فقهقه الشاب قائلا: علام يسامحني؟ ... هل اقترفت ذنبا لا يغتفر؟ والله لو كنت مكانك لمضيت من توي إلى سيدنا الحسين .. سيدنا الحسين ألا تسمعين؟ حبيبك الذي تهيمين به على البعد وهو قريب، قومي إنه يدعوك إليه.
وخفق قلبها خفقانا لاحت آثاره في احمرار وجهها، فخفضت رأسها لتخفي تأثرها الشديد، انجذب قلبها إلى الدعاء بقوة تفجرت في نفسها فجأة على غير انتظار لا منها ولا من أحد ممن حولها حتى ياسين نفسه، كأنها زلزال قد وقع بأرض لم تعرف الزلازل، فلم تدر كيف استجاب قلبها للنداء، ولا كيف تطلع بصرها إلى ما وراء الحدود المحرمة، ولا كيف تراءت المغامرة ممكنة، بل مغرية، بل طاغية، أجل بدت زيارة الحسين عذرا قويا - له صفة القداسة - للطفرة اليسارية التي نزعت إليها إرادتها، ولكنها لم تكن وحدها التي تمخضت عنها نفسها إذ لبت دعاءها في الأعماق تيارات حبيسة متلهفة على الانطلاق كما تلبي الغرائز المتعطشة للقتال نداء الدعاء إلى الحرب بحجة الدفاع عن الحرية والسلام. ولم تدر كيف تعلن استسلامها الخطير، ولكنها نظرت إلى ياسين وسألته بصوت متهدج: زيارة الحسين منية قلبي وحياتي ... ولكن ... أبوك؟
فضحك ياسين قائلا: أبي في طريقه إلى بورسعيد، ولن يعود قبل ضحى الغد، وبوسعك - زيادة في الحيطة - أن تستعيري ملاءة أم حنفي اللف، حتى إذا اتفق أن رآك أحد وأنت تغادرين البيت أو وأنت تعودين إليه ظنك زائرة.
ورددت عينيها بين الأبناء في خجل وتهيب كأنها تنشد المزيد من التشجيع، فتحمست خديجة وعائشة للاقتراح، وكأنهما تعبران بحماسهما عن رغبتهما الحبيسة في الانطلاق، وفرحتهما بزيارة مريم التي باتت - بعد هذا الانقلاب - في حكم المقرر، وهتف كمال من أعماق قلبه: سأذهب معك يا نينة لأدلك على الطريق.
وحدجها فهمي بنظرة عطف أثاره في نفسه ما طالعه في وجهها البريء من سرور حائر كسرور الطفل إذا مني بلعبة جديدة، فقال لها في تشجيع واستهانة: ألقي نظرة على الدنيا، لا عليك من هذا، فإني أخاف أن تنسي المشي من طول لزومك للبيت!
وفي فورة الحماس جرت خديجة إلى أم حنفي ثم عادت بملاءتها، وتزاحمت الأصوات بالضحك والتعليق، فغدا اليوم عيدا سعيدا لا عهد لأحد به، واشترك الجميع - وهم لا يدرون - في الثورة على إرادة الأب الغائب. والتفت الست أمينة في الملاءة وأسدلت البرقع الأسود على وجهها، ثم نظرت في المرآة فلم تتمالك من أن تضحك طويلا حتى اهتز جذعها، وارتدى كمال بدلته وطربوشه وسبقها إلى فناء البيت، ولكنها لم تتبعه، ركبها شعور الرهبة الذي يلازم المواقف الفاصلة، فرفعت عينيها إلى فهمي وتساءلت: ما رأيكم، هل أذهب حقا؟
فصاح بها ياسين: توكلي على الله.
وتقدمت منها خديجة ووضعت يدها على منكبها، ودفعتها برفق وهي تقول: الفاتحة أمانة.
