينا بالمفردات البشرية التي يراها ويحيا بها، وليس بالموجودات الحقيقية في الكون، بمعنى آخر هو لا يرى ولا يدرك حقيقة الكون، ولكنه «يتصوره» على هيئة أشياء يراها من حوله، وهكذا وصل إلى أن التفكير الرياضي والحسابي هو أنقى أنواع التفكير في الكون، فهي مجردات وأرقام (والأرقام أيضا مجردات) لا تحتك بالحقيقة من قريب أو بعيد، إن حقائق الطبيعة لا يمكن تجسيدها إلا الرموز الرياضية والرياضة فقط، وهذا في حد ذاته يحدد تلك الحقائق الكونية تحديدا كبيرا.
وواصل دورنمات قائلا: إن الحرية الحقيقية هي في إدراك محدودية القدرة البشرية على فهم الكون.
قلت: نعم، فلقد جعلت الصراع في مسرحيتي بين رغبة الإنسان العارمة في التحرر من النظام الكوني (السيد) وبين قدرته المحدودة على الفكاك من أسر هذا النظام نفسه؛ إذ لو فك منه تماما لفقد صفته البشرية ونظام وجوده.
قال: ولكن النظام ليس خارج الإنسان، إنه داخل الإنسان نفسه.
قلت: ولكن كنت أتحدث عن الوجود الإنساني في هيئة جماعة بشرية، فالإنسان لا يحيا بمفرده، ولا يوجد مكون من مكونات الكون بمفرده أبدا، حتى الذرات توجد في مجتمعات، ولا بد من نظام يحكم وجودها الجماعي.
قال: أنت تقول: إن الإنسان لا يمكن أن يعيش خارج نظامه الإنساني، وإن النظام لا يمكن أن يعيش خارج الإنسان، فكيف عالجت هذه المعادلة المستحيلة؟
قلت: بالصراع حول من يكون السيد: النظام، أو الإنسان. وضحكنا، طويلا، وكثيرا.
دورنمات في مصر
قبل أن نستأنف هذا الحوار مع دورنمات، والذي سيقول فيه آراء عن الإسلام، وعن إسرائيل، وعن المسرح، والفلسفة، والفن، وحتى عن نفسه، قبل هذا أحب أن أقول للقراء خبرا، أن دورنمات سيزور القاهرة في نوفمبر القادم، فبعد الحوار الحافل الذي دار بيننا قلت له: هل تحب أن تزور القاهرة؟
وجدته يتردد.
فقلت: إنها ليست دعوة رسمية، إنها دعوة شخصية مني أنا، أو بالأصح هي دعوة من مجلس إدارة جمعية كتاب ونقاد ومخرجي المسرح التي أتشرف بكوني مسئولا عنها ونائبا لرئيسها شيخ كتابنا المسرحيين توفيق الحكيم، إنني باسم هؤلاء المسرحيين أدعوك لزيارة القاهرة، قلت له هذا رغم علمي أنه يكره السفر، ليس فقط إلى خارج سويسرا، وإنما حتى إلى خارج نيوشاتل التي يقيم فيها، وله سنون لم يسافر أبدا إلى الخارج، ولكني قلته اعتمادا على نوع من الفراسة الداخلية، ألتقط وأحس بها الناس أو بما في الناس بطريقة ما زلت لا أعرفها، تماما مثلما جاءتني فكرة زيارته وأنا عند أخت ذلك الناشر في أحد وديان جبال الألب.
وها أنا ذا لا أفاجأ - وإن كان مفروضا أن أفاجأ - حين قال: إني أتمنى زيارة القاهرة، فعلا، وكذلك زوجتي. الجديدة طبعا؛ فزوجته السابقة التي عاش معها أكثر من ستة وثلاثين عاما، والتي رسمها بأكثر من طريقة، والتي كانت معبودته، كما يقولون، وتوقعوا أن يموت أو على الأقل يتوقف عن نشاطه الفني تماما بعد أن ماتت، الذي حدث أنه تزوج بعدها من شابة ألمانية تعمل مخرجة في شبكة التليفزيون التي تغطي منطقة أوروبا الناطقة بالألمانية، ألمانيا والنمسا والجزء الألماني من سويسرا وبعض أجزاء يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.
قلت: سيكون رائعا لو صحبتك زوجتك، وأرجو أن نستطيع أن ندبر لها برنامجا خاصا باعتبار أنك ستكون مشغولا ببرامج أخرى.
قال: لا حاجة بك لأي تدبير؛ فهي تعشق مصر، وطالما صرحت لي بأنها تريد أن تصنع فيلما عن مصر، وأعتقد أنها ستفعل ذلك إذا ذهبنا.
وجهت له هذه الدعوة حتى لو كنت سأدفع تكاليفها كلها من جيبي المتواضع الخاص، فنحن في مصر منذ زيارة سارتر للقاهرة بدعوة من مؤسسة الأهرام، ومنذ زيارة جارودي بدعوة من الأهرام أيضا، لم نحاول أن ندعو كاتبا أو مفكرا عالميا لزيارة مصرنا التي يحبها العالم بقدر ما نضيق نحن - أحيانا - بها!
وحتى قلت لنفسي: لو وجدت المبلغ المطلوب كبيرا فسأحاول أن أقنع الأستاذ إبراهيم نافع بأن يقدم لي قرضا أو عونا أو تدفعه النخوة ليقول: بل الأهرام هو الذي سيتكفل بنفقات الزيارة.
ولكني حين عدت إلى القاهرة - وطبعا لأسباب لا يجهلها القارئ - لم أشأ أن أعرض أمر هذه الزيارة على وزارة الثقافة، خاصة وهي مشغولة بالماضي تماما وترميمه، قابلت الدكتور ممدوح البلتاجي صدفة في افتتاح معرض الكتب الفرنسية التي كتبت عن مصر والعرب والمسلمين منذ العصور الوسطى إلى العصر الحاضر - موضوع سأعود إلى الحديث عنه فيما بعد، إن شاء الله - وزارات الثقافة والعلاقات الثقافية في البلاد الأخرى مشغولة تماما بإقامة علاقات ثقافية وثيقة بين بلادها وبين غيرها من البلدان، وبالذات بلدان العالم النامي، وفي مقدمتها بطبيعة الحال، قائدة هذا العالم الثقافي مصر.
لا يكاد يمر شهر إلا وثمة معرض أو فرقة موسيقية أو فرقة مسرح أو رقص قادمة من الهند أو كوريا، وبالذات من فرنسا، إن الفرنسيين يقومون بنشاط ثقافي هائل في القاهرة: معهد آثار، معهد لغة، ترجمة كتب مصرية إلى اللغة الفرنسية، معارض، دعوات للكتاب لزيارتها والاحتكاك ثقافيا وفنيا بها، مهرجانات أفلام، مؤتمرات كان آخرها مؤتمرا للعلاقات المصرية الفرنسية، مؤتمرا حافلا، كان على رأس المشتركين فيه المفكر الفرنسي العظيم مكسيم ردونسون، ذلك أن العلاقات الثقافية لم تعد في عالم اليوم ترفا أو دعاية، إنها هي الروابط الحقيقية التي تجذب الشعوب إلى حضارات الشعوب؛ وبالتالي إلى فهمها والتعاطف مع سياستها وخطواتها إلى التقدم، ومثل الفرنسيين هناك معهد جوته بنشاطه الهائل، ومعهد ليوناردو دافنشي الإيطالي، والمعهد البريطاني ينفق بسخاء على تعليم المصريين اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية، ناهيك عن النشاط الثقافي الذي تقوم به السفارة الأمريكية والجامعة الأمريكية، وكان تنافس هائل قائم بينهما لخلب لب المصريين ثقافيا وفنيا، وهذا هو في رأيي التنافس الوحيد المفيد لنا تماما، وقد كان مفروضا أن تقوم مصر - أقصد الوزارات والإدارات الثقافية الكثيرة المبعثرة بين وزارة الثقافة وإدارة العلاقات الثقافية بها، وإدارة العلاقات الثقافية بوزارة الخارجية، والأخرى التي بوزارة التربية والتعليم أو التعليم العالي، لا أعرف، كان مفروضا أن توجد هذه كلها في مؤسسة ثقافية واحدة للعلاقات الخارجية وللثقافة الداخلية أيضا، كهيئة «البروهيلفسيا» السويسرية أو غيرها، ولكن تقول «لمين»؟! المهم، قابلت الدكتور ممدوح البلتاجي وذكرت له - عرضا - عزمي على دعوة دورنمات وقبوله الدعوة فوجدته بحماس منقطع النظير يصر على أن تقوم هيئة الاستعلامات باستضافة الرجل الكبير، وبمشاورات مع السيد صفوت الشريف وزير الإعلام تم الاتفاق على برنامج كامل للزيارة، وحتى حين ذكرت الفيلم الذي تريد زوجة دورنمات عمله عن مصر لعرضه في الشبكة الألمانية الأوروبية قال: إن إمكانيات الاستعلامات كلها ستسخر من أجل نجاح العمل.
وهكذا أرسلت هيئة الاستعلامات دعوة رسمية - عن طريق السفارة السويسرية في القاهرة - إلى دورنمات بها برنامج مفصل واتفاق مع الثقافة الجماهيرية على عرض مسرحية لدورنمات مما سبق عرضه له في القاهرة، ولست أدري لم الثقافة الجماهيرية؟! ولماذا لا يكون المسرح القومي الأب هو الذي يقدمها؟! وتحدد للزيارة بالاتفاق مع دورنمات نوفمبر القادم، إن شاء الله.
هذا هو الخبر.
ونعود الآن إلى ما كنا فيه الأسبوع الماضي ونتذكر الحوار حتى نحيط بالموضوع.
قال: إن الحرية الحقيقية هي في إدراك محدودية القدرة البشرية على فهم الكون.
قلت: بالضبط، ففي مفهومي أن الصراع الحقيقي هو بين رغبة الإنسان العارمة في التحرر من أي نظام «بما فيه النظام الكوني نفسه» وبين قدرته المحدودة على الفكاك من أسر هذا النظام؛ إذ لو فك منه تماما لفقد صفته البشرية ونظام وجوده كإنسان.
قال: ولكن النظام في رأيي ليس خارج الإنسان، إنه داخل الإنسان نفسه.
قلت: ولكني هنا أتحدث عن الإنسان ليس كفرد، وإنما كمجموعة إنسانية كمجتمع، فالإنسان لا يحيا بمفرده، ولا يوجد مكون من مكونات الكون بمفرده أبدا، حتى الذرات توجد في مجتمعات، ولا بد من نظام يحكم وجودها الجماعي، فالأصل في وجود أي شيء هو وجوده الجماعي.
قال: أنت تقول إن الإنسان لا يمكن أن يعيش خارج نظامه الإنساني، وإن النظام لا يمكن أن يعيش خارج الإنسان، فكيف عالجت هذه المعادلة المستحيلة؟!
قلت: بالصراع حول من يكون السيد؛ النظام أو الإنسان، وضحك وضحكت، ولكني أردفت: إنني أعتبر أن الإنسان إنسان بقدر تمرده على نظام وجوده وبقدر قوة تمرده تكون قوته كإنسان، صحيح أنه تمرد ميئوس منه، إلا أن الاستسلام الكامل للنظام، لأي نظام موجود، هو الاستكانة، والسكون هو الموت.
قال (وكأنما يغير مجرى الحديث): رغم أن أرسطو يقول إن الإنسان كائن سياسي، إلا أنني أعتقد أن الإنسان كائن «ذكري - أنثوي» وأنا أرى أنك لم تتحدث عن الرجل والمرأة باعتبارهما النظام الأساسي للمجتمع البشري.
قلت: لو كان الرجل والمرأة وحدهما على سطح الكرة الأرضية لأصبح هذا هو النظام الإنساني، ولكنهما لم يوجدا هكذا بمفردهما إلا في قصة آدم وحواء، هما موجودان باستمرار داخل مجتمعات مثلهما مثل أدق الكائنات.
قال: ولكن هذا كما قلت لك مجرد تصورنا نحن لوجود المادة في هذه المرحلة من إدراكنا العلمي؛ ولهذا فأنا أفضل النظرة الفلسفية لأنها تقوم على افتراض منطق للوجود، وهي في نفس الوقت ليست حقيقة علمية، إنها خيال علمي واسع مثلها مثل الروايات والمسرحيات، مجرد افتراضات، وليست حقيقة علمية ممكنا إثباتها بالميكروسكوب أو التليسكوب.
قلت: أمعنى هذا أنك لا تعتقد أن هناك حقيقة موضوعية، حقيقة، موجودة خارجنا؟
قال: هناك حقيقة - هذا لا شك فيه - ولكننا لا ندرك إلا أجزاء من تلك الحقيقة، أي تلك الأجزاء ندركها؟ هذا هو السؤال: بل إنه مهما كان تفكيرنا حتى لو كان تفكيرا عبثيا فنحن بالضرورة نمسك بجزء ولو ضئيلا من الحقيقة، بالضبط كما لو كنا نمسك ببطارية كشافة نجول بها في أنحاء غرفة مظلمة فلا نرى في المرة الواحدة إلا أجزاء من محتويات الغرفة.
قلت: أو كما يقولون عن النملة حين لا يمكنها أبدا أن ترى الفيل كله، إنها ترى نتوءات وأشياء بارزة وهضبات، إنما لا يمكن أن تدرك - أو حتى تتخيل إذا كان باستطاعتها أن تتخيل - أن هذه كلها تشكل كائنا هائل الحجم حيا اسمه الفيل.
ولهذا دعني أسألك يا أستاذ دورنمات سؤالا سوف يبدو كأسئلة اللقاءات الصحفية: ألا تعتقد أن الإنسان، كتلك النملة كما قلنا، تكتسب كل يوم بتكنولوجيتها واكتشافاتها وإدراكاتها المتقدمة قدرات أكثر بكثير من حجمها الصغير؛ بحيث إنه من الممكن لهذه النملة أن تكبر تماما ويكبر خيالها وتكبر عيونها حتى تصل إلى درجة تستطيع أن ترى الفيل فيلا فعلا؟!
قال: ممكن أن تكبر النملة فعلا وتكبر حواسها كما قلت، ولكن الفيل أيضا لن يظل كما هو، إنه هو الآخر لن يظل نفس الفيل، سيظل يكبر ويكبر.
قلت في سري وله أيضا: هكذا يجيب الأستاذ المسرحي دورنمات. وأضفت لنفسي: لا بد أن جزءا كبيرا من موهبة الكاتب المسرحي أن يعرف كيف يسأل السؤال الصحيح ويعرف أيضا كيف يجيب - حتى على نفسه - الإجابة الصحيحة.
ولكني كنت قد بدأت أتبين شيئا من ملامح ذلك الكاتب الداخلية، فهو قد درس الفلسفة وعشقها، وأنا قد درست العلم وعشقته، وصحيح أن الاثنين طريقان للحقيقة مختلفان تماما لا يتفقان إلا على النهاية الواحدة، ولكني - هكذا قلت لنفسي - أفضل طريق العلم، ومن قبيل حب الاستطلاع حاولت بجدية خطيرة أن أدرس الفلسفة، فلم يقنعني أيهما بالمرة، أجل، بدأت أتعرف على الكاتب الداخلي فيه، ومن لمعات عينيه بدأت أنا الآخر ألمح علامات تعرفه علي.
قلت: كما قلت لك يا أستاذ دورنمات لقد قرأت بعض آراء النقاد عن مسرحك، ولكني أنا شخصيا أعتقد أن أحدا منهم لم يكتشف خاصيتك الأصيلة، وهي قدرتك عن طريقتك في اختراع الفانتازيا والأسطورة العصرية لاختراق عالمنا الحالي بطريقة تعريه تماما، فهل أنت معي في هذا؟ وهل نستطيع أن نسمي مسرحك الفانتازيا «الخيالية» الحديثة؟
قال: إن الفانتازيا جزء لا يتجزأ من التركيب «العقلاني» للإنسان، إن الخيال في معظمه منطقي أيضا، إن الرياضة هي المعادل المتخيل الموجود الممنطق، ومع هذا فالرياضة أيضا فانتازيا لأنها تخيل للأشياء على هيئة أرقام أو رموز، إنك في الكتابة تحتاج إلى اكتشاف الرؤية المتخيلة الأولية سواء أكانت رؤية عظمى أو غير عظمى، ولكنها رؤية جديدة مختلفة، بعد هذا الكشف الأول تصبح عملية الكتابة للمسرح وكأنها لعبة شطرنج محسوبة خطواتها، ففي مسرحية مثل «أوديب» نجد الرؤية العظمى تهبط عليه على هيئة نبوءة من آلهة الأوليمب، تقول له إنه سيقتل أباه ويتزوج أمه مثلا، ويريد أوديب أن يتجنب هذه النبوءة أو الرؤيا فيتجنبها بواسطة خطوات منطقية محسوبة مسرحيا أو تراجيديا، كما تحب أن تسميها، ثم نجد أننا قد وصلنا مع أوديب إلى نقطة لا تخضع للحساب، لماذا يذهب إلى تلك المدينة «طيبة» التي فيها أمه وأبوه على وجه التحديد، هذه المسألة تحدث صدفة؛ إذ هنا لا بد أن يعمل قانون الصدفة.
قلت: ولماذا لا تسميه قانون القدر أو الحتم؟!
قال: لأنه كان من الممكن ببساطة أن يذهب إلى مدينة أخرى، حتى لو أجريت عليه قوانين الحتمية كما تسميها، كان من الممكن أن يختار أقرب مدينة أو أجمل مدينة أو أشهر مدينة، أما أن يختار «طيبة» بالذات فهذا أمر لا يمكن أن تحكمه إلا الصدفة، والصدفة وحدها.
قلت: إنه أمر في رأيي لم يحكمه قانون الصدفة، ولكن حكمته إرادة المؤلف المسرحي الإغريقي الذي كتب «أوديب» الأولى.
قال: إن هذا الكاتب أيضا لم يكن يحكم نفسه وهو «يؤلف» هذه الصدفة.
قلت: إذن، أنت معي أن هناك قوة أو دافعا أكبر من الصدفة هو الذي جعله يختار هذا الاختيار.
قال: ولكنه اختيار يفرضه العمل الفني المسرحي.
قلت: ولكن الفن المسرحي ليس في حد ذاته قوة تستطيع أن تفرض قوانينها أو مسارها.
قال: في الحقيقة أننا نحن الكتاب لا نعرف القوانين التي تحكم خلقنا للشخصيات والأحداث.
قلت: والمصادفات؟
قال: والمصادفات.
قلت: ماذا عنك أنت؟ ألم تحاول أن تتعرف على طريقتك التي بواسطتها تختار الأشخاص والأحداث والمصادفات؟!
قال: سأقول لك شيئا عن مسرحيتي «علماء الطبيعة» (وهي مسرحية في مفهومها العام جدا تقول إن بعض علماء الطبيعة الألمان ادعوا الجنون ولجئوا إلى مصحة أمراض عقلية خوفا من أن ننتزع منهم المعلومات عن القنبلة الذرية ويستعملها هتلر في إبادة الجنس غير الآري كله) استطرد قائلا: إن العلماء الأمريكان وصلوا مثلا إلى اكتشاف القنبلة الذرية لأنهم كانوا يعتقدون أن العلماء الألمان سيسبقونهم إلى اكتشافها، هكذا كان أينشتين الذي كان قد هاجر إلى أمريكا وأبو القنبلة الذرية أوبنهيمر وغيرهما، وصحيح كان هناك تجمع كبير من علماء الطبيعة النووية الألمان في ألمانيا، ولكنهم لم يكن في نيتهم أن ينتجوا قنبلة ذرية أبدا، وإن هتلر لم يكن يحفل كثيرا بجهود العلماء في الحرب، وكان يسميهم: «اليهود البيض»؛ لأنهم كانوا في معظمهم من تلاميذ وأتباع أينشتين اليهودي.
في مسرحيتي «علماء الطبيعة» يلجأ أحد أبطالها لمصحة الأمراض العقلية لأنه يعرف خطورة المعلومات التي اكتشفها ووصل إليها، وماذا يمكن أن يصنع بها هتلر وعصابته النازية، لقد تجنب ما أراد تجنبه باللجوء إلى ادعاء الجنون ودخول المصحة، ولكنه في المصحة يقع بين يدي طبيبة المصحة المتحمسة للنظام بنفس الطريقة التي يقع فيها أوديب «بالصدفة» في يد أمه «طيبة» وهذا هو ما يمكن أن نسميه ب «القدر» الذي لا يمكن للإنسان أن يتجنبه.
قلت: يسعدني هذا الحديث تماما يا أستاذ دورنمات، فقد كنت أرى إنتاجك وأنا أقرؤه وأشاهده، مجرد نصوص مسرحية رائعة أرى واجهتها الخارجية فقط، أما الآن فأنا أرى دورنمات الكاتب، دورنمات الداخلي وهو يعمل، وكيف يبدع فكرته، أراه حتى وهو يحرك أبطاله بطريقة ميكانيكية رياضية محسوبة مقدما كلعبة الشطرنج، ولكن لتسمح لي يا مستر دورنمات أن أختلف معك فالأبطال ليسوا أشياء تخضع تماما لقوانين الرياضة والحساب، إني أعتقد أنك تقلل من قيمة أبطالك بهذا الحديث، إني أراهم كائنات حية نابضة، أكثر حياة ربما من البشر العاديين، وهذا هو بالضبط المسرح، إننا لا نسمي الشخصية المسرحية «بطلا» عبثا، إنه بطل لأنه من المحتم قطعا أن يكون غير عادي حتى لو كان رجل شارع، أو على الأقل تكون عاديته غير عادية تماما.
قال: هذا طبيعي جدا، إن الأبطال المسرحيين مجرد نظريات على الورق تتحول إلى كائنات حية على المسرح، وهذا عمل كاتب المسرح.
قلت: أم عمل المخرج؟
قال بما يشبه الاستنكار: أرجوك لا تذكرني بالنجوم والمخرجين، إن تدهور المسرح الألماني الحالي سببه ارتفاع تكاليف الإنتاج المسرحي من ناحية، ومن ناحية أهم هؤلاء المخرجين النجوم فكل مخرج منهم يريد أن يكون هو «نجم» العرض المسرحي، وأن يحسب الجمهور رغم عدم ظهوره أنه هو النجم، وهذا بالطبع لا يحدث إلى على حساب المسرحية والممثلين.
إني أقصد أن أقول: إن النص المسرحي يبدو كالنظرية على الورق، ولكن الكاتب المسرحي الحقيقي هو الذي يكتب بتصور أنه هو الذي سيخرج المسرحية، وهكذا ينبض النص بالحياة على المسرح.
قلت: بمناسبة «النبض بالحياة» لاحظ يا أستاذ دورنمات أن العلاقة بين الرجل والمرأة في مسرحك لا تحتل أهمية كبيرة في مؤلفاتك رغم ما ذكرته لي آنفا من أن الرجل والمرأة هما أساس النظام البشري.
قال: ذلك لأن الموضوعات (التيمات) التي أتعامل معها لا تحتل فيها قضية العلاقة بين الرجل والمرأة مكانا هاما، ولكن هناك أعمالا لي تحتل فيها هذه العلاقة مكانا بارزا، ولكني (وكأنما بعد تفكير) معك أن العلاقة بين المرأة والرجل ليست في المحل الأول من اهتماماتي.
قلت: لماذا؟
قال: لأنها ليست موضوعي الرئيسي؛ أنا لا أعاني من مشكلة في علاقتي كرجل بالمرأة، لقد تزوجت لمدة 36 عاما، وماتت زوجتي الأولى، وتزوجت مرة أخرى.
قلت: سمعت عن قصة حبك العظيمة تلك.
قال: أي قصة حب؟ الأولى أو الثانية؟
ووقعت في حيرة فقد ذكر لي الكتاب السويسريون، سامحهم الله، أنه كان يكاد يعيد ويكتب من أجل زوجته الأولى، أما الثانية فلم يأت لها ذكر بالمرة إلا أنها أصغر منه عمرا كثيرا، وها هو الرجل يؤكد أن القصة الثانية احتلت مكانة قصة استغرقت ستة وثلاثين عاما في بحر عامين أو أقل.
قلت: تقول يا أستاذ دورنمات أنك لا تهتم بعلاقة المرأة بالرجل لأنك رجل سعيد في حبك وفي زواجك، أمعنى هذا ألا نكتب إلا عن المواضيع التي لا تسعدنا؟!
قال: وهل كتب كاتب عن علاقة حب سعيدة؟! إننا لا نكتب عن العلاقة بين الرجل والمرأة إلا إذا كانت مأساة، وأنا لا أخترع مآسي لا أحسها، وليست علاقة الرجل بالمرأة مشكلتي.
قلت: إذن، ما هي مشكلتك يا أستاذ دورنمات؟
قال: مشكلتي أننا نعيش في عالم جميل جدا، أو بالأصح ممكن أن يكون جميلا جدا، ولكنه في حقيقته قبيح جدا جدا.
قلت (وأنا أتلفت وأرى المنظر من حجرة مكتبه ومرسمه لوحة عبقرية تطل على بحيرة، كأنها من بحيرات الجنة، والبيت والمدينة والجبل وكل شيء جميل جدا): أنا لا أرى عالمك هذا قبيحا أبدا يا أستاذ دورنمات، فكيف تحس قبح العالم الخارجي وأنت هنا في كل هذا الجمال؟!
قال (ضاحكا): في الحقيقة أنا كنت أتحدث عن قبح الأفكار السائدة في عالمنا، إن دنيانا الحاضرة هي مصحة كبرى للأمراض العقلية في نظري، إن مسرحيتي الجديدة (مثلها مثل «علماء الطبيعة») تدور أيضا في مصحة أمراض عقلية؛ حيث يقوم كل مريض عقلي بتقمص شخصية تاريخية ما داخل المصحة؛ فأحدهم يعيش كنابليون ويتصرف ويفكر مثله، وهناك مريضة تتوهم أنها جان دارك، وتندمج إلى درجة أن تحس أنها مثل «جوديت» التي ورد ذكرها في الأساطير، وتحاول أن تعالج نابليون من تقمصه بالنوم معه كما فعلت جوديت، وهناك مريضان يتقمصان شخصية ماركس، أحدهما ماركس كما يحب أن يراه الروس، والآخر ماركس فوضوي، وهناك ماركس ثالث لا يظهر أبدا وهو الوحيد الذي قرأ «رأس المال» في «المراكسة» الثلاثة!
قلت: لقد حاولت قراءة رأس المال عدة مرات، ولكني كنت أتوقف فاشلا.
قال: حتى لنين نفسه لم يقرأه كله، بل أعتقد أن ماركس نفسه لم يكتبه كله، ولكن «إنجلز» ساعده في كتابته، ومن المضحك أنهم قد وجدوا أخيرا خطابا أرسله الناشر الذي كان قد تعاقد مع ماركس على نشر كتاب «رأس المال» وتأخر ماركس في تسلم أصول الكتاب وخطاب ينذره فيه الناشر بأنه إذا لم ينته من الكتاب في بحر شهر فسيعهد إلى غيره بكتابته.
قلت: وتصور لو كان أحد غير ماركس كتب «رأس المال»! كان الأمر يصبح مسرحية لدورنمات أليس كذلك؟! ولكن معنى هذا أنك درست الماركسية يا أستاذ دورنمات؟
قال: لقد قرأت كثيرا لماركس.
قلت: ودخلت مصحة نفسية (وضحكت).
