ولم تدم الإمبراطورية الرومانية، التي لم تأخذ في التكوين إلا بعد سقوط قرطاجة، إلا بفضل سلطانها المسلح، وذلك كما اتفق للإمبراطورية البريطانية فيما بعد.
وكان سير القوى في بحر إيجه وآسية الصغرى يختلف اختلافا موجبا للارتباك، وإن ملكا، كفليب المتعوق وأنطيوخس القوي، قد قاتل الرومان في مقدونية وسورية مقدما فأمسكوا بعيدين من مصر. وبعدما قهر هنيبال طلب العون لقرطاجة من فنيقية التي يرجع إليها أصل أجداده، ولاح كمن هو في ذكر شعري حين عاد إلى الشرق ليبحث فيه عما كان محتاجا إليه فلم يجده في الغرب، ولكن ملكا شرقيا خادعا قد خانه، ولكنه أضاع حياته في الحين نفسه. وكان النصر يكتب للرومان في كل مكان فوق البر وعلى البحر، ولما نصر الرومان لأول مرة في بحر إيجه سنة 191 قبل الميلاد عين مصير البحر المتوسط بأسره لقرون كثيرة.
وكان الرومان دهاة حينما كانوا يظهرون بمظهر المنقذ للأمم التي لم تطلب منهم أن يحرروها قط، ولكن الأغارقة، أو ساستهم الأذكياء على الأقل، كانوا من اللطف ما لم يبدوا معه عواطفهم الحقيقية فاحتفلوا بعيد إنقاذهم مع الغالبين في الألعاب البرزخية كما لو كانوا غير شاعرين بأن الكتائب الرومانية التي تتقدم تدوس حريتهم تحت أقدامها. وكان النظام الروماني الجديد يقوم على حماية الدول الصغيرة تجاه الدول الكبيرة وعلى احتلال المراكز المهمة من غير فتح للأملاك وعلى إضعاف للخصم في الداخل، فاتخذ هذا النظام مثالا من قبل الفاتحين في المستقبل. ومن ينظر إلى وجه أنطيوخس الكبير في متحف اللوفر يبصر ما ينم عليه من مرارة أحد التابعين الأولين لرومة وشغل باله، ولا بد من أن يكون فليب الخامس الملقب باليوناني الأخير قد شعر بمرارة الهزيمة هذه.
ومع ذلك بلغت رومة من قوة الجذب ما نقل معه ملكا دولتي القسم الشرقي من البحر المتوسط سلطانهما إلى الرومان، موجدين بذلك ولاية آسية، وكان هذا قبل طرد القراصين من قبل بونبي وقبل تعميم القانون الروماني، وكان السر يتجلى في القيام بفتوح دائمة لجعل الناس يعتقدون تعذر القهر. وكان الرومان، الذين ورثوا كل شيء من الأغارقة فانتحلوا آلهتهم وفلسفتهم وتماثيلهم، يرقبون هؤلاء الأغارقة الأمدن منهم كما كانوا يرقبون شعوب القسم الشرقي من البحر المتوسط. وقد بلغ الرومان هذا المقام بما لديهم من نظام وقوة عسكرية، ولم يكن هؤلاء القوم الذين هم أقل تمدنا ليستطيعوا السيطرة على أمم كثيرة مدة ثلاثة قرون إلا لانتحالهم حضارة من قهروهم.
وكان الرومان مدينين بنجاحهم من بعض الوجوه لإقدامهم على المغامرة في البحر، فلما باع روماني حقله للمرة الأولى حتى يشتري سفينة غير تاريخ البحر المتوسط وزنه وقياسه، وما كان من تحول سلطان رومة البري، الذي ثبت أمره في القرن الثالث والقرن الثاني قبل الميلاد، إلى سلطان بحري أيضا هو من الغرائب التي تفسر بنظام رومة الفني والاجتماعي.
والواقع أن الرومان المدققين لم يسلكوا سبيل الخيال الذي هو صفة اليونان المهيمنة، والرومان كانوا يحذرون حتى سراب الهوى، وإذ تعود الرومان معارك البر فإنهم لم يهدأ لهم بال قبل اختراعهم في المركب طبقة بين جسرين غير قابلة للعزل بالغة من الارتفاع ثمانية أمتار في يسار المركب. ولما انقض هنيبال في المعركة الأولى على مراكب العدو وفق عادته ذعر؛ إذ وجد نفسه أمام تلك المراكب، فلم ير غير النجاة من الأسر. وكان هذا الانتصار البحري الذي نالته الدولة البرية رومة على القرطاجيين انتصارا للآلات والعناد على التجربة وسهولة الحركة، وفي الحين نفسه أثبت الرومان ما فيهم من روح التضحية عندما أنشئوا أسطولين جديدين غاليين بعد هزيمتهم الأولى.
وهنالك سبب آخر لفوز الرومان، وهو روح الاقتصاد التي هي فضيلة الأفراد والأقوام العاطلين من الخيال، وما نالته رومة من ثروات في البلاد المفتوحة اقتصد فيه اقتصادا منتجا في السنين المائة أو المائتين الأولى، وذلك من قبل الدولة كجماعة أو من قبل التجار كأفراد، فكانت تلك الثروات عامل زيادة في القوة التي هي مصدرها. وبينما كان الزيت والقمح يردان كثيرا إلى صقلية، وبينما كانت الفضة والذهب والمعادن الأخرى تأتي من إسبانية وآسية الصغرى، لم يكتف الشعب الطموح في ذلك الزمن بامتلاك الأرضين، بل كان ينشئ سفنا جديدة أخرى ويقيم بالولايات البعيدة مؤسسات تجارية جديدة، وذلك على حين كانت الحكومة تعبد طرقا وتبني مراكب حربية.
وإن الجمال الذي كان يعبر عنه بالآلات والإنشاءات لدى الرومان، كما عند الأمريكيين في الوقت الحاضر، لم يكن ليسرف على الأواني والرخام كما في بلاد اليونان، وكان الجمال عمليا على الدوام، وكانت الآلهة تحمل على النفع في المعابد، وقد أدى النظام والعمل اللذان هما من لوازم الأمزجة النائرة إلى فتح العالم بأسرع مما يؤدي إليه الروح والخيال. وقد عرف الرومان أن يحسنوا زراعة الأرض وأن يسمنوا الدواجن بدلا من إبداعهم تماثيل وروايات. أجل، كانت الإوز تسمن في الأكروبول، ولكنه لم يعجب بالذي كان يقوم بهذا العمل.
ولم يكن المال ليعبد في دور إقبال رومة من أجل المال نفسه، وذلك خلافا لما كان عليه الأمر في قرطاجة، والمال الفاعل المحول إلى قيم منتجة هو الذي كان محترما وحده، وما كانت نقود الاعتماد كالصرر الجلدية المختومة التي لا يعرف أحد ماذا تحتويه لتخترع في غير قرطاجة، ثم انتحلت من قبل دول أخرى، ومن كان يفتح صرته عن فضول يخسر قيمتها لعجزه عن ختمها ثانية، وبما أن الدولة كانت تقبض هذه الصرر ثانية بثمن الإصدار فإن أحدا لم يبال بقيمتها الحقيقية، وقد كانت رمزا تاما لتأليه المجهول ووجها لما كان الكهان يخادعون به العلمانيين
129
ناپیژندل شوی مخ