ولم تزل تدفعها حتى أوصلتها إلى السلم، ثم رفعت يدها فنزلت المرأة والجميع في أعقابها ... ووجدت أم حنفي في انتظارها، فألقت الخادم على سيدتها - أو بالحري على الملاءة الملتفة بها - نظرة فاحصة، ثم هزت رأسها هزة انتقادية، وتقدمت منها وأعادت لف الملاءة حول جسمها وعلمتها كيف تمسك بطرفها في الوضع المناسب، فانقادت لها سيدتها التي كانت ترتدي الملاءة اللف لأول مرة، وعند ذاك ارتسمت ملامح قامتها وقدها في تفصيل وسيم، تخفيه عادة جلابيبها الفضفاضة، فألقت خديجة عليها نظرة إعجاب باسمة، وغمزت بعينها لعائشة وأغرقتا في الضحك.
ولاقت وهي تعبر عتبة الباب الخارجي إلى الطريق لحظة دقيقة جف لها ريقها، فضاع السرور في نوبة القلق ووطأة الإحساس بالذنب، وتحركت في بطء وهي قابضة على يد كمال بحال عصبية، وبدت مشيتها مضطربة مخلخلة كأنها عاجزة عن مبادئ المشي الأولية، إلى ما اعتراها من حياء شديد، وهي تتعرض لأعين الناس الذين عرفتهم من عهد بعيد من وراء خصاص المشربية - عم حسنين الحلاق ودرويش بائع الفول والفولي اللبان، وبيومي الشربتلي وأبو سريع صاحب المقلى - حتى توهمت أنهم سيعرفونها كما تعرفهم - أو لأنها تعرفهم - ووجدت مشقة في تثبيت حقيقة بديهية في رأسها، وهي أن عينا منهم لم تقع عليها مدى الحياة، وعلى تلك الحال عبرا الطريق إلى درب قرمز؛ لأنه وإن يكن أقصر الطرق إلى جامع الحسين إلا أنه كان لا يمر - كطريق النحاسين - بدكان السيد فضلا عن خلوه من الدكاكين وانقطاع المارة عنه إلا فيما ندر، وتوقفت لحظة قبل أن توغل فيه، والتفتت صوب المشربية فرأت شبحي ابنتيها وراء ضلفة منها، بينما رفعت ضلفة أخرى عن وجهي ياسين وفهمي الباسمين، فاستمدت من منظرهما شجاعة استعانت بها على ارتباكها، ثم جدت في السير - هي وغلامها - يقطعان الدرب المقفر في شيء من الطمأنينة، لم يغب عنها القلق ولا الإحساس بالذنب، ولكنهما تراجعا إلى حاشية الشعور الذي احتلت مركزه عاطفة استطلاع حماسية نحو الدنيا التي يتراءى لها درب من دروبها، وميدان من ميادينها وغرائب من مبانيها وعديد من أناسها، ووجدت سرورا ساذجا لمشاركة الأحياء في الحركة والانطلاق، سرور من قضت ربع قرن سجينة الجدران ما عدا زيارات معدودات لأمها في الخرنفش - بضع مرات في العام - تقوم بها داخل حنطور بصحبة السيد فلا تسعفها الشجاعة حتى لاستراق النظر إلى الطريق ... وجعلت تسأل كمال عما يصادفهما في طريقهما من مشاهد وأبنية وأماكن، والغلام يحدثها في إسهاب مزهوا بدور المرشد الذي يقوم به، فهذا قبو قرمز المشهور الذي يجب - قبل الدخول فيه - تلاوة الفاتحة، وقاية من العفاريت التي تسكنه، وهذا ميدان بيت القاضي بأشجاره الباسقة، وكان يسميه ميدان «ذقن الباشا» مطلقا عليه اسم الزهر الذي يعلو أشجاره، أو يسميه أحيانا أخرى «ميدان شنجرلي» ساحبا عليه اسم بائع الشوكولاتة التركي، أما هذا البناء الكبير فهو قسم الجمالية، ومع أن الغلام لم يجد به ما يستحق اهتمامه سوى السيف المدلى من وسط الديدبان إلا أن الأم ألقت عليه نظرة مليئة بحب الاستطلاع الخليق بمكان يقيم به الرجل الذي سعى إلى طلب يد عائشة، حتى بلغا مدرسة خان جعفر الأولية، التي قضى بها عاما قبل التحاقه بمدرسة خليل أغا الابتدائية، فأشار إلى شرفتها الأثرية وهو يقول: «في هذه الشرفة كان الشيخ مهدي يلصق وجوهنا بالجدار لأقل هفوة، ويركلنا بحذائه خمسا أو ستا أو عشرا كما يحلو له.» ثم أومأ إلى دكان يقع تحت الشرفة مباشرة، وقال بلهجة لم يغب عنها مغزاها وهو يتوقف عن السير: «وهذا عم صادق بائع الحلوى.» ثم لم يقبل التزحزح عن موضعه حتى أخذ قرشا وابتاع به ملبنا أحمر، انعطفا بعد ذلك إلى طريق خان جعفر فلاح لهما عن بعد جانب من المنظر الخارجي لجامع الحسين، يتوسطه شباك عظيم الرقعة محلى بالزخارف العربية، وتعلوه فوق سور السطح شرفات متراصة كأسنة الرماح، فتساءلت والبشر يسجع في صدرها: «سيدنا الحسين؟» ولما أجابها بالإيجاب مضت تقارن بين المنظر الذي تقترب منه - وقد حثت خطاها لأول مرة مذ غادرت البيت - وبين الصورة التي خلقها خيالها له مستعينا في خلقه بنماذج من الجوامع التي في متناول بصرها كجامع قلاوون وبرقوق، فوجدت الحقيقة دون الخيال؛ لأنها كانت تنفخ في الصورة طولا وعرضا على قدر يناسب منزلة صاحب الجامع من نفسها، بيد أن هذا الاختلاف بين الحقيقة والخيال لم يكن ليؤثر شيئا في فرحة اللقاء التي ثملت بها جوانحها. ودارا حول الجامع حتى الباب الأخضر ودخلا في زحمة الداخلات. ولما وطئت قدما المرأة أرض المسجد شعرت بأن بدنها يذوب رقة وعطفا وحنانا، وأنها تستحيل روحا طائرا يرفرف بجناحيه في سماء يسطع بجنباتها عرف النبوة والوحي، فاغرورقت عيناها بالدمع الذي أسعفها للترويح عن جيشان صدرها وحرارة حبها وإيمانها وأريحية امتنانها وفرحها، وراحت تلتهم المكان بأعين شيقة مستطلعة جدرانه وسقفه وعمده وأبسطته ونجفه ومنبره ومحاريبه، وإلى جانبها كان كمال ينظر إلى هذه الأشياء من ناحية أخرى خاصة به ترى أن الجامع يكون مزارا للناس في النهار والهزيع الأول من الليل، وبيتا من بعد ذلك لصاحبه الشهيد يذهب فيه ويجيء مستعملا ما فيه من أثاث على نحو ما يستعمل المالك ملكه، فيطوف بأرجائه، ويصلي في المحراب ويرتقي المنبر، ويعلو النوافذ ليشرف على حيه المحيط، وكم تمنى حالما لو ينسونه في الجامع بعد أن يغلق أبوابه، فيمكنه أن يلقى الحسين وجها لوجه، وأن يمضي في حضرته ليلة كاملة حتى الصباح، وتخيل ما يخلق به أن يقدمه له عند اللقاء من آي الحب والخضوع، وما يجدر به أن يلقيه عند قدميه من أمانيه ورغباته، وما يرجوه بعد ذلك