قال: ولماذا تضحك؟! فعلا دخلتها، توجد مصحة أمراض نفسية قريبة جدا من هنا ومديرها صديقي، وكثيرا ما أذهب إلى هناك، وهي مصحة قديمة يرجع تاريخها إلى الوقت الذي كانت فيه هذه المنقطة تتبع بروسيا، ولقد دخلها كثير من الكتاب الأوروبيين المشهورين مثل «هيرمان هسه» و«كونراد ماير» و«لوبيدس»، ومن المضحك أن بيتر بروك (المخرج الإنجليزي المشهور أو بالأصح أشهر مخرج في تاريخ المسرح الإنجليزي) حين ذهبت معه لنتفقد المصحة تمهيدا لإخراج مسرحية «علماء الطبيعة» على المسرح، كانت مساعدة مديرة المصحة لها «قتب» وكانت عالمة طبيعة، وحين قدمتها إلى بيتر بروك قائلا: هذه هي عالمة الطبيعة، كادت تجن من الفرحة؛ لأنها ظنت أنها ستمثل الدور في المسرحية. •••
لاحظ دورنمات أني كثير التطلع - وهو يتحدث إلى المترجم بالألمانية - إلى اللوحات التي تكاد تملأ جدران المرسم، وكم كان بودي أن أتحدث عن دورنمات الرسام! فهو لا يقل موهبة عن دورنمات المسرحي أو القصصي، غير أنه بدلا من اختراع الأسطورة الحديثة في المسرح تموج رسوماته بالأساطير المستوحاة من التوراة والإنجيل، فقد كان أبوه قسيسا بروتستنتيا، وأمه مدرسة في مدارس الأحد التي تتبع الكنيسة، وطفولته مليئة بهذه الميتولوجيا التوراتية إلى درجة التشبع، واللوحة الموجودة هنا، هي واحدة من أكثر من مائتي لوحة صدرت في كتاب عن دورنمات الرسام، كتاب غالي التكاليف تماما إلى درجة أنه لم يطبع منه إلا مائتان وخمسون نسخة فقط في العالم كله، وكان كريما فأهداني في نهاية الزيارة النسخة رقم 59 من هذا الكتاب المرقوم.
لاحظ كثرة تطلعي، فقطعنا الحوار، وقام يريني بعض لوحاته، ويريني كيف يرسم، فمكتبه واسع جدا، منخفض بحيث يصلح للكتابة وللرسم، وعلى جانبه الأيمن دائما ورقة بيضاء (35 × 25سم) معدة لكي يبدأ فجأة، ربما في وسط كتابته، يرسم، ويتأمل ما رسمه ويمزقه ويعود فيرسم.
ليت المساحة وصبر القارئ يسمحان بحديث أطول عن هذا الفنان الغني الغريب، ولكن مرة أخرى أقول: «ما باليد حيلة!» •••
عدنا للجلوس وشرب الشاي والنسكافيه، وقلت لنفسي: آن الأوان لمحاكمة الأستاذ دورنمات.
قلت: هل ممكن أن أسألك بعض الأسئلة المحرجة؟ (لمحت الترحيب الكامل في ملامحه) ماذا فعلت أنت ككاتب من العالم الأول لعالمنا الثالث؟ كيف ترانا أنت أيها المواطن في العالم الأول؟
قال: أنا حقيقة مواطن في دولة أوروبية، ولكني دائم التتبع لما يحدث في عالمكم، أنا أعرف الكثير عن أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط، حين كنت في أمريكا صدمت تماما بما رأيته في مستوطنات الهنود الحمر، ولدرجات الفقر غير الإنساني التي يعيشها الهندي الأمريكي هناك، وقد جعلتني تلك التجربة أغير كثيرا من أفكاري حول التقدم، ومفهوم الحضارة، ودور أوروبا وأمريكا، أنا لم أقرأ كثيرا في تاريخ الشعوب الإسلامية والإسلام، ولكنني شديد الإعجاب بالحضارة الإسلامية في العصور الوسيطة، وما استحدثه العرب والمسلمون من اكتشافات في علوم كالرياضة والفلسفة، إلى درجة أن كثيرين من الأكاديميين الأوروبيين كانوا يعرفون العربية ويدرسونها ويتعلمون منها منطق أرسطو وفيثاغورس وأفلاطون دون أن يلموا بالإغريقية نفسها، ولقد كان الإمبراطور الألماني فردريك الثاني شديد الاهتمام بالدارسين للغة العربية والمستشرقين، وكثير من التراث الإغريقي وصل إلى أوروبا عن طريق ترجمته من اللغة العربية، وليس الإغريقية، أجل، في ذلك الوقت (حوالي القرن الحادي عشر الميلادي) كانت النصوص الإغريقية تقرأ في أوروبا في ترجماتها العربية وليس الإغريقية.
قلت: إنني سعيد أن أسمع هذا منك.
قال: إنني أعرف أن أوروبا أحدثت امتدادات حضارية وثقافية داخل عالمكم والعالم أجمع، ولكني أعرف أن تأثير الفكر الإسلامي والعربي كان قويا على أوروبا أيضا إلى درجة أن أثر في تفكير الفيلسوف العظيم سبينوزا نفسه، ذلك الذي وصل إلى أن الله (في كل الأديان) مبدأ واحد موجود في كل زمان ومكان، لقد تأثرت بتفكير سبينوزا تماما؛ فقد كان يهوديا، ولكنه ترك اليهودية وحوكم من أجل هذا، ولكنه لم يصبح مسيحيا أيضا، ونبذ العالم وعاش في قرية هولندية، وعمل كصانع نظارات ليأكل عيشه بعرق جبينه (إذ كان هذا هو المبدأ الذي وصل إليه)، بل إنه استغل قدرته العلمية واستطاع أن يحسب كم نظارة عليه أن يصنعها في اليوم لتكفي عيشه ويتبقى جزء يكفي لجنازته حين يموت.
قلت (ضاحكا من حكاية الحساب الدقيق للنقود هذا، خاصة السويسريين منذ قديم الزمان): لقد كان سويسريا تماما في هذا!
قال: ولكن المسألة بالنسبة إليه كانت أكبر من مجرد القدرة على الحساب والتدبير، كان هذا يعني لديه حرية الإنسان من كل قيد حتى قيد الوظيفة وأكل العيش، قد تستغرب، ولكني أعتقد أن هذا النوع من التفكير الذي وصل إليه سبينوزا كان هو الذي أدى في النهاية إلى ظهور أينشتين والنسبية، لقد بنى أينشتين نظريته «النسبية» مستفيدا من نظرية الكم التي اكتشفها ماكس بلانك ونيل بوهر، ونظرية الكم تعتمد على قانون الاحتمالات، أو قانون الصدفة، وكان أينشتين يعارض هذا تماما، باعتبار أنه يلغي فكرة الخالق الأول: الله.
قلت: اسمح لي؛ أنا لم أدرس نظرية الكم أو النسبية دراسة أكاديمية، ولكني على الأقل أعرف أن نظرية الكم تؤكد أن مكونات الذرة، وعلى رأسها الإلكترون، تدور في مسارات «حتمية» لا تتغير إلا بفعل قوى «حتمية» من خارج الذرة، أو حتى لو افترضنا من داخلها، فأي دخل للصدفة هنا؟!
قال: إذا كانت تزعجك كلمة الصدفة، فسمها الاحتمالات.
قلت: أعتقد أننا لم نتفق حول هذه النقطة، فأنت تفكر كعالم رياضي فيلسوف، يعجبك سبينوزا و«كانت» والفلاسفة الرياضيون، أنا أفكر بمنطق آخر تماما، منطق بيولوجي حيوي، أبسطه أن أقول لك إن وجود موهبة مثل موهبة دورنمات يكسر حتما قانون الاحتمالات أو الصدفة، إذن هو يخضع بالضرورة لعوامل، أو لقوانين أعمق بكثير من قوانين الاحتمالات، قوانين حين تكتشفها البشرية ستنظر إلى قانون الصدفة وقانون الاحتمالات كما ننظر نحن الآن إلى جدول الضرب بالمقارنة إلى إمكانيات الحاسب الإلكتروني غير المعقولة، فلندع هذا الموضوع جانبا إذن، فنحن على رمال شاطئ المحيط العلمي، مجرد رمال الشاطئ، وأمامنا الأبعد والأرحب والأعمق بكثير جدا مما عرفنا أو سنعرف.
قال: إذن، عم سوف نتحدث؟ عن التصوف مثلا؟
قلت: ولماذا لا نتحدث عن إسرائيل وزيارتك لها وكتابك عنها؟!
قال: فعلا، هذا موضوع أريد أن أتحدث فيه، إنك لم تقرأ كتابي عن إسرائيل، ولو كنت قد قرأته لعرفت أن أملي خاب تماما في إسرائيل بعد زيارتها، لقد تغيرت إسرائيل كثيرا، كنت أظن في مبدأ الأمر حين قامت إسرائيل أنها ستصبح دولة أذكياء قد حملوا معهم الحضارة الأوروبية وسيتولون نشرها في الشرق، ولم أكن أتصور أن يتحول هؤلاء القوم الذين عانوا من الاضطهاد إلى دولة كالمؤسسة العسكرية أو ما يمكن أن نسميه «إيران اليهودية»؛ دولة عسكرية تحتل وتبيد وتقتل! والخطأ القاتل الذي وقعت فيه إسرائيل كان نتيجة لانتصاراتها السهلة على بلاد عربية كانت خارجة لتوها من تحت وطأة الاستعمار، إن إسرائيل تقول: إنها دولة ديمقراطية ، ومن المعروف أن الديمقراطية هي التمثيل الصحيح لفئات الشعب، فهل الفلسطينيون المقيمون في إسرائيل ممثلون في الحكومة والكنيست الإسرائيلي بنفس النسبة (تقريبا 1 : 2)؟!
إنني أعتقد أن هناك مكانا للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، وكان يمكن للدولتين أن تقيما معا تجربة جديدة في بابها، دولة علمانية واحدة، فيها العرب وفيها اليهود.
قلت: أتعرف يا أستاذ درونمات أن هذا هو بالضبط المطلب الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تسميها الحكومة الإسرائيلية منظمة إرهابية لا بد من إبادتها؟!
قال: هذا ناتج من خوف إسرائيل من المنظمة، إن الجانبين أصبحا الآن يخافان بعضهما إلى درجة استحالة قيام دولة واحدة تحتويهما.
قلت: ومن المسئول في رأيك عن هذا الخوف المتبادل؟
قال: لقد كان العرب واليهود يحيون معا منذ نهاية القرن الماضي في سلام وتعاون حتى أيام الاحتلال التركي المسلم، وكان منطق اليهود في إيجاد دولة إسرائيلية أن إسرائيل كانت أرضهم أيام الاحتلال الروماني، وأنهم حاربوا الرومان ثلاث حروب كبرى، وحين حاقت بهم الهزيمة تفرقوا في العالم شتاتا.
قلت: ولكن العرب أيضا حاربوا الرومان في العصر الإسلامي الأول، حاربوهم بضراوة، وحرروا ما يسمى الآن بالشام (سوريا وفلسطين والأردن).
قال: ولكن، هل كانت هناك دولة عربية في فلسطين أيام الاحتلال الروماني؟
قلت: ليس بالمعنى العصري لكلمة دولة، ولكن القبائل الإسلامية كانت هناك.
قال: اعذرني؛ فأنا أتحدث هنا من موقعي ككاتب، ليس طرفا في صراع، ولا أستطيع أن أرفض تماما حق اليهود في إقامة دولة إسرائيل، ولكني أومن تماما بحق الفلسطينيين أيضا في إقامة دولتهم ووطنهم.
وهنا قام دورنمات وأحضر نسخة من الكتاب الذي كتبه عن المشكلة الإسرائيلية العربية، وأخذ يطلعني على فقرات منه لا تتعدى المعاني السابقة، واستغربت في الحقيقة، فمعنى هذا أن الرجل كان قد استعد أيضا للقائي مثلما استعددت له، فهو قد علم الصفحات بأوراق صغيرة، وخطط بالأحمر تحت الفقرات المذكورة ليسهل له الرجوع إليها أثناء نقاشنا، وكأنه كان متأكدا أننا لا بد أن نتطرق إلى هذا الموضوع وموقفه منه، وكم كان باستطاعتي أن أتشنج أو ألقي عليه محاضرة طويلة عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ولكني قدرت، إذا كان الرجل يحمل هذا القدر من التفتح لمعرفة الحقيقة وإدراكها، فإن خير ما يمكن عمله أن أدعوه لزيارة القاهرة ومقابلة منطقنا، أولئك الذين يتولون شرح القضية لنا نحن، في حين أن مهمتهم أن يشرحوا وجهة النظر لمن هم في حاجة ماسة وحقيقية لها، حسني النية، هؤلاء الذين خدعتهم آلة الدعاية الإسرائيلية التي لم تقابلها أبدا ردود عربية معقولة ومقبولة وعادلة وصادقة في حين أنها فعلا وفي الحقيقة كذلك.
هو قادم إذن في نوفمبر، وكسب كاتب عالمي مسموع الكلمة أهم كثيرا جدا من عقد مؤتمر لا يحضره إلا المتعاطفون معنا والمؤيدون، وتنفق عليهم الآلاف، وفي أحيان كثيرة لا تظفر من ورائهم إلا خبرا سهلا في صفحة داخلية من جريدة أوروبية، هي في معظم الأحيان معادية، لقاء حافل، مع كاتب حافل، وما أذهلني فيه هو تعاطفه معنا، ذلك الذي لا نعرفه، ولم نحفل بأن نعرفه.
وإلى اللقاء، دورنمات الكبير في نوفمبر القادم، إذا شاء المولى، وهو على كل شيء قدير.
افتح الحنفية ينزل كوكايين
أنا شخصيا مذهول ومندهش من هذه الخاصية (القطيعة) التي يتمتع بها إعلامنا الموقر، أن يعقد الرئيس اجتماعا مع كبار المسئولين يناقش فيه كثيرا من مشاكل مصر العليا، ومن ضمنها وقوع كثير من المصريين ضحايا المخدرات، شيء جديد علينا - أو بالأصح على أجيالنا عموما - مثل الهيروين والكوكايين شما، وأما أن يتحول هذا التوجيه إلى «حمى» تسري في أنحاء المجتمع كله، صحافة وإذاعة وتليفزيون، وأحاديث دينية، حتى «حديث الروح» يتحدث عن الكوكايين، و«خمسة لصحتك»، و«لحظة من فضلك» و«حديث الصباح»، و«سهرة المساء» و«مساء السهرة»، كوكايين، وهيروين، الموت القادم للزحف، نهاية العمر، التأثير المروع على القدرة الجنسية، والعصبية والنفسية، الإدمان، الجنون لا علاج من إدمان الكوكايين، فالمريض إذا خرج يعود، وإذا تعود انتهى.
حمى مخيفة أمامي ومن خلفي وعلى جانبي، وفي السيارة، والأتوبيس، ومع راكب التاكسي، وجلسات العائلات إن جلست، ونميمة الزائرات والزائرين كلما جاءوا (تنمو) حمى رهيبة وطوفان، حتى إني تصورت أني لو فتحت الحنفية لنزل منها وابل من الكوكايين والهيروين، وإذا فتحت النافذة ستهب علي عاصفة من دخان الحشيش، وإذا أكلت «محشي» في عزومة سأجده محشوا بالأفيون وجوزة الطيب!
ما هذا يا إخواني؟!
لقد هالني الأمر حقا، وظننت أننا أصبنا بضرر لا نجاة منه، ولي ولدان شابان في عمر الزهور، يرودان النوادي والجلسات، ولاحظت في المدة الأخيرة أني دائم النظر في عيونهما لأرى فيها أي احمرار طارئ حتى ابنتي الصغيرة سألتني: ما هو هذا الكوكايين يا بابا؟!
قلت لها: إنها مادة مخدرة.
قالت: أعرف هذا، ولكن شكلها إيه؟ طعمها إيه؟ لونها إيه؟
قلت: والله يا بنتي، أنا ما رأيتها في حياتي.
قالت: كيف وأنت قد ردست الطب والعقاقير ولا بد أنهم أروها لك؟!
قلت لها: الحقيقة أنه كان مفروضا أن أراها، ولكن قسم العقاقير كله وقسم المادة الطبية (الماتيرياميديكا) لم يكن به، بل في مصر كلها أي كوكايين أيامها (في الخمسينيات) ولا أي هيروين، هم أرونا فقط قطعة حشيش وقطعة أفيون وكانت كلتاهما موضوعة في برطمان مشمع بالشمع الأحمر، وعليه خاتم الأستاذ رئيس القسم (الدكتور شريف)، ولما سألنا عن السر في هذا الخاتم وعن ضرورة أن نتعرف على المادة ونلمسها ونشمها باعتبارنا من الممكن أن نمتحن فيها، قالوا: لقد كنا نفعل هذا منذ بضع سنوات، ولكنا كنا نلاحظ تناقص عهدة الحشيش بالذات، عقب كل فصل عملي، فأصر مساعد المعمل (حتى لا يروح في داهية إذا خلصت عهدته) أن نضعها هكذا بحيث لا يلمسها أي طالب، ولما جادلنا وقلنا: وماذا نعمل إذا جاءت لنا في الامتحان الشفوي ولم نستطع أن نتعرف عليها؟ قال لنا الدكتور شريف: اطمئنوا، إننا لا نأتي بها أبدا في الامتحانات، اعتبروها خارج المقرر، ونحن نريكم إياها فقط لتتعرفوا عليها - من بعيد لبعيد - ولأغراض الطب الشرعي فيما بعد حين تدرسونه، وليس لأغراض اللمس والشم والتعرف كما هي العادة مع جميع العقاقير الأخرى.
هذه الحملة الإعلامية الرهيبة أحدثت للأسف الشديد، أثرا عكسيا تماما حتى إن حب استطلاع الكاتب جعله يتساءل هو الآخر، ما هي بالضبط مادة الكوكايين؟ وكيف تستخلص؟ وما هو طعمها ولونها؟ وللأسف حين سألت بعض شبان أحد النوادي الكبرى في عاصمتنا كانت معلوماتهم عن «الأبيض» أي الكوكايين، «والأسمر» أي الهيروين وافرة تماما، وأيضا عن كيفية التعاطي، وأنواع التعاطي بالشم أو بالشد أو بالحقن في الوريد، وحين تساءلت عن هذه «الشيشات» الصغيرة التي تشبه «البيبة» تطوع واحد منهم طويل الباع وقال لي: إنها تستعمل لاستنشاق ما سماه «القاعدة الأساسية»، وهي أقوى أنواع الكوكايين.
أرأيتم ماذا يصنع الإعلام المغلوط؟!
حتى لو كان عن مادة ضارة أو قاتلة؟
إنه يثير لدى الشباب حب الاستطلاع الشديد لمعرفة هذا الشيء السري الغامض الذي يتحدث الجميع عنه، وهي إحدى طبائع البشر التي لا يمكنه الخلاص منها، وأذكر وأنا طالب في كلية الطب أنه حدثت موجة دعائية واسعة ضد الشيوعية (أيام حكم صدقي)، وحدثت اعتقالات، وكنا جميعنا نحن الشباب والكبار نتحدث عن الشيوعية، ولم يكن أحد قد قرأ عنها أو لها شيئا، وهكذا بدأ حب استطلاعنا يجأر لكي نعرف، وما كان الشاب منا يكاد يجد كتابا يتحدث عن الشيوعية أو الاشتراكية أو يقابل إنسانا معروفا عنه أنه شيوعي أو اشتراكي إلا ويحس أنه عثر على كنز، ويبدأ ينهال عليه بالأسئلة وطبعا لم يعتنق الجميع الشيوعية، ولكن نسبة كبيرة صعدت من حب الاستطلاع إلى الدراسة إلى «الإدمان».
وهذا هو، بالضبط، ما فعلناه بحكاية الجماعات الإسلامية، أخذنا نحاربها ونتحدث عنها، ونحن لا نعرف عنها شيئا، والشباب بحكم طبيعته شديد الشغف لمعرفة شيء عنها، وهكذا ما كان هذا الشباب يكاد يلتقي بشاب ملتح في مسجد حتى يتسمر أمامه واقفا سائلا طالبا المعرفة التي غالبا ما كانت تنتهي بالانضمام.
ولكني في زيارتي لذلك النادي الكبير، واجتماعي بأكثر من عشرة شبان فيه أحببت أن أعرف الحقيقة المجردة بعيدا عن تهاويل الإعلام.
فسألتهم: هل تعرفون شبابا يتعاطون هذه المواد في النادي؟
فكانت الإجابة: نعم.
ولكني عدت أسأل واحدا منهم بالذات كان يبدو اجتماعيا كثير المعارف والاختلاط : إني أسألك عن شلتك أنت بالذات، كم شابا تعرفه معرفة شخصية دقيقة في هذا النادي ويتعاطى المخدرات؟
قال: حوالي عشرين.
قلت: كم واحدا منهم يتعاطى الكوكايين؟
قال: إلى الآن لا أحد؛ لأن الكوكايين غال جدا، ولكن بعضهم يتعاطى الهيروين.
قلت: كم واحدا؟
قال: حوالي اثنين أو ثلاثة.
قلت: أنا أريد العدد بالضبط؟
قال: قبل حملة مكافحة المخدرات الأخيرة كانوا اثنين، بعد الحملة أصبحوا ثلاثة.
وهنا أتوقف وقفة تأمل معكم.
فليس الأمر مخدرات هذه المرة.
وليس الأمر أمر جهات أجنبية تتولى «تسميم» عقول الشباب.
ولكنه أمر خطير جدا، أمر طريقتنا في علاج مشاكلنا.
ولقد كنت منذ بضعة أشهر أستاذا زائرا في جامعة لوس أنجيلوس، ومدينة لوس أنجيلوس تعتبر أكبر مدينة أمريكية مستهلكة للكوكايين والهيروين بالذات، باعتبارها لصيقة بالحدود المكسيكية الأمريكية التي تعتبر أهم وكر لاستيراد وتخزين الكوكايين لأمريكا بواسطة تجار المافيا وعصاباتها.
والأمر في مجال الشباب، والشابات بالذات، ليس أمرا واحدا من كل عشرين أو اثنين، إنه أمر يصل إلى 50٪ من سيدات وبنات لوس أنجيلوس الباحثات عن النجومية والشهرة في هوليود اللاتي غالبا ما يصبن بالإحباط وينتهين إلى مخدر ما، يحتاج نقودا، والنقود تحتاج أجسادا تباع ورقيقا أبيض ومصائب كثيرة، لا أول لها ولا آخر.
بمعنى أن كارثة المخدرات في لوس أنجيلوس لا تقاس أبدا بما يحدث هنا في القاهرة أو غيرها، إنها كارثة قومية بالفعل.
فكيف عالجوا، ويعالجون هذه الكارثة؟
لاحظت من طول ما شاهدت التليفزيون بمحطاته الكثيرة هناك أن لا أحد يتحدث عن «ضرر» المخدر أبدا، أو يصور الانحدار المخيف الذي يحدث للشخصية إذا تعودت عليه؛ لأن تصوير هذا الانحدار نفسه يخلق في المشاهد الصحيح الرغبة في تجربة هذا الانحدار، ففي داخل النفس البشرية قوة بانية ترغب في الحياة وتحبها، وقوة هادمة ضائقة بالحياة وتحبذ التخلص منها، وقد لاحظ العلماء أن عدد المدخنين في العالم، وبالذات من الشباب قد كثر بشكل مذهل بعد أن أرغمت الحكومات شركات السجائر على وضع شعار «التدخين ضار جدا بالصحة»، فهذا الشعار يداعب وتر الضيق من الحياة والرغبة في التخلص منها، خاصة لو كان هذا التخلص ليس بالشكل العنيف مثل قطع شريان اليد، أو الموت شنقا بكرافتة.
فهذه القوة الهادمة للحياة تغريها أي مادة تهدم الحياة وتنجذب إليها، وكأنها النداهة التي تنادي على بحارة السفن في الأساطير فيندفعون ناحيتها لتتحطم سفنهم على صخور الجزائر ويموتون غرقا، إنه نداء خفي غامض يتسرب إلى النفس في عذوبة ورقة، وكأنه نداء الشيطان المتنكر على هيئة أجمل فاتنة.
ونحن بدعايتنا الضخمة «ضد» الشيء المهلك، «نحبب» دون أن ندري هذا الشيء المهلك للشباب الغض الأغر، وحتى بالقليل نثير فيه حب الاستطلاع كما سألتني الطفلة البريئة عن ماهية شكل وطعم وحكاية الكوكايين.
إني معتقد أننا بإعلامنا المحموم هذا ضد تلك السموم قد أثرنا ملايين من هذه الأسئلة في عقول الشباب والأطفال وحتى الكبار.
وهذا ما لم يفعله الإعلام الأمريكي.
الإعلام الأمريكي أو المجتمع هناك، فعل شيئا آخر.
أولا: بنى مصحات كثيرة خاصة، ليس لمرضى الأمراض العقلية والنفسية ومعهم مدمنو العقاقير (وعلى فكرة كلمة «مدمن» لم تعد تستعمل في القاموس الطبي الحديث، إنما حلت مكانها كلمات مثل «إساءة استخدام العقار» أو التعود على استخدام العقار الضار)؛ إذ هذا هو بالضبط التعريف العلمي الدقيق فإن كلمة «المدمن» مثلها مثل كلمة المجنون، لم تعد تعني شيئا، فلم يعد هناك أناس اسمهم مجانين، إنما أصبحت أمراضا محددة، تسمى بأسماء محددة، ولها علامات محددة.
المهم بنوا المصحات أو تبرع بها أغنياؤهم، الممثل الأمريكي الذي دائما ما أنسى اسمه (وبالطبع ليس روك هدسون) ذلك الذي مات ابنه من جراء تناول جرعة زائدة من الهيروين، تبرع ببناء مصحة دفع فيها مليوني دولار وجمع الباقي من الأغنياء والأصدقاء، مصحات أهلية، ومصحات حكومية ومصحات تأمين صحي، السرية فيها مكفولة، والعلاج لا يستغرق كثيرا، وأثناء العلاج هناك رعاية اجتماعية للمريض وأسرته.
وهكذا كل ما بقي على الإعلام ليفعله، وهو يفعله، أن تخرج المذيعة على الجمهور وتقول: إذا كانت عندك مشكلة عقاقير (لاحظوا كلمة «مشكلة») فاتصل بتليفون رقم كذا، تصلك سيارة ، ودع الباقي لنا، لا مناظر تحشيش، أو شم الكوكايين أو هيرويين، ولا شيش، ولا أنابيب، ولا هذا الكلام الخطير الفارغ الذي ملأنا به عقول الشباب البريء طوال الأيام السابقة.
ذلك أنهم هناك يعتبرون من يتعود استعمال هذه العقاقير إنسانا مريضا لم تلده أمه مدمنا، وإنما هناك ظروف اجتماعية واقتصادية، وفي مجتمعاتنا سياسة دفعت الحائر التائه، هو هكذا، لأنه لا يعرف له هدفا في الحياة، ولا يريد أحد أن يساعده على إيجاد هدف له في الحياة، وفي مجتمع كمجتمعنا العمل فيه قليل جدا، والفراغ واسع وممتد جدا من السهل تماما أن ينزلق المرء إلى فكرة أن يكون له هدف صناعي، يستيقظ من أجل تناوله، ويكسب كيفما كان مصدر النقود ليشتريه، ويشقى ويعمل أقل وقت ممكن لينفرد بالعقار هدفه ومحبوبه، ويعطي له نفسه تماما طوال ما تبقى من ساعات النهار والليل، وكأنه وجد بغيته، وكأنه وجد له الهدف التائه، وكأنه كان ضالا فهدي.
ولا أستطيع أن أنهي هذه الكلمة تلك التي تتصدى لمعالجتنا الخاطئة لإحدى مشاكلنا الطارئة، دون أن أذكر مقالا قرأته لأستاذ ورئيس قسم الأمراض العصبية والنفسية في إحدى كليات الطب بمناسبة الخمر المسمومة؛ يقول هذا العلامة الذي مهمته أن يدرس العلاج لطلبته كيف يعالجون من يعاقرون الخمر باعتبارهم مرضى: إن هذا السم هو الانتقام من هؤلاء الذين يشربون الخمر، ويدعو الله في النهاية أن يميت كل من يشرب الخمر، مسمومة أم غير مسمومة!
