27
فيه. أجل، إن جوستينيان ضحى أيضا بجموع من الرجال في حروبه وفي الثورة، وإنه حاول تقويض تراث أفلاطون الأثني، وإنه أغلق أبواب مجمع أثينة العلمي فاضطر آخر علماء اليونان إلى الفرار لدى الفرس كما ذكرنا آنفا، وإن اسم اليوناني صار لا يدل على غير دور طويل من تراث الأفلاطونية الحديثة المزدراة، وإن البارتنون حول إلى كنيسة نصرانية، وإن معبد تيزه حول إلى كنيسة خاصة بسان جورج، بيد أن جوستينيان كان يبذل جهدا كبيرا في توحيد السلطة الرومانية وإعادتها إلى سابق حالها، وكان يميل إلى خدمة الكنيسة والسيطرة على البابا معا، وكان دائم الجد في الإنشاء والتعمير وتشجيع الفنون والمهن والاختراعات، وقد افتتح جوستينيان كنيسة أيا صوفية الثالثة قبيل موته بعد أن هدمت الثانية زلزلة.
ولكن القانون الذي وضع أسسه يبقى فوق كل شيء ، وما كان من ضعف غريب في الرجل قائم على توزيع جاه بين القواد أكثر من توزيعه بين محسني البشرية وجد في كل نشاط اجتماعي له خلا نشاط المشترع فيه، ويلوح أن المعنى القانوني متأصل في الرجل بأعمق من تأصل الثقافة والديانة؛ وذلك لوجود كثير من الفلاسفة والأديان؛ ولأنه لا يوجد سوى عدل واحد يجمع على مبادئه جميع الأمم تقريبا ... وقد أقام جوستينيان مبادئه بأثبت وأنمى وأوسع مما صنع سولون وليكورغ ونابليون، وما أوجبه قانون جوستينيان من السلام والسعادة بين الآدميين مدة خمسة عشر قرنا أكثر مما جاء به أي دين كان؛ وذلك لأنك لا تجد من ناهض ذلك القانون حتى سنة 1933؛ ولذا يعد جوستينيان من عظماء الإنسانية ضمن هذا المعنى.
15
تشرف نوافذ القصر الجديد، الذي شاده جوستينيان على القرن الذهبي، على قبة ذات بياض لامع فتسطع أمام عيني الإمبراطور كما تسطع أمام عيون خلفائه فيما بعد، وجوستينيان هو الذي بنى هذه الكنيسة، وجوستينيان هو الذي أهداها إلى الحكمة، إلى صوفية كما في اليونانية، ولا ريب في أن المنظر قد أفسد بكثير من المباني التي أقيمت حولها، وذلك لعدم قيام أيا صوفية على مكان مرتفع أو طليق ككنيسة كولونية، وتستر أسوار عالية خارجية وطائفة من القباب المنخفضة الناشبة بها كالطفيليات نصف الميدان المرئي، ولم تكن المآذن الأربع الرائعة التي نعجب بها اليوم موجودة في ذلك الحين.
ويسطع جمال الكنيسة من الداخل، وتبدو القبة رصفة عظيمة مسيطرة على جميع من ضغطوا بتقسيمات أروع الكتدرائيات، ومن العبث أن يبحث في مكان آخر عن أثر له ما لتلك الكنيسة من ارتفاع واتساع مع سقف خفيف، ولا يزال عدم الصور، كما كان شائعا بين نصارى ذلك الزمن إلى حد ما، يلقي في الروع طابع الوحدة في القبة، ويبلغ الصحن البيضي الواسع الطويل مائة وعشرين قدما والعريض مائة قدم، من الارتفاع مائة وثمانين قدما إلى ذروة القبة، حتى إن كنيسة القديس بطرس في رومة البالغة من العرض والارتفاع والعلو ضعفي ذلك لا تشتمل على صحن له مثل ذلك الاتساع، ويقف النظر فيها صفان أو أربعة صفوف من أنصاف الجدر كما في جميع الكنائس الأخرى، وليست أيا صوفية أثرا فنيا فريدا بمئات الأعمدة المصنوعة من الرخام الأخضر ولا بفيض الأقواس وتيجان الأعمدة الرخامية ولا بالرتاج ذي الأبواب التسعة، ولا بالطيقان المزدوجة، ولا بالرواق الرائع الخاص بالنساء، ولا بالفسيفساء الرخامية والصدفية والذهبية، فجميع هذه الأشياء موجودة في الغرب أيضا، وإنما تستحق هذه الكنيسة اسم «الحكمة العليا» بقبتها الطليقة وحدها، ويدخلها النور من أربعين نافذة، فإذا ما ارتفع البصر إلى ضياء تلك النقطة من الفضاء الواسع الذي لا يقاس وجد في الوسط شمسا. وترى من الحمام مائة تجوب الفضاء طائرة إلى جهة العرض، ولا ريب في أن جوستينيان هو الذي أطلق أجدادها، ويجد بعضها في أثر بعض ساجعا تحت تلك الشمس، وترخم في نواح خفية، وتموت وتكثر من غير أن يطعمها أو يعنى بها أحد، ويتألف من تصفيق أجنحتها في ذلك المكان ضرب من الموسقى التي ترتفع صامتة.
