ولكن الجو لم يصف؛ فما انفك التحاك يحدث، ورون إذ كان راغبا في المحافظة على صداقة بسمارك بأي ثمن كان، استقال في فصل الخريف، ورون يكتب إلى ابن أخيه يخبره بأن التضافر مع بسمارك على الأحرار أمر يمكنه صنعه، «وأما أن يقاتل بسمارك والأحرار معا فأمر فوق طاقتي»، وإلى بسمارك يكتب رون قوله الرجولي الممزوج بإنكار الذات: «دعني أستصرخك مرة أخرى بقولي: إلى الأمام أيها البطل المقدام! وسأصنع هذا حتى ختام حياتي الذي قد يكون قريبا، سواء علي أكنت على المسرح أم بين الحضور.»
وليس جواب بسمارك أقل روعة، وبسمارك قدير على معرفة ما يدور في قلوب الناس إذا ما تجرد من المأرب وتحرر من الريب، وبسمارك لم يقلل من قيمة ما أصاب به نفسه من خسار، فقد قال: «تمسكني الخدمة على ثلمة، ولم يترك لي مولاي خطا للرجعة، وكانت النتيجة أن لاحت رايات الملك، وسواء علي أكنت سقيما أم سليما لا أرغب عن حمل راية مولاي إلى الأمام ضد أبناء عمي العصاة ثابتا كما أحملها ضد البابا والترك والفرنسيين، وأراني منهوكا، وقد ضنيت في سبيل غاية، ولا يسوغ الخرج ديوان محاسبة، وسيجعلني استعفاؤكم وحيدا، وأنتم وحدكم تحملون قلبا حنونا بين الوزراء، وأما بقية الساق ففاسدة، وسيظل مكانكم في متكأ بهو الاجتماعات خاليا، فإذا ما نظرت إليه قلت في نفسي: كان لي رفيق ذات مرة.»
4
وتتوارى بروسية القديمة بختام أنشودة ذينك الرجلين الفخمة معا، ومنذ إحدى عشرة سنة هجم ذانك الرجلان ليقتلا تنين الديمقراطية، وقد لاح لأجل أن النجاح حليف الفارسين، وهما ما فتئا يرميان روح العصر بنبالهما إلى أن صاح مهللا وسقط، ولكن الحياة عادت إلى التنين فبدا ذا ثلاثة رءوس بدلا من رأس واحد مزمجرا من الغور، وهل تفترض قدرة بطل حي لا نصير له على إنقاذ العالم من هذا الغول؟
ومن النادر أن فتح بسمارك قلبه لأحد، والآن بعد ذهاب رون لم يلبث أن أقفل قلبه مرة أخرى، والآن تعين المقاصد والمصالح جميع أعماله، وتمضي ستة أشهر فيقول بسمارك الذي لم يأل جهدا في منع انزواء رون: إن غرور رون كان سبب جميع ما وقع من خطأ، وإن رون كان يروم دوام السلطان لنفسه مع أن كنبهاوزن كان أحسن منه موهبة، وإن رون فقد عادة العمل وصار لا يصنع شيئا، ولكن رون الذي بقي له ست سنوات راحة كان يعظم صورة صديقه من بعيد، فلما هدد بسمارك بالاستقالة مرة أخرى قال رون لابن أخيه: «أنزل برومثيوس
5
النار من السماء، فصار عليه أن يصبر على الوثاق
6
والعقاب، وما ناله يفوق مدى قدرته! ولا أحد يأكل من ثمرة شجرة الحياة بلا عقاب، وإذا ما انزوى الآن في كنف الريف الهادئ نزع بنفسه التاج من جبينه.»
بسمارك في سنة 1889.
ناپیژندل شوی مخ