تصوروا هذا رأي أستاذ ورئيس قسم؛ بمعنى أنه لو ذهب له مريض يشرب الخمر مفروض أن يعامله كمريض وينتشله من عثرته، إنما حسبما كتب ورأى سيعالجه بأن يدس له السم في كأس خمر فيميته ويريح الدنيا من عاص كبير!
إن الحد الذي أقامه الله، سبحانه وتعالى، لمتعاطي الخمر هو أن يجلد، ولكن هذا الأستاذ - ولا أدري كيف مرت هذه القصة على مجلس جامعة القاهرة الموقر! - يعالج متعاطي الخمر بقتله أي بارتكاب معصية أكبر، أكبر معصية، قتل النفس!
وكأن هذا هو الإسلام!
إنه الجهل بالإسلام، والجهل بالعلم ، والجهل بالمرض، والجهل بمعالجة الأمراض الاجتماعية والصحية والنفسية التي تصيب الخلق لأسباب كثيرة لا يعلمها سوى الله.
المساحة الحرجة
ظللت لا أعرف لماذا كنت من صغري أحب التجمعات البشرية، كحبي للأشخاص الأفراد، وأعشق وجودي بينها وإحساسي بها، في الأفراح والموالد والأعياد، وحتى في المآتم والجنازات والقهاوي، أحب أن أكون واحدا من كل كبير حلو الروح، المرح فيه بحر أو بحيرة مقدسة كبيرة، ينعم الجميع بالاستحمام فيها؛ إذ هو مرح «عام» وليس مرحا فرديا خاصا محدود الأثر.
ظللت لا أعرف لماذا كنت، إلى عهد قريب، أحب تلك التجمعات، والآن أصبحت أضيق بها، إلى أن وجدت الإجابة في مهرجان جرش.
والحقيقة أني كنت قد سمعت عن المهرجان كثيرا، وقرأت الكثير مما كتب عنه، ولكني لا أعرف لماذا أيضا أصبحت أشك في كل مدح مبالغ فيه على صفحات جرائدنا العربية، أشم دائما رائحة شيء ما وراءه، ولم أكن أتصور أنه سيقدر لي أن أرى المهرجان رأي العين، ولكن، هذا ما حدث، فلقد تلقيت دعوة ملحة خاصة من الأستاذ محمد الخطيب وزير الإعلام والثقافة الأردني لحضور المهرجان، وكنت قد زرت الأردن في العام الماضي، زيارة خاطفة لحضور المؤتمر الوطني الفلسطيني، وكانت تلك أول مرة أرى فيها هذا البلد العربي، ورغم أننا كنا مقيمين في منطقة الفنادق في عمان محاطين بالأسلاك الشائكة والحرس المدجج حتى داخل الفنادق؛ تحوطا من أية محاولات إرهابية، رغم هذا، إلا أن اللمحة الخاطفة التي رمقت بها الأردن جعلتني ألبي الدعوة، فأنا أريد، مما رأيته، وشاهدته أن أعرف عن هذا البلد الشقيق أكثر وأكثر؛ إذ في الحقيقة تلك اللمحة كانت قد بهرتني تماما؛ إذ لم أكن أتصور الأردن هكذا أبدا، أو بالأصح ما صارت إليه الأردن.
المهم.
كانت المفاجأة الكبرى بالنسبة لي حين قابلنا وزير الثقافة والإعلام الأردني في المطار أن أجده هو بنفسه، الصديق محمد الخطيب، رفيق أيام الرعب في الجزائر، حين ذهبت مع مجموعة مع الصحفيين المصريين لتغطية أخبار الخلاف الخطير الذي نشأ بين مجموعة «بن خدة» ومجموعة «بن بيللا » عشية حصول الجزائر على استقلالها، كان الأستاذ محمد الخطيب معنا، مندوبا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية التي كان يعمل بها آنذاك، ومعا، وبصحبة الزملاء حمدي فؤاد من الأهرام وفوميل لبيب عن دار الهلال، ومحمد العزبي عن الجمهورية ورشاد أدهم عن صوت العرب (بطل الساحة في ذلك الوقت) حوالي عام 1962، عشنا أياما من الهول والإفلاس والخطورة لا تنسى؛ ذلك أننا وصلنا بلدا لا دولة فيه وليس فيه حكومة ولا شرطة، ولا قانون بالمرة؛ إذ كان الصراع حول من يحكم وكيف يحكم، قد ترك البلد فارغا تماما وكان الفرنسيون الذين كانوا يمسكون بكل شيء، قد فعلوا، مثلما فعل مرشدو القناة بعد تأميمها، وتركوا الجزائر كلهم فجأة وعادوا إلى فرنسا، حتى إن التليفونات نفسها كانت لا تجد من يحصل ثمن مكالماتها، وأذكر أني كنت أفتح الخط على جريدة الجمهورية وأملي صفحة كاملة من الجريدة حديثا كان أو تحليلا قد يستغرق إملاؤه ساعتين دون أن أجد من يحاسبني، وكذلك كان يفعل الزملاء!
وكم من نوادر وحكايات حدثت خلال الأربعين يوما التي أمضيناها هناك، تقريبا بلا أي نقود معنا؛ إذ كانت التحويلات أيضا مشلولة، ولولا أننا كنا نأكل مع سفيرنا علي خشبة - واحد من أعظم سفرائنا في الخارج - ذلك الذي كان ذاهبا في مهمة قتالية، مصحوبا ب «بودي جاردز»، لولا أننا كنا نأكل عنده ومعه ويقرضنا مصروف جيب، لهلكنا جوعا، وقد تقطعت بنا كل سبل الاتصال بمصر.
فوجئت بالوزير محمد الخطيب هو نفسه محمد الخطيب زميلنا في رحلة الهول، وفوجئت به يذكرني بأشياء حدثت في تلك الرحلة لا يتسع المجال لذكرها هنا، رغم مدلولاتها الخطيرة؛ إذ كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أزاول فيها عملا صحفيا حقيقيا، وكما يقولون «أغطي» أخبارا وأحداثا، وأدخل في منافسات ومسابقات.
وفرحت للمفاجأة حقا، فما كنت أبدا أتوقعها، ثلاثة وعشرون عاما جعلت من المراسل الشاب لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية، رئيسا لوكالة أنباء الأردن «بترا» ثم وزيرا، يا له من مشوار!
والغريب في الأمر أن الوزير اعترف لي بكل أمانة أنه تسلم وزارة الإعلام والثقافة والسياحة حديثا - حين كنت في أمريكا - على أثر استقالة الوزيرة ذات الموقف - السيدة ليلى شرف، وأنها هي، ولجنة المهرجان العليا التي ترأسها الملكة - التي قامت بتنظيم كل كبيرة وصغيرة من شئون المهرجان وبرامجه.
وهكذا وجدت نفسي «مضطرا» لمشاهدة المهرجان؛ ذلك أني في الحقيقة كنت ذاهبا لرؤية الأردن نفسها، وليس لحضور أفراح ومهرجانات، ولكني أشكر الظروف التي «اضطرتني» لحضور المهرجان، وأشكر الوزير الصديق على دعوتي، فبعد حفلة الافتتاح الرسمية التي قام بها جلالة الملك حسين والملكة نور، والتي استغربت فيها؛ لأن الملك والملكة قد وقفا أكثر من ثلاثة أرباع الساعة والوفود والفرق المشتركة في المهرجان تمر أمامهما، وهكذا اضطر المدعوون - وأنا بالطبع منهم - إلى الوقوف على أقدامهم طوال ذلك الوقت، إن الملك يريد أن يحيي الفن والفنانين تحية احترام عميق لماهية الفن والثقافة حتى - وبالذات - لو كانت ثقافة شعبية أو تلقائية، أعجبتني اللفتة تماما.
وبدأت ليالي المهرجان.
وفجأة وجدت الطفل الذي في يستيقظ و«يتفرج» و«يشارك»، الطفل الذي كان يسهر في ليالي المولد ويساهم في حلقات الذكر، وينبهر بمن يبتلعون النار ويدخلون السيوف في بطونهم، الطفل الذي كان يتصور الغوازي وهن يرقصن ويغنين كائنات خرافية، كأنهن جان ولسن بشرا، اللف والفرجة والضحكة والخفقة والأنوار، حتى ولو كانت بكلوبات، تخلب الألباب! الطفل في مولد الحسين والسيدة والشيخ الشبراوي، الطفل في التيفولي في الدانمارك حتى لو كان قد أصبح في الثلاثين وهو يركب القطارات المندفعة والصواريخ المنطلقة في دائرة إلى عنان السماء، الطفل ولو كان في الأربعين والخمسين في «ديزني لاند» يخلع عنه فجأة كل الأقنعة الناضجة المجعدة الكئيبة، ويرتد نقيا كالبللور، صافيا كجدول حياة خالية رقراقة، الطفل الذي يحب الجموع كما يحب الوجوه الجميلة والقدود الجميلة، الطفل الذي يحب أن يسمع، بل ويشارك ولو بصوت خافت، في الأغاني والموسيقى.
وجدت هذا الطفل ينفض عن نفسه الملابس الشتوية الكبيرة الثقيلة وينزع عنه كل أغطيته ويكاد مع الفرحة يطير ومع الدقة يرقص، ومع كل شيء وكل حدث يتوقف ويستمتع ويحب، ذلك الطفل الذي كان قد خيل إلي أنه انتهى من زمن ومات؛ لأنه كبر ونضج وتضخم عقله بطريقة ابتلعت بها كل تلقائيته، واندفاعه، وفرحته المستمرة بالحياة، وجدته يعود.
ولكن العقل أيضا، وجدته، ويا للدهشة! مع التلقائية والفرجة والطفولة يستيقظ! بل، ولأول مرة، يجد «متعة» في التفكير والتأمل.
وجاءت الفكرة هادرة كالمياه المندفعة من السد العالي.
إننا في مصر لا بد أن نصنع شيئا يعيد لنا حبنا للحياة.
إنني أمر في قاهرتنا الحبيبة في الشارع أو في السيارة فأجد ملامحنا منقبضة حتى ملامح الشبان والفتيات قاسية تعاني من الضيق.
ذلك أننا وكأنما استيقظنا ذات صباح فوجدنا أنفسنا قد وضعنا في مأزق حياة ووجود لا أعتقد أن شعبا قبلنا، ولا شعبا بعدنا سيوضع فيه؛ ذلك أننا استيقظنا لنجد أننا تضاعفنا في فترة لا تزيد عن الربع قرن أربع مرات في بلاد ورقعة زراعية ومأهولة لا تتسع إلا بالكثير لاثني عشر مليون إنسان، أصبح فيها الآن ربما أكثر من خمسين مليونا من السكان.
هذه المرة ليست المشكلة مشكلة فقر وغنى، مشكلة طبقية أو سياسية، ولكنها مشكلة لم تخطر لآدم سميث مفكر الرأسمالية أو كارل ماركس مفكر الاشتراكية على بال، مشكلة وجود بشري مكثف تكثيفا هائلا؛ بحيث يجعل من نفس ذلك الوجود جحيما بشريا لا يطاق، إن الإنسان إنسان لأنه «نوع»، والنبات والحشرات هكذا لأنها «كم»، والإنسان أبدا لا يستطيع أن يحيا، بل أن يسعد ويزاول كل وظائفه العليا كإنسان إلا وهو يحيا كنوع إنساني، والنوع الإنساني أحد متطلباته ليس الطعام فقط أو الأوكسيجين، ولكن «المساحة»، أو بالأدق الحد الأدنى من المساحة اللازمة لحركة وتنفس ووجود الكائن البشري الحي، وأعتقد أن علماء الجغرافيا البشرية والعلوم الاجتماعية لا بد يدركون أن هناك «مساحة حرجة» لازمة لوجود كل إنسان على حدة ليتكون مجتمع ما، فإذا تضخم العدد بحيث تجاوز هذه المساحة الحرجة، ووصل إلى مرحلة من التلاصق والتكثف غير بشرية بالمرة، لا بد أن تحدث لهذا الكائن البشري تغيرات وأمزجة واتجاهات وتطرفات وأنواع من الخبل والهوس والجنون الخفي على المستوى الفردي والجماعي، لم يعرفها الناس من قبل.
وذلك هو المأزق البشري الخطير الذي نحن عليه الآن.
لأمر ما عن للعقلية الجماعية المصرية أن تتكاثر وتتكثف، دفاعا مغلوطا عن النفس ربما، سرطانا جماعيا ربما، جشعا لحياة لا متعة فيها إلا الطعام والجنس ربما، لا أعرف، والغريب أن أحدا من علمائنا لا يعرف أيضا، بل لم تحاول جامعاتنا أن تدرس هذه الظاهرة، وما عدا ذلك الكتاب العظيم الذي كتبه الدكتور جمال حمدان والذي اصطحبت جزأه الرابع الخاص بالسكان في مصر معي في رحلة سابقة، وهي دراسة رغم تفردها وعبقريتها إلا أن جمال حمدان يقف أيضا، وهو العالم الفذ الكبير، يتساءل حائرا عن سر هذا الانفجار البشري المصري.
أما السر فنتركه لبحث علمائنا، إن أتاح لهم ازدحامهم هم الآخرين أن يبحثوا، أما نتائج هذا الانفجار وما يفعله فينا وبنا فتلك أمور لا بد أن نعي بها تماما، وإلا هلكنا، أجل، أقولها بملء صوتي: هلكنا، فكثير، بل أقول: معظم ما نشكو منه، مرجعه إلى هذا التضخم السرطاني الهائل في عدد السكان والأفواه، ولولا أننا شعب عريق الحضارة، تشكل المادة الحضارية جزءا أساسيا من تكوين أبسط فلاحيه وأمييه، لكانت قد حدثت لنا أهوال وأهوال، إن معظم الدعاوي والغوغائية السطحية والسلوك الغريب في مدرجات الكرة وحفلات الغناء، والشارع والنادي، ووسائل المواصلات، كلها راجعة إلى «التلاصق» الجسدي الذي تعدى المسافة الحرجة واعتدى على التفرد البشري الواجب ليكون الإنسان أو الإنسانة بشرا سويا، وفي مثل ذلك الجو غير العاقل وغير البشري فأي دعوى حتى لو كانت ضدنا ستجد الاستجابة، فالناس من فرط ازدحامها أصبحت تكره بعضها لله في لله، وتكره وجودها معا، وقد ضاق ذلك الوجود إلى حد الاختناق، تتوق إلى مكان أو فرصة تزاول فيه تفردها وإنسانيتها ونوعيتها البشرية فلا تجد.
أقول نترك دراسة الظاهرة أسبابها وملامحها، وماذا يمكن أن تفعله لنخرج من هذا المأزق الخطير تماما، للعلماء وللمتخصصين ونعود للمهرجان.
هنا الازدحام أيضا موجود، هذا حقيقي، ولكنه ازدحام إنساني وليس تكدسا بشريا، والأولاد والأطفال والجدات والرجال والشباب والشابات خمسة عشر ألفا أو يزيدون كل ليلة، تزدحم بهم ساحة تقل كثيرا عن ساحة ملعب كرة، ولكن أحدا لا يصطدم بأحد، وشابا لا يعاكس أبدا فتاة، والأطفال أطفال فعلا وليسوا شياطين صغارا، والعروض كثيرة ومتنوعة، من أربعين دولة وحوالي مائة وأربعين عرضا من ليالي المهرجان العشرين، وما أروع لحظة اللقاء بين الفن والناس وبين الناس والفن! ما أروع لحظة التفرج والتمسرح التي أصررت عليها في نظريتي المسرحية! هنا النفس جزء من الفرجة، والممثلون والموسيقيون والراقصون جزء من الجمهور، والجميع في حالة عظيمة من النشوة، هنا الجميع أطفال إلى درجة البراءة المحضة وكبار إلى درجة التصرف المتحضر غير المندفع أو المجنون، هنا الجميع في ساعة واحدة، ومزدحمون ولكن بقي لكل منهم الحد الأدنى من المسافة، والمساحة الواجبة أن تتوافر للإنسان طفلا كان أو شيخا ليتنفس ويحيا ويتحرك، ويحب، وينفعل، وينبهر، المزمار الصعيدي والطبلة بجوار الفرقة القومية للفنون الشعبية بجوار الفرقة الأمريكية والباليه الإنجليزي وفرقة الرقص الروسي، والأنوار ساطعة والتلال المحيطة والوادي تحفل بالنور، النور الصادر من كل عينين متطلعتين، هنا الحياة تبدو جميلة جدا جديرة بأن تحيا، والبشر يبدون جميلين جدا جديرين بالحياة وبالفن وبالحب وبالحرية وبالاستقلال وبكل ما يجعل الإنسان إنسانا، بل وحتى سوبرمان.
والسبب!
أن عدد الناس هنا إذا قورنوا بمساحة الأرض المأهولة معقول تماما، هنا الشارع عريض فسيح جديد، وليس حارة أصبحت تتكدس بالبشر والعربات والخناقات، هنا أطلق سراح الإنسان ليتحرك، فنحن في القاهرة سجناء شوارعنا وبيوتنا ونوادينا ووسائل مواصلاتنا وانتقالاتنا، سجناء فعلا لا قولا، سجناء لأننا لا نستطيع الحركة كما نريد فنتكدس وندبها فولا وطعمية وبلا حركة نتخن ونتخن ولا رياضة فردية ولا جماعية ولا مكان للسير أو التمشي، بشر، بشر، بشر، طوفان من البشر، ضللت مرة طريقي ودخلت حيا لا أعرفه كدت أصاب بالذعر من العدد المخيف من الناس المزدحمين في شارع واحد من حي واحد من مدينة واحدة من مدننا، يا إلهي! ماذا حدث ؟! وماذا نفعل؟! فنحن بهذه الطريقة وبهذا الكم لا نحيا، ولا نفرح، ولا نبتهج، ولا نحتفل ولا نقيم مهرجانات إنسانية حلوة، ولا نفعل إلا أن نستلقي أمام التليفزيون مستسلمين لمتعة سلبية تماما، نتفرج على إلكترونيات ترسم صورا وقصصا، بينما الحياة الحقة هي ما «يزاولها» الإنسان وليس ما «يتفرج» عليها، وكأن ازدحامنا وصل إلى درجة التوقف أن نحيا، بل حتى أن نوجد، فوجودك دائما مجروح ومقتحم بوجود لصيق آخر لا تملك له دفعا.
محروسة أنت يا مصر! هذا صحيح.
ولكن شعبك يخنقك ويختنق بك، وحتى دعاواه مهما تسربلت بثوب من العلم أو الدين فهي دعاوى اختناق بشري وازدحام وجود، وما هكذا تكون الدعاوى أو توجد، فالدعاوى يطلقها البشر للبشر، فإذا كان الطالقون يحيون في علبة سردين والمستقبلون يكتظون وكأنما في علبة تونة، فإنها دعاوى اختناق يرسلونها لمختنقين.
إني متأكد أن مصر ستجتاز تلك الأزمة، لا أعرف كيف، ولكني أعرف أن هذا الشعب المجيد قد مر بأزمات وجود طاحنة، مجاعات أكل فيها ما لا يؤكل، حتى بعضه أكل بعضه، وولاة كانوا في أحيان جزارين، واحتلالات متعاقبة لم ير مثلها شعب.
أعرف أننا سنجتاز هذه الأزمة بكل تأكيد، ولكني أصبحت في شك أن يتم هذا الاجتياز في أعمارنا نحن، أو عمري على الأقل، وليس هذا تشاؤما، إنه عين التفاؤل، فحتى السرطان الخلوي نفسه قد أصبح يشفى ويمكن علاجه، فما بالك بما هو أخف؟! أخف لأن في أيدينا شفاءه، ولو كنت من حكومتنا لعقدت فورا مؤتمرا عاجلا أجمع له أعظم العلماء والمفكرين والمتخصصين ويكون له موضوع واحد فقط: كيف نحل مشاكل ازدحامنا الوجودي ووجودنا المزدحم بطريقة تعيد لكل مواطن منا إنسانيته؟
حتى نعود نفرح ونبتهج ونقيم أحلى المهرجانات.
ضحك الجنازات
قرأت الحديث الذي أجراه ابننا الصحفي الشاب بهاء صلاح جاهين في الأهرام مع الأستاذ العميد الدكتور لويس عوض، كان أهم محتويات الحديث أن الدكتور لويس عوض ينعى في رثاء جليل حركة الكبار في الأدب العربي، وعلى رأسهم أستاذنا الكبير توفيق الحكيم، وعمنا المبدع نجيب محفوظ ، وشيخ طريقتنا القصيرة يحيى حقي، وكاتب هذه السطور، كذلك لم يسلم كبار نقادنا - ضمنا من النعي - الناقدين الكبيرين الدكتور عبد القادر القط والدكتور علي الراعي.
وقال الدكتور لويس عوض فيما قال: إنه جيل - يقصد هؤلاء جميعا الذين ذكرتهم - قد انتهى بحلول النكسة أو الهزيمة عام 67، ولم يعد لديه شيء يقوله أو يبدعه، وإنه هو شخصيا قد مل الكتابة والكلام وفرغت جعبته، والحقيقة أني كنت قبلها بليلة قد فرغت من قراءة كتاب الصديق الموهوب أحمد رجب «كلام فارغ»، وهو كتاب من أعظم ما قرأت خلال الأعوام الماضية لا لأنه يحتوي على كنوز معرفة غالية، ولا لأن حكمة الكون كله قد تلخصت فيه، ولكن لأن أحمد رجب نموذج فريد في الكتابة الساخرة، وإذا كان الكاتب الذائع الصيت «أرت بوكوالد» قد ابتدع طريقة أمريكية فريدة في السخرية، خاصة من الرؤساء الأمريكيين وزوجاتهم - أثناء حكمهم بالطبع - محتويا في جعبته جده الروحي مارك توين، وحتى شارلي شابلن كمؤلف، إلا أنها طريقة أمريكية فيها سخرية ذكية ذكاء العواجيز الخبثاء، أما صديقنا أحمد رجب فهو ساخر مصري أصيل، روحه من روح عبد الله النديم وأسلوبه فيه رشاقة الكاتب العبقري الساخر المرحوم محمد عفيفي، فيه نكتة محمود السعدني الفاقعة في مصريتها وطول لسانها، فيه لمسة صلاح جاهين الكاريكاتيرية وتلامذته من رمسيس إلى الليثي إلى محمد حاكم، غير أن ميزة أحمد رجب الكبرى هي في نهايات نصف كلمة التي يكتبها، إنه دائما يجهز لك قنبلة مسيلة لدموع الضحك في آخر كل فقرة يكتبها، وهي قنبلة لا تقتل ولا تجرح ولكنها تدفعك حتى للتأمل، وكأن فيها كل الحكمة. كنت في الليلة التي قبلها قد انتهيت من قراءة الكتاب، واستنفدت كل طاقتي من الضحك بيني وبين نفسي أولا، وبصوت عال يكاد يوقظ من في البيت، وحين طويت الكتاب ووضعته جانبا، قلت لنفسي: ها أنا ذا قد ضحكت بما يكفيني شهرا بأكمله.
ولم أكن أتصور أني في اليوم التالي مباشرة، سأضحك وأنا أقرأ حديث الدكتور لويس عوض كما لم أضحك في حياتي .
وأنا أعرف صديقا لديه عادة غريبة هي أنه ما إن يدخل سرادقا للعزاء، حتى لو كان الميت أعز أقربائه، حتى تنتابه موجات ضحك عاصفة؛ ولهذا لا يذهب للعزاء أبدا إلا وهو يتلفع بكوفية يلفها حول نصف وجهه الأسفل، حتى لا تحدث مأساة من جراء ضحكه على هذه الصورة.
أنا أيضا وجدت نفسي في هذا الموقف لدى قراءتي الجنازة التي أقامها الدكتور لويس عوض، لجيلنا، ولنفسه، فقد وجدت نفسي أنفجر وأضحك وأضحك حتى كدت أختنق.
والدكتور لويس عوض ليس أستاذي فقط، ولكنه صديق عمري؛ عرفته منذ عام 1953 ولا أزال أحبه وأوده وأحتفل به وبكل ما يقول وكأن اثنين وثلاثين عاما لم تمر على معرفتي به، ولكن هناك شيئا، لا بد - لكي أكون صادقا مع نفسي - أن اعترف له أمام القراء بشيء؛ ذلك أني في مبدأ الأمر كنت آخذ الآراء المتطرفة التي تبدأ تتدفق من قريحته بعد أن «يسخن» تفكيره، كنت آخذها مأخذ الجد وأحتد عليه ويحتد علي، وننخرط في خناقة فكرية ما أنزل الله بها من سلطان، ولكني جربت مرة ألا أنفعل، بل أكثر من هذا أن «أتفرج» على آرائه وألا أندمج في الرد عليها، وكانت النتيجة أني بدأت بدل أن أغضب أن أبتسم بل أضحك، بل أحيانا أضحك كثيرا وأحيل الموقف كله إلى موقف كوميدي صارخ.
وبالطبع هذا لا يحدث في كل الأحوال ففي الغالب آخذ حديث الدكتور لويس عوض مأخذا جادا عميقا - حين يكون الأمر كذلك - أما حين يتطرف ففي الحال أقلبها ضحكا.
ولقد أضحكني الحديث.
وبدأت الضحك بقوله «جيلنا» مسبغا علي شرف الانتماء إلى جيل توفيق الحكيم (87 سنة)، ونجيب محفوظ (74 سنة)، وزكي نجيب محمود (فوق السبعين)، والدكتور حسين فوزي (88)، وكلهم، أطال الله في أعمارهم جميعا، في سموق أشجار الكافور على شط نيل الجيزة، جذورهم ضاربة في تربة مصر منذ العشرينيات حين بدءوا الكتابة حين كنت أنا لا أزال في عالم الغيب؛ حيث ولدت عام 27، وبدأت الكتابة عام 50، بينما هم عمالقة كبار، بالكاد أصلح تلميذا لهم، أضحكني هذا الشرف الذي أسبغه علي الدكتور لويس، مثلما كان صديقي الأستاذ محمد عودة أسبغه علي، نفس الشرف، ويقول: إن أبي، رحمه الله، قد قيدني في شهادة الميلاد بعد مجيئي بعشر سنوات حتى يتجنب أن أدخل «القرعة» في سن صغيرة.
ثم حين أوغلت في المقال - الجنازة - انتابتني تلك الموجة الأخرى من ضحك الجنازات؛ فالدكتور لويس يبدأ بإصدار حكم باتر لا نقض فيه ولا إبرام، إنه انتهى منذ حاقت النكسة بمصر، وكذلك انتهى معه ما سماه جيلنا واحدا واحدا بمن فيهم العبد لله.
ضحكت لأنه منذ عام انتهاء الدكتور لويس عوض عام النكسة عام 67 والدكتور لويس قد أبدع وأنتج أهم ملفاته على الإطلاق: كتابه المحيط عن اللغة العربية، ذلك العمل الخلاق الذي سيبقى ما بقيت اللغة العربية، كتابه عن: أعمدة الناصرية السبعة، كتابه عن جمال الدين الأفغاني، وذلك الذي أثار من الضجة وكتب عنه عدد من المقالات، ورغم أن معظمها كان نقدا متحيزا يعادل ما كتب عن كل الكتب التي طبعت ونشرت في تلك الحقبة، ثم على أثر خلاف حول النشر في الأهرام، فجأة استقال من الأهرام، واتخذ له مكتبا في شارع الهرم راح يقوم فيه بصناعة ثقيلة للحركة الثقافية، ولا يزال بكل همة، ينشط ويعمل.
