140

بحر متوسط

البحر المتوسط: مصاير بحر

ژانرونه

كانت طبيعة الجرماني الغريزية المفرطة وثقله الطبيعي وعنصر كيانه الغائم الوجدي وخضوعه للقدر أمورا تحتاج إلى ما توازن به أعمال شجاعته، وإذا كان الجرماني لا يستطيع غير مخافة آلهته القديمة فإنه كان يمكنه أن يتوكل على الرب الجديد، وهو قد استطاع أن يحترم هاتفه كما كان يحترم داعي العجائز؛ لأنهن كن بلا قوة، وإنه لكذلك إذ يجد نفسه تجاه إله يعفو بدلا من أن ينتقم ويبارك بدلا من أن يجازي، إذ يجد نفسه تجاه محكمة تؤثر في مشاعره بدلا من أن تأمر بالانتقام والتكفير، وهكذا يبدأ اعتراك نفسي واسع المدى بهز هذه الملايين من الآدميين الذين دعوا إلى الرب الجديد. ومع ذلك فقد مضت سبعة قرون بين ذلك العماد الكثيف وعماد آخر ألماني، ولولا هذا الوجد العميق الذي أسفر عنه اعتناق البرابرة للنصرانية ما أمكن إدراك أمر الهوى الذي نشأ عن تخاصم الكنيسة والدولة، وما كان نزاع بعض الملوك والأمراء الطامعين، لانتزاع بعض الأسقفيات والأديار، ليمكن بلا شعور شعبي كالذي كان في الشمال يفصل المؤمنين عن الماجنين.

وكان الأباطرة يسيرون كممثلي مزاج عقلي وثاب تواق إلى الاندفاع نحو الجنوب، نحو البحر المتوسط الدفيء الخصيب الذي هو هدف أحلامهم، وكانت رومة المفتاح التقليدي الذي يفتح به الباب المؤدي إلى تلك البقاع المرغوب فيها، وكان في رومة يوجد لحد الإمبراطورية الرومانية من بعض الوجوه، ويعد فرسان الجرمان أنفسهم حجاجا كالصليبيين، وينتصب بعض رموز قيصر ويسوع بجانب بعض في رومة، ويجلس البابا على عرش القياصرة السابق وتحوم حمامة الأردن المقدسة فوقه، وهكذا ينتعش خيال رجال الشمال انتعاشا مضبا.

ويرى أحد ملوك الجرمان أن رومة جامعة للسلطة الزمنية وللنصرانية معا، وكان يمكنه أن يبصر من فوق الكابيتول المكان الذي خر فيه قيصر صريعا بين أيدي قتلته وأن يبصر المكان الذي نال الرسول الأول فيه الشهادة والواقع على بعد نصف ساعة من هنالك. وكان مزج السلطة الزمنية والنصرانية ملائما لخلق الجرمان القومي أكثر من ملاءمته لخلق أي شعب آخر، وهكذا نشأ مبدأ «الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة» غير المحتمل؛ أي المبدأ المغلوط فيه الذي أدى إلى نتائج عظيمة عاطفية. وقد نشبت فوق هذه القوى الغامضة التي تشبه بهدير بركان، وفي الميدان السياسي، منازعات بين البابا والإمبراطور في سبيل السلطة، وقد حدثت هذه المنازعات باسم بعض المبادئ الخلقية مع تفاسير وتهم كانت تصدر مدوية خاطئة عن الفريقين.

وكان الفرنج، الساكنون بلاد الغول والذين دعوا بالفرنسيين فيما بعد، من أكثر أمم البحر المتوسط حسن شمائل. وكان الفرنج أول البرابرة وصولا إلى شواطئ هذا البحر، ويعرض رئيسهم الغاصب بيبن النصراني على البابا، حوالي سنة 750، أن ينجده إذا ما وافق على رسمه ملكا، ويسوق حصان البابا من لجامه رسميا ويركع أمام هذا البابا الذي يدهنه ويتناول منه التاج الملكي الذي لم يكن في ذلك الحين غير إطار من ذهب، وهكذا أطلق هذا الملك العنان لنزاع يستعصي حله .

وقد اضطر الملك إلى التنزل للبابا عن مدينة رومة مع دولة الكنيسة المزعومة في مقابل تلك الرسامة، وقد أيد خلفاؤه هذه العطية مع الزيادة، وتبرز لبلوغ ذلك وثيقة مزورة في مضمونها يرجع فيها إلى هبة مزعومة للكنيسة من قبل الإمبراطور قسطنطين، ومن أحكام هذه الوثيقة إحداث حق صار به خلفاء القديس بطرس مالكين لأرض رومة، ويبقى هؤلاء الخلفاء تابعين لملوك الفرنج على الدوام.

وكانت هذه العلاقات الشرعية المبهمة بين البابا والملك تمزج اللبان بصليل السيوف وتتم الصلات التي تهدف إلى عدم الاعتراف بإمبراطورية الملك الجرماني الذي انتخب «إمبراطورا» إلا إذا توج من قبل البابا مع كون هذا تابعا له في الحقيقة، وبهذا يرتقي الجرماني إلى تراث قيصر ويصبح سيد الإمبراطورية الرومانية الجليل، وما كان له من حق تاريخي بهذا التراث أقل من حق البابا في امتلاك رومة، ويؤيد كل من السلطتين، أو الشخصيتين، مزاعم الأخرى إذن، ويمزجان التقوى الزائفة بالخديعة الواقعة إذن، وهذا كله على حساب أهل إيطالية الذين كانوا لا يطلبون في الحقيقة إمبراطورا ولا بابا، بل كانوا يطلبون توحيد بلادهم، ويمكن البصير أن يبصر مجرى تاريخ إيطالية من الحين الذي صار فيه الألماني الأول إمبراطور البحر المتوسط.

19

لا يبدو شارلمان الذي هو أحد أباطرة الجرمان المهمين الثلاثة إلا على هامش تاريخنا، ومن ينظر إلى صورته، كما عرضت في تمثاله الصغير بباريس تبد له ملامح المولود عاهلا، وهو ذو رأس مستدير وقفا قصير وأنف معقوف مع انحناء في شفته العليا، وتلوح الكرة التي في يده اليسرى والممثلة لإمبراطوريته أنها من عطاء الطبيعة، وتدل حياته العملية على ميل جرماني أصلي إلى السيادة العالمية كما في أيامنا صادر نصفه عن إرادة السيطرة وصادر نصفه الآخر عن اندفاعات تصوفية، وكان أول سلسلة الأباطرة الذين بحثوا عن الوحدة وعن التمكين أو عن التوسع الطبيعي نحو البحر المتوسط لا نحو الشرق.

وكان هذا الرجل يحاول أن يتعلم على الدوام، ولم يكن هذا الرجل فخورا بمقامه ولا بعرقه، وتدل المئات من أوصافه على أنه كان يود أن يجاوز مرحلة كونه من البرابرة، أجل، إنه فرض النصرانية على شعوب أجنبية، ولكنه أظهر تسامحا عظيما في المسائل الثقافية والمسائل الحسية في الوقت نفسه، وهو، وإن كان شديدا تجاه طبقة الأشراف، رفع العتقاء إلى مناصب عالية، وهو قد تعلم القراءة أيام وخطه الشيب

37

ناپیژندل شوی مخ