عنده من العطف والبركة، تخيل نفسه وهو يقترب منه خافض الرأس، فيسأله الشهيد برقة: «من أنت؟» فيجيبه وهو يقبل يده: «كمال أحمد عبد الجواد.» ويسأله عن عمله، فيقول له: «تلميذ - ولن ينسى التنويه بتفوقه - بمدرسة خليل أغا.» ويسأله عما جاء به في هذه الساعة من الليل، فيجيبه بأنه حب آل البيت عامة والحسين خاصة، فيبسم إليه عطفا، ويدعوه إلى مرافقته في تجواله الليلي، وعند ذاك يبوح له بأمانيه جملة قائلا: «اضمن لي أن ألعب كما أشاء داخل البيت وخارجه، وأن تبقى عائشة وخديجة في بيتنا إلى الأبد، وأن تغير طبع أبي، وأن تمد في عمر أمي إلى ما لا نهاية، وأن آخذ من المصروف قدر كفايتي، وأن ندخل الجنة جميعا بغير حساب» ... هذا وتيار الزائرات الزاحف في بطء يدفعهما رويدا حتى وجدا نفسيهما في مثوى الضريح، طالما تلهفت أشواقها على زيارة هذا المثوى كما تتلهف على حلم يستحيل تحقيقه في هذه الدنيا، ها هي تقف بين أركانه، بل ها هي لصق جدران الضريح نفسه، تشرف نفسها عليه خلال الدموع، وتود لو تتريث لتتملى مذاق السعادة لولا شدة ضغط الزحام، ومدت يدها إلى الجدران الخشبية، واقتدى كمال بها، ثم قرآ الفاتحة، ومسحت بالجدران وقبلتها ولسانها لا يني عن الدعاء والتوسل، ودت لو تقف طويلا أو تجلس في ركن من الأركان لتعيد النظر والتأمل ثم لتعيد الطواف، ولكن خادم المسجد وقف للجميع بالمرصاد، لا يسمح لواحدة بالتلكؤ ويحث المتباطئات، ويلوح منذرا بعصاه الطويلة، وهو يدعو الجميع إلى إتمام الزيارة قبل حلول ميعاد صلاة الجمعة، ارتوت من المنهل العذب ولكنها لم تطفئ ظمأها، وهيهات أن يروى لها ظمأ، لقد هاج الطواف حنينها، فتفجرت عيونه وسال وزخر ولن يزال ينشد المزيد من القرب والابتهاج، ولما وجدت نفسها مرغمة على مغادرة المسجد انتزعت نفسها منه انتزاعا، وأودعته قلبها وهي توليه ظهرها، ثم مضت حسرى يعذبها شعورها بأنها تودعه الوداع الأخير، بيد أن ما طبعت عليه من قناعة واستسلام آخذها على ما استسلمت له من الحزن، فردها إلى تملي ما ظفرت به من سعادة طارت بها هواجس الفراق، ودعاها كمال إلى مشاهدة مدرسته، فمضيا إليها في نهاية شارع الحسين، ووقفا عندها مليا، ولما أرادت الرجوع من حيث أتت أنذره ذكر العودة بانتهاء الرحلة السعيدة مع أمه، التي لم يحلم بمثلها من قبل، فأبى التفريط فيها واستمات في الدفاع عنها، فاقترح عليها أن يسيرا في السكة الجديدة حتى الغورية، ولكي يقضي على المقاومة التي بدت في صورة تقطيبة باسمة من وراء البرقع حلفها بالحسين فتنهدت، واستسلمت ليده الصغيرة، ومضيا يشقان طريقهما في زحمة شديدة وبين تيارات متلاطمة من السائرين في جميع الجهات مما لم تجد عشر معشاره في الطريق الهادئ الذي جاءت منه فعلاها الارتباك، وأخذت تفقد نفسها في اضطراب شامل، ولم تلبث أن