86

بحر متوسط

البحر المتوسط: مصاير بحر

ژانرونه

وكان يمكن هذه الحياة الفاجعة أن توحي إلى شكسبير، وقد سجل التاريخ عناد الرومان ووطنيتهم كما سجل براعتهم في تلقي دروس من العدو، فقد اقتبسوا طراز المراكب الحربية القرطاجية واقتبسوا فن القرطاجيين الحربي فاستطاعوا أن يقاتلوا في إسبانية وأفريقية وأن يحملوا هنيبال، هذا البطل الذي أسئ جزاؤه، على الفرار إلى آسية الصغرى للبحث عن حلفاء ضد رومة.

وتمضي أربعون سنة على بدء هذه الحرب العالمية، وينسى هنيبال تقريبا، ويؤلمه أن يبصر جلاوزة

128

الرومان أمام بيته فيزدرد السم.

ومن الراجح أن يكون سبيون، الغالب في هذه الحرب والذي وفق لإقامة دولة رومة العالمية نهائيا، قد مات في السنة التي مات فيها هنيبال، وهو قد توفي في منفى اختياري مشاطرا بذلك مصير كثير من أبطال القرون الأولى، وهو قد أوصى بألا يرقد في أرض رومانية.

27

ولانتصار الرومان نتائج لا تحصى، فقد صار البحر المتوسط بعد الحرب البونية الثانية؛ أي جميع العالم المعروف في ذلك الحين تقريبا، ملكا لهم، وظل قبضتهم خمسة قرون، وداومت قرطاجة على العيش، وعاشت مرفهة حينا آخر، وغدت مدينة تجارية بلا مستعمرات. بيد أن هذا الشعب لم ينتج غير تجارته، فلم يكن عنده، كما عند أثينة، حضارة، ولا شعراء وقصص فاجعة، ولا معابد وتماثيل، ولا فلاسفة وعلوم طبيعية، وقد زال اسمه سريعا مع أن الأغارقة الذين نزع سلطانهم السياسي منهم لا يزالون ذوي نفوذ يزيد قوة مقدارا فمقدارا.

وأخذت رومة الظافرة ترسل مراكبها الحربية وكتائبها ضد اليونان، ورومة هي التي كانت تلزم خطة الدفاع تجاه قرطاجة وتهاجم كثيرا حتى سنة 200 قبل الميلاد فصارت تبحث لنفسها عن فتوح. ولما وحدت إيطالية تقريبا وتقدمت نحو جبال الألب في الشمال واستولت على لنباردية ثم على ليغورية، كانت الضرورة هي التي تدفعها إلى حماية نفسها تجاه الغوليين والسلت الآخرين، وعلى العكس لم تكن مغازي الملك الشاب فليب المقدوني في الشرق غير ذريعة للرومان. والحق أن هؤلاء القوم الذين هم أمهر من في البحر المتوسط أخذوا يدفعون إلى حروب جديدة في البر والبحر عن رغبة في السيادة العالمية. والحق أن الرومان استطاعوا بين سنة 200 قبل الميلاد وسنة 100 بعد الميلاد أن يقيموا أعظم إمبراطوريات القرون الأولى وإمبراطورية من أوسع ما عرف التاريخ.

وترى هذه الإمبراطورية الأولى مدينة في قيامها لتطبيق ناموس السكون على الأجسام المتحركة، وفي هذه المرة لم يكن الموضوع موضع برابرة كالفرس ولا تجار كالقرطاجيين، ولم يكن الرومان مرتجلين عن عبقرية كالأغارقة فيذهبوا من جزيرة إلى جزيرة وفق هواهم ووفق وحي الساعة عاطلين من خطة معينة ومن مركز للقيادة ومتعاركين على الدوام، ولم يكن ذلك مثل رأي أحد الفراعنة الذي عزم بغتة على سوق جيوش عظيمة ليدعها بعدئذ تهلك في الصحارى أو البحار، ولم يكن ذلك كالغزو الخيالي الذي قام به بعض الفاتحين كالإسكندر عن حلم في السلطان إلى أقصى حدود الدنيا، وإنما شاد الرومان إمبراطوريتهم في تلك القرون الثلاثة عن عزم منظم فكانوا يستولون على الولاية بعد الولاية متطاولين رويدا رويدا كما استطاع الإنكليز أن يقلدوهم به بعد زمن.

وإذا وجد من يشك في أن بعض البصائر المنظمة سيطرت على السياسة الإنكليزية، وإذا وجد من يفترض أن كل شيء قرر عندهم وفق وحي الساعة، فإنه لا يقال أكثر من تفتح نظام ذرائعي في رأس رجل مثل سبيون أو يوليوس قيصر، وعلى العموم تبصر رؤى الأكابر التي نظر إليها متفرقة شخصيا قد حفظت بعد حين في القصص والشعر والفلسفة. وما كان من انتظار الرومان حتى سنة 300 قبل الميلاد لاختراع أسطورة انتسابهم إلى أسود تروادة هو من الرمزية كتقليد قواد الرومان للإسكندر حينما ولوا وجوههم شطر القسم الشرقي من البحر المتوسط. أجل، كانت مقاومة قوى الرومان أمرا متعذرا، غير أن هذه القوى كانت تعد غير ذات معنى لولا تعاقب الفتوح تعاقبا رائعا، ولولا هدف كل شيء إلى سيادة العالم السلمية تحت شعار «السلم الروماني».

ناپیژندل شوی مخ