بمعنى أن ما أنتجه لويس عوض بعدما انتهى - حسبما يقول - يعادل إن لم يتفوق كثيرا على إنتاجه قبل أن ينتهي وقبل النكسة! فلماذا هذا المعزى الكبير لينصبه لنفسه ولنا؟!
وإذا أخذنا بقية الجيل فسنجد أن ما أنتجه الدكتور زكي نجيب محمود خلال السبعينيات فقط يعتبر في رأيي أهم كتبه على الإطلاق، أما الأستاذ نجيب محفوظ فله كل عام رواية، وأحيانا روايتان، وتعتبر رواية الحرافيش أو ملحمة الحرافيش - في رأيي - عملا يرقى فوق مستوى العالمية، ويكفي أن يكتب كاتب في حياته عملا واحدا كملحمة الحرافيش ليخلد أبد الدهر، ودي سيرفانتس لم ينتج إلا رواية واحدة عظيمة هي «دون كيشوت»، ودانتي أنتج «الجحيم» وأنشأ بها فن الرواية الإيطالية ولغتها، وكذلك جوته في «فاوست»، ونجيب محفوظ لم يتوقف وإنتاجه من ناحية الحجم والانتظام أكثر بكثير من إنتاج أي من تولستوي ودستوفسكي.
فلماذا هذا الحكم بالإعدام يا أستاذ؟!
أما إذا تركنا جيل الكبار هؤلاء وجئنا إلى الجيل الحائر - جيلي - فإنتاجه أيضا لم يتوقف، فكتابة المقالة اكتسبت خصائص القصة، وكتابة القصة حفلت ببعض سخونة المقالة، وربما يكون ما أكتبه في الأهرام نوعا جديدا من «الأوتشرك» على رأي أستاذنا المرحوم الدكتور مندور، ورغم ذلك أيضا لم أكف عن كتابة القصة فقد أصدرت منذ «بيت من لحم»، مجموعتين من القصص: «أنا سلطان قانون الوجود»، و«اعقلها وتوكل»، ورغم المأساة التي تحياها الحركة المسرحية كتبت ما أعده في رأيي أهم مسرحية كتبتها على الإطلاق، وهي مسرحية «البهلوان»، تلك التي لم تر النور؛ للتسوس الذي حدث لمسرح القطاعين الخاص والعام على حد سواء والقائمين عليه.
إذن، هذا الجيل الذي حكمت عليه بالفناء رغم أنه في السن التي يجب أن يؤدي فيها إلى الشيخوخة الجميلة والتأمل الأعمق للحياة ولا يزال ينتج ويبدع ويناضل ويخوض المعارك كأي كادح شاب.
ولو كنت مثلي يا دكتور تتلقى إنتاج الشبان الجدد، كل عام، شبان جدد موهوبون خلاقون يكتبون ويصرفون على ما يكتبون لكي يطبعوه ويوزعوه بأنفسهم وهو إنتاج عالي المستوى تماما، أي قصة منه حتى لو كانت لمبتدئ تفوق ما كان يكتبه الأوائل في العشرينيات، في عز ازدهار فن القصة القصيرة آنذاك.
إذن، موضوعيا، لا يوجد ما يستدعي حكما بالإعدام، ولا إقامة جنازة؛ فالحركة الإبداعية تمشي ببطء، هذا صحيح، وليس لها توهج الستينيات هذا صحيح، ولكن الحركة الإبداعية غير منفصلة أبدا عن حركة الإنتاج في المجتمع ككل، فالخلق نوع من الإنتاج، ومجتمعنا بعهد انفتاحه «الملوث» كاد يئد حركة الإنتاج في المجتمع ككل، وإذا كان هذا لم يحدث، وإذا كانت هناك حركة عارمة تريد إعادة الإنتاج إلى سابق عهده، فلا بد أن يصاحبها حركة أشد فاعلية لإعادة الإنسان المنتج إلى سابق عهده، وهذا هو دور الفن والأدب والثقافة، فنحن نحيا في حالة مجاعة ثقافية، وأحوج ما نكون إلى أن نبقي على أفران الفن القليلة التي لا تزال تقدم لنا رغيف الثقافة والإبداع، وكلمة منك أيها الناقد المعلم، كانت كفيلة باستنهاض الهمم وفتح أبواب إنتاج مغلقة ورعاية حركة تسبح ضد تيار بشع يريد أن نظل نحيا في ظل التبعية البضائعية والثقافية.
وبعد أن طال ضحكي مع حديث الدكتور لويس عوض بدأت دموع تتجمع في أركان عيني؛ ذلك أني أدركت المشكلة وعرفت أن الدكتور لويس عوض يعاني من حالة من حالات اكتئابه، وما أكثرها! فالرجل يحس أنه يعيش في مجتمع يظلمه ويضطهده، وهذا ليس شعور شخص ولكنه حقيقة موضوعية؛ فالدكتور لويس عوض هو الوحيد الباقي من العمالقة الذي لم ينل جائزة الأدب التقديرية فقط، ولكنه حتى لم يرشح لها، ولو كنت من بعض من نالوا هذه الجائزة عن غير حق وعن غير جدارة إلا علو الصوت واحتلال المقاعد والمنابر والوجود ولو بالقوة في الصورة كما يقولون، لو كنت واحدا من هؤلاء لرفضت أن أنال جائزة الأدب بينما لويس عوض ذلك الذي لا يقل دوره عن دور مندور وطه حسين والعقاد في النقد لم ينلها وغير مرشح لها.
وأنا شخصيا لا أعترف ولا أعتبر أن جائزة الدولة في الأدب تعني شيئا بالمرة؛ فهي لا تصنع كاتبا، وعدم نوالها لا يهبط بكاتب، ولم أعرها التفاتا منذ أن أنشئت إلى الآن، ولن أعيرها، ولكن الأمر بالنسبة للدكتور لويس عوض مسألة مختلفة، فإن الجامعات لا ترشحه لأن الجامعيين لا يكنون له حبا كثيرا، والمجلس الأعلى للثقافة أغلب أعضائه كتاب لم يكتب عنهم لويس عوض شيئا ذا بال؛ ولذلك فهم يعادونه بل ويتمنون زواله، أما هو نفسه فهو لا يمكن بكبرياء مصري جميل أن يطلب لنفسه جائزة أو حتى يتطلع إليها.
الأمر إذن أمرنا نحن، نحن وزارة الثقافة ووزيرها، نحن المسئولين في هذه الدولة، نحن الكتاب الذين تعلمنا من لويس عوض وسوف نتعلم عليه، كيف نسكت على أمر كهذا؟! وكيف نبقي ماردا مثله يعاني من حالة اكتئاب قصوى يتمنى معها لو حطم وتحطم معه المعبد! أفقدنا الإحساس بالآخرين إلى هذه الدرجة ؟! أم إن العملة الرديئة هي التي سادت الحركة الثقافية تماما؟! وهي التي أصبح بيدها تقدير كل شيء وكل كاتب وكل مبدع وإنشاء كتاب كخيالات المقاتة وسلب المكانة والروح من كتاب عظام أحياء، وكأنهم بالقضاء على المبدعين الحقيقيين سوف يحتلون هم مكانتهم دون منافس أو منازع، فلنظهر لهذا الرجل العظيم الذي يحيا بيننا بعضا من التقدير وبعضا من الحب فهو منا ونحن منه، حتى مع أولئك الذين يختلفون معه في الرأي لا ضير عليهم من حبه ووده، وإلا لما قال الأقدمون: إن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
أم كان الأقدمون أحكم منا وأنضج وأكبر نفوسا وأرحب صدورا؟!
مهزلة دورنماتية
تلقيت من السفير السويسري خطاب شكر موجها إلى الأستاذ إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام ورئيس التحرير، وفيه يشكر الأهرام على المأدبة الحافلة واللقاء التاريخي الذي استضاف فيه الأهرام الكاتب الكبير فردريتش دورنمات والعائلة المسرحية المصرية على غداء كما يقول الخطاب «غداء ملكيا».
والحق أني وأنا جالس بين درونمات وزوجته المخرجة الألمانية شارلوت وأمامنا الحركة المسرحية الصوتية من كتاب ونقاد ومديري فرق ونجمات ونجوم لم أملك نفسي من الإحساس بالسعادة؛ ذلك أن هذا الحدث؛ حدث أن تجتمع العائلة المسرحية كلها لتحتفل بأكبر كاتب مسرحي أوروبي معاصر في زيارته للقاهرة، مسألة ليست من قبيل البذخ كما تفضل بعض صغار الصحفيين وذكروا، ولا هي من قبيل الأبهة الكاذبة، ولكنها هي بالضبط ما نعنيه بكلمة «الثقافة»، فالثقافة ليست كتبا يكتبها أناس ليقرأها أناس، الثقافة بالأساس إحساس قوي يربط المهتمين بمصير يربطهم في مختلف أنحاء العالم بفكرة إنسانية واحدة.
ولقد كنت في سويسرا قد قضيت ساعات مع دورنمات نتحدث في شتى المواضيع ونشرت بعض الحديث على صفحات الأهرام، ولا أذكر إن كنت قد كتبت في تلك الأحاديث أني قد دعوته لزيارة القاهرة أم لم أذكر، فالواقع أني كنت قد وجهت الدعوة فأجابني بطريقته التي تبدو غير متحمسة أنه قد قبلها، وأنها من المنتظر أن تتم في نوفمبر خاصة، وأن زوجته المخرجة في الشبكة التليفزيونية الألمانية الأوروبية تريد أن تصور فيلما عن مصر القديمة والحديثة.
لم أكن متأكدا أن الدعوة ستتم، ولكني حين عدت إلى القاهرة اتصل بي مستر أرزمان القائم بالأعمال السويسري، كان السفير غير موجود، وذكر لي أنه تلقى خطابا من دورنمات يؤكد فيه على أنه سيحضر إلى القاهرة في نوفمبر.
وهنا وقعت في حيص بيص، فعلاقتي بالسيد وزير الثقافة السابق كان مجالها محكمة باب الخلق، ولست في سعة من الرزق تسمح لي باستضافة دورنمات على نفقتي الخاصة، ولا أستطيع الاقتراب من مؤسسة المسرح أو حتى الثقافة الجماهيرية لتبني تلك الدعوة، فماذا يا رب أفعل؟!
بعد بضعة أيام كنت في المركز الثقافي الفرنسي في زيارة لمعرض الكتاب أو بالضبط الكتب التي ألفت بالفرنسية عن مصر والبلاد العربية والإسلامية، وهالني عدد الكتب التي تبدأ من كتاب «وصف مصر» إلى الآن.
وفي المركز وجدتني وجها لوجه أمام الدكتور ممدوح البلتاجي رئيس هيئة الاستعلامات، وخطر لي أن أحدثه بالمشكلة التي أوقعت نفسي فيها، فإذا بالرجل وبحماس زائد يقول لي: لا مشكلة، ولا شيء من هذا القبيل؛ ستتولى هيئة الاستعلامات دعوة الكاتب الكبير واستضافته وعمل كل شيء من أجل أن يأخذ هذا الكاتب العالمي فكرة حقيقية عن بلادنا، ولكن قلت له: إن هذا عمل وزارة الثقافة، وأنت تعرف الوضع.
قال: من قال هذا؟! إنه من صميم عمل هيئة الاستعلامات فعندنا إعلام داخلي للمصريين وإعلام خارجي نتولى به دعوة كبار الكتاب والصحفيين، وهناك ميزانية وبرامج لهذا كله، وأن يأتي كاتب كدورنمات لمصر حدث عالمي لا يمكن أن نتركه يمر، فإني متأكد أنه إما أن يكتب كتابا أو سلسلة مقالات أو حتى مسرحية عن مصر؛ فمصر بالنسبة للعقلية الإبداعية الأوروبية تشكل مهبط وحي لا يمكن أن تمر عليه قريحة خلاقة دون أن يؤثر فيها بطريقة ما، وبعد أسبوع واحد كان الدكتور ممدوح البلتاجي قد نظم برنامجا متقنا للرحلة والإقامة، وأرسل باسم الهيئة دعوة لدورنمات وزوجته، وكان القائم بالأعمال السويسري عندي في مكتبي يناقش معي تفاصيل الندوات التي سيعقدها دورنمات في القاهرة واحدة في الجامعة، والأخرى في لقاء مع العائلة الثقافية في الأهرام، والثالثة ندوة مفتوحة في فندق شيراتون الجزيرة حيث يقيم، والرابعة في معهد جوته الألماني، كان هذا الكلام في يوليو من هذا العام وكنت قد وعدت دورنمات أن نقدم له عملا من أعماله التي ترجمت وقدمت على مسارح القاهرة «أربعة أعمال»، وهكذا اتصلت بالمسئولين في هيئة المسرح لتحضير عمل يعرض أمامه باللغة العربية، واخترت المخرج الفنان سمير العصفوري ليقدم هذا العمل باعتباره أول من أخرج مسرحية لدورنمات في مصر، واختار سمير أن يقدم مسرحية «الشهاب» لقصرها من ناحية ولمحدودية ممثليها من ناحية أخرى.
وفي نفس الوقت فاتحت الأستاذ إبراهيم نافع في حفل غداء نقيمه على شرف الرجل في الأهرام عندنا، وقد أسعدني حقا أن قال لي: إن ل إمكانيات الأهرام تحت تصرفك.
هكذا ترتب كل شيء.
وبدأت الشهور تتوالى، أغسطس ثم سبتمبر ثم أكتوبر، وكان وزير الثقافة قد تغير وجاء الصديق الكبير الدكتور أحمد هيكل وزيرا جديدا ومتحمسا.
وذهبت للقائه وأعدت عليه قصة دورنمات والمسرحية التي يجب أن تقدم فذكر لي أن الدكتور سمير سرحان اتفق مع سمير العصفوري على كل شيء، وأن بروفات المسرحية قائمة على قدم وساق.
وبعد أسبوع اتصل بي الأستاذ سمير العصفوري وقال لي إنه رأى أن عرض «الشهاب» غير ممكن وأنه اختار مخرجا من تلاميذه ليقدم عرضا يستغرق ساعة يستعرض فيه مقطعا عرضيا لكل أعمال دورنمات.
الحقيقة دهشت، فدورنمات كتب ما لا يقل عن الثلاثين عملا، وكيف ستضع هذا المقطع العرضي لكل تلك الأعمال، ولكن لثقتي في قدرة سمير العصفوري قلت: أنت المسئول، وأنت وما تراه.
وقبل وصول دورنمات بأسبوع لعب الفأر في عبي، فاتصلت بالدكتور سمير سرحان أطمئن على العرض، فإذا به يذكر أن سمير العصفوري قد ذهب ليحضر مهرجان قرطاج في تونس، وأن العرض لن يقدم.
وأحسست بجانب كبير من كارثتنا المسرحية يتبدى على أبشع صورة، كارثة كانت قد بلغت دورنمات نفسه وهو لا يزال في سويسرا، فقد كانت أول كلماته لي حين قابلته في المطار أن قال إنه حزين؛ لأن العرض المسرحي ألغي؛ فقد كنت فعلا أريد أن أتفرج على دورنمات بالعربية.
وغرقت في خجل لما آلت إليه أمورنا المسرحية والثقافية، وغرقت في خجل أكثر حين عرفت أن أحدا لم يحاسب على ما حدث، ولا وجه لوما لأحد، ومرت المسائل وكأنها لعب عيال، نأتي بكاتب عالمي من النادر أن يغادر بلده أو يحضر عروضه في البلاد الأخرى ونعده بتقديم عمل مسرحي له، ثم إذا بنا في آخر لحظة وبكل استهتار هكذا نقول له: «معلهش! تتعوض، المرة الجاية إن شاء الله!»
لقد كانت الزيارة ناجحة تماما من الناحية الثقافية والاجتماعية، فاشلة تماما من الناحية المسرحية والمناقشة المسرحية، وربما كان الخطأ خطئي؛ إذ اعتمدت على أن لدينا مسئولين عن هذا كله، وعملهم أن يضعوا هذا ولا أقوم أنا أو غيري بكل العمل، لقد حرصت على أن أحضر أقل عدد من الندوات والحوارات التي أجراها دورنمات مع التليفريونيين ومع الجامعيين ومع المثقفين لأني اعتقدت أنني بدعوتي دورنمات للقاهرة وتلبيته للدعوة يصبح من عدم اللياقة أن أحشر نفسي في كل كبيرة وصغيرة.
عذرا، أيها الكاتب العظيم!
وقلبي معك يا دكتور هيكل، في وزارة اختلط فيها كل شيء بكل شيء، ولم يعد فيها مسئول واحد تستطيع أن تطمئن إلى كلامه أو إلى وعده.
الأب الغائب
منذ مدة، وحين بدأنا نقرأ عن الحوادث الغريبة التي بدأت تحدث في مجتمعنا وتجمعاتنا، أب يقتل ابنه، أم تقتل ابنها وزوجها بالتعاون مع ابنتها، ابن مثقف يقتل أباه وأمه رميا بالرصاص بزعم الإشفاق عليهما من الحياة السيئة التي تنتظرهما وتنتظره.
وقد كان من السهل على كل منا أن يمسك بكل حادث على حدة، ويحلله ويصل في تحليلاته إلى ما شاء له الله.
فمن قائل: إنها تقاليد الغرب «الملعونة» التي أخذت تتسرب إلى مجتمعاتنا عبر المسلسلات وشاشات التليفزيون والسينما! ومن قائل: إنها الدخول في العصر الصناعي وضريبته المفروضة علينا، شئنا أم أبينا، ضريبة التقدم! ومن قائل: إنها حالات - والحمد لله - فردية نتيجة ظروف كل أسرة على حدة وكل تربية على حدة.
وكنت على مهل، كأنما يجتر الجمل ما اختزنه داخل معدته من مواد، أحاول أن أهضم هذه الأفكار كلها محاولا أن أعثر لها على جواب، أو أدرك إذا كان أحد الأجوبة السابقة هو الجواب الشافي.
ولكني لم أستطع.
فلم يستطع أي من الأجوبة السابقة أن يشفي غليلي؛ ذلك أنه إذا كان الأمر أمر تربية فردية في ذلك البيت أو ذاك، فكثرة توالي الأحداث والبشاعة التي كانت تتم بها واللارحمة واللاهوادة وما يقرب من حالة فقدان الانتماء إلى الجنس البشري كل هذا يربطه خيط «عام»، خيط لا تستطيع إدراكه للوهلة الأولى، ولا تستطيع إدراكه حتى بعد إعمال طويل للفكر والتأمل كما ذكرت، شيء خطير عميق دقيق لم نستطع أن نصل إليه كمفكرين أو أنثربولوجيين أو علماء نفس.
إلى أن بدأت أعرف هذه القصص والحوادث على حقيقتها، وأستفهم وأغرق في الاستفهام، لأدرك أخيرا، وأخيرا جدا، بدأت خيوط فجر المشكلة تتبدى، فقد اكتشفت أن هناك في تلك العائلات عاملا مشتركا واحدا لا يتغير فيها جميعا؛ ذلك هو الأب، أو بالأصح غياب الأب، أو على وجه أكثر دقة دور الأب في ارتكاب تلك الجرائم.
اكتشفت هذا رغم أن كل تلك الحوادث لم يكن الأب فيها هو قاتل الابن أو الأم أو البنت، بل كان طوال الوقت هو المقتول أو المذبوح أو المدحرج رأسه أسفل السرير، بينما الزوجة والعشيق نائمان ملء الجفون فوقه!
وهنا بدأت أتأمل المشكلة من زاوية جديدة تماما، بل أحسست أني قد وضعت يدي على قلب المشكلة، الأب المصري أو العربي بشكل عام.
فقد لاحظت أن كل هذه الجرائم كان الابن فيها أو كانت الزوجة بعيدة عن زوجها، فهو إما يعمل في إحدى البلاد العربية، غائب له سنين، يلهث ليوفر للعائلة أكلها وملبسها ومنزلها، وهو إما في مصر مثلا، ولكنه يعمل في الصحراء أو الوادي الجديد، أو على العموم بعيدا عن مقر الأسرة، فهذا الشاب الذي أطلق عشرين طلقة على والديه كانت أمه مذيعة تعمل في قطر، وكان أبوه هناك، ونشأ الصبي وأصبح شابا، وهما بعيدان عنه تماما، ولم يعودا إليه إلا بعد أن كبر ودخل كلية الطب.
وانتهت تماما تلك الفترة التي يحتاج فيها الابن إلى أمه وأبيه؛ فترة التكوين النفسي الأولى، فترة مثلها مثل لبن الأم لا سبيل إلى تعويضها حتى بحنان العالم كله أو نقوده تتدفق من جيب الشاب بعدما جاوز مرحلة الحضانة النفسية التي تشكل تكوينه الداخلي ونوازعه.
وهذه المرأة التي كان زوجها يعمل في السعودية، وقد ترك لها ستة أطفال معلقين في رقبتها واستغاثت به أكثر من مرة لتلحقه هناك، ويعيشوا جميعا معا، ولكنه رد عليها بقول: إن تكاليف المعيشة مرتفعة جدا، وإنهم إذا جاءوا وعاشوا معه فلن يوفر مليما واحدا، وكانت النتيجة أنه صحيح بنى لها منزلا ست شقق وكتبه باسمها، ولكنها هي بنفسها كانت قد ضاعت وتعرفت بسائق تاكسي الذي استولى عليها وعلى ابنتها وعلى أولادها أيضا، وبالذات على ابنتها الشابة التي عاونتها في قتل أخيها مع العشيق السائق ودفنوه وذهبوا جميعا إلى السينما بعد هذا!
وحين عاد الزوج قابلوه بجرعة «الأتيفان» مذابة في الشاي وخدروه وذبحوه هو الآخر.
هكذا سوف تجد خلف كل مأساة من تلك المآسي «غياب» الأب هو السبب القوي المباشر.
وهو ليس أبا واحدا، هناك أكثر من مليوني أب مصري يعملون في الخارج وفي الدول العربية تاركين عائلاتهم في مصر، ولا يتركونها لفترة عام أو حتى بضعة أعوام، ولكن بالسنين الطويلة يفعلون!
قال لي أب من هؤلاء: لقد تركت ابنتي وهي تلميذة في المرحلة الابتدائية وحين عدت كانت قد أصبحت طالبة في الجامعة، وكنا نجلس معا أنا وهي فلا نكاد نجد موضوعا نتحدث فيه.
تقطعت الخيوط تماما، وبالذات تلك الخيوط التي تربط الابنة بالأب أو الابن بالأب، لم يعد يربط يننا إلا تلك الهدايا التي يتوقعونها بشغف غير زائد مبدين دائما نقدا للألوان وللأنواع التي اختارها.
تصوروا!
مليونا أب؛ أي مليونا أسرة، إذا كان متوسط تعداد كل أسرة خمسة، يكون المجموع عشرة ملايين معظمهم من الأطفال والصبية والمراهقات والزوجات المحرومات من أزواجهن لفترات طويلة قد تتعدى العام!
كان محتما في ظل وضع كهذا أن «تنفك» الأسرة تماما، فصحيح أن الأب لا يلعب الدور الأكبر في تربية الأطفال بالذات، وإنما الأم هي التي تقوم بهذا الدور، ولكن للأب دورا آخر أعمق أهمية بكثير؛ إذ هو ليس مجرد ساق ثانية تمشي عليها الأسرة مع الساق الأولى: الأم، إنه العمود الفقري الذي يصلب حيل العائلة ويجعل منها كلا متماسكا، هو الرمز للكيان الواحد؛ ولذلك فالأطفال يسمون باسمه ويفخرون بالانتساب إليه؛ من هذا؟ هذا ابن فلان. بل إنه في مجتمعاتنا العربية إذا نسب الابن أو الابنة إلى الأم اعتبر هذا من قبيل السباب، وأيضا لهذا كله يعتبر الأب أكثر درجة في الأهمية.
إن الأب هو «البطل» في نظر أبنائه وبناته وزوجته، اختر أي طفل فقيرا كان أو غنيا، راضيا عن أبيه أو ساخطا واسأله: من يختار من بين كل الناس «بطلا» يتبعه ويطيعه، وستجده يختار بالفطرة بطله: أباه، وفي ظل قيادته تحل كل المشكلات، وتنسجم كل المتناقضات ويخرس بحسمه كل الأصوات.
الأم تطعم، «ماما» تحن وتعطف، لكن الأب هو الذي يصنع المثل الأعلى ويقلده الابن دون أن يعرف أو يدري، ويرى فيه رمزا لرجولته المقبلة، وترى فيه البنت نموذجا لما تحب أن يكون عليه عريسها ومن تحبه، أما الزوجة فحاجتها للأب لا تقل عن حاجة أولادها، بل حاجتها إلى الأب ملحة، حتى لو كان مريضا أو عجوزا أو بلا عمل؛ ومن هنا جاء المثل: «ضل راجل ولا ضل حيطة»، أو ذلك الذي تقوله الزوجة إذا مات زوجها: «يا سبعي!»
فعلا، الأب هو السبع، وهو الأسد، وهو القادر، وهو العمود.
وإذا كانت الظروف الاقتصادية قد أجبرت كثيرا من الآباء - ملايين الآباء - على ترك عائلاتهم والسفر بلاد الله لخلق الله بحثا عن لقمة العيش، فإن ظروف بقية العالم العربي الغني فعلت بالأب ربما أكثر بكثير مما فعله الفقر ببعض الآباء؛ فالمال إغراء قوي على مزيد من الربح والغنى ، وقد انشغل الأب العربي الغني بتنمية ثروته وبالأسفار من أجل أعماله المترامية، شغله المال عن الأسرة، بل استعاض بالمال عن الأسرة، وأصبحت أسرته الحقيقية هي ودائعه في البنوك التي يطمئن على سعر فائدتها كل صباح، وقبل أن يتلفظ بكلمة مع أفراد أسرته الحقيقيين انشغل بأسعار الأسهم والمستندات عن أقرب الناس إليه، وهو صحيح لم يغب في بلاد أخرى ليعمل، لكنه حاضر في بلده بين أهله وأسرته، ولكنه ذلك الحاضر الغائب، وما أبشع الأب حين يكون حاضرا غائبا! فعلى الأقل في حالة الغيبة حجته معه كما يقولون، أما وهو حاضر وفي الوقت نفسه غائب فإن الوضع النفسي لأولاده وزوجته يكون أقسى وأمر. •••
وليس هذا الوضع مقصورا على مصر أو على بلادنا العربية، إنه وضع العالم الرأسمالي، حتى الاشتراكي كله، فكثير من الأسر الأمريكية تعاني من هروب الأب عقب الطفل الأول أو الثاني، وحالات الطلاق والانفصال الجسدي أو الفعلي ما أكثرها! لقد كنت في لوس أنجيلوس وأتيح لي الاختلاط بكثير من الأسر الأمريكية، والمضحك أني لم أجد بينها رجلا تزوج لمرة واحدة أو زوجة تزوجت رجلا واحدا، هناك حركة تبادل مواقع قائمة على قدم وساق بين الأزواج والزوجات، والمطلقات والأرامل.
حركة يدفع ثمنها، أول من يدفع: الأولاد، فتقريبا ينشأ الأولاد بلا أسرة.
فالزوجة مشغولة بالاستمتاع بزوجيتها، والأب مشغول بعمله، والأولاد متروكون للحاضنة أو المربية وللمدارس ولجالسات الأطفال في أحيان، وهي كلها أشياء لا تعوض مثقال ذرة ربع معشار الأبوة والأمومة الحقيقية، ومن أجل هذا يهرب الأطفال مبكرا من أسرهم في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة وربما أقل بكثير.
يهربون لأنهم يريدون «أسرة» وإذا كانت أسرهم الحقيقية قد نبذتهم فإنهم يلجئون إلى تكوين «أسرة» أو «عصابات» من الأولاد والبنات يكونون آباء وأمهات لبعضهم البعض.
