والحقيقة أني كنت قد سمعت عن المهرجان كثيرا، وقرأت الكثير مما كتب عنه، ولكني لا أعرف لماذا أيضا أصبحت أشك في كل مدح مبالغ فيه على صفحات جرائدنا العربية، أشم دائما رائحة شيء ما وراءه، ولم أكن أتصور أنه سيقدر لي أن أرى المهرجان رأي العين، ولكن، هذا ما حدث، فلقد تلقيت دعوة ملحة خاصة من الأستاذ محمد الخطيب وزير الإعلام والثقافة الأردني لحضور المهرجان، وكنت قد زرت الأردن في العام الماضي، زيارة خاطفة لحضور المؤتمر الوطني الفلسطيني، وكانت تلك أول مرة أرى فيها هذا البلد العربي، ورغم أننا كنا مقيمين في منطقة الفنادق في عمان محاطين بالأسلاك الشائكة والحرس المدجج حتى داخل الفنادق؛ تحوطا من أية محاولات إرهابية، رغم هذا، إلا أن اللمحة الخاطفة التي رمقت بها الأردن جعلتني ألبي الدعوة، فأنا أريد، مما رأيته، وشاهدته أن أعرف عن هذا البلد الشقيق أكثر وأكثر؛ إذ في الحقيقة تلك اللمحة كانت قد بهرتني تماما؛ إذ لم أكن أتصور الأردن هكذا أبدا، أو بالأصح ما صارت إليه الأردن.
المهم.
كانت المفاجأة الكبرى بالنسبة لي حين قابلنا وزير الثقافة والإعلام الأردني في المطار أن أجده هو بنفسه، الصديق محمد الخطيب، رفيق أيام الرعب في الجزائر، حين ذهبت مع مجموعة مع الصحفيين المصريين لتغطية أخبار الخلاف الخطير الذي نشأ بين مجموعة «بن خدة» ومجموعة «بن بيللا » عشية حصول الجزائر على استقلالها، كان الأستاذ محمد الخطيب معنا، مندوبا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية التي كان يعمل بها آنذاك، ومعا، وبصحبة الزملاء حمدي فؤاد من الأهرام وفوميل لبيب عن دار الهلال، ومحمد العزبي عن الجمهورية ورشاد أدهم عن صوت العرب (بطل الساحة في ذلك الوقت) حوالي عام 1962، عشنا أياما من الهول والإفلاس والخطورة لا تنسى؛ ذلك أننا وصلنا بلدا لا دولة فيه وليس فيه حكومة ولا شرطة، ولا قانون بالمرة؛ إذ كان الصراع حول من يحكم وكيف يحكم، قد ترك البلد فارغا تماما وكان الفرنسيون الذين كانوا يمسكون بكل شيء، قد فعلوا، مثلما فعل مرشدو القناة بعد تأميمها، وتركوا الجزائر كلهم فجأة وعادوا إلى فرنسا، حتى إن التليفونات نفسها كانت لا تجد من يحصل ثمن مكالماتها، وأذكر أني كنت أفتح الخط على جريدة الجمهورية وأملي صفحة كاملة من الجريدة حديثا كان أو تحليلا قد يستغرق إملاؤه ساعتين دون أن أجد من يحاسبني، وكذلك كان يفعل الزملاء!
وكم من نوادر وحكايات حدثت خلال الأربعين يوما التي أمضيناها هناك، تقريبا بلا أي نقود معنا؛ إذ كانت التحويلات أيضا مشلولة، ولولا أننا كنا نأكل مع سفيرنا علي خشبة - واحد من أعظم سفرائنا في الخارج - ذلك الذي كان ذاهبا في مهمة قتالية، مصحوبا ب «بودي جاردز»، لولا أننا كنا نأكل عنده ومعه ويقرضنا مصروف جيب، لهلكنا جوعا، وقد تقطعت بنا كل سبل الاتصال بمصر.
فوجئت بالوزير محمد الخطيب هو نفسه محمد الخطيب زميلنا في رحلة الهول، وفوجئت به يذكرني بأشياء حدثت في تلك الرحلة لا يتسع المجال لذكرها هنا، رغم مدلولاتها الخطيرة؛ إذ كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أزاول فيها عملا صحفيا حقيقيا، وكما يقولون «أغطي» أخبارا وأحداثا، وأدخل في منافسات ومسابقات.
وفرحت للمفاجأة حقا، فما كنت أبدا أتوقعها، ثلاثة وعشرون عاما جعلت من المراسل الشاب لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية، رئيسا لوكالة أنباء الأردن «بترا» ثم وزيرا، يا له من مشوار!
والغريب في الأمر أن الوزير اعترف لي بكل أمانة أنه تسلم وزارة الإعلام والثقافة والسياحة حديثا - حين كنت في أمريكا - على أثر استقالة الوزيرة ذات الموقف - السيدة ليلى شرف، وأنها هي، ولجنة المهرجان العليا التي ترأسها الملكة - التي قامت بتنظيم كل كبيرة وصغيرة من شئون المهرجان وبرامجه.
وهكذا وجدت نفسي «مضطرا» لمشاهدة المهرجان؛ ذلك أني في الحقيقة كنت ذاهبا لرؤية الأردن نفسها، وليس لحضور أفراح ومهرجانات، ولكني أشكر الظروف التي «اضطرتني» لحضور المهرجان، وأشكر الوزير الصديق على دعوتي، فبعد حفلة الافتتاح الرسمية التي قام بها جلالة الملك حسين والملكة نور، والتي استغربت فيها؛ لأن الملك والملكة قد وقفا أكثر من ثلاثة أرباع الساعة والوفود والفرق المشتركة في المهرجان تمر أمامهما، وهكذا اضطر المدعوون - وأنا بالطبع منهم - إلى الوقوف على أقدامهم طوال ذلك الوقت، إن الملك يريد أن يحيي الفن والفنانين تحية احترام عميق لماهية الفن والثقافة حتى - وبالذات - لو كانت ثقافة شعبية أو تلقائية، أعجبتني اللفتة تماما.
وبدأت ليالي المهرجان.
وفجأة وجدت الطفل الذي في يستيقظ و«يتفرج» و«يشارك»، الطفل الذي كان يسهر في ليالي المولد ويساهم في حلقات الذكر، وينبهر بمن يبتلعون النار ويدخلون السيوف في بطونهم، الطفل الذي كان يتصور الغوازي وهن يرقصن ويغنين كائنات خرافية، كأنهن جان ولسن بشرا، اللف والفرجة والضحكة والخفقة والأنوار، حتى ولو كانت بكلوبات، تخلب الألباب! الطفل في مولد الحسين والسيدة والشيخ الشبراوي، الطفل في التيفولي في الدانمارك حتى لو كان قد أصبح في الثلاثين وهو يركب القطارات المندفعة والصواريخ المنطلقة في دائرة إلى عنان السماء، الطفل ولو كان في الأربعين والخمسين في «ديزني لاند» يخلع عنه فجأة كل الأقنعة الناضجة المجعدة الكئيبة، ويرتد نقيا كالبللور، صافيا كجدول حياة خالية رقراقة، الطفل الذي يحب الجموع كما يحب الوجوه الجميلة والقدود الجميلة، الطفل الذي يحب أن يسمع، بل ويشارك ولو بصوت خافت، في الأغاني والموسيقى.
ناپیژندل شوی مخ