شكت إليه ما تلقى من عناء وإعياء، ولكن تهالكه على إتمام الرحلة السعيدة جعله يصم أذنيه عن شكاتها، ويشجعها على مواصلة السير ويلهيها عن متاعبها بلفت نظرها إلى الدكاكين والعربات والمارة، وهما يقتربان في بطء شديد صوب منعطف الغورية، وعند ذاك المنعطف لاح لناظريه دكان فطائر فسال لعابه وثبتت عيناه عليها لا تتحولان، وراح يفكر في وسيلة لإقناع أمه بالدخول إلى الدكان وابتياع فطيرة، وبلغا الدكان وهو لا يزال يفكر، ولكنه ما يدري إلا وأمه تفلت من يده فالتفت نحوها متسائلا، فرآها وهي تسقط على وجهها وقد ندت عنها آهة عميقة، واتسعت عيناه في ذهول ورعب دون أن يبدي حراكا، ولكنه على ذهوله ورعبه رأى بجانب عينه - في نفس الوقت تقريبا - سيارة تفرمل محدثة صوتا عنيفا، ومرسلة وراءها ذيلا من الدخان والغبار، فكادت تدوس الملقاة لولا أن انحرفت عنها مقدار شبر، وتعالى صياح وحدثت ضجة وهرع الناس إلى المكان من جميع نواحي الطريق كما تهرع الصبية إلى صفارة الحاوي، فضربوا حولها حلقة غليظة بدت أعينا مستطلعة ورءوسا مشرئبة وألسنة تهتف بكلام اختلطت أسئلته بأجوبته، وأفاق كمال من الصدمة بعض الشيء فراح يردد عينيه بين أمه الملقاة عند قدميه وبين الناس في حال ناطقة بالخوف والاستغاثة، ثم ارتمى على ركبتيه إلى جانبها ووضع كفه على منكبها، وناداها بصوت تفتتت نبراته بحرارة الرجاء ولكنها لم تستجب له، فرفع رأسه مقلبا عينيه في وجوه الناس، ثم صرخ باكيا في نحيب حار علا على الضجة التي تكتنفه، حتى كاد يسكتها وتطوع البعض لمواساته بكلمات لا معنى لها، وانحنى آخرون فوق أمه مستطلعين بنظرات كمنت وراءها رغبتان؛ تنشد إحداهما السلامة للضحية، وتنزع الأخرى - في حال اليأس من السلامة - إلى أن ترى الموت - ذلك الحتم المؤجل - وهو يطرق بابا غير بابهم، وينتزع روحا غير روحهم كأنهم يودون أن يقوموا بشبه بروفا آمنة لأخطر دور قضي عليهم جميعا أن يختموا الحياة بلعبه، وصاح أحدهم قائلا: «صدمها باب السيارة الأيسر في ظهرها.» وقال السائق الذي غادر السيارة ووقف مختنقا بجو الاتهام الذي يطبق عليه: «لقد انحرفت عن الطوار بغتة، فلم أستطع أن أتفادى من صدمها، ولكني فرملت بسرعة فجاءت الصدمة خفيفة، ولولا رعاية الله لدستها» ... وجاء صوت من المحدقين إليها قائلا: «ما زالت تتنفس ... أغمي عليها فقط.» وعاد السائق يقول وقد لمح الشرطي قادما يترنح سيفه بجنبه الأيسر: «إنها صدمة خفيفة ... لم تتمكن منها أبدا. إنها بخير ... بخير يا جماعة والله ...» ثم انتصبت قامة أول رجل تقدم لفحصها وقال كأنما يلقي خطبة: «ابتعدوا لا تمنعوا الهواء ... فتحت عينيها ... بخير ... بخير والحمد لله! ...» كان يتكلم بابتهاج لا يخلو من زهو كأنه هو الذي رد إليها الحياة، ثم تحول إلى كمال الذي غلبه بكاء