ومن أجل هذا السبب وحده تكثر التقاليع ويتبوأ شاب معتوه مثل «مانسون» الذي قتل شارون تيت وآخرين، يتبوأ مكانة الأب ويسيطر سيطرة سيئة على الشبان والفتيات كأنه أصبح المعبود الأول، ولنفس هذا السبب أيضا وبطريقة أخرى يهرب أولادنا في عالمنا العربي والإسلامي (الغني والفقير على حد سواء) ويذهبون وينضمون إلى الجماعات الدينية، حتى يصبح «الأمير» هو الأب أو رمز الأب أو صورة الأب، وكلمته هي العليا، ومن ناحية أخرى يهربون إلى شلل المخدرات والجلسات والطرق المشبوهة التي تصبح بمثابة عائلاتهم، أو بالأصح تعويضا عن عائلاتهم الحقيقية. •••
وليس الأب الفعلي هو المشكلة في عالمنا العربي، ولكن رئيس الدولة والدولة هما بمثابة الأب، والرئيس في العمل يقوم مقام الأب، حتى الأم أحيانا تقوم بدور الأب، ولكن هذا كله لا يغني أبدا عن الأب الحقيقي، إنما هي تعويضات وإسقاطات ومحاولات دائبة من شبابنا وشاباتنا للبحث عن هذا الشبح المفقود: الأب.
وإذا كان معظمنا ساخطين على الحكومات ورؤساء الحكومات وشيوخ القبائل «والعمد»، والكبار بشكل عام، فليس السبب كامنا في هؤلاء بحد ذاتهم، إنما السبب أننا نبحث فيهم عن آبائنا المفقودين، بحنانهم ورحمتهم، برأيهم السديد وحكمتهم، بهذا الشعور النبيل الجميل الذي يدفعك حين تحس بالمعزة والمحبة والمودة والإكبار لإنسان ما أن تقول له: «ياه! دانت زي أبويا!»
بالحب، بالحنان، بالحسم ساعة الحسم، بهدهدة الحنان حين نحتاج إلى الحنان، وتكشيرة العبوس المحب حين نحتاج إلى حب عبوس نبحث فيهم عن آبائنا المفقودين هؤلاء، فلا نجدهم فنزداد سخطا عليهم، بينما سخطنا الأكبر ينصب على آبائنا الحقيقيين الذين تركونا بذورا بلا سيقان، وسيقانا بلا أوراق، وأوراقا وسيقانا وبذورا بلا ثمر، فكيف يعود لنا أبونا الغائب؟!
كيف؟!
ذلك هو السؤال.
ملعبة التليفزيون
أعجبتني الحكاية التي قصها علينا الأديب عبد الله الطوخي وهو يروي لنا كيف كان جالسا مع عائلته وفي منزله، ثم فجأة سمع ضجة شديدة وصراخا وعويلا في الشقة المجاورة فأسرع ودق على باب جاره لتفتح له ابنته الباب، ويجد الرجل صاحب الشقة، وهو ضخم الجثة فارع الطول ينهال بقطعة حديد على جهاز التليفزيون في بيته يحطمه ويفتته قطعا قطعا أمام زوجته وأبنائه وبناته دون مراعاة لاستعطافاتهم ورجواتهم وهم يقولون: «والنبي يا بابا، بلاش تكسره بلاش!» فيرد عليهم بصوت عال كالرعد قائلا: «أنا مش بابا! هذا هو بابا!» (قاصدا جهاز التليفزيون) منهالا عليه بشدة أكثر تحطيما وتكسيرا، حتى فتته تماما.
أعجبتني القصة؛ لا لأن إنسانا وجد في نفسه الشجاعة على أن ينهال على جهاز تليفزيون، مصري أو عربي، تحطيما وتكسيرا رغم فداحة ثمنه، ولا لأن غيرة ما قد شبت بين أب حقيقي تزوج وخلف وأنجب أولادا وبنات لا ليعيشوا في التبات والنبات ويستمتع بهم وبصحبتهم، وإنما ليتسلمهم أب آخر خلقته التكنولوجيا، ليتولى قيادتهم وتربيتهم ويمتص كل أوقاتهم التي كان مفروضا أن يقضوها مع آبائهم وأمهاتهم.
أعجبتني القصة لسبب قد لا يخطر على البال؛ لأنها في حقيقة أمرها قصة مواجهة صريحة وواضحة وعنيفة بين العصر الذي نحيا فيه والعصر الذي تربى عليه آباء هذه الأيام وأمهات هذا العصر.
منذ فجر البشرية كان الأب هو أول مدرسة يدخلها طفله ليتعلم منه القيم والسلوك والأخلاق، وربما الحرفة والثقافة والمعرفة والإدراك.
وكان لكل قبيلة من القبائل تراثها الشفوي المرئي الذي تحكيه الجدة لأبنائها وأحفادها، ليحكوه بدورهم لأولادهم وأحفادهم.
ثم بظهور المسرح ثم الكتاب ثم الجريدة، بدأت آباء أخرى تشارك الأب الحقيقي في صياغة شخصية وسلوك ومدارك ابنه، وحين جاءت السينما بعد هذا عمقت تلك المشاركة إلى حد كبير، ولكنها كانت مشاركة أقرب إلى التعليم التخيلي منها إلى الأب أو المدرس أو المربي الحقيقي؛ ولهذا سميناها نحن العرب «الخيالة»، أما الكارثة الكبرى الحقيقية، أما الانقلاب العظيم الداهم، فقد جاء مع عصر التليفزيون؛ ذلك أنه لم يأت ليكون بعيدا عن متناول الأسرة أو محيطها، وإنما جاء ليحتل صميم المركز في قلب الأسرة، وهو مركز ثابت غير متحرك، وغير صامت، مركز دائم التحدث والجذب، دائم الوجود، عميق التأثير إلى أبعد حد، حتى إن أطفالنا أصبحوا يحفظون كلمات الإعلانات وأغانيها أكثر بكثير مما يحفظون آيات من القرآن الكريم، أو ملخص قصة من قصص الأطفال المتداولة.
جاء ساحقا ماحقا فاصلا تماما بين عصرين؛ عصر ما قبل التليفزيون وعصر ما بعد التليفزيون، عصر أطفال ما قبل التليفزيون، وعصر الجيل الذي رباه التليفزيون.
وجاء دكتاتوريا طاغيا أيضا ، انكمش بجواره الأب الحقيقي في ركن لا يملك حتى أن يتكلم أو يقاطع ما يدور فيه، فما أسرع ما ترتفع ألسنة أطفاله وأزواجه طالبة منه أن يسكت؛ لأن التليفزيون يتكلم! أو حتى يقطع عليهم ما يتابعونه ولو بخبر خطير يهم الأسرة جميعا وقد يغير مصير العائلة كلها.
جاء ليكون المتحدث الأول والكل له مصغون، والنموذج الأول للتصرف وللكلام وللفعل، والكل له مقلدون، وحتى النموذج الأول للتسريحات والتجملات، وطريقة النطق، والكل لا يفعلون سوى تقليده.
وتليفزيون من، ذلك الذي جاء؟
ليس تليفزيونا عربيا، لا صناعة، ولا اسما، ولا حتى محتوى؛ إذ جاء أحدث ما تفتق عنه العقل الغربي من علم الإلكترونيات و«الترانزيستورات» «علم تحويل الصوت والصورة إلى كهرباء وبالعكس»، وجاء مزودا بمساعد لا يقل عنه خطورة وبأسا؛ هو «الفيديو كاسيت»، يجمع كل ما افتقدته العائلة من إرسال التليفزيون العادي، ويضيف إليه أفلاما وقصصا وألعابا، وكل ما قد يخطر ولا يخطر على البال.
وهنا وجدنا أنفسنا نحن آباء هذا العصر وأمهاته نواجه عملاقا ولا جن ألف ليلة بكل ما لديه من «شبيك لبيك، أنا بين إيديك، والعالم كله بين يديك، والحب بكله وبكافة أشكاله رهن إشارتك!» والتقاليع تقاليعه، لا ينتهي أبدا لها حال.
مفاجأة كبرى، لم يكن يتوقعها العالم الأول نفسه، فما بالك ونحن حين جاء كنا لا نزال نحيا ربما في العالم الرابع أو الخامس؟!
وأنا أذكر أول مرة رأيت فيها التليفزيون وجها لوجه، وكان في معرض في القاهرة في عام 58، وما زلت أذكر تلك الدهشة المروعة التي أصابتني، حين رأيت صورتي «وقد كانت هناك كاميرا تليفزيونية مسلطة على المشاهدين لجهاز الاستقبال»، رأيت صورتي بالأبيض والأسود مرتسمة على تلك الشاشة الصغيرة الساحرة، يومها أخذت الأمر أخذ مثقف متحضر، وقلت إن التقدم البشري ليس له أبدا من حدود، وإني إنما أشاهد معجزة كبرى لهذا التقدم؛ أي إنني روعت للتقدم التكنولوجي الإلكتروني الذي أنتج هذا الجهاز.
وفي ذلك الوقت لم أفكر أبدا فيما يمكن أن يحتويه هذا الجهاز بعد هذا وينقله من مواد .
وما هي إلا بضعة شهور حتى أصبح هناك إرسال تليفزيوني، لا في مصر فقط، ولكن في معظم البلاد العربية، وحتى تدفق على المشاهد العربي طوفان من إنتاج أوروبي أو إنتاج عربي يحاول أن يقلد ويمشي على خطى الإنتاج الأوروبي بطريقة لا بد للإنسان معها - بطول المشاهدة ومداومتها نظرا لروعتها وخبرتها - أن يحدث له غسيل مخ إجباري؛ بحيث تمحى من عقله مفهومات كثيرة ورثها أو تعلمها، وتحل أشياء جديدة تحمل المكونات النفسية والاجتماعية والسياسية لمجتمعات مختلفة عن مجتمعنا تمام الاختلاف.
حتى كاد الأمر في النهاية ينتهي إلى أن ينمحي تماما من ذاكرتنا كل ما توارثناه من مفهومات وتعاليم وأحاديث أمهات وجدات ونصائح آباء وكبار، ونولي وجوهنا وعقولنا مفتوحة على مصراعيها لتلتهم بلهفة ذلك الطوفان القادم.
وفجأة أيضا، دون أن ندري، نلمح على أبنائنا وبناتنا الأكثر استعدادا للتقبل، والأقل استيعابا للتراث، تصرفات لا تبدو غريبة كثيرا عن التصرفات التي نراها معروضة في تليفزيوناتنا، ولكنها تبدو غريبة، تماما إذا ما قورنت بما درجنا عليه نحن من أخلاق وقيم وتصرفات.
وكان مفروضا حينذاك أن تنشأ معركة بيننا - نحن الآباء - وبين ذلك الوافد المكتسح، وأعتقد أن معارك فردية وعائلية كثيرة قد نشبت متفرقة هنا وهناك، ولكنها كانت دائما معارك خاسرة، كنا نحن الذين نخسرها؛ ذلك أن التليفزيون كان قد ربح المعركة، تماما، وأخذ أولادنا وأجيالنا الجديدة إلى صفه وأصبحنا نحن مجرد قلة «متخلفة» عن الركب، «متحجرة» أمام التحضر والتأمرك والتأورب، تعيش في عصر غير العصر، وتحاول جر أجيال جرارة بأكملها إلى هذا العصر الغابر.
وكان لا بد بالطبع يبلغ اليأس ببعض الآباء - مثل أخينا الذي اندار على الجهاز يدكه دكا - أن يحاول حل المشكلة بتحطيم الآلة، وهو ليس فقط اليأس وأغبى أنواع الحلول، ولكنه يدل تماما على أن هذا النوع من الآباء قد تخلف عن العصر فعلا، وواجب عليه أن يحطم السيارة هي الأخرى والطائرة، وأن يعود القهقرى يركب الناقة وينتقل بالحمار. •••
فما هو الحل يا ترى إذا لم يكن تحطيم كل تلك الأجهزة المتقدمة من تليفزيون وسيارة وكمبيوتر، وفيديو ... إلخ؟!
الحل بسيط للغاية، يا سادتنا الآباء والمربين والحريصين على التراث والتقاليد.
فالتليفزيون في ذاته كجهاز قمة من قمم الهندسة البشرية، وآلة إعجاز تكنولوجي ولا عيب فيه بالمرة.
المشكلة هي فقط «محتوى» هذا الجهاز وما يبثه.
وبلادنا العربية قد اشترت من أوروبا واليابان وأمريكا ملايين من أجهزة التليفزيون والفيديو، ولكن كان عليها إرسال بعثات «بشرية» لدراسة المواد التي يمكن لهذا الجهاز أن يبثها، وأثر هذه المواد على عقول كل الأجيال من الأطفال إلى الشيوخ، وأثره بالذات على مجتمعات لم تمر حتى بفترة الراديو أو المسرح أو السينما، وإنما فجأة من حديث الجدات وحواديتهم انتقلت إلى عصر البث التليفزيوني وحلقات دالاس ومونت كارلو شو.
كان علينا أن ننتقي ونحضر «كادرا» من فتيان موهوبين، يدرسون ما فعله صناع البرامج الممتازة في التليفزيونات الأخرى، وبالذات التليفزيون البريطاني والتليفزيونات الأوروبية، ثم يتعلمون كيف يقدمون المقابل العربي الصالح والشاحذ والمنبه للعقل العربي، بكافة مكوناته وأجياله، و«يكتبون» النصوص، لا أقول ذات القيم الأخلاقية الرفيعة كما يقول عتاة المتفيقهين، ولكن تلك التي تستلهم قيمنا وتراثنا وحاضرنا وتصنع منها «فنا» تليفزيونيا حين نشاهده يدفعنا إلى كل ما هو أرفع وأمتع وأنفع.
إني في كل مرة أذهب إلى بريطانيا، ودائما أوقت ميعاد وصولي يوم السبت؛ لأستريح في عطلة الأسبوع ثم أبدأ في قضاء مصالحي يوم الإثنين بداية الأسبوع، كنت ما أكاد أجلس في حجرتي في الفندق وأفتح الجهاز حتى أكاد أتسمر بجانبه لا أريد أن أتحرك؛ ذلك في كل برنامج «أتعلم منه» شيئا ممتعا جديدا، و«أعرف» منه تسلية عظمى، ما لم أكن أبدا أعرفه، و«أرى» أشياء كنت أسمع عنها وطالما حلمت برؤيتها رأي العين، حتى إنني كنت لا أغلق التليفزيون حين يتحول الإرسال إلى ما يسمونه جامعة الهواء، حيث تدرس مواد الرياضة البحتة والطبيعة والكيمياء والذرة والفلك، بكل ما تحمل من صعوبة وتعقيدات بطريقة تليفزيونية مرسومة ومسهلة بحيث يمكن لأي كائن - فما بالك بمن لديه الحد الأدنى من المعرفة - أن يتابعها ويستوعبها ويستمتع بما أضيف إليه من معارف ممتعة لا تحققها له أي «ديناستي» أو «دالاس» أو رجل أو امرأة «لستة بلايين دولار»، أقسم أني رغم شغفي الشديد بالخروج كنت لا أغادر الغرفة خلال كل عطلة نهاية الأسبوع لأني لم أكن بصراحة أستطيع قطع متعة المشاهدة الممتعة المفيدة. •••
نحن إذن قد استوردنا آلات وبرامج مصكوكة، ولم نفعل الشيء الذي يجب أن نكون قد قمنا بفعله قبل استيراد تلك المعدات والأدوات والبرامج، ألا وهو أن نكتشف مادتنا التليفزيونية نحن، نفننها، ونقدمها ونطورها، ونتعلم كيف نفننها أكثر ونطورها أكثر وأكثر.
وأحسب أننا قد «استوينا» من برامجنا المستوردة، وآن الأوان لننتج نحن برامجنا، وهي ليست برامج استعراضية أو ترفيهية أو مكلفة، إنها أبسط من هذا بكثير، إنها برامج حية وبسيطة ويشترك فيها المواطنون جميعا يناقشون مشاكلهم، «تقريبا ربع برامج التليفزيون البريطاني مخصصة لمشاكل المدارس والتلامذة وأولياء الأمور والمدرسين وأوجه التقصير، من كل حي أو بلد على حدة، بل أحيانا من كل مدرسة»، مناقشة أي قضية عامة يختلف أو يتفق فيها المجتمع مع وجهة النظر الرسمية أو غير الرسمية، باختصار حولوا التليفزيون هناك إلى مجلس شعبي، ولمصلحة الشعب، ومهرجان شعبي، وأداة شعبية لمناقشة الشعب، بأفراد من الشعب ولمصلحة الشعب، وبهذا وصلوا إلى ما يمكن تسميته بكل أمانة الديمقراطية التليفزيونية، حتى أصبحت الديمقراطية البرلمانية بجوارها وكأنها مجالس سفسطائية، فالقوة الحقيقية والقرارات الحقيقية، وحتى الانتخابات الحقيقية وحلول المشاكل الحقيقية تأتي من التليفزيون ومن الشعب الذي أحال التليفزيون من لعبة إلى جهاز جاد يجمعه في بوتقة واحدة، ويضع السائل والمسئول والحاكم والمحكوم في حيز واحد وأمام أعين جمهور واع فاحص علمه التليفزيون كيف يعي وكيف يفرق بين الزيف والحقيقة، ومباشرة ومن التو واللحظة يحكم، ويكون حكمه في معظم الأحوال عادلا وصادقا ونابعا من قلب الحقيقة والشعب.
فمتى نحيل - نحن العرب - تلك الألعاب التليفزيونية إلى وسائل حضارية جادة تسوس حياتنا وتقومها وتدفعها إلى الأرفع والأحسن؟! أم سنظل كالأطفال في أوروبا، نستعمل التليفزيون والفيديو وسائل ألعاب وتضييع وقت ومراهقات فكرية وعاطفية وجسدية، وحلقات درامية ما أنزل الله بها من سلطان؟! بل الحقيقة أنه أنزل بها كثيرا من اللعنات التي للأسف تصيب أبناءنا البرآء وقلوبهم الخضراء الغضة، وعقولهم التي ستنتهي في الغالب إلى أن تصبح لا شرقية ولا غربية ولا أي شيئية.
وحتى لا تكون النهاية أن يقوم كل رب أسرة بأن ينهال تحطيما على جهاز عظيم نحيا في عصره هو جهاز التليفزيون.
فمتى يحدث هذا؟!
بالله عليكم، وأرجوكم؛ متى؟!
وهوى النجم
أبلغ «مقالة» رثاء قرأتها عن حسن فؤاد كانت رسما كاريكاتوريا لرسام شاب من تلامذة حسن فؤاد في زميلتنا «صباح الخير»، كانت صورة لحسن فؤاد واقفا عاليا، وكأنما ينظر من الملأ الأعلى وعلى فمه ابتسامته الغريبة تلك الساخرة الراقية المشاركة المتفائلة التي تحمل أقل القليل من المرارة، كان حسن فؤاد ينظر من عليائه ويقول لزملائه وأصدقائه وتلامذته وأبنائه الذين أقاموا له أروع جنازة على صفحات العدد الخاص من «صباح الخير»، ويقول ردا على البكاء والنحيب: «جرى إيه يا جماعة؟! مانا لسه معاكم آهه!» الحق أني حين قرأت في الإسكندرية خبر وفاته أصبت بما يشبه «التولة»، وفقط حين قرأت العدد ووصلت إلى هذا الرسم، بكيت؛ فحسن فؤاد صديق العمر، عرفته وأنا طالب طب وقد كان خريجا حديثا من الفنون، وذات يوم جاءني صديقاي محمد يسري أحمد وصلاح حافظ وقالا لي: «سنقابل اليوم فنانا عبقريا.» وإلى غرفة على «سطوح» بيت في المنيرة ذهبنا، وهناك وجدت شابا تحس للوهلة الأولى أنه أكبر من سنه وأكبر منا جميعا، لاهث الأنفاس، فقد كان يعاني من نوبات ربو حادة تنتابه، شامخ الأنف دائما، وكأنما ليلتقط أعلى طبقات هواء الحجرة، وكان يتحدث، وتحدث، وخرج كلامه غريبا على سمعي، أنا الذي كنت لا أزال أتهجى أحرف الفن الأولى والأدب، كلام غريب، رؤية جديدة تماما لفن جديد وعالم جديد! ببساطة شديدة يتحدث، وببساطة أشد يقلب كل مفهوماتنا الرومانسية عن الفن والناس رأسا على عقب! وخرجنا من عنده بعد الفجر، ومنذ ليلتها بدأت علاقة من أخصب وأغنى وأروع ما مر بحياتي من علاقاتي؛ ذلك أن حسن فؤاد لم يكن فنانا من ذلك النوع الذي ينكب على أعمال فنية محضة يزاولها، كأن يرسم أو ينحت أو يكتب، إنه كان أولا وأساسا صانع فنانين، كان المصانع التي تنتج المصانع؛ ولهذا فإن من «خلقهم» حسن من الفنانين، ومن «طورهم»، ومن فتح أمامهم أبواب مفهومات جديدة للفن وللحياة، هؤلاء يشكلون العصب الرئيس للحركة الفنية والأدبية المصرية الحالية، والتي قامت منذ الخمسينيات، ولا تزال تقوم بدورها الرائد إلى الآن.
طوال الأيام التي مضت منذ اختفائه المفاجئ وصورة حسن فؤاد بشكله المتميز وبذكائه الخلاق لا تفارقني، في صحوي أو منامي، وكأن غيابه قد جعله أكثر حضورا، وأنصع ضوءا، وأقلب في الصحافة المصرية، فأجد نوره يشع في كل مجالاتها وعلى لسان أقلام من اتجاهاتها كافة؛ ذلك أن «حسن» على كثرة من عرف، لم يعاد أبدا حتى أشد معارضيه في الرأي أو الاتجاه، كان أكبر من أن يكره، فقد كان يؤمن أن المخالفين في الرأي ليسوا شياطين أو حقراء، ولكنهم بشر ومفهومات، ممكن بتغيير مفهوماتهم أن يتغيروا، بل حتى أن يتخلوا عن عيوبهم أو يكفروا عن جرائمهم، لم يكن يكره أبدا، حتى أعداءه، غاب عنا حسن إذن، غاب الجسد الإنساني السمح الفنان الخلاق، ولكنه فعلا، وكما قال الرسم، لا يزال موجودا فينا كلنا، حتى في جيلنا كله والأجيال التي تلته، ربما - دون أن يعرفوا - هو موجود فيهم، وسحره باق لأن الفنانين الذين خلقهم ووجههم باقون يتوارثون رؤاه يبكونه، ولكن الأعظم والأجل أن يستوحوا فنه وشخصه وخصاله وأفكاره، خاصة وقد تحول من بشر على الأرض إلى نجم في السماء هوى إلى أعلى، وأصبح ضوءه أشد وأخلد وأقوى!
وداعا حسن!
وإلى أن نلقاك!
جولة في عقول القراء
جولة خطيرة وأنا ما زلت لم أنته بعد من قراءة كل الخطابات رغم انتهائي من مئات كثيرة منها، جولة خطيرة داخل العقل المصري، وفي أحيان كثيرة العربي، وجدتني غارقا فيها، جاءت الخطابات ردا على محاورتي التي بدأتها مع الأستاذ خالد محمد خالد حول مفهومه الأخير عن الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة، والتي أجابني عنها، وتدخل الدكتور فرج فودة مشكورا، ثم أخيرا الأستاذ الكبير الدكتور فؤاد زكريا، وها هو الأهرام يعقد أكثر من ندوة تضم نخبة ممتازة من علماء المسلمين ومفكريهم وأخيارهم.
جولة خطيرة؛ لأنني لأول مرة أتلقى هذا العدد الرهيب من الخطابات حول موضوع واحد وتجيئني خطابات من مختلف قطاعات الشعب؛ بدءا من كبار رجال القضاء والسياسيين والقادة، إلى تلامذة المدارس الثانوية، وحتى الإعدادية، إلى العمال والحرفيين وبعض الفلاحين والمزارعين، وكم كان بودي - ولا يزال هذا قصدي - أن أهدي تلك الرسائل إلى قادة الأحزاب السياسية، وبالذات إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام والجامعات؛ لأنها بمثابة كشف بالأشعة على الوجدان والعقل المصريين وأخذ فكرة مهمة عن محتوياته ومكوناته؛ تلك التي لا يتاح لنا رؤيتها في معظم الأحيان، ولندع الموضوع جانبا فسنأتي له حالا، ونتعرف أولا على شكل تلك الخطابات، فقد لاحظت ارتقاء غريبا في أسلوب الحوار، سواء معي أو ضدي، ومنطقا هادئا في أحيان، مشتعل الجذوة في أحيان أخرى، ولكن دائما هناك «منطق» ما وأساس حوار، وهذا شيء مفرح حقا، فقد كانت المعارضة للرأي تتخذ شكل السباب والاتهامات في معظم الأحيان، أما هذه المرة فشيء غريب ألا أجد خطاب سباب واحدا، ليس هذا فقط، بل إن الجميع، حتى من يعارضون، يفترضون حسن النية في الكاتب وصدقه في الإيمان بما يقول، وأقصى تأنيب يرد هو دعوة الله، سبحانه، «لهدايته».
نحن فعلا - مهما نقدنا أنفسنا - شعب متحضر حقا؛ ولهذا فإني أعتقد أن كل الدعاوى الداعية إلى التطرف دعاوى تزرع أو تستزرع في أرض مصر، ولكنها دائما وأبدا تبقى بلا جذور؛ فإن طبيعة شعبنا تكره من أعماق قلبها التعصب الأعمى المقيت، فما بالك بالعنف المتعصب أو التعصب العنيف؟! إنها موجات، تثور ربما لأسباب لا علاقة لها البتة بالقضية أو العقيدة أو الدين، ولكن سرعان ما يئوب الشعب أو طائفته إلى الحكمة، وتغلب عليه طبيعته المتحضرة، ليس عبثا إذن أننا أقدم أو من أقدم الشعوب الموجودة على سطح الأرض ، والقدم هنا هو العراقة البشرية، وتراكم الخبرات والمعارف والثقافات، بحيث تترسب طبقات التحضر بعضها فوق بعض، وتؤدي في النهاية إلى إنساننا اليوم؛ ذلك الإنسان الذي ما ذهبت إلى بلد أوروبي أو غير أوروبي وسألت الشخص أو الأشخاص الذين زاروا مصر عن أحسن ما أعجبهم فيها، ولدهشتي كنت أسمع كلمة الأهرام أو أبي الهول أو المتحف أو أسوان الجميلة، ولكن الإجماع على أن الشعب المصري ودماثة طبعه وحلو معشره، ورغبته المستمرة في محاولة مساعدة الغير، والشهامة في معاملة الغريب، الإجماع على أن الشعب المصري هو أجمل ما في مصر، وحتى حين حاولت مرة أن أختبر حماس كاتب سويسري زار القاهرة ومكث فيها شهرا وقلت له: إن النظافة في القاهرة سيئة، كما لا بد أن لاحظت. أجابني إجابة غريبة قائلا: إن القذارة في القاهرة موجودة في الشارع والحارة، ولكن الشوارع هنا (يقصد سويسرا) نظيفة جدا كما ترى، في حين أن القذارة موجودة داخل العقول، أما شعبكم فعقوله من الداخل أنظف بكثير من أية سويسرا.
وأستطيع أن أقسم تلك الخطابات تقسيما رئيسيا وأقول: إن أكثر من ستين في المائة منها تصور أني ضد تطبيق الشرع الإلهي، وأخذ يسوق حججه «لإقناعي» على هذا الأساس، بالتفصيل والتحديد، وأحيانا في خطابات من خمسين صفحة!