وكان جوستينيان أول من جعل من القسطنطينية عاصمة للبحر المتوسط؛ أي للعالم الغربي، وقد ظلت هذه المدينة تابعة قبل الميلاد بثلاثة قرون وبعده بثلاثة قرون، أجل، إنها كبرت بعد تأسيسها الثاني، غير أنها ما انفكت تكسف من قبل رومة وأنطاكية والإسكندرية، وثيودوز الثاني هو الذي بنى سورها المستدير العظيم المشتمل على مائة برج، واليوم نستريح تحت أشجار السرو بين أطلاله كما لو كنا في حديقة خربة. وإذا عدوت الحروب الصليبية لم تجد باغيا استطاع أن يقتحم تلك الأبراج المرتفعة على صفوف بسيطة من ناحية البحر وعلى صفوف ثلاثية من ناحية البر، وقد حاول الفرس والهياطلة والبلغار أخذها عنوة فلم يوفقوا، وهكذا استطاعت القسطنطينية أن تظل باقية أحد عشر قرنا؛ أي من سنة 300 حتى سنة 1453؛ أي إلى حين وصول الترك؛ أي مدة أطول مما اتفق لأية دولة من دول البحر المتوسط خلا مصر البرية. وتذكر بزنطة، التي كانت تسيطر على إيطالية وإسبانية وأفريقية الشمالية وفلسطين وآسية الصغرى والبلقان حتى نهر الدانوب، بإمبراطورية الإسكندر أكثر من أن تذكر بإمبراطورية قيصر، والواقع أن الإمبراطورية البزنطية كانت إمبراطورية إغريقية، وأن بعض علمائها عرف ضمن نبوءة هيرودوتس المشهورة لا ريب، ومع ذلك فإن قسطنطين الذي هو أحد عاهليها العظيمين كان لا يتكلم اللغة اليونانية وإن العاهل العظيم الآخر جوستينيان كان لا يتكلمها إلا بلهجة رديئة، ويمكن قياس هذه النقيصة بما نجده أحيانا لدى الفاتحين الذين حققوا خيالهم، وتبدو هذه النقيصة هزلية كلهجة نابليون الفرنسية السيئة.
وإذا ما نظرت إلى إمبراطورية بزنطة من حيث طبيعتها الخاصة لم تبصر ما هو مشترك بينها وبين إمبراطورية الإسكندر وإمبراطورية قيصر، وهي قد ظلت وحيدة في التاريخ لتقمصها الطقوس في شكلها الأعلى، وليس تاريخ بزنطة من الأساس سوى تاريخ طقوس ورموز شعر بها شعورا عميقا فتعبر عن القوة والإيمان في نفس الإنسان وأمام الأمة أيضا، والفراعنة وحدهم هم الذين ألهوا الطقوس بهذا المقدار، ولكن الفراعنة كانوا أبسط طوية فينادون بأنفسهم آلهة ويتلهون أحيانا ببساطة قلوب الشعب لا ريب، وعلى العكس كان أباطرة بزنطة يعدون أنفسهم ممثلين ليسوع دوما.
وبما أن كلا من السلطان والإيمان كان يدعم الآخر مبادلة فإن بزنطة لم تعرف ما بين البابا والإمبراطور؛ أي ما بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، من نزاع، فقد كانت تانك القوتان قبضة أيد واحدة، كما لدى الخلفاء، وذلك مع انفصالهما بطقوس وثيقة تبديهما كنصفي الرب، وإذا كان الإمبراطور هو الذي يعين البطرك فإن البطرك هو الذي كان يتوج الإمبراطور، وإذا كان العملان يعدان دينيين فإن أمرهما كان يستقيم بالسلطة الزمنية، وإذا ما انتهت التولية في الردهة الذهبية بين الأجواق المنشدة، هللوليا، رفع الإمبراطور الصليب بيده اليمنى رفعا بسيطا، وإذا نظرت إلى الخارج وجدت حصانا مطهما ينتظر أمير الكنيسة ووجدت أعضاء السنات ينتظرونه ركبانا ليرافقوه إلى قصره. وكان جميع موظفي الإمبراطورية أجزاء لرمز المجموع المقدس، وذلك كالهرم المدرج الذي يبدأ من أحقر خفير، وكان لا يوجد في بزنطة وظائف زمنية صرفة، وكان هرم الموظفين يرمز إلى شكل الحياة الأخرى، حياة الفردوس، ولا تجد مذهبا آخر للنصرانية، ولا دورا آخر من أدوارها، أسفر عن توسيع للسلطان مشبع من علم اللاهوت كما أشبع ذلك. وكان على الإمبراطور وبلاطه أن يظهرا قدوة لغيرهما تقوية لأساس الدولة هذا، وكان لا يمكن عمل شيء ارتجالا، وكان يجب قضاء ساعات من كل يوم في التمرين ولو حول وضع الأصابع، فأدى ذلك إلى اكتساب أرباب الطقوس نفوذا كبيرا وإلى توجيههم أمور السياسة في الوقت نفسه، وكان هؤلاء من الخصيان المعقمين على الموضة
28
ناپیژندل شوی مخ