الفصل الثامن عشر
أرقم الرمال
لم يحاول أرقم الرمال - منذ اتخذ تلك الحرفة مرتزقا - أن يتحول عن مجلسه ذاك تحت السرحة الفينانة في بساتين القبة، فقد وجد هنالك من إقبال الناس عليه ما أغراه بالمقام ثمة، فإنه ليقضي نهاره في ظل تلك السرحة، فإذا أظله الليل مشى يتخلع حتى يبلغ القبة، فيقضي ليله في الحجرة الصغيرة الضيقة التي أفردها له الشيخ بدر الدين بن جمعة شيخ القبة، وأذن له في أن يتخذها مأوى ...
وكان الشيخ بدر الدين رجلا له عند الأمراء مقام واعتبار؛ فهو إلى علمه وفضله مسامر له فنون في تشقيق الأحاديث، وطالما أنس إليه الأمراء الذين يختلفون إلى القبة للصلاة، أو التماس شيء من الراحة بعد أن يأخذوا حظهم من الرياضة، والفرجة في البساتين النضرة التي تمتد شمالي القاهرة إلى محلة قلج والخانقاه ... وكثيرا ما كانت مسامرات الشيخ بدر الدين وأحاديثه العذبة تغري بعض هؤلاء الأمراء بالمبيت في ضيافته. وقد أعدت هنالك - منذ عهد الأمير يشبك الدوادار منشئ تلك القبة - دار ضيافة عامرة، فيها الخدم والحشم، وفيها كل ما يحتاج إليه السلاطين والأمراء من أسباب الترف والنعمة، فلا يكاد يمضي يوم حتى يفد إلى القبة أمير من الأمراء، أو يفد إليها السلطان نفسه، يحاول أن يتخفف في ذلك الجو الممتع من بعض أثقاله، فيلقى شيخ القبة ضيفه، أو أضيافه، ويهيئ لهم مقاما طيبا وسمرا لطيفا، فيجلس إليهم يقص القصص، أو يروي النوادر، أو ينشد الشعر، أو يثير مسألة من مسائل الجدل يشتجر حولها الخلاف حينا بين السمار، ثم يجتمعون في النهاية على رأي الشيخ، فإنه ليملك من قوة البيان بالعربية والتركية ما يمتلك به الحجة في أعسر مسالك الجدال والمناظرة ... فإذا سئم ضيوفه الحديث والمناظرة فإن الشيخ بدر الدين لاعب كرة ورامي نشاب، وله توقيع وغناء وألحان على الشبابة تستنزل العصم ...
لا جرم كان الشيخ بدر الدين بن جمعة بكل ذلك صاحب تلك المكانة بين رواد بساتين القبة من الترك والمصريين على السواء، وكان أرقم الرمال يعيش في ظله راضيا بما أفاء الله عليه من حرفته الجديدة ...
وتسامع الناس بأرقم الرمال، فسعوا إليه من القاهرة وأرياضها، وعرفه كثير من أهل القرى الذين يمرون بهذه الرياض في طريقهم من بلاد الشرقية إلى مصر ... فلم يلبث أن صار له ذكر أخمل ذكر أبي النجم الذي تفرد بفنه في القاهرة زمانا؛ حتى لا يأمل أحد أن ينفذ إلى شيء من أسرار الغيب إلا من بابه، وظل أوحد عصره في هذا الفن حتى غلبه أرقم على مكانه.
وكأنما كانت دمامة أرقم، وبحة صوته، وغرابة أطواره، هي الأسباب التي حملت الناس على تصديقه والإيمان به، كأنما وقع في وهم الناس بكل ذلك أنه رجل ليس من الناس، وأن بينه وبين الغيب أسبابا ...
وبلغ صيته السلطان العادل طومان باي، فدعاه إليه ...
يا للرجل مما به! إنه لم يفكر يوما منذ اتخذ تلك الحرفة مرتزقا، أنها ستقوده إلى ذلك المأزق الحرج، ما له وللسلاطين؟! إنه ليشعوذ على العامة ما يشعوذ لأنه رجل منهم، يعرف دخيلة صدورهم، وما يتخايل لهم من الأماني، وما يحذرون من هموم العيش، وإنه ليلقف غيب صدورهم من لحظات أعينهم، وخلجات جوارحهم، وهمسات شفاههم، فما يفعل إلا أن يرد إليهم ما أخذ منهم في عبارة تتسع وتضيق، وتطول وتقصر، وفيها الفأل والطيرة، فيأخذها كل منهم على ما في نفسه من معنى، فلا يلبث أن يؤمن ويصدق، فأين هو من السلطان وحاشيته ليعرف دخيلة صدورهم، وما يختلج في نفوسهم من الأماني أو من المخاوف والآلام؟! ولكن الشيخ بدر الدين هو الذي جر عليه هذا البلاء، وعرضه لتلك المحنة، وحبب إلى السلطان أن يدعوه لينبئه عن غيبه.
لعل الشيخ بدر الدين كان بريء النية فيما قصد إليه، بل لعله أراد لصاحبه الخير والنعمة فاحتال ليصل حبله بالسلطان، ولكن أرقم الرمال لم يفهم ذلك إلا على أنه بلاء ومحنة وهم طويل ...
ناپیژندل شوی مخ