أما الذي دهشت له حقا فهو أن هناك نسبة كبيرة جدا فهمت تماما ما أعنيه فيما ذهبت إليه وراحت بدورها تسوق حججها للدلالة على رأيها، وكأن كلا منهم يكتب مقالة أو يتصور أن خطابه سينشر، وكم كان بودي أن أفعل مع هؤلاء وهؤلاء، ولكن العملية مستحيلة تماما، فالكم هائل والاستحالة مؤكدة، أجل، أدهشني أن عددا كبيرا جدا من الناس أفرج هذا الحوار الذي دار بين الأستاذ خالد محمد خالد وبيني، قد أفرج عن آرائهم التي كانوا يحبسونها إما خوفا، وإما ترددا ولا مبالاة، وإما عدم إدراك لخطورة المشكلة وأبعادها، هؤلاء أسعدهم كسر هذا «التابو» أو المحرم الذي كان يحول بين الإنسان وبين مناقشة - مجرد مناقشة - قضية تتعلق ليس فقط بمجتمعه الحاضر وحياته ، بل به هو شخصيا وبعائلته وأولاده ومستقبل بلادنا القادم كله، كيف يمكن لقضية كهذه أن توضع موضع التحريم، بحيث يعتبر أي متصد لها كافرا أو ملحدا أو زنديقا، وكأن بعض الناس قد أقاموا من أنفسهم أوصياء على المصريين يفكرون لهم ويشرعون ويفرضون الرأي بالقوة أو بالكثرة غير عابئين مطلقا بأن هناك مواطنين آخرين مخلصين مثلهم تماما، ومؤمنين مثلهم تماما، ولهم نفس الحق في قول الرأي أو مناقشة الرأي إذا قيل، بل مناقشة حق هؤلاء الناس في «فرض» الرأي، واتهام من يعارضه بالخروج من جنة الدين وسماحة الإسلام.
وبالمناسبة أقول: إن هذا التطرف في فرض الوصاية والتعصب على المسلمين يقابله في الناحية الأخرى تعصب من بعض المتطرفين الأقباط، وهذا وإن بدا طبيعيا، إلا أنه في النهاية لا يقل سوءا عن التطرف في الناحية الإسلامية.
أما الذي لفت نظري حقا فهو أن معظم الخطابات التي شابها التشنج والعصبية جاءت من بعض المصريين الذي يعملون في دولة بترولية عربية وبعض مواطني تلك الدولة، وهذا شيء في نظري لا غرابة فيه بالمرة؛ فإن الطريقة التي يطبق بها الإسلام وينادى بتطبيقه في تلك الدولة طريقة متشنجة متعصبة لا تأخذ من الإسلام سوى قشرته الظاهرية من لباس أو قناع وتترك روحه ورسالته الإنسانية الحضارية الكبرى جانبا؛ لأن الإسلام لو طبق تطبيقا حقيقيا سليما لتقوضت أنظمة كثيرة ترفع راية القشرة الإسلامية وتتجاهل جوهره العظيم.
ومن أمثلة تلك الخطابات عدد منها يسائلني باستنكار كبير: كيف أجادل في تطبيق شريعة الله؟! وأنادي بتطبيق تلك القوانين الوضعية التي يضعها البشر؟!
وهذا هو لب الموضوع، فإن أحدا لا ينادي أبدا بعدم تطبيق الشريعة الإلهية الإسلامية، إنه يكون مجنونا لو فعل؛ فالشرائع السماوية كلها وعلى رأسها الإسلام فوق أنها أمر الله - سبحانه وتعالى - إلا أنها لم تأت إلا لتقيم العدل الاجتماعي بالمساواة التامة بين البشر؛ من هو المجنون الذي يعترض على شريعة الله؟! معاذ الله! إنما المشكلة أيها الإخوان العاملون هناك أن الشريعة حقا وصدقا شريعة الله، ولكن من يطبق تلك الشريعة ؟ مرة أخرى أتساءل: من سيطبق أو يطبق تلك الشريعة؟! أليسوا هم البشر؟! أليس هم أناسا مثلي ومثلك حتى لو كانوا من فطاحل الفقهاء؟! إذن، الشريعة شريعة الله، ولكن التطبيق يبقى دائما وأبدا من صنع البشر ومن أفعالهم ومن آرائهم، وبهذا لا يكون للمطبق نفس قداسة الشريعة، فالشريعة سماوية والمطبق بشر، عرضة لأخطاء البشر وأهواء البشر.
ودعونا نأخذ مثلا طازجا وأخيرا؛ الأستاذ الكبير خالد محمد خالد، وهو من هو ممن لا نشك لحظة في صدق دعواه واجتهاداته، يقول: إن تطبيق الشريعة لا بد يحتوي على أن تكون الأمة مصدر السلطات، وأن المسلمين يختارون ممثليهم وحاكميهم بالانتخاب الحر المباشر، وأن الحقوق الديمقراطية الكاملة مشروعة وواجبة للمواطن المسلم وغير المسلم، مثل حق إبداء الرأي وحرية العقيدة إلى آخر ما يعطي ما يسمى بالحقوق الديمقراطية للمواطنين كافة في العالم المتحضر الآن، ويجيء شيخنا الكبير الأستاذ عمر التلمساني ليعطي تفسيرا مختلفا تماما لتطبيق الشريعة، باعتبار أن فكرة الديمقراطية نفسها فكرة غير إسلامية، وارجعوا إلى مقاله في جريدة «الشعب» المنشور حول هذا الموضوع لتجدوا أنه لا يتناقض فقط مع آراء الأستاذ خالد محمد خالد، ولكنه يكاد يعارضها تماما جملة وتفصيلا، ثم نقرأ للأستاذ الدكتور عمر عبد الرحمن كتابا يقول شيئا ثالثا مختلفا تماما مع الأستاذين الجليلين، وعماد هذا القول أن الأمة ليست مصدر السلطات، ولكن الله - سبحانه وتعالى - هو مصدر السلطات، بمعنى أن القرآن الكريم هو مصدر السلطات، ولكن الدكتور عمر لم يخبرنا عمن سيفسر لنا ما ورد في القرآن الكريم من أحكام، حتى لو كان هو المفسر، أليس هو بشرا؟! أليس هو مواطنا مصريا؟! أليس هو واحدا من شعب كبير له نفس الحق أن يختار من يحكمه وأن يلزم الحاكم بالشورى ويحاسبه؟! أم إن الحاكم سيكتسب - في رأي الدكتور عمر عبد الرحمن - سلطات إلهية بحيث لا يمكن محاسبته، وهو الأمر الذي لم يزعمه أبدا خلفاء النبي
صلى الله عليه وسلم
الذين قالوا وهم أحباء النبي وأصدقاؤه وخلفاؤه والأعمدة التي قام عليها الإسلام نفسه: إن رأيتم فينا اعوجاجا فقوموناه. إذن، هم لم يأتوا باسم حق إلهي أن يحكموا المسلمين، وإنما جاءوا نتيجة ترشيح من الأمة أو من أمير المؤمنين الأسبق، ولم يصبحوا خلفاء وأمراء للمؤمنين إلا ببيعة (أو انتخاب حر مباشر) قام به كل مسلم في المدينة آنذاك. •••
من هذا الاختلاف ترون أيها الإخوة أن القضية ليست شريعة الله، فهذا أمر لا خلاف عليه، إنما القضية هي التفسير البشري، والتطبيق البشري لتلك الشريعة السمحاء، واختلاف البشر لأنهم بشر ولكونهم بشرا في اجتهاداتهم لتطبيق تلك الشريعة.
وهذا هو عين ما تساءلت عنه في مقالي الأول للأستاذ خالد محمد خالد: «شريعة من نطبقها؟»
لم يكن تساؤلا حول المبدأ الإلهي الذي لا نقاش فيه، وإنما عن الاجتهادات والأهواء البشرية في تطبيق تلك الشريعة، فجعفر نميري «طبق» الشريعة، وأرغم السودانيين أو بعضهم على الأقل بأن يبايعوه «إماما» لمسلمي السودان مدى الحياة، وفرح كثير من الدعاة المصريين أن نميري قد هداه الله وطبق شريعته، ولكن تقويض حكم نميري لم يوقفه هذا التمسح والتسربل بالدين؛ ذلك أن الدين ليس تكأة للطغاة والحاكمين يتسترون وراءه ويعيثون بعد هذا في الأرض فسادا، الدين العقيدة هو أسمى ما يفعله الناس بحياتهم، ولا يمكن أن يكون وسيلة طاغ أو ديكتاتور.
في سياحتي تلك داخل عقول كثير من القراء أدركت واكتشفت أن ثمة غسل مخ خطيرا قد حدث ويحدث للإنسان المصري والعربي، وأن هذا الغسل قد قام به بعض الدعاة الذين تربعوا على عرش وسائل الإعلام، ورغم استنكارهم للحضارة الغربية ومساوئها فإن نفس وسائل تلك الحضارة، وعلى رأسها التليفزيون هي التي اتخذوها وسيلة لغسل مخ المواطنين الطيبين البسطاء الذين يعبدون الله عن حب، وليس عن رهبة، وعن رغبة في طاعته وليس خوفا من داعية أو تنظيم.
إن التليفزيون في عصرنا الحاضر أصبح هو صانع عقل المواطن وتفكيره، فالخطابات التي جاءتني كان معظمها يردد كالببغاء ما ألقي في عقله من مفهومات من خلال التليفزيون، والغريب أن تليفزيوننا مثله مثل بقية التليفزيونات العربية لا يتيح الفرصة للرأي الآخر ، أو حتى للمناقشة أو حتى الاستفسار، إنه يجعل الناس تجلس هكذا كالمسلوبة العقل والإرادة تستمع لما يلقى عليها ويحفظ لها (بتشديد الفاء) وكأنهم أطفال في كتاب، وهكذا يتعود المواطن على أن يستقبل فقط ويردد فقط ويكف عن التفكير تماما انتظارا للداعية أن يفكر له وأن يعطيه الأوامر، إنها مأساة حقيقية صنعتها وسائل الإعلام والنقود المنصبة على الألسنة والأقلام، والهدف في النهاية، أقولها لكم وأهتف بها: تقويض مصر؛ مصر الإيمان، ومصر العقل، مصر العلم، ومصر الثقافة؛ ليتيح لهذه الدولة أو تلك أن تحتل مكانتها في قيادتها العالم العربي والإسلامي، ولكن عبثا ما يحاولون فالزبد سيذهب جفاء، وما ينفع سيبقى - إن شاء الله - في الأرض، أرض مصر العامرة، يا تابعي وزارات الإعلام في بعض الدول التي تهب رياحها الشرقية تحمل لنا التخلف والجمود، وتريد أن ترجع بنا القهقرى عسانا نتأخر وتتقدم هي، فلننتبه إلى ما يراد بنا، وللأسف على أيدي بعض المصريين. مرة أخرى أكتفي بالإشارة هنا، فالمسألة قد زادت على حدها، وتدخل تلك الدولة للعبث بالإنسان المسلم المصري والعقل المصري قد زاد على حده، ولا بد معه من وقفة صريحة واضحة نضع فيها النقط فوق الحروف، ونخرج النقود من الجيوب ونتفحصها لنعرف في أي بلد صكت.
إننا مسلمون أبا عن جد، مسلمون بالبلاد، ومسلمون بالاختيار، ولا نريد العبث بإيماننا هذا، ونرفض هذا العبث وندينه، والمسألة في حاجة إلى صرامة مطلقة نعالج بها هذا الخطر القادم من الشرق.
ويا إذاعتنا، ويا تليفزيوننا، ويا صحافتنا، انتبهوا حتى لا تكونوا شركاء - ولو بالجهل - بما يراد بنا ولنا.
أسرع يا بني وصور
بعيدا عن القضايا التي أصبح الحديث فيها «محلك سر»، بعيدا عن المناوشات الدائرة بين الحكومة والمعارضة، وبين الأقلام الصحفية والحكم، بعيدا عن الحديث عن الديمقراطية وعن السلفية والخلافات الطاحنة حول قضايا ما أنزل الله بها من سلطان، بعيدا عن «الحديث» عن الوفد الفلسطيني الأردني واحتمال قبول أمريكا ورفض إسرائيل، وتحسن العلاقات وسوء العلاقات، بعيدا عن الغلاء الذي يكوي القلوب والجيوب، والتسعيرة التي تظهر وتختفي كعفاريت الظهر، والخرفان المذبوحة على عتبة وزارة «التعليم»، والحمد لله أنها ليست على عتبة وزارة البحث العلمي والتكنولوجيا، بعيدا عن أزمة المسرح وأزمة الإبداع وأزمة الأخلاق، وقضية سميرة مليان.
بعيدا عن هذا كله.
لا أعيش قرير العين رائق البال، أنام نوم مستريح الضمير، فالواقع أني لا أنام إلا لماما.
ليس لأني قلق البال ولا مؤرق الضمير، والحمد لله.
ولكن لأن نفق أكتوبر تحت رأسي مباشرة!
منذ ثلاثة أشهر والدق شغال طوال الأربع والعشرين ساعة وبمختلف أنواع الدرجات والنغمات، فهناك دق متتال كطلقات المترليوز، يقوم به حفار الأسفلت الصغير ذو الضجيج العالي، وهناك دق المدفعية الثقيلة من غارسات الخوازيق الخرسانية، ودق المطارق والمعاول، وأكوام الرمل والزلط، وهي تنحدر في شلالات، ضجة تعمي العيون والآذان، ناهيك عن ضجيج الأوامر وصخب العمال والأنوار الملتهبة الضوء التي تخترق الشيش وتخرق الستائر وتفتح بالقوة أجفان العيون.
الحقيقة كانت الضجة في أول قدومها مفاجأة أقلقت مضاجع بضع مئات من سكان شارع النيل الذين شاء لهم الحظ أن يجاوروا ويطلوا على النفق المزمع إقامته.
كانت من المفاجأة والصخب، بحيث كنا لا ننام ليلا أو نهارا، وكأننا في حرب ذات غارات متصلة، وما دامت حربا فلتكن الهجرة، وهاجرنا إلى الإسكندرية، وصحيح أن شارعنا هناك لم يكن به نفق ولا حرب، فقد كان دائم الضجة، ضجة غير معلومة المصدر، ومن الصباح إلى الصباح وكأنها ضجة الجان الذي يقولون إنه يسكن أرض المعمورة.
ثم عدنا أخيرا متمنين أن تكون الأعمال الإنشائية الثقيلة في النفق قد انتهت، ولكن لا شيء كان قد تغير، اللهم إلا اختلاف النغمات وبروز بضع آلات جديدة في أوركسترا الضجة اللاهارموني.
وكنت منذ بدأ العمل قد أغلقت جميع النوافذ والمنافذ التي تطل على موقع العمل دون فائدة، فكل شيء كان يصل واضحا تماما وكأن الحفر في الشقة.
وأول ليلة بعد العودة حاولت النوم بلا أي اعتبار للضجة، فقد أصبحت الضجة ملازمة لصحونا ومنامنا بطريقة لا أعرف ماذا يحدث لنا ولنومنا إن - فجأة - سكتت الضجات كلها.
إلى الساعة الثالثة صباحا لم أستطع النوم، وما دام لا فائدة من النوم فلتكن اليقظة ولتكن القراءة، ولكن الضجة أوقفت عمل خلايا الاستيعاب هي الأخرى فأغلقت الكتاب، وقمت أتجول في الشقة شبه المظلمة التي تبدو متوهجة الضوء من فرط ما يصلها من ضجيج نهاري الطبيعة جحيمي الوقع.
ثم كان ما ليس منه بد، وفتحت نافذة مطلة على موقع العمل في النفق، فوجدت بصري يتوه، والأمكنة والأضواء والآلات تتخاطفه وتتسابق لتكون أول ما يقع عليه البصر.
نهار كامل موجود في قلب الليل البهيم، رجال رائحون غادون يبدون من العلو الذي كنت أنظر منه كائنات صغيرة دقيقة ككائنات «جوليفر» في جزيرة المغامرات التي سافر إليها، آلات هائلة الضخامة حتى إن إحداها كان يبلغ ارتفاعها سبعة طوابق من عمارتنا، وحين فتحت النافذة وجدتها أمامي مباشرة أكاد أمد يدي فألمسها.
كان ذلك منذ حوالي أسبوع، وكان النفق قد تم تبطين جانبيه بالخرسانة المسلحة، وجار العمل في حفر مجرى النفق وإزالة الأكوام الهائلة من التراب والطين؛ إذ كان تكتيك العمل على ما بدا لي هو عمل سقف خرساني على قواعد خرسانية مدكوكة، ثم إزالة ما تحت السقف من أتربة وطين لإيجاد مجرى النفق بطول آلاف الأمتار، كانت أكوام التراب الطيني من الضخامة بحيث تكون جبالا وتلالا لا يستطيع العمال تسلقها، وكان إذا أراد عامل أو ملاحظ أو مهندس أن ينتقل من حيث الأرض التي تحفر إلى قمة التل يدلي له سائق جهاز الحفر الكبير ذي اليد التي لها أصابع خمس تغترف بها التربة وتملأ عربة ضخمة في عشر قبضات من قبضاتها العملاقة، كان سائق الجهاز يدلي اليد إلى العامل أو المهندس حيث هو في القاع ثم «يغرفه» ويصعد به أكثر من عشرة أمتار ليصبح في القمة فينسل من القبضة وكأنه بطلة فيلم «كينج كونج» حين كانت تتسلل من بين أصابع يده وكأنها في حجم الدودة.
لم أفطن إلى أن النهار قد طلع إلا حين واجهتني الشمس الحمراء وهي تشرق، وكأنها جهاز إضاءة أحمر جديد أضافه العاملون في النفق فجأة.
كنت قد أمضيت ثلاث ساعات لم تتسرب إلي فيها لحظة ملل واحدة، وقد امتصني ما يدور أمامي تماما، ليس الجهد الهائل فقط، ولا الآلات العملاقة، ولا هذا التفاهم الغريب القائم بين العامل والآلة، ولا بين العمال والملاحظ، ولا بين هؤلاء كلهم والمهندس أو المهندسين، كل يعرف عمله وكل يتحرك إليه وبه، ولا كلام ولا قهقهات، ولا أجيب لك شاي، ولا توقف لشرب سيجارة أو نفس بوري، عمل دءوب تقوم به تلك الكائنات الدقيقة على وقع هدير آلات لا تتوقف وكأنها موسيقى الجيش النحاسية تلهب الحماس في ذلك الجيش الدقيق المحارب، وبعدها لم أنم، وصرت إذا عدت من عملي أنام بضع ساعات بالنهار لأسهر معظم الليل واقفا عند فتحة النافذة، لا أتفرج فقط ولا أنتشي، وإنما أتأمل وأتفلسف وتروح بي الأفكار وتجيء، كم قال الآخرون، وحتى أنا نفسي قلت: إننا شعب يميل إلى الكسل، وإننا بلا إرادة، وإن هدفنا أن نأكل ونحشي البطون ونتزغزغ بالمسرحيات والأفلام ونفرفش! ما أراه هنا شعب آخر، ذلك الجانب الأكبر العظيم من الشعب المصري الذين حين يحدد له الهدف يخلق الوسيلة، وحين يضع الهدف أمامه وتصبح الوسيلة في يده ينطلق بأقصى ما يستطيع الكائن البشري أن ينطلق.
حسن جدا أن الرئيس حسني مبارك أصر على تحديد يوم 6 أكتوبر موعدا لافتتاح النفق فقد ألهب هذا التحديد ظهور العاملين، وجعل الشركة المنفذة وهي على ما أعتقد - لأنه من مكاني لا أستطيع أن ألمح لافتة الشركة القائمة بالإنشاء والتنفيذ - شركة المقاولين العرب، جعل الشركة وجعل عثمان أحمد عثمان يستعيد أمجاده التي حققها في السد العالي ولافتاته المشهورة، باق من الزمن مائة يوم وتسعة وتسعون يوما ... إلى آخره، ويتركه من كتابة الكتب وبالذات ذلك الكتاب اللقيط «أنا والعهد البائد» ويعود إلى عمله الأصلي ينشئ المشروعات ويقبل التحدي وينجز.
لقد قرأت بحثا للدكتور عبد الكريم درويش رئيس أكاديمية الشرطة عن مشكلة الإدارة في مصر، وقد وضع الدكتور عبد الكريم يده على بيت الداء في الوجود المصري، وهو أن تخلف الإدارة بل وأحيانا انعدامها وراء الكثير، بل كل مشاكلنا الاقتصادية، أعطني إدارة جيدة أعطك إنتاجا وإنجازا، هذا هو السر وراء نجاح كثير من شركات المقاولات المصرية مثل شركات عثمان أحمد عثمان والعبد وحسن علام ومنتصر.
وحسن أن التأميم قد أشرك أصحاب هذه الشركات في إدارتها وإلا كانت قد انتهت كشركات منجزة منتجة. •••
بالأمس، وفي ظرف أيام لا تزيد عن الأربعة فتحت النافذة لأجد - ويا لدهشتي! - أن كومة من التراب الطيني الهائلة قد أزيلت تماما وسويت الأرض بتدرج محسوب بالملليمتر، بل وسفلتت وبلطت بالأسمنت المسلح، ثم بدءوا، ولست أدري، لماذا يضعون أسياخا من الحديد فوق الأرضية المسلحة، في أربعة أيام فقط صار الشارع نفقا حقا ومسقوفا.
أيقظت ابني بهاء خريج معهد السينما هذا العام وطلبت منه أن يبقى معي في النافذة بعض الوقت ليتفرج، وبرما بإيقاظه من نومه، بعد يوم هائل في عمله لإتمام مشروع تخرجه وقف متأففا بعض الوقت ثم أعجبته الآلة ذات الأصابع الخمس العملاقة وما تفعله، ثم اندمج في المشهد كله.
قلت له: لماذا لا تأخذ كاميرتك وتنزل إلى الشارع وتصور ما يدور وتصنع «الكلوزات» للعمال الصعايدة الأبطال وترينا المهندسين في لحظة عمل، وليس كما تراهم في أدوار أنيقة في سينما لا علاقة لها بالواقع؟! لماذا لا ترصد التقدم المذهل الذي يحدث للعمل كل يوم وتسجله بالفيديو؟!
قال بعد تفكير: «صحيح فكرة، بس دي حتى ما تنفعش فيلم تسجيلي.»
قلت له: «يا ابني، دعك من الأفلام والأنواع والأوهام، إنه صحيح لن يكون فيلما تسجيليا، ولكنه سيكون له عندي وعند الكثيرين أهمية لا تقدر بمال.»
قلت: كلما انتابتني فترة يأس من أحوالنا، كلما بدأت ثقتي في الإنسان المصري تهتز، كلما أحسست بالروح تصل الحلقوم، كلما هاجمني الشعور بأن لا فائدة وأن مصر حالة ميئوس منها، كلما سخطت على نفسي والآخرين، كلما بدأ إيماني بمصريتي يتزعزع، كلما حدث لي شيء من هذا، سأدير ذلك الشريط وأعود أديره وأستعيد معه ثقتي بمصر القيمة ومصر الإنسان.
أسرع يا ابني، واحمل كاميرتك ، وصور .
فما أشد حاجتنا اليوم أن نرى أنفسنا في لحظة عمل! وحقيقة فنحن لا نراها الآن إلا في لحظات كلام وكتابة وكلام ومؤتمرات وخطب ولجان، أسرع يا بني، وصور!
«إيزيس» بين الحكيم ومطاوع
«إيزيس» آخر مسرحية كتبها أستاذنا توفيق، منهيا بها عهده «الأوروبي»، فحين ذهب توفيق الحكيم إلى باريس وشاهد المسرح هناك، بهرته فكرة استعانة كتاب المسرح المحدثين بالأساطير الإغريقية القديمة، حتى إن مأساة أوديب كتبها ثلاثة أو أربعة كتاب محدثين، فقال لنفسه: لماذا - ونحن أيضا لدينا أساطيرنا - لا نستعين بها في خلق مسرح «عربي»؟! وهكذا استعان بالله وكتب مسرحية «أهل الكهف»، والحق أن المسرحية في أول ظهورها أحدثت دويا شديدا، ليس فقط في الأوساط المسرحية، ولكن - وهذا هو المهم - في الأوساط الأدبية نفسها، تلك التي كانت تعتبر المسرح نوعا من «الهلس» و«التهريج» لا يدخل تحت باب الأدب، حتى لو كان الممثل هو العملاق جورج أبيض، أو السيدة روز اليوسف، وحتى لو كانت الرواية من أمهات المسرح الأوروبي.
احتفلت الأوساط الأدبية بهذا الحدث الكبير حتى إن الشيخ مصطفى عبد الرازق - لاحظوا! الشيخ مصطفى عبد الرازق - تلقفها بترحاب هائل وأثنى على مؤلفها ثناء عاطرا، مع أن الرواية مأخوذة من النص القرآني الذي كان لا يستطيع أحد أن يجرؤ على المساس بحرفيته، وأهل الكهف، في سورة الكهف، ليس فيها «بريسكا»، ولا فيها إمبراطور روماني، ولا كل تلك الأشياء التي خلقها توفيق الحكيم تخليقا.
بعد إيزيس نفض يده من فكرة الأساطير القديمة هذه، ونتيجة لظهور «عودة الروح»، ويوميات نائب في الأرياف، بدأ الحكيم يغوص شيئا فشيئا إلى قلب المجتمع المصري، يستخلص منه مأساته أو ملهاته الحديثة، وكانت مجموعة «مسرح المجتمع» خير تجسيد لهذا.
كانت الدنيا قد تطورت، وكان جيل آخر من كتاب المسرح قد ظهر، فتبنى بعضهم قضايا طبقية، وبالذات قضايا الطبقة الوسطى وأزماتها ومشاكلها وملهاة وجودها وتعاسته، وكان صاحب هذا الاتجاه نعمان عاشور بروايتيه: «المغناطيس» و«الناس التي تحت».
ثم جذبني المسرح بقواه المغناطيسية الخارقة، وكنت قد كتبت مسرحية من فصل واحد اسمها «ملك القطن»، وأحلت قصة «جمهورية فرحات» إلى مسرحية، ولم أكن إلى لحظتها أتصور أنهما يمكن أن تمثلا على خشبة المسرح، فذهبت بهما إلى الصديق الأستاذ أحمد حمروش، وكان آنذاك مشرفا على المسرح القومي، ومشرفا على سلسلة كتب للجميع، وطلبت منه أن ينشر المسرحيتين في كتاب للجميع، فإذا به بعد يومين يتصل بي ويقول لي: «نشر إيه ده اللي انت جاي تقول عليه؟! هذه مسرحيات لا بد أن تمثل.»
وهكذا أدرجت المسرحيتان في خطة المسرح، وفعلا جسدتا، أخرج الأولى الأستاذ الكبير نبيل الألفي، والثانية المعلم الأستاذ المرحوم فتوح نشاطي، وأشهد، أن ليلة افتتاح العرض كانت من أعنف وأخصب التجارب التي مررت بها في حياتي إلى درجة أن وقفنا أحمد حمروش وأنا نبكي في نهاية «ملك القطن»، والمرحوم شفيق نور الدين يخبط «الأرض» التي تمثلها خشبة المسرح ويقول عن القطن: «أسيبه يتحرق ازاي يا ناس؟! دا تعبي! دا شقاي! دا عمري وعرقي وعيالي!» كنا نرى هذا المشهد كل ليلة وكل ليلة يبكينا المشهد.
وقيل يومها إنني استطعت لأول مرة أن أجعل من الفلاح المصري بطلا مسرحيا، كما استطعت بعدها أن أجعل من فلاحة «الترحيلة» في «الحرام» شخصية تراجيدية ترتفع إلى مرتبة التقديس.
المهم أنني بعد هاتين المسرحيتين، ونظرا للنقد الذي وجه إليهما باعتبارهما مسرحيتين من فصل واحد، وأني قادر على كتابة مسرحية طويلة، كتبت مسرحية «اللحظة الحرجة» من ثلاثة فصول، وكانت المسرحية أيضا صدمة، فقد خاف بطلها في اللحظة التي كان يجب أن يؤدي فيها واجبه وأن يدافع عن أبيه الراكع يصلي في سلام، بينما الجندي البريطاني يشهر عليه السلاح، قيل لي أيامها كيف تجعل من الرعديد بطلا؟! ولكن الدكتور لويس عوض كان له رأي آخر فقد كتب مقالا رائعا في جريدة «الشعب» يقول عن المسرحية إنها دراسة في الخوف، خوف الغازي ممن يغزو أرضه وخوف الذي غزيت أرضه من الغازي.
