109

بحر متوسط

البحر المتوسط: مصاير بحر

ژانرونه

ولم يسيطر أحد، ولا إمبراطور، ولا بابا، على رومة زمنا طويلا كما سيطر أغسطس، ومع ذلك ساقه ضعف طبعه إلى اختيار سيئ قصير الأجل بين خلفائه ولمحاولته تأليف أول أسرة مالكة. ولم ينجم عن الأباطرة الأربعة الذين خلفوه في ال 55 سنة التي عقبت موته غير الإضرار بتراث أغسطس الكبير من غير أن يقضوا عليه. وقد جعلت زوجات هؤلاء المنحطين، أو ذوي الأخلاق المنحلة، هؤلاء الأزواج مشهورين، ومنهم ثلاثة هلكوا قتلا أو انتحارا، وهذا مع هلاك رابعهم وأمتعهم، طيبريوس، بالسوداء في العزلة، وقد ظل صيت إحدى أولئك الزوجات، مسالين، باقيا على الدهر، وما أكثر ما تقهقر النظام الجمهوري منذ زمن طويل فلم يكن له السلطان بعد موت قيصر لنصف قرن! ويموت كاليغولا فيبحث مجلس السنات طويلا في اختيار خلفه فلم يصبر الحرس الإمبراطوري على ذلك فأخرج من العزلة عالما مسنا مرتجفا مناديا به إمبراطورا باسم كلود.

وكان نيرون ذا مواهب كثيرة، وكان مع جرائمه الكثيرة أكثر جاذبية من وزيره سنيكا الذي كان يستند في مزاعمه إلى بعض المبادئ الخلقية. وكان هذا الفيلسوف، الذي يشي بالبخل والذي ترك ثروة تعدل عشرين مليون دولار، أنذل من مولاه، ومولاه هذا كان ذا مناح إنشائية على الأقل فبدأ حتى بحفر قناه كورنث.

وما يكتنف خاتمة نيرون من أحوال ينم على صفتين للخلق الروماني الشعبي، فتجد إحداهما بين الطبقات العليا، وتجد الأخرى بين الطبقات الدنيا. أجل، صفح مجلس السنات المحافظ عن سفكه الدماء وعن جرائمه وحرائقه، غير أن عرض نفسه مغنيا وممثلا في الاحتفالات العامة كان ذا وقع شديد على كرامة ذلك المجلس الذي يعلم عدم عطل هذا الإمبراطور المهرج من المواهب، وفي أثينة برئ المتهم سوفوكل، بتلاوته أثره الجديد إديب الملك، وقد أبدت فيرنه فتونها للقضاة فأطلقت. وعلى العكس كانت السلطات الرومانية تعاقب على ما يقدره الأغارقة كثيرا، تعاقب على الفن والقريحة والجمال، ولم يلبث الشعب الروماني الذي كان يستمسك بالمحسن إليه وقت الأزمة، أن ترك هذا المحسن عندما أبصر مركبا مشحونا بالرمل لميدان المصارعة بدلا من أن يجلب برا من مصر.

ولم ينل الفلافيون الذين خلفوا نيرون غير نصر واحد من الوجهة الإمبراطورية، وكان هذا فوزا فاجعا، فقد سقطت أورشليم في أيديهم، ومع ذلك لم يأتوا بما يوجه النظر، وكل ما يستحق الذكر هو أن التاج زين رأس أحد العوام للمرة الأولى في التاريخ. وكان الصيرفي السمين، فسبازيان، الذي امتاز ضابطا، يتلهى بالفكرة القائلة إنه سيمجد ذات يوم مثل إله، وكان مكارا كفلاح سمينا ثقيلا، فيشابه ستالين من بعض الوجوه، ويظل دونه لعدم ثقافته. وقد حظر كل فلسفة؛ لأن زعيم المعارضة في مجلس السنات كان زنونيا، وقد كشف، أيضا، عن خلقه بلفتة عاطفية نحو الشعب، وذلك عندما عرض عليه مخترع، ذات يوم، آلة تسهل شحن المواد الضرورية للمباني، فهو، وإن كافأ المخترع، طرح الاختراع جانبا مصرحا بأنه لا يريد نزع الخبز من الشعب.

