وكان منار الإسكندرية أشهر مناور القرون القديمة وأدعى ما في تاريخ جميع البحار إلى العجب، وكان ميناء الإسكندرية يستحق الإعجاب فضلا عن ذلك، وكانت أسواره قد أنشئت موازية للشوارع وفق نهج جديد في ذلك الحين. وكان يتألف من رصيف فني متين بالغ من الطول فرسخا مرفأ مزدوج ينتهي إلى قباب ذوات مخرجين، ومع أن الممر الغربي لا يتصل بمياه النيل صار المرفأ الرئيس لسهولة الدفاع عنه، وفصل الممر الأصغر فحصن حتى في زمن أنطونيوس على حدة. وكان المرفأ الأكبر من اتساع المكان ما يصلح معه ملجأ لأكبر السفن ومحطا لسلعها، وهو في ذلك كنيويورك التي يمكن أن تكون مأوى لبواخر ك «النورماندي».
وكان المنار يبرز في أقصى الرصيف من ناحية الغرب فيشتق اسمه من جزيرة فاروس التي يصلها رصيف بالشاطئ. وقد دعي كثير من الأبراج المنارة في كثير من اللغات ب «الفنارات»، كما أن كلمة قيصر أتت من كلمة سزار. وكانت ناطحة السحاب الثانية في التاريخ هذه (وقد كانت ناطحة السحاب الأولى قائمة في صور منذ زمن طويل) بالغة من الطول 110 أمتار، وكانت من طراز البناء ما يوصل معه إلى بابها الذي يعلو مستوى البحر خمسة عشر مترا ركوبا على الحصان فوق سلم مائل، وما كان من شكل هذا البرج الجليل المثمن الزوايا في الطبقة الثانية والأسطواني في الطبقة الثالثة يعد بدعا في فن البناء. وكانت نار المنار مغطاة بسقف؛ أي مصانة من المطر والعاصفة بعض الصيانة، وبما أن نار الحطب والقطران لا ترى إلا من مسافة سبعة أميال بحرية على الأكثر فقد صنعت مرآة مقعرة يصير بها مدى النور عشرين ميلا بحريا، فكان هذا الاختراع من الأهمية ما يقاس معه بالنور الكهربي.
وقد عد برج الإسكندرية من عجائب الدنيا مدة ستة عشر قرنا، وقد أنقذ حياة ما لا يحصيهم عدد من الملاحين، وقد طال أمده على الرغم من جميع الزلازل، فلما كانت سنة 1300 انهار، وجاء هذا الانهيار مطابقا لما منيت به آثار يونانية أخرى.
26
ظلت حياة الإسكندر حادثا بسيطا في تاريخ البحر المتوسط، ومع ذلك كانت أمم البحر المتوسط تتلقى أوامره مرتجفة ضارعة إلى آلهتها أن تبعده عنها بأن تجعله يوغل في الشرق، فلما مات وانهارت إمبراطوريته عادت رومة وقرطاجة إلى الاصطراع ولكن بوسائل واسعة في هذه المرة.
وقد صارت دولة الفلاحين البرية رومة دولة بحرية لضغط قرطاجة إياها، وذلك كإنكلترة في أثناء كفاحها ضد النورمان، وكل منهما مدين بعظمته لضرورة الدفاع عن النفس، وكل منهما اقتص من الخصوم الأقوياء في نهاية الأمر. ففي مدرسة الضرورة الكبرى تخرجت الأمم كما تخرج الأفراد، ولم يتم أعظم الاختراعات حين الرغد، بل وقت الضيق، شأن أصحاب السجايا العظيمة الذين يكون الخطر عامل ثبات لهم في الغالب. وقد استطاع بعض الأقوام كالمصريين، وبعض العباقرة كسوفوكل وغوتة، أن ينموا نموا متوازنا منسجما، وهم، حتى في هذه الحال، كانت تخامرهم فتن باطنية غير بادية ولكنها حقيقية.