ولكن بعد مسرحية «اللحظة الحرجة» توقفت لأنني أدركت أني إنما أكتب على النسق الأوروبي ولا أفعل سوى تقليد راسين وموليير وأحيانا فيدو.
وأصبح هدفي - مثلما عثرت أو اكتشفت القصة المصرية العربية القصيرة مضمونا وشكلا وطريقة - أن أكتشف مسرحنا المصري العربي المتميز داخل حياتنا.
وكتبت سلسلة مقالات في مجلة «الكتاب» عام 1963 بعنوان: «نحو مسرح مصري عربي»، مبشرا بمسرح يستوحي الواقع المسرحي الحي الذي يعيشه شعبنا من «ذكر» و«زار» وربابة شاعر، وسامر، وجلوس على المقاهي، وحتى الجنازات والمعازي، مظاهر لظواهر مسرحية، من الواجب أن نستكشفها ونحيلها إلى دراما عصرية حديثة تعبر عن ذاتنا المسرحية الخاصة، وبهذا بدلا من أن نعيش عالة على التراث المسرحي الأوروبي، نشرت المسرح العالمي بمسرحنا الخاص، وعارضني معظم النقاد في هذا الاتجاه، وقالوا: لا يوجد شكل مسرحي عربي أو مصري، وإنما الموجود شكل عالمي، ضع منه ما شئت من مضمون مصري يصبح مصريا، ولما كنت أومن أن الشكل لا ينفصل عن المضمون في العمل الفني، فقد كتبت «الفرافير» كنموذج لهذا النوع من المسرح، وكان نجاحها الجماهيري يدل على أني أسير في الطريق الصحيح.
وهكذا حدث للمسرح المصري زلزال آخر، ومن الطريف هنا أن أذكر أني عرضت «الفرافير» على جميع مخرجي مصر فكانت إجاباتهم: «هذا ليس مسرحا.» الوحيد الذي أدرك ما في داخلها من جواهر مسرحية شعبية ومصرية وعربية كان هو كرم مطاوع، وكان لا يزال قادما من بعثته في إيطاليا، وليس المهم القدوم من البعثة، المهم أن هذا الشاب مخرج موهوب قل أن ترزق مصر بمثله، إن باستطاعته أن يخرج الجريدة اليومية لو يشاء، باستطاعته أن يصنع ما يشاء.
ولكن فيه عيبا واحدا خطيرا؛ إنه يدرك هذا، ويدرك أنه كمخرج يفهم في المسرح أكثر بكثير من الذين يكتبون للمسرح (في حين أن المؤلف هو الأصل، وهو الذي لا بد أن يفهم في الإخراج والتمثيل أولا).
المهم أننا بدأنا العمل في «الفرافير»، وبعد خروج العمل إلى الجمهور بدأت المشاحنات بيننا حول ما كان يجب أن يكون عليه إخراج «الفرافير»، وقد انتهت تلك المشاحنات إلى أن عرف كل منا قدر الآخر، وبدأت المودة.
المضحك أن نصابا مغربيا ادعى بعد عشر سنوات من هذا أنه هو صاحب فكرة المسرح العربي وخالقه، واسم هذا النصاب هو الطيب الصديقي، ولا يزال ينصب على العالم العربي بهذا كله، ولم يتصد له أحد ويذكره بأن ما يدعيه نصب، بل نحن هنا في مصر نردد هذا كالببغاوات وكأننا لا نعرف التاريخ أو نسيناه! •••
نعود إلى «إيزيس» الحكيم و«إيزيس» مطاوع.
أقول إن «إيزيس» الحكيم كانت آخر مسرحية يكتبها متأثرا بما رآه من إحياء الأساطير في باريس؛ إذ بعدها تحول إلى المسرح الاجتماعي، ثم إلى ما أسماه شكلنا المسرحي أو بناءنا المسرحي (بعد ظهور «الفرافير» والضجة التي قامت حول المسرح المصري) وكتب على هذا الأساس مسرحية «الصفقة»، ثم جاءت موجة اللامعقول فكتب مسرحية «يا طالع الشجرة»، ثم جاءت موجة مسرح المقاومة على يد الشرقاوي فكتب مسرحية عن المخابرات.
المهم أن توفيق الحكيم رجل يؤثر (فهو الذي جعلنا نعشق المسرح)، وأيضا يتأثر بتلامذته ومحبيه، ولكنه يخفي هذا كله في جعبته ولا ينطق عنه حرفا، أما الحكيم الرجل إذا كان بخيلا فالحكيم الكاتب أبخل من البخل! وإنه، وعمري، ما ضبطته يمتدح عملا حتى لمعاصريه إن لم يكن لتلاميذه، هو يمتدحهم إذا كان الأمر بينه وبينهم، أما كتابة وأما علنا فلا، والآن جاء كرم مطاوع ليقدم «إيزيس» عام 85.
وليقدمها على مسرح جديد تماما، المسرح القومي بعد تجديده.
ودعونا من الخناقات التي حدثت حول تقديم «مجنون ليلى» كافتتاح، أو حول تقديم «إيزيس»، فهذه خناقات أصبحت في ذمة التاريخ.
دعونا ندخل المسرح القومي هذه الليلة لنشاهد افتتاح «إيزيس» 85 في حضور رئيس الجمهورية.
وأبدأ فأقول إني رغم أن الموعد يذكر السادسة والربع كميعاد لبدء العرض، إلا أنني ومنذ الساعة الخامسة، وأنا أطوف بكل شارع يؤدي إلى ميدان العتبة حيث المسرح القومي، ولدهشتي وجدت قوات المرور والأمن المركزي قد «احتلت» منطقة وسط البلد بأسرها، وكأن ثمة مؤامرة من سكان القاهرة لمحاصرة الرئيس واحتجازه، إنني لم أر هذا في بلد من بلاد العالم أبدا، أن تحتل قوات الجيش «الأمن المركزي» والبوليس كل شوارع وسط المدينة من الساعة الرابعة إلى التاسعة، وكل هذا لأن موكب الرئيس سيمر أو أن ضيفا هاما سيعبر، إن هذا منتهى عدم الثقة في المواطنين، ومنتهى إظهار العضلات للأمن المركزي والشرطة؛ فالرئيس في العادة يقابل بالترحاب حتى من الجماهير المتجمعة في الشوارع تهتف باسمه، فما بالهم وهم يعاملون الجمهور وكأنه سيتلقى موكب الرئيس بالحجارة أو بالرصاص، نحن شعب أكثر رقيا من كل الأجهزة القائمة على حراسة الرئاسة وغير الرئاسة، وفي الحقيقة نحن الذين نحرس الرئيس، أو بعض الرؤساء، وليس حراسه الخصوصيين أو العموميين، ولقد صرع المرحوم الرئيس السادات وهو في قلب حراسته الخاصة محاطا بكم هائل من القوات المسلحة والطائرات المحلقة.
لي رجاء إلى السيد وزير الداخلية أن يغير من هذا النظام الذي يربك حياة الناس ويعطل مصالحهم ويزيد السخط في نفوسهم، فالرئيس المحبوب تحرسه قلوب الشعب، وما تفعل قوات الأمن والشرطة إلا أن تحول بين هذا الحب وبين أن يصل إلى قلب الرئيس.
وصلت إلى مسرح الأزبكية، وفحصتني كل الأجهزة الإلكترونية التي طلعتني براءة والحمد لله، وكنت قد نسيت تذكرة الدخول، وحمدا لله أن ضباط رئاسة الجمهورية بدا وجهي مألوفا لديهم وإلا لما كنت حضرت العرض الذي أنا مدعو إليه.
دخلت المسرح، ساحة المسرح الخارجية أصبحت في منتهى الجمال والتنسيق، دلفت إلى الصالة فصدمني المشهد، زخارف كثيرة مذهبة وكأننا في مسرح مدينة بترولية، خشبة المسرح وضعها سقيم، المسافة بين الخشبة والمقاعد بعيدة أكثر من اللازم، ومغطاة بطبقات كثيفة من سجاجيد المآتم، وحتى ليست موضوعة بترتيب وتنميق، وإنما هي موضوعة «كلشنكان» بحيث تعتلي حافة الواحدة الحافة الأخرى في مشهد لا يبعث أبدا على الاحترام.
المسرح نقص ما لا يقل عن المائة كرسي وأصبح في حجم مسرح الجيب.
خرجت إلى الصالة ثم إلى الخارج لأشاهد هذا الذي أنفقوا عليه ملايين الجنيهات، فإذا بي أجد زخرفة إسلامية لا علاقة لها بالزخرفة الإسلامية الحقيقية التي كنا نصنعها منذ أيام أحمد بن طولون، مساحات رهيبة فارغة تملأ الجدران الخارجية، وليس بداخلها ما ينم على أن هذا مسرح أو مسجد أو معبد يهودي، أين صرفت تلك النقود كلها، وما رأيته لا يمكن أن يتكلف أكثر من مليون جنيه؟! أريد من السيد رئيس الوزراء والسيد وزير الثقافة أن يشكلا لجنة من كبار أساتذة الهندسة المضموني الذمة يقدرون حجم الإصلاحات، وكم النقود المنصرف ويحاسب المختلسون؛ فإني واثق أن هذه العملية قد اختلس منها ما لا يقل عن الثلاثة ملايين جنيه. •••
ثم بدأ العرض المسرحي، وفي ذهني سؤال: ترى ماذا سيفعل كرم مطاوع «بإيزيس» الحكيم؟ و«إيزيس» الحكيم كانت أسطورة «محترمة» لقصة إيزيس وأزوريس وحورس وتيفون، واغتصاب الملك من أوزوريس وقتله ثم إصرار حورس؛ أسطورة بسيطة بساطة الأقاصيص الفرعونية القديمة مثل الفلاح الفصيح وكتاب الموتى ومسرحيات الكهنة.
طبعا من المستحيل أن يخرج كرم مطاوع إيزيس الحكيم بنفس بساطتها، إذن، أين دوره هو كمخرج؟! وهكذا أخرج كرم مطاوع النص عن بساطته أولا، وعن الحكيم ثانيا، وبهذا فهي في الحقيقة «إيزيس» مطاوع، وحتى لو كان عدل فيها - كما يقول الرواة - توفيق الحكيم فهو قد فعل هذا بتنويم مغناطيسي إخراجي من كرم مطاوع.
وهكذا من الأسطورة البسيطة خلق كرم «أوبريت» ملأها بالرقص والغناء المصري والشامي والزار ومجاميع لا حصر لها، كان على المسرح أحيانا ما يزيد على السبعين ممثلا وممثلة، وإذا عرفت أن المسرح لم «يكنس» منذ إنشائه وكنت تجلس مثلي في الصف الأول، لأدركت مدى ما دخل صدري من غبار وتراب سببه دبدبة هذه العشرات من الراقصين والراقصات فوق الخشبة المليئة بالتراب وتصاعد هذا التراب على هيئة سحب خانقة تملأ الصالة الصغيرة إلى حد الحلقوم، أما كان هناك عاقل واحد يفكر قبل العرض في كنس الخشبة ورشها لتصبح مكانا جديرا بالعرض لتلك العشرات من المجاميع؟!
باختصار شديد ذهبت أتفرج على توفيق الحكيم فاستولى على عقلي كرم مطاوع بكثرة المجاميع والأغاني والراقصات، وكأنه أدخل إلى خشبة المسرح فرقة من الأمن المركزي لتحافظ هي الأخرى على حياة الرئيس وكبار المدعوين.
أجل، أحالها كرم مطاوع إلى أوبرا، ولو كان كرم مطاوع في ظروف نفسية أصلح، ولو كان لم يشغل وقته، رغما عنه في خناقات ما أنزل الله بها من سلطان حول المسرح الذي تعرض فيه مسرحيته، ولو أضاف قليلا، بل لا بد أن أقول كثيرا، من الشاعرية، لا للديكور أو للرقصات، وإنما للمواقف الإنسانية العميقة التي تحفل بها الأسطورة، مثل مشهد لقاء إيزيس بابنها حورس بعد غيبة خمسة عشر عاما، ولو جعل حورس يتحدث عن أبيه المقتول حديث ابن قتل أبوه ولم يره، ولم ير استيلاء تيفون على الحكم، ولو توقف قليلا عند مشكلة الحكم، ومن يحكم من، وهل الحكم للقوة أو للعدل، و... و... كثير من المشاهد التي كانت في حاجة إلى كتابة درامية حديثة، ومراجعة متأنية لكل جملة من جمل الحوار.
لو كان قد فعل هذا لكانت «إيزيس» أروع عمل إخراجي تم على المسرح المصري، ولكن هكذا شاءت العجلة، وإصلاح المسرح، والخناقات والظروف النفسية الضاربة أطنابها في هيئة المسرح بشكل عام، وفي وزارة الثقافة بشكل خاص.
ورغم هذا «فإيزيس» عرض مسرحي - رغم كل شيء - استمتعت به أنا وغيري غاية المتعة، استمتاع المستيقظ لتوه بعد غفوة إغماء طويلة، لقد عاد المسرح، لقد عاد! ها هو يتثاءب ويتمطى ولكن الحياة دبت فيه دبيب أرجل الكومبارس والراقصين، عادت الروح ترفرف في سقف مسرح الأزبكية العتيق، عدنا نذهب إلى المسرح.
أما أن يحضر الرئيس مبارك هذا الافتتاح، فتلك لفتة لا أظنها تخفى على أحد، لقد أراد بها فيما أظن أن يطيب خاطر الفنانين الذين انهالت عليهم الصحافة بالهيروين والكوكايين والانحلال، وأراد أن يقول أنا مع الفن الجاد (أي مع القطاع العام)، وأنا مع العمل الجاد حتى لو تكلف «350 ألف جنيه».
وهذا في حد ذاته انتصار كبير للعائلة الثقافية المسرحية، شكرا يا ريس، وشكرا أنك اصطحبت السيدة حرمك، فلي أكثر من خمسين عاما أعيش على الأرض المصرية وأحضر مسرحيات واحتفالات لم أشهد خلالها رئيس جمهورية جادا يحترم حضور المرأة ويصطحب زوجته لتحضر معه، وفي نفس اللوج، عرضا مسرحيا، إن هذا ما يسمونه التحضر الحقيقي، أما المخجل حقا فهو أن عدد المدعوات كان قليلا جدا، مع أن حدثا كهذا يعتبر في البلاد المتحضرة عيدا اجتماعيا وفنيا خطيرا تستعد له المهتمات بالفن - وما أكثرهن في مصر! - استعدادهن لحفل زفاف عزيز. •••
ولا أستطيع أن أنهي كلمتي قبل أن أقبل صلاح جاهين على أغنيته التي أرشحه معها لأن يبدأ كتابة أوبريتات من تأليفه.
كذلك لا أستطيع أن أنهي كلمتي قبل أن أشيد بسهير المرشدي إشادة خاصة، فقد نضجت الممثلة الشابة نضوجا جعلها تشرخ قلبي بإحساسها بعد أن كانت تشرخه بصوتها العالي، الآن هي تؤدي من الداخل، والداخل يصل مباشرة إلى الداخل، ويعتصره، هنيئا لك بدور العمر هذا يا سهير، وأرجو أن يكون بداية، مجرد بداية لمرحلة تجعلنا نغلي بالغضب وبالرضا، بالسخط والإشفاق، بالدموع والضحكات، وأنت تهمسين، فقط تهمسين.
مبروك يا أستاذة سميحة أيوب لافتتاح مسرحك.
مبروك يا كرم مطاوع بإيزيسك الصاخبة.
مبروك يا سهير المرشدي على سهيرك الجديدة.
لكي نعيش الحاضر لا بد أن نعرف المستقبل
منذ عام أو أكثر كتبت سلسلة مقالات، أحاول أن أشخص فيها سر «عدم خلو البال المصري»، وكان الاستنتاج الأكبر الذي وصلت إليه أن كثيرا من الارتباكات السائدة في حياتنا، على المستوى العام وعلى المستوى الفردي، على مستوى الحكومة، وعلى مستوى المعارضة، يكمن في تخوفنا أو بالأصح عدم تأكدنا من المستقبل، وقلت في تلك المقالات إن الإنسان كما أنه كائن له تاريخ وواع بتاريخه هذا، فإن إحدى خصائصه المهمة الخطيرة أنه كائن يعي أيضا أن له مستقبلا، بل إنه ليعيش الحاضر، ويعود يستوحي التاريخ ويذاكره خدمة للمستقبل، لتحديد ذلك المستقبل ونوعه ودوره فيه، بل حتى إنه لا يعيش الحاضر، لكل ما قد يبدو أنه مجرد وجود في الحاضر، إلا من أجل التمكين لمستقبله.
بمعنى أنه لا يمكن لأمة أن ترتب حياتها على أساس وجودها اليوم فقط، وإنما كلها في الغالب تعمل لدنياها وكأنها ستعيش أبدا، بينما هي تعمل وكأنها ستموت غدا، لآخرتها فقط وليس لدنياها.
ولقد أسعدني أنني لم أكن وحدي الذي فكرت وأفكر في هذا كله، ففي حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل لجريدة أخبار اليوم ذكر ما أسماه المشروع القومي العام، بمعنى أننا صحيح لدينا تعدد أحزاب وحريات ديمقراطية لا بأس بها، ولكن الأمم لا تقوم بهذا، وإنما تقوم الأمم؛ حكومة ومعارضة وأحزابا ومستقلين وجماهير عادية بهدف قومي عام تسعى لتحقيقه، ويشكل بالنسبة لتفكيرها على المستوى الفردي والجماعي ما أسميته ب «المستقبل» والسعي لتصور وتأكيد العمل من أجل هذا المستقبل، إذا اتفقنا جميعا على تصور واحد، وإن يكن مختلفا في جزئياته وتكتيكاته وطرق الوصول إليه، إذا اتفقنا على ما يمكن أن نصنعه بمستقبلنا «العام» وتبينت لنا خطوطه ولو العريضة جدا - لأمكن لكل منا كفرد، ولكل حزب كحزب، ولكل جهاز كدولة، أن يطمئن إلى أنه يسير في طريق معروف سلفا إلى أين يؤدي، ونهايته أيضا تكاد تكون معروفة.
وربما من أجل افتقارنا إلى هذا التصور العام لمستقبلنا، يرتبك حاضرنا ويشتد بنا الارتباك، ولا نستطيع أن نفرق بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، بين ما هو ملح، وما يمكن تأجيله، سؤال مشروع تماما، فنحن مثلا كنا نعرف أن علينا ديونا، متى نسددها؟ وكيف؟ وهل يأتي اليوم الذي نتوقف فيه عن الاقتراض وعن الاعتماد على المعونات؟ أو أنه لن يأتي أبدا؟!
مشكلة الديون هذه جزئية واحدة من جزئيات رؤيتنا الشاملة إلى المستقبل أو بالتعبير الهيكلي المشروع القومي العام.
ذلك لأنه توجد جزئيات أخرى كثيرة جدا، فجانب المشاريع الكبرى والطرق والكباري والخدمات هي كلها موجهة لخدمة المصريين الذين يحيون اليوم أو على الأكثر في الغد القريب، ولكن مصر كدولة ستحيا ربما للآلاف من السنين المقبلة، فلنتواضع ولنقل على الأقل للمائة عام المقبلة، فهل ما نقوم به من خدمات الآن، وهي جليلة ما في ذلك شك، كاف لكي نرى من خلاله مستقبل مصر، أي مستقبل أولادنا وأحفادنا وكيف يكون؟
إنني هنا أؤكد أن كل مشاريع الخدمات في مصر - مهما بلغت ضخامتها - لا يمكن أن تطمئن المواطن أو الحزب أو الجهاز على مستقبلنا، فهي مشاريع لخدمة الحاضر، ونحن لا يمكن أن نبني الحاضر على أسس سليمة إلا إذا كنا نرى المستقبل بوضوح تام، أو على الأقل بشبه وضوح.
ونفعل هذا رغم أن كل الأحداث، خاصة الأخيرة منها، تهيب بنا أن قد آن الأوان ليجتمع شمل المصريين حول رؤيا للمستقبل وكيف يكون؛ إذ بدون هذا سوف نظل نتخبط، ونحيا يوما بيوم، و«طقة» «بطقة»، وتظل أفعالنا ليست مبنية على خطة كبرى ننفذها على خطوات، وإنما مجرد ردود أفعال، إما أن نحاول اتهام الآخرين بأنهم وراءها، وإما أن نحاول تجاهلها، وإما أن نتشاغل في مشكلة فرعية تصبح وكأنها مشكلة الساعة، ونفعل هذا حكومة ومعارضة.
ولأضرب مثلا.
في الأسبوعين الماضيين ناقش مجلس الشعب استجوابا قدمه الأستاذ يس سراج الدين عن «هبوط» مستوى برامج التليفزيون، وعن حكاية القناة الثالثة، وعن غياب المعارضة عن الشاشة الصغيرة وميكرفون الإذاعة.
ولسوء الحظ قدم الاستجواب والمعركة مستمرة بين المعارضة والشارع المصري من جهة وبين مصداقية بعض الأجهزة الحكومية والإعلامية من جهة أخرى، وكان حريا بدلا من أن نظل لمدة يومين كاملين نستمع إلى آراء ما أنزل الله بها من سلطان حول القناة الثالثة وماهية المواد التي تقدم فيها، وحول وصول نجوم المعارضة إلى الشاشة الصغيرة أو حتى الكبيرة، كان حريا أن يتحول مجلس الشعب إلى قاعة لا حزب أغلبية فيها ولا معارضة، وإنما إلى مؤتمر وطني كبير يناقش فيه فلسفة إعلامنا بالدرجة الأولى.
فوزارة الإعلام منذ أن تولاها المرحوم صلاح سالم في أول الثورة إلى أن تولاها الوزير صفوت الشريف ومر عليها الدكتور عبد القادر حاتم والمرحوم جمال العطيفي والأستاذ فائق والأستاذ محمد حسن الزيات، جميعا وإلى الآن ينفذون فلسفة إعلامية واحدة، تلك التي تمنح أو تمنع الأخبار حسب ما تراه الدولة ومصلحتها، وحسب ما يشتمون من اتجاهات رئيس الدولة، ابتداء من الرئيس جمال عبد الناصر إلى الرئيس حسني مبارك.
حدثت تغيرات كثيرة في الأربعة والثلاثين عاما الماضية، ولكن بقيت فلسفة الإعلام المصري كما هي لم تتغير؛ لا لعيب في هذا الوزير أو ذاك، ولا لأن هذا أكثر تبحرا في العلوم الإعلامية من ذاك، وإنما لأن التوجيه واحد والتوجه واحد.
وكان حريا بنا، وبالذات منذ أن تولى الرئيس مبارك الحكم، وأصبح تعدد الأحزاب واقعا ملموسا، وأصبحت صحف المعارضة تنشر كل ما يعن لها وما لا تستطيع حتى أن تغذيه المحطات الأجنبية، كان حريا بنا أن نبدأ نفكر في فلسفة جديدة للإعلام القومي (أو الحكومي إن شئت)، فلسفة جديدة؛ لأن الخبر الذي لا تنشره «الصحف القومية» تنشره صحف المعارضة بأعرض بنط ويحتل مساحة من اهتمام الرأي العام أكثر بكثير مما لو كانت الصحف القومية قد نشرته بكل الحقيقة والموضوعية؛ ذلك لأن الرأي العام يتصور أن مجرد عدم نشره في الجريدة القومية معناه أن وراء هذا «التعتيم» الإعلامي ما وراءه، وأن الحقيقة أدهى وأمر، في حين أن من الممكن ألا يكون هذا هو الوضع.
ولكنها «الفلسفة» التي تعتبر أن نشر أي خبر فيه مساس بأي جهاز من أجهزة الدولة خطيئة كبرى، تلك الفلسفة التي تؤدي بالدولة نفسها إلى أن تركب رأسها ولا تستجيب لضغط الجماهير و«تغير» أو توقف الموظف المتهم أو تأمر بتكوين لجنة لتقصي الحقائق في قضايا أصبحت محل شك عام، وكأنها تتصرف باستمرار على أنها حكومة متهمة وعلى أن الاتهام حقيقي، ومن واجبها أن تتستر عليه، في حين أن حكومة كالحكومة المصرية مترامية الأطراف، فيها الفاسد وفيها الشريف النظيف، فيها المرتشي وفيها الذي يترفع عن أي هوى، ومن المحال أن يكون كل موظفيها أو كل أجهزتها يقوم عليها ملائكة لا يخطئون ولا يقترفون أي إثم!
كان مفروضا أن تتحول قاعة مجلس الشعب، لا إلى مبارزة «راديفير» بين المعارضة والحكومة، ولكن إلى مؤتمر قومي عام، يناقش بهدوء شديد وبكلمات معدة، وبمعلومات «فلسفة» الإعلام التي تسيطر عليه الدولة، سواء أكان إذاعة أم صحافة أم تليفزيونا تجاه أوضاعنا الجديدة في ظل التعدد الحزبي والإعلامي، فالخطأ ليس خطأ الشريف أو رئيسة التليفزيون أو رئيس الإذاعة، الخطأ خطأ الفلسفة التي قام بها وعليها الجهاز، والذي تغيرت العصور وتراكمت الطبقات الجيولوجية بعضها فوق بعض من حكم اشتراكي شامل إلى منابر، إلى حزبية وتعدد، من مصر كلها قطاع عام، إلى مصر قد أصبح قطاعها الخاص هو الغالب، من مصر لا تستورد، وإنما تنتج من الإبرة إلى الصاروخ، إلى مصر تستورد الإبر والمسامير وتستعير من أمريكا الصواريخ، أيمكن أن يحدث هذا كله ويظل الإعلام هو الإعلام، وتظل فلسفته هي نفس الفلسفة؟!
مستحيل!
ولا يزال الأمر أيضا مستحيلا.
فلا بد من تغيير فلسفة إعلامنا لتتلاءم مع أوضاعنا الجديدة، ويصبح الوزير أو المسئول الذي يخرج على تلك الفلسفة هو المخطئ وهو الواجب محاسبته، أما الآن فالحساب لا بد أن يكون للفلسفة التي يحكم على أساسها الوزير، والتقاليد التي جرت عليها أجهزة الإعلام منذ قيام الوزارة الأولى إلى الآن.
هذه الفلسفة الإعلامية الجديدة لا يمكن أن تشكل هي الأخرى وتتبلور إلا في ظل رؤيا واضحة للمستقبل أو هدف عظيم نحلم به للمستقبل أو للمشروع القومي العام؛ إذ إن تحديد ذلك الهدف، وتحديد إلى أين نحن سائرون سيحدد لنا بالضرورة والتأكيد كيف نسير الآن وكيف نمضي، ليس فقط في أجهزة إعلامنا، ولكن في قطاعنا العام، في تسليحنا، في ديوننا وكيف نسددها، أو كيف نشترك مع الآخرين المديونين ونكون - على غرار دول عدم الانحياز - ما أسميته في مفكرة سابقة منظمة الدول المديونة أو اختصارا «م. د. م».
أخذنا مثلا من الإعلام، والآن نأخذ مثلا آخر، ويا له من مثال عجيب! فبعيدا عن الأمثلة الحساسة الأخرى التي تساقطت فوق رءوسنا طوال الأشهر الثلاثة الماضية، لنأخذ مثلا قريبا جدا، حكاية الصيادلة والصيدليات، كانت مصلحة الضرائب تحاسب الصيادلة بخصم 2٪ من ثمن الدواء من المنبع، والمنبع كان كله - إلا فيما ندر - شركات قطاع عام تنتج الأدوية وشركات استثمار مشتركة، وكانت جميع تلك الشركات تورد ما تحصل عليه من ضرائب إلى وزارة الخزانة.
