واطمأنت القاهرة ومصر كلها، ورضيت عن السلطان العادل؛ لأن الأمير المحبوب قصروه هو مستشاره وكبير أمنائه، ولأن دواداره الكبير هو قنصوه الغوري، ذلك الشيخ الذي عرك الأيام وعركته، وجاوز سن الطموح فليس له نزوع إلى مزيد من المجد المخضب بالدم.
وبات قصروه في القلعة ذات مساء، ثم أصبح فبكر إلى مجلس السلطان، ووقف يومئذ بباب القلعة حمار هزيل، عليه شيخ معتم، قد غطت عمامته أذنيه وبعض وجهه، وغرق في جبة فضفاضة كأنه طفل في ثياب أبيه.
وترجل الشيخ عن حماره ومشى يتخلع في مشيته، وقد جمع في يده فضل ثيابه، فانحسر قفطانه عن ساقين معروقتين كأنهما عودان من قصب، ودنا من البواب يؤذنه بنفسه ويتعرف إليه: أرقم الرمال مدعو السلطان!
وغض البواب بصره وفسح له الطريق، فمشى حتى بلغ مجلس السلطان، فقبل الأرض بين يديه ووقف صامتا حتى يؤذن له، ثم اتخذ مقعده بين يدي السلطان وبسط منديله ... ونظر عن يمين وشمال، ثم قال في صوت أبح: مولاي!
قال السلطان: قد فهمت ما تعنيه، فهل تأذن لنا في خلوة يا أمير قصروه!
وترجل الشيخ عن حماره ومشى يتخلع في مشيته.
قال قصروه وقد تهيأ للقيام وعلى شفتيه ابتسامته: نعم، وباليمن والبركات يا مولاي.
وخلا المجلس إلا من السلطان والرمال، وبسط الرجل على المنديل حفنة من الرمل، وراح يخط عليها بأصابعه خطوطا متوازية وأخرى متقاطعة، وهو يزمزم ويقلب عينيه بين الأرض والسقف والحيطان، ثم انحنى على منديله وراح يتحدث في همس، ثم شرع صوته يرتفع رويدا رويدا حتى بلغ أذني السلطان، فسمع صوتا كأنه من وراء الغيب يقول: ومولانا السلطان مسعود الطالع بتوفيق الله، على يمينه يمن، وعلى يساره يسر ورخاء وسعادة ... الطيبات للطيبين والصالحات للصالحين، والخير لأهل الخير والإحسان، والخيرة بنت العلاء للخير ابن الطيبين الطاهرين، تعيش في ظل نعمائه دهرا، وتنجب للخلف الكريم ما لم تنجب للسلف العظيم، ويكتنفه النيران حتى يتم تمامه ويبلغ عنفوانه ...
ثم أخذ الصوت ينخفض رويدا رويدا حتى عاد كما بدأ، همسا خافتا كأنفاس النائم، ثم عاد يرتفع رويدا رويدا حتى ظهر كأنما طوف في الآفاق ثم آب، واستمع السلطان إلى الرمال يقول في صوت أبح كأنما يعالجه قسرا فلا يكاد: وفي السماء نجوم طالعة، ودراري ساطعة، وكواكب يخفق نورها بين الخبو والإشراق، ونجم مولاي السلطان بينها متفرد في عليائه، متميز بلألائه ... وثمة نجم يلاحقه ويوشك أن يدركه. ابعد أيها الكوكب الخابي! ابعد أيها المتقحم على ما ليس من قدرك! ابعد! ابعد فلست هناك، هل أنت إلى هذا النجم الساطع إلا حصاة تتضوأ من نوره، وذرة من تراب تتلألأ في شعاعه، فلولا أنك في مداره لكنت فحمة الليل، وسوادا أسحم ينذر بالويل. ابعد! ابعد فقد عرفناك، لست هناك لست هناك، وإنه لمولاك وإن أطمعك وأدناك ...
ق والقرآن المجيد
ناپیژندل شوی مخ