وقد دام اصطراع رومة وقرطاجة في سبيل سيادة العالم 120 سنة وانتهى بانتصار رومة. وكانت رومة تتمتع بثلاث مزايا في البداءة، وهي أنها كانت صاحبة قاعدة في وسط البحر المتوسط، وأنها كانت قادرة على تطبيق عتادها الطبيعي في المعارك البرية على المعارك البحرية، وأنها كانت تشتمل على أهل أشد فقرا وأكثر طموحا وأعظم مرونا على الحرب وأظهر إخلاصا من أغنياء قرطاجة وتجارها الذين كانوا راغبين في التمتع بغناهم آمنين ظانين إمكان الدفاع عن بيضتهم بجنود من المرتزقة. وكان القرطاجيون كأغنياء مانشستر الذين ظلوا حتى سنة 1900 يزعمون قدرتهم على مزاحمة ألمانية الفتاة بآلاتهم القديمة، فحافظ القرطاجيون على أساليبهم الابتدائية التي ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد مقدرين أن ما استقر من تقاليدهم واحتكارهم يدوم إلى الأبد، ومع ذلك حل الوقت الذي أبصر فيه زبنهم من الإسبان أن الآلات في صقلية من أحسن جنس وأن الآنية في صقلية من أجمل نوع.
ومع ذلك وفقت قرطاجة البالغ أهلها أربعمائة ألف إنسان، وذلك بما لديها من الذهب؛ ليكون عندها من الجنود، الذين كان عددهم ستين ألفا، ما يشل به، لقرن آخر، ملايين السكان الأربعة الذين هم أهل مستعمراتها الأفريقية والإسبانية، وذلك كما فعل الإنكليز إلى وقت قريب.
ويموت الإسكندر حوالي سنة 300 قبل الميلاد فتظل قرطاجة ورومة وحدهما دولتي ذلك الزمن الحقيقيتين. وكان الأغارقة قد خسروا من سلطانهم البحري بمقدار ما ربحوه من النفوذ الثقافي في عهد الإسكندر الأكبر. وقد جرب بعض الأغارقة المغامرين، كأغاتوكل الصقلي، حظهم ضد قرطاجة فاستولوا على تونس ووتيكة اللتين لم ينزل إليهما عدو منذ أقدم الأزمان، غير أن هؤلاء الأغارقة رموا من هذه الشواطئ في نهاية الأمر كما رموا من معظم صقلية. وقد بلغت قرطاجة من بعد الصيت ما صار كثير من المستعمرات الإغريقية يرى معه أن من السعادة وقوعه تحت حماية قرطاجة. وفي ذلك الحين كانت الإمبراطورية القرطاجية تشتمل على جزائر البليار، وعلى مالطة ونصف مراكش وإسبانية، وعلى قورسقة، وعلى قسم كبير من صقلية وسردينية، وعلى ليبية. وكانت اللغة البونية؛ أي القرطاجية، لغة هذه البلاد الرسمية ، وكانت جميع هذه الأمم تابعة وإن كان يطلق عليها اسم «حلفاء» مداراة.
وكانت بحرية قرطاجة الحربية مؤلفة من ملاحين منتسبين إلى الشعوب الأجنبية: الإسبان والسلت والقورسقيين والنوميديين، ولم يكن القرطاجيون ليشتركوا في المعارك إلا عند غزو بلدهم؛ أي كانوا لا يشتركون فيها أبدا. وكان «الجيش المقدس» المؤلف من فتيان هيف يبدي من المظاهر الحربية ما كان يميس معه حاملا تروسا مذهبة وأسلحة ثمينة. وكان هؤلاء الشبان يعرضون أمام النساء غمود سيوفهم العاجية من غير أن يستعملوا هذه السيوف أبدا على ما يحتمل. ومع ذلك كان هذا الجيش يلقي هولا بفضل ما عنده من فيول يمكن تشبيهها بالدبابات الحاضرة، فتعلم القرطاجيون وجه الانتفاع بها على غرار الإسكندر الأكبر الذي كان قد أتى بفيول من السند، ولما بدت الفيلة الأولى في إيطالية أمالت الميزان إلى ناحية قرطاجة.
ناپیژندل شوی مخ