وكان صلاح الدين يمقت النصارى ولكنه كان يعاملهم كفيلسوف، وكان قلب الأسد لا يمقت المسلمين ولكنه كان يقتلهم، والحكمة هي التي كانت تتغلب على ذلك الشرقي، والجبلة هي التي كانت تتغلب على هذا الغربي، ولو نظر إلى الأفكار الشائعة لوجب أن يكون قلب الأسد هو الشرقي.
وما كان البقاء ليكتب لمملكة القدس اللاتينية في وسط العالم العربي إلا لما بين الأسر المالكة الإسلامية، ولما بين خلفاء بغداد وفاطميي القاهرة، من شقاق؛ ولذا كان على قائد الخليفة صلاح الدين أن يقهر المصريين في بدء الأمر حتى يقضي على تلك الجزيرة النصرانية، وقد وفق صلاح الدين لذلك بعد جهاد عشر سنين مع عزم وثبات شرقي، وقد بدد قلب الأسد نشاط نفسه في مئات المعارك المحلية، وقد استولى صلاح الدين على مملكة قوية، ونادى بنفسه سلطانا في الثلاثين، وجمع تحت سلطته جميع تراث الفاتحين الأولين تقريبا، واسترد القدس بعد أن أضاعها الترك بنحو قرن، وحول هيكل سليمان إلى مسجد، ولكن مع حقن دماء النصارى جهد المستطيع، ويصبح بفتوحه أقوى من جميع أمراء المسلمين.
وكان يكبر الإنكليزي بعشرين سنة، وكان مجاوزا الخمسين من عمره؛ أي كان في أوج سلطانه، حينما قبض الآخر على زمام الحكم ابنا للثانية والثلاثين فقط ولبى نداء حرب صليبية جديدة. وكانت فتوح صلاح الدين قد دفعت أوروبة إلى قتال جديد شعاره «يجب استرداد البلاد المفقودة!»، فكان من شأن مثل هذه الرسالة إثارة خيال قلب الأسد وطموحه وخلق المغامرة فيه.
ويصل إلى صقلية، وتشتعل المعارك حيثما يرد، وكانت أرملة ملك صقلية أخته، وهذا لم يمنعه من حصار مدينة مسينة النصرانية وانتهابها نتيجة لخصام لا أهمية له، وكان هذا حربا صليبية مصغرة.
وكان ريكاردوس فارسا فرنسيا حقيقيا، وقد تهدد الإنكليز ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد كان كريما وطماعا فروسيا وغضوبا مدللا وتابعا لهواه معا، وتمنحه هذه الصفات روحا متناقضة قاتمة، وتجعله عرضة لمتاعب مباغتة ولسوداء يعقبها حميات نشاط جديد. وعلى ما كان من صدق رغبة قلب الأسد في تحرير القبر المقدس نسي ما أعطاه من موعد أمام حصن فذهب لفتح قبرس في طريقه وتزوج أميرة فيها، ثم يصل وليد الحظ المفضل هذا إلى عكا متأخرا ستة أشهر فيستقبل كمنقذ مع ذلك.
ويبدو أمام القدس مرتين من غير أن يأمر بحصارها، وذلك لخوفه من قلة الماء لكتائبه وما يؤدي إليه هذا من حبوط الحصار ومن خسره نفوذه ومجده تجاه الأعقاب، ويحاول صلاح الدين أن يكسب وقتا فيعده بإعطاء جزية ولا يدفعها صلاح الدين، فينتقم ريكاردوس بقتله ألفي رهين لعدم قبضه مائتي قطعة من ذهب، ويعرف العالم بأسره ما أبداه صلاح الدين من حلم تجاه أسرى النصارى، حتى إنه أضاع بحلمه هذا قلعة عكا التي صانها زمنا طويلا فتنال مددا في نهاية الأمر.
وما كان يقضيه قلب الأسد من حياة تجوال بين بلد وآخر يبعده من مملكته زمنا طويلا ويوجب محاولة أحد إخوته أن يخلعه في لندن، وينتهي خبر ذلك إلى ريكاردوس فيغادر سورية من فوره إنقاذا لعرشه، ويعقد صلحا على جناح السرعة عن اضطراب نفسي أو عن تعب فيكلفه ذلك كما يكلف النصرانية معظم ما كان قد اكتسبه في جولته الأولى، ولا يبقى لاتينيا غير طرف من الساحل وغير ممر إلى القدس، ويظل القبر المقدس قبضة الكافرين، ولا يستطيع الحجاج أن يصلوا إليه إلا عزلا من السلاح، وينصرف قلب الأسد كقائد مقهور، فلما بلغ بلده كان غير ذي جيش.
وما فطر عليه قلب الأسد من عناد خلقي أدى إلى حقد نصف أروبة عليه، وعاد قلب الأسد لا يستطيع المغامرة وراء البحر، حتى إنه لم يقدر على المرور من فرنسة التي كان قد أهان ملكها، ولما أراد أن يجازف بشق طريق له من خلال ألمانية سقط بين أيدي جواسيس يعملون لحساب دوك نمسوي كان قد شتمه أمام عكا في ساعة نزق، ولما وقع أسيرا وجد في القلعة الشاعر الجوال بلوندل الذي هو أحد تابعيه، ويسلم إلى الإمبراطور خلافا لحق الصليبيين في الإكرام، ويحتفظ الإمبراطور به أسيرا ولا يطلقه إلا في مقابل فدية عظيمة يدفعها أبناء إنكلترة من أموالهم، ويعود إلى بلده فلا يعتم أن يسترد سلطانه، ويغفر لأخيه خيانته، ويعود إلى فرنسته محبوبا، ويلاقي زوجه التي تركها في أثناء فراره، ويسكن حصنا جديدا، ومن الطبيعي أن يبحث من فوره عن سبب تافه لمقاتلة كونت. ويموت قلب الأسد ريشارد بطعنة رمح، ويلوح أنه أراد معالجة الجرح بالاستخفاف فلا يطهره ويلتهب الجرح ويوجب موته.
ويعقد الصلح مع صلاح الدين فيرسل إليه قلب الأسد هدايا ملكية، وما فطر عليه من القرى وحب الأولاد وحماية النساء ونظرة أنس، ومن حلم في الأوضاع، جعل منه قديسا بعد حين، وهو لم يكن قديسا في الحقيقة، وإنما صار قطب دائرة من الأساطير كما حلم به. وكان صلاح الدين رمز حصن الإسلام وآسية ضد أوروبة النصرانية، وكان قلب الأسد مثل القرون الوسطى الأعلى وبطل أحلامها، وكلا الرجلين جاوز مقياس التاريخ، وعاد لا يكترث أحد لحروبهما التي انتهت فور وفاة صلاح الدين، وعلى العكس تراهما قد بلغا أعلى مناطق الأقاصيص، فصار صلاح الدين بطل أسطورة وصار قلب الأسد بطل نشيد حماسي، وعد كل منهما مجاهد القرون الوسطى على البحر المتوسط.
23
ناپیژندل شوی مخ