ويزعم أن أرنيم أجل بعض المفاوضات حول تأدية فرنسة للغرامة الحربية؛ قاصدا الاستفادة من بعض المضاربات التي ارتبط فيها مع البارون هيرش، وهنالك شبه مضحك بين التهم التي يوجهها كل من بسمارك وأرنيم إلى الآخر، كل من بسمارك وأرنيم اللذين هما من أشراف بوميرانية واللذين هما من خدمة الإمبراطورية فيسيرهما في الأعمال المالية يهودي رفع إلى مرتبة الأشراف، ويتهم كل واحد منهما الآخر بالسعي وراء مصلحته الخاصة على حساب الدولة، وأرنيم - وإن لم يظهر اسمه - هو من زمرة الأشراف الذين يحملون على بسمارك، ويظل ما يتقاذفان بلا دليل، ويعجزان كلاهما عن إقامة الدليل، ويتماثلان كلاهما في القول، وأقوى الرجلين وحده هو الذي يصيب المحز.
وأقصى ما يوافق الإمبراطور ولهلم عليه هو إحالة سفيره أرنيم إلى نصف معاشه، ولا يروق هذا بسمارك الذي يخشى حوك أرنيم للدسائس طليقا ببرلين أكثر مما يخشاه سفيرا بباريس، ويبعد بسمارك خصمه أرنيم سفيرا إلى الآستانة لذلك، وهنالك يقترف أرنيم حماقة؛ فهو بدلا من أن يستقيل فيصبح حرا في الانضمام إلى الحزب في المجلس الأعلى الذي يناصب بسمارك العداء؛ ينحني أمام هذا الرئيس الخصم الذي ما انفك يوبخه في الأشهر القليلة الأخيرة ضمن أشد الرسائل إنذارا، ومن ذلك: «أرى مطالبتكم بأن تبدوا كبير عناية بتعليماتي وقليل ميل إلى اتباع آرائكم السياسية الخاصة، وذلك بأكثر مما ظهر من تقاريركم وتصرفكم الرسمي حتى الآن.»
وينشر أرنيم بعض الوثائق المطبوعة المغفلة التي تهدف إلى بيان تبصره وإعلان غفلة بسمارك، وبهذا يبدو أرنيم من ضيق الأفق ما لا يبصر معه إمكان افتضاح ذلك، والآن يصير أرنيم قبضة بسمارك، والآن لا تستطيع الملكة أن تحمي أرنيم، والآن يقدر بسمارك على عزله؛ لإخلاله بالواجب الرسمي، وكان الكفاح يقع بين خصمين حتى اليوم، ثم سهل أضعفهما بخرقه وسائل الفوز لأقواهما.
وهنالك تبدأ قسوة بسمارك التي شابهت في «أمر أرنيم» ما جاء في الأساطير، فجعلت نصف الأمة ضد الظافر، وما كان معاصرو بسمارك ولا الأعقاب من بعده ليغفروا له رغبته في القضاء على خصمه المقهور، وبيان الأمر هو أن خلف أرنيم بباريس أخبر بفقدان بعض الوثائق، فرفض أرنيم تسليمها مصرحا بأنها من أوراقه الخاصة، وتخبو نار أرنيم ولا يعدو حد الموظف المتقاعد بعد أن كان يطمع في نصبه مستشارا.
وينشد أرنيم السند بين حماته الأماجد ويعتمد على شرف محتده، ويتحدى أرنيم خصمه القدير بسمارك، فيقف بسمارك الأثيم أرنيم في الحال ضمن دائرة حقوقه، ويحاكم أرنيم بتهمة سرقة أوراق رسمية فيحكم عليه بالسجن تسعة أشهر، ويفر إلى سويسرة، والذي حفز بسمارك إلى محاكمة أرنيم مرة واحدة هو ميله وميل الملك إلى عدم دوام الاستقصاء وما يؤدي إليه من الإفشاء عدة سنوات، وبسمارك في الوقت نفسه ينصح أرنيم بطلب العفو.
ويتميز أرنيم من الغيظ، وينشر في منفاه رسائل لا كوع لها ولا بوع، ويؤدي هذا إلى اتهام الآثم بالخيانة وبسب الإمبراطور وبقذف بسمارك ويحاكم، فيحكم عليه غيابيا بالسجن مع الأشغال الشاقة خمس سنوات وبسقوط حقوقه المدنية مع التصريح بأنه سلك سلوكا شائنا، وتمضي أربعة أعوام، وينال أرنيم حق دخول ألمانية طليقا والمثول أمام محكمة الإمبراطورية ليبرئ نفسه، ولكنه يموت في نيس قبل بلوغه ألمانية «مهانا» شريدا.
وفي تلك المحاكمة يظهر للمرة الأولى والمرة الأخيرة رجل يقتضي عمله الكتمان، واسم هذا الرجل هو البارون هولشتاين الذي تعرف بسمارك به في سان بطرسبرغ والذي عينه المستشار بسمارك عينا على خصمه أرنيم في سفارة باريس؛ ليرسل إليه تقارير عنه، فبهذه الوسيلة اطلع بسمارك على طمع أرنيم في منصبه، ويرسل بسمارك هولشتاين إلى المحكمة؛ ليؤدي شهادته أمامها، ويتأذى هولشتاين كثيرا لحمله على إظهار تجسسه، فيحقد على بسمارك حقدا شديدا لا يبديه إلا بعد سنين فيكون له نتائج تاريخية مهمة واسعة المدى.
الفصل السادس
لم يكن بين أولئك الذين اتصلوا ببسمارك غير رجل واحد، غير رون، استطاع أن يمزج بين الاستقامة والانتقاد وبين الصداقة واستقلال الفكر، وكادت عواصف سنة 1870 تقضي على ما بين بسمارك ورون من صداقة، وفروسية رون وحدها هي التي أنقذت هذه الصداقة من الزوال، ورون لما هو عليه من جد ومن غاية دائمة في خدمة ملكه وبلده ومن عدم اكتراث لمنفعته الخاصة وللمقام وللعوامل الحزبية أبصر ما يقع في الداخل من أمور، فكتب في سنة 1872 يقول: «كانت انتصارات سنة 1866، وإن شئت فقل كانت الأوهام التي نشأت عن هذه الانتصارات حول التوفيق بين جميع الأحزاب السياسية، أول الأمور التي شغزبتنا
1 ... ثم وقع ما نعلم من وثبات البطولة في سنة 1870 فلم تنقذ الوضع، ومما لا ريب فيه أن ما أسفرت عنه الانتصارات في تلك السنة من نشوة أجل رجوعنا إلى دور الاتزان ، فترانا نداوم على الدنو من الهو.»
ناپیژندل شوی مخ