الهادي
قال محمد بن علي بن طباطبا في كتاب «الآداب السلطانية»: كان الهادي متيقظا غيورا كريما، شديد البطش، جريء القلب، مجتمع الحس، ذا إقدام وعزم وحزم.
ونحن نخشى أن يكون في هذا الثناء إسراف كثير، فلم يطل عهد الهادي بالخلافة ليمكن الحكم له أو عليه، وإنما مر بها مرور الطيف.
ومع ذلك فقد أكثر المؤرخون من التحدث عنه بالخير، وليس يستوقفنا من سيرته كلها إلا ثلاثة أمور:
الأول: ما ذكره عنه عبد الله بن عبد الملك قال: كنت أتولى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومغنيه، ويأمرني بضربهم، وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي، قال: فلما ولي الهادي الخلافة أيقنت بالتلف، فبعث إلي يوما، فدخلت عليه متكفنا متحنطا، وإذا هو على كرسي والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله على الآخر! تذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني وما أمر أمير المؤمنين به من ضربه وحبسه فلم تجبني؟ وفي فلان وفلان - وجعل يعدد ندماءه - فلم تلتفت إلى قولي ولا أمري؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: ناشدتك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرك أنك وليتني ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر فبعث إلي بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك. فاستدناني فقبلت يديه، فأمر بخلع فصبت علي، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدا. فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكرا في أمري وأمره، وقلت: حدث يشرب والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه، فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه في وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوف، قال: فإني لجالس وبين يدي بنية لي في وقتي ذلك، وكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأضعه للصبية، وإذا ضجة عظيمة حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت: هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت، فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم، فلما رأيته وثبت عن مجلسي مبادرا، فقبلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي: يا عبد الله، إني فكرت في أمرك فقلت: يسبق إلى قلبك أني إذا شربت وحولي أعداؤك أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تأكل، فأفعل فيه ما كنت تفعل، لتعلم أني قد تحرمت بطعامك، وأنست بمنزلك، فيزول خوفك ووحشتك. فأدنيت إليه ذلك الرقاق والسكرجة التي فيها الكامخ فأكل منها، ثم قال: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي، فأدخلت إلي أربعمائة بغلة موقرة دراهم، وقال: هذه زلتك فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال عندك لعلي أحتاج إليها يوما لبعض أسفاري، ثم قال: أظلك الله بخير، وانصرف راجعا. ونحن وإن كنا نفترض في هذه الرواية وأمثالها المبالغة، نرى أنها تدل في جملتها على بصر بالسياسة، وفطنة في العلم بالناس، والانتفاع بكفاياتهم.
الأمر الثاني: وقوفه موقف حزم نعتقد أنه أنقذ القصر العباسي من شر عظيم أفسد على ملوك الفرس قصورهم، كما أفسد على العباسيين أنفسهم أمور الخلافة بعد عصر المأمون؛ ذلك هو تدخل النساء في أمور الدولة.
فقد ذكر الطبري أن الخيزران والدة الهادي كانت في أول خلافته تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل؛ فإنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتلك، ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك. قال: وكانت الخيزران في خلافة موسى كثيرا ما تكلمه في الحاجات، فكان يجيبها إلى كل ما تسأله، حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها، فقال: فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلا، فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، قال: فغضب موسى وقال: ويل على ابن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا قضيتها له، قالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبدا، قال: إذن والله لا أبالي. وحمي وغضب، فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي، والله - وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله
صلى الله عليه وسلم - لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك! ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟! إياك ثم إياك ما فتحت بابك لملي أو لذمي. فانصرفت ما تعقل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها.
ولم يكتف الهادي بكلامه معها، بل جمع قواده يوما وقال لهم: أيما خير أنا أم أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين، قال: فأيما خير أمي أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقولوا فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قال: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشق ذلك عليها فاعتزلته وحلفت لا تكلمه، فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة.
وقد قالوا: إن الهادي حاول سمها فلم يفلح، على أن الخيزران أفلحت في القضاء عليه حين مرض؛ فقد ذكروا أنها دست إليه من جواريها من قتلته بالجلوس على وجهه.
ناپیژندل شوی مخ