عصبي، فاسترسل فيه في انفعال لم تجد معه مواساة المواسين، تحول إليه وربت على خده بحنان وقال له: «حسبك يا بني ... أمك بخير ... انتظر ... هلم ساعدني على إقامتها» ... ولكن كمال لم يمسك عن البكاء حتى رأى أمه تتحرك، فمال نحوها ووضع يسراها على كتفه، وعاون الرجل على إقامتها حتى أمكن بجهد شديد أن تقف بينهما في إعياء وخور، وقد سقطت عنها الملاءة التي امتدت بعض الأيدي لتعيدها إلى موضعها - بقدر الإمكان - حول كتفيها، ثم قدم لها الفطائري الذي وقعت الحادثة أمام دكانه مقعدا فأقعدوها عليه وجاءها بقدح من الماء، فتجرعت جرعة سال نصفها على عنقها وصدرها، فمسحت بيدها على صدرها بحركة عكسية وهي تزفر زفرة عميقة. وجعلت تردد أنفاسا مضطربة بصعوبة وتنظر في وجوه المحدقين بها في ذهول وهي تتساءل: «ماذا جرى؟ ... ماذا جرى؟ ... رباه، لماذا تبكي يا كمال؟!» وعند ذاك اقترب الشرطي منها وسألها: «هل بك سوء يا سيدتي؟ وهل تستطيعين السير إلى القسم؟» فصدم اسم «القسم» عقلها فرجها من الأعماق، وهتفت بفزع: «لماذا أذهب إلى القسم؟ ... لا أذهب إلى القسم أبدا.» فقال لها الشرطي: «لقد صدمتك السيارة فأوقعتك، فإذا كان بك سوء وجب أن تذهبي أنت وهذا السائق إلى القسم لتحرير المحضر.» ولكنها قالت وهي تلهث: «كلا ... كلا ... لن أذهب ... أنا بخير.» فقال لها الشرطي: «توكدي مما تقولين، انهضي وامشي لنرى إن كان أصابك سوء.» ولم تتردد عن النهوض - مدفوعة بالفزع الذي أثاره ذكر القسم - فنهضت وأصلحت ملاءتها، ثم سارت تحت الأعين المستطلعة، وكمال إلى جانبها ينفض عن الملاءة ما علق بها من تراب، ثم قالت للشرطي وهي ترجو أن تنتهي هذه الحال المؤلمة بأي ثمن: «إني بخير (ثم مشيرة إلى السائق) ... دعوه ... لا شيء بي.» لم تعد تشعر بخور فيما ركبها من خوف، هالها منظر الناس المحدقين بها، خاصة الشرطي الذي يتقدمهم، وارتعدت تحت وقع النظرات المصوبة نحوها من كل مكان متحدية باستهانة بالغة تاريخا طويلا من التستر والتخفي، فتخايلت لعينيها فوق هذا الجمع صورة السيد وكأنها تتفرس في وجهها بعينين باردتين متحجرتين منذرتين بما لا تطيق تصوره من الشر، فلم تأل أن قبضت على يد الغلام واتجهت به صوب الصاغة، فلم يعترض سبيلها أحد وما غيبهما منعطف الطريق، حتى شهقت من الأعماق وخاطبت كمال، وكأنما تخاطب نفسها: «يا ربي ماذا حدث؟ ماذا رأيت يا كمال؟ كأنه حلم مفزع، خيل إلي أني أهوي من عل إلى هاوية مظلمة، وأن الأرض تدور تحت قدمي، ثم غبت عن كل شيء حتى فتحت عيني على ذاك المنظر المخيف، رباه ... هل أراد حقا أن يذهب بي إلى القسم؟! يا لطيف يا رب ... يا منجي يا رب، متى نبلغ بيتنا؟! بكيت كثيرا يا كمال لا عدمت عينيك أبدا ... جفف عينيك بهذا المنديل حتى تغسل وجهك في البيت ... آه.»
ناپیژندل شوی مخ