ظل هذا يحدث منذ سنة 1971 إلى هذا العام، حين قرر فجأة الدكتور صلاح حامد إلغاء هذا النظام، واتباع نظام مأموري الضرائب الذين يذهبون لكل صيدلية ويفتشون على مبيعاتها ويقدرون جزافا بالطبع ، فليس معقولا أن يرابط في كل أجزخانة مأمور ضرائب ليل نهار لحصر ما تبيعه الصيدلية من أدوية، وما ينتج عن هذا البيع من أرباح، يعني أولا هو نظام غير قابل للتنفيذ العملي إلا لو عينا مائة ألف مأمور ضرائب خصيصا للأجزخانات، وثانيا ليس من المعقول أن يظل نظام ساريا لمدة خمسة عشر عاما ثم يعن لوزير المالية أن يصدر قرارا يغير به النظام فجأة فيربك الدنيا كلها، وأول من يربك هم الصيادلة، وإذا بالصيادلة المرتبكين بهذه الكارثة التي تتهددهم بالتقدير الجزافي، يجتمعون ويقررون العمل ثماني ساعات فقط في اليوم، وإغلاق الصيدليات من الساعة السادسة مساء، بينما عيادات الأطباء تبدأ عملها في السادسة مساء، وكل مريض يخرج من عند الطبيب بروشتة يريد صرفها فإذا بالأجزخانات كلها مغلقة، والمفتوح فقط هو الأجزخانات الليلية، وهي الأخرى فارغة تقريبا من كل الأدوية الهامة التي يحتاجها المريض خاصة في الحالات الحادة.
وفي مدينة كالقاهرة مقدارها عشرة ملايين نسمة لا تفتح فيها ليلا إلا أقل من سبع أجزخانات متباعدة تباعد الزهرة عن المشتري.
أبعد هذا ارتباك في التخطيط والتنفيذ؟!
ألا يدل هذا على أن الوزراء مشغولو البال بطريقة لا تتيح لهم التفكير العلمي لحل المشاكل؟!
أنا أفهم أن يعتقد وزير المالية أن التقديرات الحالية للضرائب على الأدوية غير كافية، وأنه لا بد من رفعها، وهذا حقه، ولكن الذي ليس من حقه أبدا هو أن يصدر قرارا من جانبه وحده بهذا النظام، كان لا بد من دراسة الموضوع من جميع نواحيه والاتفاق مع نقابة الصيادلة وإيجاد حل عادل للمشكلة.
أما هذه القرارات غير المدروسة فقد أدت إلى مأساة لم يكن ضحيتها الوزير ولا الصيدلي، ولكن كان ضحيتها آلاف المرضى المساكين الذين يجوبون القاهرة من أقصاها إلى أقصاها بحثا عن دواء ربو ناقص أو دواء مسكن لمغص مروع وأغلبهم من الفقراء الذين لا يملكون ما يستطيعون أن يدخلوا به مستشفى من مستشفيات الانفتاح وقضاء ليلة تكلفه فوق المائة جنيه من أجل الحصول على الدواء، أما مسألة صيدليات المستشفيات العامة الحكومية فقلبي مع الصديق الكبير الدكتور حلمي الحديدي الذي وجد نفسه - وهو المسئول عن صحة الشعب ودوائه - بين مطرقة الدكتور صلاح حامد وسندان إخواننا الصيادلة الذين فاجأتهم مطرقته، ولم يكن أمامهم من خيار إلا بأن يستغيثوا بالرأي العام، ويا لها من استغاثة ضحيتها هم المرضى المساكين!
موضوع الضرائب هذا سواء على الصيادلة أو الأطباء أو المحامين أو غيرهم، ذلك الموضوع الذي يصرخ منه الجميع ما عدا تجار المخدرات الذين يربحون الملايين.
مواضيع خطيرة جدا كهذه تتعلق بصحة المواطنين ومدى الترابط القومي بين فئات الشعب، ومدى رضا الشعب عن حكومته، حكومة تتخذ فيها القرارات هكذا عشوائية، كالقرارات الاقتصادية، مع أنها كلها لا بد أن تدخل في صميم رؤيا الحاضر على ضوء المستقبل، ورؤيا المستقبل على ضوء الحاضر، والتجهيز للحاضر والمستقبل بدراسات سريعة عاجلة تأخذ في الاعتبار كافة الأطراف وتتبين كافة المحاذير.
وإذا كانت القرارات الاقتصادية العشوائية قد أضرت ببعض تجار العملة وبعض ملاك الدولار، فالقرارات الضريبية العشوائية تضر ملايين المواطنين الفقراء الذين يئنون حتى مطلع الصباح.
إني أرجو من السيد وزير الصحة أن يسارع فورا إلى التوسط بين نقابة الصيادلة ووزير المالية لإنهاء هذا الوضع الذي تجأر منه الجماهير، لقد رأيت بعيني أكثر من مائة وخمسين مريضا أمام صيدلية الإسعاف وحدها وبعضهم في حالة من الإعياء لا يمكن أن يتحمل الإنسان أن يرى حيوانا يعاني منها.
أرجو أن يفصل هذا ويفض المشكلة، فالموضوع أخطر بكثير مما يتصور الجالسون على كراسي الوزراء، والشعب قد بلغ به التعب الزبى فلا تتركوا له حتى حق الدواء!
غير أن الحديث عن المستقبل لم ينته بعد، فهو موضوع حياتنا اليوم وغدا، حياتنا أو موتنا.
حتما سأكتب قصتها
أريد أن أكتب قصة؛ قصتها، حديثة جدا وقريبة جدا، فقد وقعت أحداثها خلال أيام قليلة مضت، عرفناها وشاهدناها وأثقلت قلوبنا جميعا بهم من الصعب أن يزول.
قصة حديثة لأني كففت عن قراءة القصص التي تبدأ بكانت الرياح تزوم، والقمر محاقا، والدنيا بين صيف وشتاء، كففت عن قراءة قصص تحدثني عن إنسان يشكو الظلم أو الوحدة أو انعدام الهدف.
كففت عن قراءة قصص الخيال الطفولية، وكأنما تكتب من أطفال ليقرأها أطفال، كففت؛ لأن ما يدور بنا وأمامنا ونعيشه أصبح أكثر فاعلية بكثير من أي خيال، ومن أي رعب مصطنع، ومن أية كوارث قرأنا عنها في التاريخ.
ماذا يكون شعر الخنساء، أو تكون تراجيديا «أوديب» أو «هاملت» الذي يتأرجح بين أن يكون أو لا يكون؟! كل ما كتبته البشرية بخيالها وتجاربها لا يقارن بما يحدث أمامنا في واقعنا الآن، بل وعلى الساحة من حولنا، وفي العالم.
فهي قصة أبطالها رؤساء دول، وفتيان عرب، وقنابل وطائرات مخطوفة، وسفن مأسورة، وبنات شجعان، ورجال حبسوا فماتوا مخنوقين بجبنهم، قصص بطولات، وعبث أخرق مجنون، ورجال تعصف الأوضاع بأفئدتهم وعقولهم، ورؤساء عرب عناتيل محتمون في جحورهم المحروسة بالدبابات ومحاطون بالمرتزقة، وهم بكل إجرام وجبن يصدرون الأوامر بالاغتيال والاقتتال، قصة دولة عنصرية قامت على المذابح وبالمذابح، وتعيش بالترويع، ودولة كبرى في مساحتها وثروتها، صغرى إلى أدنى حدود الصغار في سلوكها وقيمها، قصة عالم عربي جاءته أعظم رسالات من السماء فأصبح بها ذات يوم أعظم الشعوب، ثم تفجر له من باطن الأرض شيطان أسود يحاول أن ينهش رسالته العظيمة ويلتهم إنسانيته، ولا يبقي له سوى نفس مريضة أمارة بالسوء والجشع واجتثاث الضمير.
أريد أن أكتب قصة، قصتها.
ولكنها ليست قصة مجردة حدثت من فراغ وفي فراغ.
إنها قصة حدثت ودارت في قلب وخلفية الجحيم الذي نحياه.
وأبطالها كلهم وكأنما يساقون إلى مصيرهم وحتفهم بقدر لا يستطيعون منعه أو دفعه أو حتى تحويل مساره. •••
ثلاثة فتية عرب.
أحدهم ولد - حيث يقول - في قرية يحتسي فيها أبوه زيت الزيتون كل صباح ليكتسب الصحة والقدرة وطول العمر والبقاء، ومات هو - الفتى - مجندلا في طائرة مصرية، كان ينوي أن يقتل - وقتل - كل ركابها الذين لا ذنب لهم ولا حول إلا أنهم ركاب طائرة مصرية.
وزميلاه اللذان قابلاه في أثينا، لأول مرة يلتقي الثلاثة، عربا كنا ونبقى عربا، لا يعرف بعضهم البعض ، بل حتى لا يعرفون مهمتهم، وإنما بكل براءة وسذاجة وضياع تلقوا الأمر من قائد خسيس؛ لكي ينقذوا فلسطين والقضية، لكي تكونوا أبطالا خذوا هذه المسدسات والقنابل واخطفوا طائرة العدو المصري اللدود ونفذوا التعليمات.
لم يتوقف أحدهما ليناقش ما علاقة إنقاذ فلسطين بقتل ركاب مدنيين أبرياء؟! وهل الطائرة المصرية التي تقل فلاحين مصريين وركابا أجانب هي طائرة معادية مثل التي تخرق حاجز الصوت فوق بيروت كل يوم، وتدك البقاع دكا دكا، وتمسح قرى ومدن الجنوب اللبناني بلا أي ذرة رحمة أو هوادة.
أبدا، لم يتوقف أحدهما ليناقش نفسه أو قائده، فهو شاب عربي يريد الخلاص، وقد أقنعوه أن الخلاص في اقتناع قيادته، وثقته في تلك القيادة لا حد لها.
فإذا كان قد تشكك أو تردد فإنهم كانوا يقولون له: وهل كان الفلسطينيون في دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشتيلة من العسكريين أم كانوا من الأطفال والنساء المبقورات البطون البارزات الأشلاء والأجنة؟!
إننا نحارب إرهابا بإرهاب، وأعداؤنا إرهابيون سابقون، وهكذا يجب أن نكون لنهزمهم، وننتصر، ونسترد الأرض والعرض، غافلين عن الحقيقة التي يرددها دهاة الصهيونية أنفسهم من أن أخطر شيء على الإنسان أن يتبنى منطق عدوه، وما دام منطق عدوه هو الإبادة والذبح والإرهاب، فهكذا لا بد أن نرد ناسين أن العدو هو الذي يريد بالضبط هذا، فكيانه قائم على الإرهاب ويموت الكيان لو توقف الإرهاب، ولكي يرهب عليه أن يعتمد على بعض الحوادث الإرهابية التي نقوم بها نحوه؛ ولهذا فمن مصلحته القصوى أن يستمر إرهابنا الصغير نحوه ليسدر في إرهابه الكبير هو، ولكن ...!
ولكن تلك طائرة مصرية وركابها معظمهم عرب ... و...!
فيجيب القائد الحكيم الخطير: إن مصر تقود القضية للسلام، والسلام ضدنا، السلام على طريقة عرفات ومبارك وحسين وصدام و242، 338، إنه نفس الطريق إلى الكامب، وإلى الخيانة فاذبحوا الركاب ذبحا، فنحن نريد قطع هذا الطريق، فلو نجحوا لضاعت القضية، ضاعت القضية! أترضون هذا؟!
وبالطبع لا يرضون، وأمرك يا سيدي، هات البنادق والقنابل، وإلى اللقاء المرتقب في أثينا. البطل المجهول الثاني، يوناني أرزقي، عرضوا عليه كذا ألفا لقاء أن يحمل لفافة من طائرة عربية إلى طائرة عربية أخرى رابضة بجوارها تماما.
يوناني كادح، ماذا يهمه هو، أن تنتقل لفافة مهما كانت محتوياتها، من عربي إلى عربي، أو حتى من يهودي الموساد إلى عربي طالما سيقبض مبلغا من المال يضمن له العيش المريح لعدة سنين؟! ولو علم أن بالطائرة ثلاثة عشر يونانيا سيدفعون بأرواحهم وبأطفالهم ثمن هذه السنوات المريحة، ربما كان قد تردد، ولكن مثلما الحب يعمي ويصم، فالمال أيضا يعمي، خاصة الضمائر، ويصمها.
وهكذا ترتحل الطائرة، حاملة في جعبتها كل متناقضات العالم العربي والعالم عامة، عربا وإسرائيليين وأمريكان، ويونانيين، وحتى فلبينيين وخادمات فلبينيات، لتكمل المأساة.
وهكذا تتحول القضية العربية والفلسطينية من مقالات يدبجها إخواننا الكتاب والمفكرون العرب، مقالات تستهلك مئات الملايين من الكلمات، وآلاف التحليلات والتصورات، ومئات الخطب والتصريحات، تتحول وتصبح كائنات حية، نفذت كل هذه المجاري من الكتابات والتصورات إلى كياناتها الداخلية، وأصبحت الخطب بشرا، وأصبح الاستنكار قنبلة ومسدسا، وأصبحت القضية من كفاح رهيب في سبيل الحق والعدل والحرية إلى أبشع قيم مما قد يحفل بها قلب بشر، ألا وهي أن نأخذ الشخص البريء بذنب المسيء، وأن يواجه الأعزل ويقتل بالسلاح في وجهه وأمام عينيه، لا يصبح في قلب أي إنسان ذرة من بطولة أو شهامة أو إنسانية، إنما هي الكراهية العمياء في أحط صورها، إنما هي الكائن البشري حين يتحول إلى الإجرام وسيلة لحل قضية مقدسة.
في غمضة عين كانت الطائرة مخطوفة.
وكان الأبطال المغاوير الثلاثة قد سيطروا على الموقف تماما وألقوا أبشع أنواع الرعب في قلوب الركاب، وحتى في قلب موظفي الأمن، فما بالك بقائد الطائرة الذي يحس بالمسئولية الأكبر والأضخم.
أمن السهل على أي إنسان أن يجلس إلى هذا المكتب، بعيدا عن المكان والأزمان، مستريح الخاطر إلى أنه في أمان تام، ويتحدث عن هذا الذي حدث داخل الطائرة؟! مستحيل!
إن أي رفة جناح لطائرة عادية، أو أي مطب هوائي تصادفه يسقط قلوب ركابها جميعا، مهما بلغت شجاعتهم، فما بالك والأمر أمر اختطاف، أمر حيوانات بشرية عمياء، في أيديها أسلحة فتاكة، استولت على الركاب والطائرة والمصير، والمصير والطائرة والركاب معلقون بين السماء والأرض؟!
إن البشر لا يتصرفون بنفس الطريقة في كل المواقف، فالموقف المباغت خاصة لو كان يتهدد صميم حياة الشخص يجعله يتصرف بطريقة لا علاقة لها بتصرفاته العادية أو حتى صفاته، فالشجاع قد ينقلب جبانا، والخائف يتحول إلى جبان أخرق، ومن الإنسان العادي قد يولد بطل، ومن المفروض أنه بطل يتمخض الأمر عن فأر صغير مذعور.
وهكذا، فهناك فارق هائل بين الصورة - ونحن نستعيدها الآن، بعيدا تماما عن حدوثها - وبين الصورة لحظة حدوثها.
فجأة، شل تفكير الجميع، الوحيدون الذين أصبحوا يفكرون هم السفاحون الذين اعتلوا الطائرة وسيطروا عليها، بل أعتقد أن هؤلاء الآخرين كانوا يعانون في داخلهم رعبا قاتلا.
وهنا، وفي مثل هذا الجو، تتجلى بطولة رجل الأمن المصري: مدحت، فأمامه ثلاث قنابل يدوية مصوبة إليه وإلى الركاب، وثلاث فوهات مسدسات، ومع هذا قرر أن يؤدي واجبه، وما دام واجبه أن يقاوم الإرهاب، فليضرب وليتظاهر بإخراج جواز سفره، ويخرج مسدسا معدا، يردي به قائد العملية بثلاث طلقات مفاجئة مصوبة بعناية.
ولكن زملاءه كان لهم تصرف آخر، فقد آثروا الاستسلام وألقوا بمسدساتهم أرضا، هكذا دفعتهم حلاوة الروح والرغبة في النجاة بالنفس، أليس من سخرية القدر، وحكمة المولى أن الذي تصرف بشجاعة وأدى واجبه هو الذي يعيش الآن، بينما هلك زميلاه اللذان آثرا السلامة والاستسلام؟! إنها ليست سخرية أقدار، إنها قانون الحياة، فالبقاء دائما للأشجع، والحرص على الحياة هو بالشجاعة وليس باستهزاء واستكانة، وأكل العيش بالجبن يطيل العمر، كان خالد بن الوليد، رضي الله عنه، أشجع فرسان العرب؛ ولهذا لم يمت أبدا في حرب فقد كان يدخلها فيهزم عدوه ويعيش، ويموت العدو.
أما قائد الطائرة فأعتقد أن مسئوليته كبرى عن الفاجعة التي حدثت ففي حالة كتلك هو مسئول فيها عن مائة إنسان، كان عليه حتى لو كان أشجع الشجعان أن يطيع أمر هؤلاء المجرمين تماما، فإذا أنت قررت أن تقوم بمهمة كالتي كلفوا بها، ووضعت رأسك على كفك، ونويت، إذا حانت اللحظة أن تفجر الطائرة وأنت فيها، فمن أبسط مبادئ الذكاء أن تطيع إنسانا كهذا طاعة عمياء؛ لأنه يكون في حالة نفسية مستعدا فيها لكي يقامر بأي شيء وبكل شيء.
ولهذا كان قرار الكابتن أن يراوغ ويفرغ بنزين الطائرة ويفرغ إطاراتها من الهواء، كان في رأيي قرارا خاطئا؛ لأنه عرض حياة الركاب للخطر أكثر، فمعنى هذا أنه حدد قدرة التهوية وقدرة الطيران، أي كسح نفسه وطائرته وأرقدها فوق مطار فاليتا لا حول لها ولا قوة.
وقد فسر هو هذا بقوله إنه كان خائفا أن يرغمه المختطفون على التوجه إلى ليبيا حيث يفجرون الطائرة، وهو تفسير قاصر؛ فليس من المعقول - إذا كان المتهم هو ليبيا - أن تقبل تفجير طائرة على أرضها، فمن باب أولى أن يفجرها المختطفون في مالطة، إذا كان في نيتهم التفجير، العكس هو الصحيح، لقد كان من مصلحته ومصلحة الركاب والطائرة أن يتوجهوا جميعا إلى طرابلس حيث تصبح المسئولية مسئولية ليبيا بدلا مما هو حادث الآن من أن الدوائر الإعلامية العالمية تحمل مصر المسئولية عن مأساة الطائرة.
ومن رأيي أن الكابتن أصيب بحالة من الارتباك أدت إلى هذا التفكير الخطأ، وأنا من مجلسي فوق مكتبي هذا لا ألومه، ولست أعرف كيف كنت ولا كيف كان غيري يتصرف إن وضع في هذا الموقف!
الخطأ الأكبر الثاني الذي ارتكبه الكابتن هو مطالبته التدخل بقوات من خارج الطائرة تنقذ الموقف، وإلحاحه في هذا بطريقة تدل على أنه كان يعاني شبه انهيار لا منقذ له منه إلا بقوة خارجية، مع أنه يعلم تماما أن أي تدخل خارجي سيكون على حساب ركابه وعلى حسابه هو شخصيا، وقد تبع هذا الخطأ، وكنتيجة له، سلسلة من الأخطاء، ففي سبيل التحريض على التدخل بالغ القائد في صورة الوضع داخل الطائرة بحيث إن المعلومات التي ذكرها دفعت القيادة العسكرية في مصر إلى سوء تقدير الموقف، وكان القرار بالتدخل.
وهناك طرق علمية للتدخل، منها إدخال الغازات المخدرة، ومحاصرة الطائرة إلى درجة إنهاك مختطفيها حتى لو كانوا يقتلون أحد الركاب بين الحين والحين، أما الهجوم بفرقة صاعقة، ما أشجع أبطالها هم الآخرون وهم يواجهون خطرا لا يعرفون كنهه! ولكنهم خضر العود والتجربة والإعداد بحيث هجموا على الطائرة وكأنهم قوة أمن مركزي في طريقها إلى فض مظاهرة بالتفجير وقنابل الدخان، والاقتحام بالقوة وحدها، واقتحام قلعة محصنة، يسيطر عليها مسلحون سوف يكون ضحيته بلا أدنى شك الرهائن الأبرياء.
وبقيت بعد هذه القصة التي أريد أن أكتبها: قصة شادية؛ كبيرة المضيفات؛ تلك التي أطلقوا سراحها لتبلغ رسالة إلى المطار ثم تعود إلى الطائرة، وأريد أن أسأل كم امرأة أو فتاة، لا في مصر والبلاد العربية وحدها، ولكن في العالم كله، تقبل، أن تنفذ بجلدها من حصار الخاطفين والاحتمال شبه الأكيد للموت والقتل، تقبل، بعد أن تصل إلى مبنى المطار في سلام أن تقرر وبمطلق إرادتها، بقرار لا رجعة فيه أن تعود إلى حيث الرعب والموت؟!
إنه موقف يفوق في رأيي بطولة الفتيات والرجال الذين يقبلون أن يلغموا أنفسهم ليفجروا معسكرات وقوات العدو؛ ذلك أن هؤلاء الفتيات والرجال مناضلون تربوا تربية ثورية نضالية بحيث يعتبر عمل كهذا من قبيل المهمات القتالية الثورية.
أما شادية، فلم تكن مقاتلة، ولم تكن ثورية، ولم تكن منضمة إلى حزب أو حركة، ولم تكن فدائية، كانت فتاة عادية جدا، تعمل مضيفة، وقد جاء علينا حين من الدهر كنا نعتبر أن الفتاة التي تقبل العمل كمضيفة، فتاة تهوى السفر والمغامرات الشخصية، وها هي واحدة ممن كنا نعتقد فيهن هذا تتبدى لها في لحظة الواجب شخصية الفتاة والمرأة المصرية التي في لحظات الخطر تصبح أكثر تماسكا حتى من الرجل، وتقبل التحدي، وتعود بقدميها إلى حيث ينتظرها الموت المحقق، وقد فعلت، بمنتهى البساطة، ودون تردد، دون ارتعاشة لجفن، أو دمعة تسيل، دون أن يتداعى إلى ذهنها موقف بناتنا في أفلامنا السينمائية ومسرحياتنا اللاتي يرتعشن من رؤية صرصار، ... و... «يفقعن» بالصوت لدى شكهن في وجود لص.
ها هي فتاة مصرية عربية حقيقية ، عروس تستعد للزفاف، ناضجة وليست مراهقة في السادسة عشرة أو العشرين؛ إذ هي في الثالثة والثلاثين، تقبل بمطلق إرادتها أن تذهب إلى الجحيم القابع على أرض المطار دون وجل أو تردد.
لماذا فعلت هذا؟!
إنه الإحساس بالواجب، وبكلمة الشرف، وبالوعد الذي قطعته وخجلها أن تنقضه، نفس هذه الأحاسيس التي هربت من بعض موظفي الأمن في لحظة الجد، فاستحالوا إلى أداة لمساعدة الخاطفين، وجر الجرحى، وإلقائهم من الطائرة، يا لعار بعض الرجال!
ويا لشجاعة بعض النساء!
فالشجاعة ليست رجلا وامرأة، الشجاعة إنسان، رجل أو امرأة، يحس بواجبه، ولا يتردد في فعله.
سأكتب قصتها وليتني أملك ساعتها شجاعتها؛ لأؤدي واجبي ككاتب تجاه فتاة ضربت مدينتها السويس فأبت أن تغادر وهي بعد لا تزال صبية وأدت واجبها تجاه الوطن إلى آخر لحظة في حياتها، وإن هي إلا مثل واحد أضربه لمن لا يزالون يعتبرون المرأة حرمة وعورة وخطيئة وعيبا، من المحتم أن تحتجز كالعار في الحرملكات والمنازل، وتقوم حولها الأسوار؛ لأنها «بطبيعتها!» ميالة للتبذل والتبرج وإشاعة الفتنة في عالم الرجال. ماذا تقولون عن هذه المرأة التي أشاعت «البطولة» في عالم رجالي معظمه تصرف برعونة وتخاذل وجبن؟!
من بين أزيز الرصاص وقنابل دخان الحرائق واستغاثات البشر واختناقات الأطفال والجثث المكومة، الجثة فوق جثة، وحياة بأكملها وأسرها فوق حياة، ومأساة فوق مأساة، تتبدى لنا القضية العربية في صورتها الحقيقية تماما، فهي لم تعد قضية نظرية ومطالبات استقلال أو وطن، وإنما نجح أعداؤنا بالخارج وأعوانهم في الداخل في أن يقلبوها سرطانا داخليا يتمدد في داخل كل مواطن عربي على حدة، يقلبوها حربا على أنفسنا من أنفسنا، وإهدارا لكل قيمة عليا في شبابنا، فلم يعد الفلسطيني فلسطينيا والعربي عربيا، ولكنه أصبح فلسطيني أبي نضال أبي عمار، وعربيا مشرقيا وعربيا مغربيا، ومصريا منبوذا ومخابرات وحرب مخابرات جبانة ورعديدة وطعنا في الظلام، وجهنم أقامها العرب من أجل العرب وبالذات من أجل المصريين، من أجل «ثورة مصر» أي ثورة لمصر تقتل المصريين والعرب وتبيد الفلسطينيين؟! أي ثورة عربية أو حركة أمل أو دروز أو شيعة تحولت إلى عصابات وقطاع الطرق، بأخس الوسائل تتقاتل وتنسف وتبيد بلا أي عقل أو صواب أو تمييز!
وإذا لم تصدقوا فشاهدوا معي صورة الجثث مرة أخرى وصور حطام الطائرة، وصور الهول الذي قام به العرب، خرب العدو في الداخل والخارج نفوسهم، شاهدوا ذلك الحطام من الصلب والبشر والأشلاء.
شاهدوا أم شادية بملابسها البيضاء في المطار وهي تقول أنا أم البطلة، وشاهدوا مدحت في مرقده بالمستشفى راقدا رقدة أسد نهشته مجموعة فئران مذعورة قامت بأحط عمل جبان في التاريخ.
شاهدوا كل ذلك لتدركوا ما آلت إليه القضية.
ولتدركوا أيضا أنه، رغم كل شيء، ورغم المأساة، ففينا بطلات من النساء وأبطال من الرجال، بل وفينا القدرة الكاملة على أن نحارب وننتصر، أما الإرهاب فلا، فالإرهاب بضاعة إسرائيل وعدتها، والحرب الشجاعة وجها لوجه هي عدتنا.
شاهدوا حطام القضية، وتذكروا جيدا ذلك الحطام.
وهنيئا لك يا إسرائيل! وهنيئا لك يا مستر ريجان الذي بدأت القرصنة وتؤمن بها!
وهنيئا لك يا «أبو» كذا و«أبو» كذا وابن كذا وابن كذا!
أما أنت يا مصر.
أما أنتم أيها الفلسطينيون الأحرار.
أما أنتم أيها الأبرياء الذين راحوا ضحية لا حول لها.
فلكم العزاء.
فالله، سبحانه وتعالى، يمهل ولا يهمل.
وما حادث مصرع 250 جنديا أمريكيا يحرسون إسرائيل في سينا ببعيد، اللهم لا شماتة! ولكن أيها الناس، هناك عدالة إلهية على الأرض، أقسم أن هناك عدالة إلهية على الأرض مع عدالة السماء!
ناپیژندل شوی مخ