ولم يكن خلفه تيطس خيرا منه قط، ويمتاز أخو تيطس، دوميسيان، باتخاذه تدبيرا مهما، بتضييقه نطاق زراعة الكرمة في إيطالية وتوسيعه نطاق زراعة القمح، وقد ظل هذا القانون نافذا مائتي عام.

ومن يقرأ أخبار عصاة اليهود الحمس ضد الرومان في عشرين سنة يدرك مدى ما مني به فسبازيان وتيطس من نوازل في المعارك التي وقعت بين الفريقين، وكان اللهيب القوي يحول الجمهورية الدينية الصغيرة إلى جيش يزعزع سلطان الإمبراطورية العالمية، ولما حاولت السلطة الحامية أن تصادر باسم الضرائب أموال المعابد لم يكن عجيبا اتحاد الشعب المقهور لطرد الغالبين. وكانت فلسطين في ذلك الحين تشتمل على يهود أكثر مما في كل زمن آخر، كانت تحتوي ثلاثة ملايين. وتتعاقب الفتن في فلسطين والإسكندرية إلى أن صار من الضروري بذل رومة مجهودا كبيرا، ويهلك في أثناء حصار أورشليم أربعون ألف يهودي ويؤسر من اليهود رجلان فقط، ويغدو هذا الرقم المحير محتمل الوقوع ما دام مصدره أحد الأسيرين، ما دام مصدره يوسف الذي كان حاكما يهوديا وصديقا لأباطرة الرومان، والذي كتب قصة تلك المعركة بعد زمن.

ومع ذلك يطلع يوم على البحر المتوسط بالغ من الأهمية في التاريخ ككل معركة حاسمة، وما أسفر عنه من تخريب يصبح خصيبا إلى الغاية بعد حين، وذلك أن بركان فيزوف دمر مدينتي بونبي وهركولانم في 24 من أغسطس سنة 79 قبل الميلاد، ولم يهلك ضحايا هذه الكارثة نتيجة طموح بعض الملوك، بل نتيجة هيجان العناصر، وإن شئت فقل إنهم هلكوا بيد الله، وقد فاضت أرواح الجميع في بضع دقائق كضحايا قنابل العدو التي ألقيت على لندن. ولما قام العلم المحب للاطلاع بالحفر بعد قرون كثيرة اكتشف مدينة متحجرة من مدن القرون القديمة مع بيوتها المملوءة بالأواني والتماثيل والصور الجدارية، ومما رئي فيها كلب بوغت بالنازلة حينما كان يلتفت ليحك نفسه، وفي أثناء هذه القارعة هلك العالم الطبيعي بليني حينما كان يدنو من بركان فيزوف لدراسة فورانه.

حقا كانت تلك الكارثة هائلة، وإذا ما فكرنا مع ذلك في أمر ملايين الآدميين الذين قتلوا عمدا، ومن غير غاية، منذ ذلك الحين لاح لنا أن الطبيعة ضحت بأهل بونبي عن قصد معين، وكل ما استطاع عصرنا أن يميط عنه اللثام لم يعد حد الأطلال، وفي بونبي وحدها تدفقت الحمم بغتة فحافظت على مظهر كامل من الحياة باسم حافل بالأسرار.

6

كانت النجوم تسطع فوق أثينة عند اجتماع الحكماء الشيب على تل آرس بالقرب من الأكروبول، وكانوا يجتمعون لتأليف محكمة روحية تقضي في أمر أجنبي يزعج الجمهور في السوق منذ زمن. وفي القصة أن مجمع الحكماء هذا كان يتألف منه ضرب من الشرف الذهني منذ القديم، واليوم، في العهد الروماني، يتمتع هذا المجمع باعتراف الدولة، وقد حدث هذا سنة 51 بعد الميلاد، وكان سقراط قد حوكم منذ أربعمائة سنة فحكم عليه في تلك المدينة من قبل محكمة أخرى.

ناپیژندل شوی مخ