وأي حياة يقضيها مثل هؤلاء الرجال! هم يرون أنفسهم أمام قضاة معادين دوما، هم يحيط بهم سجانون عاطلون من العاطفة، هم يحشرون في حجيرات ضيقة، هم لا يعرفون الحرية في غير الخارج، هم يؤدون رسالتهم في وطنهم الذي يحبونه محبة الشرعيين له مع ذلك. ولا ريب في أن على أعصاب بسمارك أن تعاني كثيرا من الهموم في أربعين عام خصام، وقد سمعنا الشيء الكثير عن حسرات هذا المهيمن الذي خلق ليسود.
وهو يغدو مع ذلك ذا رخاء في أحوال حياته المادية يوما بعد يوم وعاما بعد عام، وهو يصبح مع ذلك مالكا لقصور وغابات، وهو يستطيع مع ذلك أن يقيم مآدب فاخرة مشتملة على ما يلائم شهوة طعامه، وترى الملك والشعب يمطرانه بضروب الهدايا والإكرام ، واسمع الآن ماذا قال ليبكنخت لقضاته بأنفة: «أراني فخورا إذا ما بقيت حتى الآن فقيرا بعد نجاح لا مثيل له.» والحق أن ليبكنخت عاد إلى ألمانية معسرا بعد نفي اثنتي عشرة سنة، والحق أن حياة ليبكنخت لم تنر بغير الروح، فلا مال عنده ولا سلطان، ولا يملك سوى الإيمان.
ولو حدث أن التقى الرجلان، بسمارك وليبكنخت، على طريق غابة بعيدة من غير أن يكونا متعارفين سابقا لساد الاتفاق بينهما؛ فكلاهما محب للشجر وكلاهما عالم بالطير، وكلاهما مولع بوطنه ألمانية، ولكن المثالي لم يعتم أن وصم بأنه شغوب،
11
ولكن الساخر لم يعتم أن عرف المؤمن، ولكن الحاسب لم يعتم أن أبصر الحالم، وإذا كانت الطريق ضيقة لم يدع أحدهما الآخر يمر، ولا أحد منهما يود الرجوع إلى الوراء، ولا مناص من تضاربهما، فكل واحد منهما مستبد.
وأوغوست بيبل أقل من مستبد، ولا تجد في شجرة نسبه ثوريا ولا خيريا، وإذا نظرت إلى تراثه أبصرته طيعا، فهو قد ولد في حصن، وهو ابن لملازم ثان، والنظام هو ما يجب أن يكون فارسا له، ولا شيء غير التعطش إلى المعرفة يقود تلميذ الخراط إلى جمعية تعليم العمال، وهو إذا ما صار هنالك ذات مرة تمكن بذكائه النير من إدراك السبب في سوء وضعه هو ومن على شاكلته، والسخط يحل عقدة لسانه، ويحرض الرفقاء ويصل إلى الريشتاغ ويحاول متابعة أعماله، وبسمارك هو الذي يعد له فرصة توسيع دراساته، فلما حكم عليه بالسجن في قلعة، وقد ولد في قلعة فلم يرهبه ذلك، اجتمع بسجين آخر، اجتمع بليبكنخت الذي هو أكبر منه سنا، ومن هذا الرفيق تعلم الأسس النظرية للقضية التي جاهد في سبيلها بعاطفته فخسر حريته من أجلها، ويقضى على ليبكنخت وبيبل بالسجن سنتين، ويرى بيبل في هذه المدة ما يكفي لوقوفه على تعاليم كارل ماركس الذي تخرج عليه ليبكنخت في لندن.
ويظل ابن الشعب عمليا جبليا أكثر من سليل العلماء، ويكون ذكاؤه أعظم وأوضح، وتكون قوى النقد فيه أبسط وأقبل عند الشعب مما لدى صديقه الجديد الذي ظل شديد الارتباط فيه على الدوام، وكلا الرجلين أخ في الإيمان، وكلا الرجلين أخ في التضحية، وكلا الرجلين أخ في مجازفته بحريته وصحته، وفي الحين بعد الحين يألم بيبل الذي قضى أكثر من خمس سنوات في السجن من الأرق نتيجة لارتجاج أعصابه، ويقول بيبل: «إذا وقع ذلك فكرت في بسمارك الذي ألم أيضا من الأرق ومن الأوجاع العصبية.»
والأشباح تزول، ويستأذن الضيوف ويصافحون صاحب المنزل وينصرفون، وينهض من كرسي ذي ذراعين رجل قصير القامة بعد أن لبد به في جميع السهرة، ويسير بخطا صغيرة نحو المضيف، فيبدو قزما بجانب عملاق، ويمكن يدي العملاق أن ترضا يدي القزم، ويمكن يدي القزم أن تتغلبا على يدي العملاق بقوى سحرية، ويحيي كل من الرجلين صاحبه بوداد بدلا من ذلك، ولكن العملاق يتكلم وقت الفراق ليظفر بنبوءة من القزم، واسم القزم هو فيندهورست، ويعلو جسمه المثير للرحمة رأس كبير، ويتصف بفم عريض لا يفتحه إلا نادرا، ويرمق الخواء
12
بعينيه الشهباوين
ناپیژندل شوی مخ