108

لننتقل الآن إلى الأمر الثالث، وهو محاولته الغدر بأخيه الرشيد، ولننظر في حوادث سنة سبعين ومائة؛ لنرى كيف أخلص آل برمك للرشيد، فقد هم الهادي بتحويل الخلافة عنه لابنه جعفر، ولكن يحيى بن خالد ثبت في المحافظة على ولاية هارون، محتملا في ذلك كل مكروه، وكان لبطانة الهادي أثر سيئ في تشجيعه على خلع الرشيد ومبايعة جعفر، وكان فيمن بايعه يزيد بن مزيد، وعبد الله بن مالك، وعلي بن عيسى ومن أشبههم من أصحاب الأغراض.

ولم تزد الحوادث يحيى بن خالد إلا حرصا على حق الرشيد، فصار يعلله ويسري عنه، ولولاه لخلع الرشيد نفسه بعد أن تنقصوه في مجلس الجماعة وقالوا: لا نرضى به، وصعب أمرهم حتى ظهر، وأمر الهادي ألا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس.

أما الأخبار عن كرمه فكثيرة؛ فمن ذلك ما رواه الطبري في حوادث سنة سبعين ومائة، أنه أمر ذات ليلة بثلاثين ألف دينار لعيسى بن دأب أحد جلاسه، وكان - كما وصفه الطبري - لذيذ الفكاهة، طيب المسامرة، كثير النادرة.

ويقول علي بن صالح: إنه كان يوما على رأس الهادي وهو غلام، وقد كان جفا المظالم عامة ثلاثة أيام، فدخل عليه الحراني فقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام، فالتفت إلي وقال: يا علي، ائذن للناس علي بالجفلى لا بالنقرى. فخرجت من عنده أطير على وجهي، ثم وقفت فلم أدر ما قال لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي؟! ثم أدركني ذهني، فبعثت إلى أعرابي كان قد وفد، وسألته عن الجفلي والنقري، فقال: الجفلي جفالة، والنقري بنقر خواصهم، فأمرت بالستور فرفعت، وبالأبواب ففتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم، فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل، فلما تقوض المجلس مثلث بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئا يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا ففسر لي الكلام، فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قال: نعم، مائة ألف درهم تحمل إليه، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي؛ أجود وتبخل! •••

وكان الهادي شديد الغيرة، ظاهر الشهامة. وهاك حديثا لا يخلو من الأدب والفكاهة حدث به السندي بن شاهك قال: كنت مع موسى بجرجان فأتاه نعي المهدي والخلافة، فركب البريد إلى بغداد ومعه سعيد بن سلم، ووجهني إلى خراسان، فحدثني سعيد بن سلم قال: سرنا بين أبيات جرجان وبساتينها، قال: فسمع صوتا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الساعة، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك! قال: وكيف ؟ قال: قلت له: كان سليمان بن عبد الملك في متنزه له ومعه حرمه، فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته فقال: علي بصاحب الصوت، فأتى به، فلما مثل بين يديه قال له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي، أما علمت أن الرماك

1

إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه؟ يا غلام، جبه، فجب الرجل، فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المتنزه فجلس مجلسه الذي جلس فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الذي كنا جببناه فأحضره، فلما مثل بين يديه قال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فوالله ما دعاه بالخلافة ولكنه قال له: يا سليمان، الله الله، إنك قطعت نسلي فذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله! قال: فقال موسى: يا غلام، رد صاحب الشرطة، فرده، فقال: لا تعرض للرجل. •••

وأما حبه للنجدة فيحدثنا به عمر بن شبة؛ إذ ذكر أن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يلقب بالجزري، تزوج رقية بنت عمرو العثمانية، وكانت تحت المهدي، فبلغ ذلك موسى الهادي في أول خلافته، فأرسل إليه فجهله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين! فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي

صلى الله عليه وسلم ، فأما غيرهن فلا ولا كرامة. فشجه بمخصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمسمائة سوط فضرب، وأراده أن يطلقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فألقي ناحية، وكان في يده خاتم سري، فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه من الضرب فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح وأتى موسى فأراه يده، فاستشاط وقال: يفعل هذا بخادمي مع استخفافه بأبي وقوله لي! وبعث إليه: ما حملك على ما فعلت؟ قال: قل له وسله ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك. ففعل ذلك موسى فصدقه الخادم، فقال : أحسن والله! أنا أشهد أنه ابن عمي، لو لم يفعل لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه. •••

وقد كان الهادي مثل أبيه محبا للآداب مشجعا للشعراء، وكان على سنته في بغض الزنادقة ومقتهم، موفقا في اختيار الوزراء، مصابا كأبيه ببطانة سوء، همها الوقيعة والوشاية وإغراء الخليفة والبيت المالك باجتراح المآثم واقتراف المظالم.

ناپیژندل شوی مخ