ولما أحس رون دنو أجله سافر إلى برلين، وأقام بفندق مقابل للقصر مشاهدا رفع العلم في كل صباح قاعدا على كرسي ذي ذراعين، ويزور الملك البالغ اثنتين وثمانين من سنيه هذا الماريشال البالغ ستا وسبعين سنة من عمره، وهنالك يجلس هذان الشيخان الشريفان العالمان بالواجب والخالصا التقوى، ويتكلم هذا الشائبان عن المعارك السابقة، ويهم ولهلم بالانصراف وينظر إلى السماء قائلا: «سلم على رفقائي القدماء، فستلاقي كثيرا منهم هنالك!»
وهكذا يموت ألبرخت فون رون.
الفصل السابع
«إذا قيل للثور «هت» ذهب إلى اليمين، وإذا قيل له «هه» ذهب إلى اليسار، ولكن هذا الشيخ لا يسمع هت ولا هه!» هذه هي الشكوى التي يبدي بسمارك بها رأيه الخاص في الملك في أثناء العقد الأخير من حياة ولهلم، وما انفكت صلات الرجلين تزيد سوءا منذ بلوغ بسمارك الستين من عمره وبلوغ ولهلم الثمانين من سنيه، وكيف يستطيع قطب سياسي ذو ذكاء نادر رفع ذكره بما تم له من النجاح في أوروبة وأبصر من إذعان مولاه له ما يبلغ مائة مرة وسلك سبيل الاستبداد في الشئون العامة؛ أن يبقى مداريا صابرا على ضرورة السؤال والرجاء؟ وكيف يستطيع شيخ عنيد شريف متمتع بعزة الملك متمرن على القيادة أن يبقى مداريا صابرا على تمثيل بسمارك لدور المستبد؟
والحق أن بسمارك في كتبه كثير الإسراف في صيغ الاحترام، والحق أن بسمارك لا يهمل في كتبه نثر ما يقتضيه البلاط والتاريخ من أزهار البلاغة، ومما رواه شاهد أن بسمارك في اجتماعات مجلس التاج لا يقصر في «اتخاذ لهجة مجاملة مملوءة لطفا ممزوجا بالاحترام»، وإذا ما أجابه المليك كان ذلك بخفض جناح وأصدق وداد، وما يبديه ولهلم نحوه من شعور؛ فطبيعي، وما سكبه بسمارك من العبرات حينما أنعم عليه بلقب أمير؛ فحقيقي، ولم يصدر عن الملك ولهلم ما يدل على حسد، ولم يأل هذا الملك جهدا في رفع ذكر وزيره، وترى جميع كتبه مفعمة بتعابير الشكر، ومن ذلك قوله: «سيدوم شكري لكم إلى ما بعد موتي، فملككم وصديقكم معترف بالجميل لكم إلى الأبد.»
ومما وقع أن أراد رجل من الشعب أن يتزوج أميرة، فهو لكي يصل إلى ذلك لا بد له من نيل لقب الشرفاء، ويستأذن الملك بسمارك في ذلك قبل كل شيء؛ وذلك لأن طالب الزواج كان قد رفض ذات مرة شرب نخب بسمارك، «وذلك لأن إنعامي بالسعادة على عاشقين موقوف على سؤالكم عن وجود اعتراض لكم إذا ما صنعت ذلك!»
وبسمارك - من ناحيته وعن زهو عبقري هادئ - يمتدح دوما وعلى مسمع من الناس جد مولاه وشعوره بالواجب؛ أي يبجل تينك الصفتين اللتين كانتا ملازمتين ليل نهار لولهلم دون سلفه وخلفه.
وبسمارك مع ذلك يتكلم بصراحة يريدها أمام العشرات من الوزراء والنواب، حتى أمام أناس من الأجانب، حتى أمام أناس من الزوار غير الرسميين الذين لا يمتون إلى السياسة بصلة، فلا يعتم أن يكذب ما قاله إذا ما عن له ذلك في بعض الأحيان. «والأمور التي يمجد من أجلها الملك هي أمور حملته على إتيانها بعد جهد عظيم، وتغدو معاشرته صعبة مقدارا فمقدارا، ومما لا يطاق عدم قدرته على البت بسبب تقدمه في السن وزيادة وهنه»، ويقول لهوهنلوهه: «عاد الملك لا يعرف ماذا وقع، وهو يبدو قاسيا أحيانا إذا سمع أن هذا الأمر أو ذلك الأمر حدث مع ظنه أنه لم ينبأ بأمره!» ويقول لوزير ورتنبرغ، فون ميتناخت: «لقد حملت مليكي على كتفي إلى العرش الإمبراطوري، مع أنه كان في سنة 1866 يفكر في التنزل عنه، والآن يظن أنه يعرف كل شيء خيرا من وزيره، فيود أن يصنع كل شيء بنفسه.» ويقول لمدير البساتين بوت موجزا واضعا غليونه بين أسنانه: «إنه ضابط طيب محبوب لدى النساء»، ولما أثنى هذا الغريب على خطب الإمبراطور ولهلم أمام اللندتاغ أيام كان أميرا قال بسمارك: «مه! كانت تلك الخطب تهيأ له مقدما، فهو غير بليغ، إن كان في الحين بعد الحين يحسن الكلام أمام قواده! وهو فريد في إخلاصه وأمانته، ولا أكتفي بحيازته هذه الصفات؛ فالذي أريده هو أن يقف بجانبي.»
وما يكدر صفو بسمارك بعد تلك المدائح أن يجد مولاه امرأ لا يؤمن جانبه، ويعلم بسمارك كل ما يقوله الملك ضده، ويقول العاهل الشائب لهوهنلوهه «يهدد بسمارك بالاستقالة دوما وصولا إلى أهدافه، وهذا مما لا يمكن دوامه على هذا الوجه، ولا أحد يعرف إلى أين يريد أن يسوقني.» ويذكر بسمارك - مسرورا - أن الشيخ ولهلم كان قد غضن
1
ناپیژندل شوی مخ