نحن قتلنا توذرا وشوذرا
وقبله ما قد قتلنا حيدرا
نحن أزرنا الغيضة الأكيدرا
وفي قنسرين حصر خالد الرومان المحتمين بحصونها فطاولوا وأبرموه. فقال لهم محنقا: «لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا» وأبى أن يصالحهم بعد ذلك إلا على تخريب المدينة ودك حصونها، فختمت بذلك ضرباته الخالديات ...
ولكنه كان قبل مرج الروم وقنسرين قد وفى «دوره التاريخي» أكمل وفاء، فلو فاته هذان العملان لما نقص من مجده شيء ولا تغير مجرى الحوادث في أعقاب هزيمة الرومان. •••
أما سائر الميادين فقد تولاها قواد آخرون ففتحت بقية فارس، وفتحت مصر وشطر من إفريقية الشمالية، وكتبت بذلك «أدوار تاريخية» أخرى للمثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص والنعمان بن مقرن وعمرو بن العاص، ورجال غيرهم يساوونهم أو يقلون عنهم في المقدرة ولا يقلون عنهم في المقصد والنية، وكل زيادة في عمل خالد لا تضيف إليه مجدا فوق مجده، وتنقص ولا ريب من عمل هؤلاء، وتحرم الإسلام أيديا كثيرة تعمل له وتدفع عنه، وليس هو بمستغن عن تلك الأيدي الكثيرة بيد واحدة، بالغا ما بلغ بها الرجحان والاستعلاء.
قلنا في أول هذا الفصل إن انقضاء «الدور التاريخي» لبطل من الأبطال له آيات تدل عليه، ومنها أن يعدو دوره إلى أعمال يغني فيها الآخرون مثل غنائه وتدخل في باب من السعي والدراية غير بابه، ونزيد على هذا أن غناء الآخرين في هذا خيرا من غنائه لهو أولى أن يدل على انقضاء دوره وانتقاله إلى من هو أحق به وأخلق.
وفي ميدان الشام - بعد معركة اليرموك - كان أبو عبيدة بن الجراح أحق بالموقف الجديد من خالد بن الوليد؛ لأنه موقف التسليم والمسالمة واستلال الحقود وضمد الجراح وتقريب القلوب، وفي جميع أولئك يتسع المجال لهوادة أبي عبيدة ويضيق بضربات خالد ... فأبو عبيدة يسرع إلى المسالمة إذا فتحت له أبوابها، ولا يبطئ عن الحرب إذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك، وإن كان يوم الضربات الخالديات فهي لديه يرمى بها في مراميها، وإنما يكون العمل الأول هنا لمن يسالمهم ويتقبل التسليم، ويكون العمل التابع له لمن يرفع سوط النقمة على الذين يلجون في العداء كأهل قنسرين، فلا يسلمون إلا بتخريب الديار ودك الحصون.
ولا جرم كان أبناء الأمصار يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون على التسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على خطابهم لغيره، وكان خالد يرضى بهذا حينا ويسخط منه حينا، كما سخط عند تسليم دمشق ووساطة أبي عبيدة في العفو عن أهلها. فإنه كان يحسبهم مغلوبين عنوة فيعاقبون بالسبي والقصاص ولا يبسط لهم مهاد العذر والموادعة، ولولا أنه لا يغدر بعهد عاهدهم به أبو عبيدة لما كان لهم من شرط عنده غير شرط على أهل قنسرين.
فصواب التاريخ وصواب ابن الخطاب قد تلاقيا ههنا بإسناد الأمر إلى أبي عبيدة بن الجراح في أوانه المقدور، وإن كان تلاقيا لم يجر على قصد مرسوم. •••
ناپیژندل شوی مخ