وتوقفت عن السير بعد أن أوشكا أن يطويا طريق الصاغة، واعتمدت بيدها على منكب الغلام وقد تقلص وجهها، فرفع كمال وجهه إليها منزعجا وسألها: ماذا بك؟
فأغمضت عينيها وهي تقول بصوت ضعيف: إني تعبة، تعبة جدا، لا تكاد تحملني قدماي، ادع أول عربة تصادفك يا كمال.
ونظر كمال فيما حوله فلم ير إلا عربة كارو واقفة عند باب مستشفى قلاوون فنادى الحوذي الذي بادر إلى سوق العربة، حتى وقف بها أمامهما، واقتربت الأم منها متكئة على كتف كمال ثم صعدت إلى سطحها بمعاونته، واعتمادا على منكب الحوذي الذي وطأه لها، حتى تربعت وهي تتنهد في إعياء شديد، وجلس كمال إلى جانبها ثم وثب الحوذي إلى المقدمة، ونخس الحمار بقبضة سوطه فمشى مشيته الوئيدة والعربة تترنح وراءه مطقطقة ... وتأوهت المرأة متمتمة: «ما أشد ألمي، عظام كتفي تتفكك.» هذا وكمال يرمقها في جزع وقلق ... ومرت العربة في طريقها بدكان السيد دون أن يعيراها التفاتا، ومضى كمال يتطلع إلى الأمام حتى لاحت لعينيه مشربيات البيت ... لم يعد يذكر من الرحلة السعيدة إلا نهايتها المحزنة.
28
فتحت أم حنفي الباب فأذهلها أن ترى سيدتها متربعة على عربة كارو، وقد ظنت لأول وهلة أنه ربما يكون قد خطر لها أن تختم رحلتها بجولة في العربة على سبيل اللهو، فلاحت على وجهها ابتسامة ولكن إلى لحظة قصيرة؛ إذ ما لبثت أن رأت عيني كمال المحمرتين من البكاء فارتدت عيناها إلى سيدتها في انزعاج، واستطاعت هذه المرة أن تلمس ما تعاني من إعياء وألم، فندت عنها آهة وهرعت إلى العربة هاتفة: «ستي ما لك، بعد الشر عنك.» فقال الحوذي: «تعب بسيط إن شاء الله، عاونيني على إنزالها.» وتلقتها المرأة بين ذراعيها، وسارت بها إلى الداخل وتبعهما كمال واجما محزونا، وكانت خديجة وعائشة قد غادرتا المطبخ وانتظرتا في الفناء، وكلتاهما تفكر في دعابة تلقى بها القادمين فما راعهما إلا أن تطلع عليهما أم حنفي من الدهليز الخارجي، وهي تكاد تحمل الأم حملا فندت عنهما صرخة، وهرعتا إليها فزعتين وهما تهتفان: نينة ... نينة ... ما لك!
وتعاونوا جميعا على حملها، ولم تكف خديجة في أثناء ذلك عن أن تسأل كمال عما حدث، حتى اضطر الغلام إلى أن يغمغم في خوف بالغ: سيارة! - سيارة!
هكذا هتفت الفتاتان معا مرددتين الاسم الذي وقع من نفسيهما موقعا مفزعا فاق الاحتمال. فولولت خديجة هاتفة: «يا خبر أسود ... بعد الشر عنك يا نينة.» أما عائشة فانعقد لسانها وأفحمت في البكاء، ولم تكن الأم غائبة عن الوجود، وإن كانت من الإعياء في نهاية فهمست على إعيائها رغبة في تسكين اضطرابهما: إني بخير، لم يحدث سوء، ما بي إلا تعب.
وتناهت الضجة إلى ياسين وفهمي، فخرجا إلى رأس السلم وأطلا من فوق الدرابزين، وما لبثا أن نزلا مهرولين منزعجين وهما يتساءلان عما حدث، ولم تملك خديجة إلا أن تشير إلى كمال ليجيب بنفسه مشفقة من ترديد الاسم الرهيب، فاتجه الشابان إلى الغلام الذي عاد يغمغم بحزن وارتباك: سيارة!
ثم انتحب باكيا وتحول الشابان عنه مؤجلين ما يلح عليهما من أسئلة إلى حين، وحملا الأم إلى حجرة الفتاتين وأجلساها على الكنبة، ثم سألها فهمي قلقا معذبا: خبريني عما بك يا نينة، أريد أن أعرف كل شيء.
ولكنها مالت برأسها إلى الوراء ولم تنبس بكلمة ريثما تسترد أنفاسها على حين علا بكاء خديجة وعائشة وأم حنفي وكمال، حتى فقد فهمي أعصابه فثار بهن ونهرهن حتى أمسكن، ثم جذب كمال إليه ليستجوبه عما يريد، كيف وقع الحادث؟ وماذا فعل الناس بالسائق؟ وهل أخذوكما إلى القسم؟ وكيف كان حال الأم في أثناء ذلك كله؟ هذا وكمال يجيبه على أسئلته بلا تردد وفي إسهاب، وعن أكثر التفاصيل، وكانت الأم تتابع الحديث بالرغم من وهنها، فلما سكت الغلام استجمعت قواها وقالت: إني بخير يا فهمي، لا تزعج نفسك، كانوا يريدون أن أذهب إلى القسم فرفضت، ثم واصلت السير حتى نهاية الصاغة، وهناك خارت قواي فجأة، لا تنزعج، سأسترد قواي بعد راحة قصيرة.
ناپیژندل شوی مخ