فقال محتجا: يا سيدنا الشيخ، ما لي ولهذا المأزق ترميني إليه؟! وإنك لتعرف أن بضاعتي لا تنفق في سوق السلطان، وما لي علم بما في نفسه فأحدثه عنه، ولا خبر عن حاشيته فأرويه له، وليس في وجهي طلعة بشر كما تراني!
قال الشيخ ضاحكا: فإنك يا أرقم تعرف من خبره أنه سلطان، وأن لكل سلطان حاشيته، وأن في حاشيته قصروه وقنصوه، وأن زوجته خوند فاطمة بنت العلاء، وماذا يختلج في نفس السلطان من الأمل والهم إلا أن يفكر في عرشه، وفي حاشيته، وفي زوجه؟! وإن في يمن حديثك يا أرقم ما يغني عن يمن طلعتك!
بلع أرقم ريقه وهو يهمس لنفسه: في حاشيته قصروه وقنصوه! إلى أين ترمي بي المقادير يا رب وليس لي اختيار؟!
وصمت برهة يفكر، وغاب في سبحة من سبحاته الخيالية الطويلة، فلو كان في مجلسه ثمة شيخه أبو السعود الجارحي، لقرأ في عينيه بعض سره ...
وطال صمته في مجلس بدر الدين بن جمعة، فلم يتنبه حتى هزه الشيخ بلطف وهو يقول: هيه! ماذا قلت يا أرقم؟
وعاد أرقم من سرحته فأجاب قائلا: سأذهب يا سيدي، سأذهب إلى السلطان فأنبئه بغيبه، على أن تعيرني من ثيابك جبة وقفطانا وعمامة!
قال الشيخ ضاحكا: هي لك ملكا لا عارية يا أرقم.
كان قصروه - كبير الأمناء - رجلا محببا إلى الناس، فإنه لجواد سمح، وإنه لرفيق متواضع، وإنه لوافي العهد جريء القلب، يؤثر صاحبه على نفسه وإن كانت به خصاصة. ولم ينس له أهل القاهرة مشهدا قريبا يوم رأوه يحفر الخندق عند القلعة بيديه مع الفعلة، ويحمل التراب على كتفيه؛ ليهيئ لصاحبه طومان باي أن يكون سلطانا على عرش مصر، وإن قصروه لأعلى مقاما وأقدم مملوكية من طومان باي، ولكنه صديق.
وكان حب المصريين لقصروه وإعجابهم بخلاله هما الدعامة القوية التي يستند إليها عرش السلطان العادل طومان باي. لم يكن ذلك رأي المصريين وحدهم، ولكنه رأي المماليك جميعا، ورأي قنصوه الغوري الذي طالما تحدث به وتحدث به ابن أخيه طومان إلى المماليك وإلى الناس.
على أن السلطان العادل نفسه لم يكن غافلا عن هذه الحقيقة؛ فإن قصروه لأدنى أمرائه إليه وأصفاهم عنده، وإنه ليأذن له أن يبيت في القلعة حين لا يأذن لغيره، وإنه ليأكل على سماط السلطان حين لا يأكل أحد غيره على سماط السلطان.
ناپیژندل شوی مخ