وهذا الرجل لما كان من تمثيله دورا فعالا في الحياة؛ صار يعد الحياة مسرحا لا يظهر فيه إلا عندما يكون طيب المزاج، وهو إذ كان امرأ لا وطن له، وهو إذ كان ضيفا مقبولا لدى كل حضارة؛ صار عارفا باللغة الفرنسية تكلما وكتابة كما يعرف لغته الأصلية، ووجد لمواهبه المرنة في الملاحظة والاشتراك مجالا ملائما في باريس. ويعود إلى ألمانية بعد الهدنة ويصبح من الأحرار الوطنيين، ويقف موقف الحياد تقريبا ما دامت الحرب قائمة، ويكتب إلى مراسل صديق قوله : «في باريس تتفتح زهرة الروائية الكاثوليكية، وفي فرساي حيث المقر الألماني العام تتغلب جذرية طريف، وتبدو باريس حصن الباستيل الذي فتح عنوة، ويمثل فافر وغنبتا مبدأ الشرعية، ويمثل ولهلم وبسمارك مبدأ الثورة.»
ويدعى إلى المقر العام مع كل ما تقدم؛ وذلك لميل بسمارك إلى الإفادة من معرفته الكبيرة في أمر البنوك، ويخلو بانبرجر من الغرض فيصف بسمارك بقوله: «إنه مزيج من الفارس ستيوارت والملازم البروسي والشريف الألماني ودون كيشوت الإسباني.» والآن - كما في المستقبل - يعترف بانبرجر بعظمة المستشار بسمارك وإن لم يسطع بسمارك أن يطيقه.
وهنالك رجل يكرهه المستشار بسمارك أكثر من كرهه لبانبرجر، وهو رجل شاب ملتح، وهو لا يزوره إلا نادرا. ولنا أن نعتقد أن بسمارك لا ينام في هذه الليلة لأن الرجل أوجن ريشتر واقف خلف الآخرين قليلا، ولأن بسمارك يحدق إليه من خلال نظارته اللامعة متقصيا ناقدا، وريشتر يتصف بالصحة والفتاء وحب النضال فيقف نظر بسمارك الشائب ويثير غيرته.
ولريشتر وقوف صادق بالأمور، وريشتر نزيه، وريشتر يلزم مبادئه بلا هوادة، وريشتر هو ضحية بسمارك في سنوات الصدام. وريشتر يعزل من منصب عميد الناحية ويمنع من الوظيفة ومن راتب شيخ البلد؛ لأنه كتب ينتقد تصرف الشرطة الاستبدادي، ويصير ريشتر صحافيا ويعارض لاسال لمفاوضة لاسال لبسمارك رأسا، ويميل ريشتر إلى الشيوعية، ولا يريد ريشتر لنفسه شيئا ولا يطالب بسلطان، بل يبغي تقدم القضية، ويرقب ريشتر بسمارك بعد سابق رقابته لاسال، ولا يحط ريشتر من قدر الشرفاء أكثر مما يحط به قدر صاحب المقام العظيم الشريف بسمارك؛ ولذا يغادر بسمارك البهو عندما يبدأ ريشتر بالكلام.
ويقرأ بسمارك نقد ريشتر في الصباح عند تناوله طعام الإفطار، ويوجه هذا النقد مثلا إلى أمر خاص بالجيش معزز بالأرقام كاشف لبعض الأمور، ويهرع بسمارك إلى الريشتاغ ليرد الضربات فيقول: «إن من دواعي الأسف أن يعيش الهر ريشتر في البيوت وبين الجرائد فلا يعرف عن الحياة العامة إلا قليلا، ولا يعرف هذا الأوتوقراطي من الحزب الديمقراطي غير المبالغات وبث الأراجيف.» وهنالك يتخذ ريشتر وضع المهاجم الهادئ فيقول : «وهل السيد مستشار الريخ يعرف؟»
ومن المحتمل أن كان المستشار الإمبراطوري بسمارك يبصر وراء ذلك الضيف ظلي رجلين آخرين كطيفين، كشبح بانكو
9
حول المائدة، ويفضل ذانك الرجلان عدم المجيء إلى هنالك أبدا؛ وذلك لأنه وإن لم يقع معهما نقاش يشعر بحقد عميق بين عالمين لا يوفق بينهما: «أنا» أو «أنت»، وأما «نحن» فأمر متعذر، ويمكن أحد الخياليين ولهلم ليبكنخت أن يعد من الأجداد ما يعد بسمارك، وإذا ما صنع هذا أوصل سلسلة نسبه إلى رجل أشبه ببسمارك مما بأجداد بسمارك الفرسان النهابين، إلى لوثر، كما يستطيع أن يوصل نسبه إلى كثير من علماء ألمانية الذين ورث عنهم أفكارا وحبا للبحث، وقضى أورفاند شبابا شديدا، وكان يمكن هذا الطموح أن يكون سهل العمل في وقت مبكر لو اقتفى آثار الآخرين من أبناء طبقته ووقف عند تقاليدهم! ولكن عمرته
10
تنطوي على نحلة فيريد الخير لجميع البشر لا لطبقته فقط؛ ولذا نفي في العشرين من عمره كشيوعي، وإليك زوريخ، وإليك باريس، وإليك سنة 1848، وإليك فتنة بادن، ويرفع راية الجمهورية ابنا للثانية والعشرين، وهو لم ينج من الموت رميا بالرصاص مع شركائه في المؤامرة إلا مصادفة، وقد حدث بعد سبعين سنة أن قتل ابنه؛ لأنه اشترك في تأسيس الجمهورية.
ناپیژندل شوی مخ