وأخيرا تسقط القدس في سنة 1099، ويزيد شوق الفاتح إلى الانتقام، وإذا ما قرئ في تقرير قديم: «أن الصليبيين ملئوا ساحة هيكل سليمان بالدم حتى ركب الفرسان وعدد خيولهم» أثلج حتى الفقار عند تمثل تحرير تلك المدينة الأول من قبل جنود الرب الأتقياء أولئك. وكان النبي الذي يرقد في القبر المقدس نبيا يعترف به دين الأعداء أيضا، وكان كلا الدينين يأمر بالتسامح، وما كان من اقتتال أتباعهما على الرغم من كل شيء يثبت أنه يمكن سلطان الرموز والأشعرة أن يحيط حس العقل والعدل بطبقة من الظلام، ويقتل الألوف من الفريقين بعد سقوط القدس مع أن أجدادهما كانوا يدعون إلها واحدا بأسماء مختلفة، ويدل هذا على جاذبية النداءات الحربية والأشعرة وعلى تأثير الخطب في الجماهير.
أجل، بقيت مملكة القدس اللاتينية التي أقيمت بين ما لا حد له من الدسائس والمنافسات ثلاثة قرون مبدئيا، ولكنها دامت قرنا واحدا فعلا، ويرفض غودفروا البويوني، الذي هو أول فارس اختير ملكا، هذا اللقب بإباء مفضلا إقامة دولة دينية، ويعلن أنه تابع للبطرك الجديد و«قيم على القبر المقدس»، وعلى العكس يسمي أخوه، الذي خلفه بعد عهد سنة، نفسه بودوان الأول، ولا يكون إذن غير إمارة صغيرة زائدة بدلا من دولة دينية واحدة، ولم يسفر هذا الإنشاء الذي ظن أنه يكون نموذجا للملوك والقساوسة عن غير إثارة ما لا نهاية له من صراع بين ملوك القدس وقساوستها، وبين النورمان والفرنسيين، وبين اللوران والطليان، من صراع عن حب للسلطان ومن غير أي نفع للأعقاب ومن غير أي تأثير في نفوس العالم الحديث وأفئدته.
وتتحول الحرب الصليبية النصرانية ضد الكفرة إلى قتال بين خمسة أو ستة من الأمراء والشعوب ، ويحارب النورمان بزنطة، وتقاتل منظمتا الهيكليين وفرسان مار يوحنا ملوك القدس، ويقاتل أباطرة ألمانية وبزنطة ملوك فرنسة والنورمان، ومن ينظر إلى الأساس يبصر اقتتال جميع النصارى، والفرنج والعرب وحدهما هما اللذان عقدا معاهدات دولية مثبتين مخالفة الحروب الدينية للعقل، ويمضي زمن، فيقترح سلطان مصر، حوالي سنة 1220، على أمراء النصارى أقرب الحلول إلى الصواب؛ أي يعرض عليهم جميع الأرض المقدسة على أن يتركوا مصر، غير أن الكردينال بيلاج، الذي كان يفضل استغلال مصر الغنية على تملك الأرض المقدسة الفقيرة، رفض ذلك فلم ينل هذه ولا تلك في نهاية الأمر.
22
صدر ما بين ملوك العرب والنصارى من تضاد أيام الحروب الصليبية عن تاريخ رجلين بما يقف النظر، وقد تقاتل الرجلان من غير أن يقهر أحدهما الآخر، وقد تفاهما في نهاية الأمر، وقد انتقل اسمهما إلى الأعقاب مع تماثل في المجد، والرجلان هما قلب الأسد ريكاردوس والسلطان صلاح الدين.
تفصل قارة وبحر محيط بين مسقطي رأس هذين الرجلين المختلفين عرقا ودينا، ومع ذلك كان كلاهما جنديا وفارسا بفطرته، ومع ذلك كانا متساويين ثقافة ومقاما واستعدادا عندما التقيا في معركة قصيرة، ومع ذلك كانا يختلفان شخصية بفعل ما نالاه من تربية فضلا عن اختلاف العرق والدين.
صار ابن ملك إنكلترة دوكا فرنسيا في الخامسة عشرة من سنيه، ونشئ ليقبض على زمام الأمور، وكان يتيه زهوا بإقدامه الرائع فارسا، وهو لم يعتم أن اشترك، كأمير من بلد أجنبي، في مؤامرة ضد ملك فرنسة، وتكتشف المؤامرة ويخزى الأمير، ثم يعفى عنه، وتعاد إليه حقوقه، ويبلغ من العمر ثماني عشرة سنة، وينقذ متبوعه من تمرد كونت آخر، ويخاصم أخاه الأكبر الذي اقتدى بأخيه الأصغر في مهنته عن حسد، ويموت أخوه هذا فيغدو ولي عهد إنكلترة ونورماندية، ويحفزه نشاطه ومواهبه وآماله، كمقاتل لا يشبع من القتال، إلى البحث عن مآثر جديدة، ويجد، كشاعر جوال وموسيقي، في نيل المجد بالفن والقتال معا.
وفي الدور نفسه يبدأ ابن كردي من أرمينية، يبدأ القائد والحاكم، يبدأ ابن الأصل الوضيع، بعمله وفق خطة حياة ناشئة عن حماسة عميقة، ويكون بسنوات صبر وتأمل صامت.
ومن سوء الحظ أنه ليس عندنا صورة صحيحة لكل من الرجلين، خلا خاتم لريكاردوس ورسيم لصلاح الدين، وكلا الرسمين خفيف؛ ولذا ترانا مضطرين إلى تنور سيماهما بما انتهى إلينا من أوصاف، فنبصر الصليبي النشيط العصبي الصوال بجانب الكردي الصموت الفاتر المتبصر، ويبدو الأول لنا أكثر قسوة من الثاني.
وينم اسم «صلاح الدين» على تدين عميق في هذا المسلم، وينم اسم «قلب الأسد» على قوة المشاعر، وكان الاسمان لقبين، ومن ثم كانا جزأين من شخصية البطلين، وقد ربي ابن الملك بين الألعاب العسكرية وشجاعة الفرسان، وما كانت التوراة لتدل قلب الأسد على شيء كبير، وكان صلاح الدين الذي تخرج في مركز الثقافة الإسلامية دمشق يحمل القرآن مدى حياته.
ناپیژندل شوی مخ