143

نتركهما إذن يسافران إلى القسطنطينية ، ويشهدان سوء حالها في الباطن والظاهر؛ بما كان بين سراتها وقادتها من التنازع، وشاه وزر الفارسي رابض قبالتهم بجحافله في انتظار الساعة الصالحة للانقضاض عليهم - ثم يلقيان الإمبراطور بعد قضائهما شهر في انتظار الإذن، ويلقيان إليه مهمتهما، ويتحادثان في شئون مصر والإسكندرية فيزداد الإمبراطور غما وحزنا، ولكن ورقة يملأ نفسه نشاطا وأملا بقوله: يا مولاي، إن رسول الله محمد بن عبد الله أوحي إليه أن الروم سيعودون فيغلبون. قال الله تعالى على لسان نبيه

غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين

فلم يبق لمولاي الإمبراطور إلا أن يؤمل الخير، ويرجو ذلك اليوم القريب. فقال هرقل: أما والله يا ورقة لو تمت نبوءة نبيك لأعلنن إيماني به، وليكونن لي معه شأن جميل، ولقد أراد الرجلان أن يعودا إلى الإسكندرية على إثر أداء مهمتهما، ولكن الإمبراطور كان قد أنس بهما فاستمهلهما إلى لقاء آخر. غير أن الإمبراطور شغل عنهما، وكانا كلما أرسلا يلتمسان لقاءه لم تبلغه خاصته ملتمسهما استهانة بهما من ناحية وبالأمير نيقتاس من ناحية أخرى. حتى مضى عليهما في المدينة ثلاثة أشهر، وقدر ورقة أن هذا المنع مقصود به النكاية من رجال القصر في نيقتاس، فاضطر إلى أن يتصدى لموكب الإمبراطور وهو ذاهب للصلاة يوم الأحد، وكاد الحرس يقتلونه ظنا أنه أحد من جاءهم الخبر بتآمرهم على الإمبراطور، ولكن ورقة دافع عن نفسه حتى لمحه الإمبراطور ومنعهم عنه، وتعجب كيف لم يرجع إلى مصر حتى ذلك اليوم، وإذ قال له إنه انتظر طوعا لأمره، وأنه التمس لقاءه غير مرة - علم أن حاشيته كذبته حين قالت: إنه عاد هو وأورست إلى مصر، فاعتذر إلى ورقة بما وسعه، وترضاه بأن عينه حارس شرف في فرقته، وعين أورست عضو شرف في المجلس الخاص بهما، ثم حملهما رسائل سرية إلى نيقتاس، وودعهما أكرم وداع.

الفصل الخامس والأربعون

شفاعة الحب

جاءت رسالة قوزمان وبنتيه إلى بيت الحارث مع نفس صاحب السفينة الذي جاء بالرسالة الأولى. فقد استطاع في تلك المدة أن يعد وسقا جديدا من خيرات مصر؛ ليبيعه في بلاد العرب، وكان الحارث قد زايلته الحمى، واسترد شيئا من العافية والقدرة على مقابلة الناس، ولكنه لم يتسلم الرسالة، بل تسلمها ولده النضر على غير علم من أبيه، وفضها وأعادها إلى صاحب السفينة؛ ليقرأها له ليعرف ما فيها إذ كانت كلها بالرومية حتى رسالة لمياء، وإذ وجد أن هرميون تعلنه بعدولها عما كانت قد رضيت بإنفاذه من زواج لمياء بدميان، وتعتذر إليه من خطئها حتى مع تعليقها الأمر على شرط قبوله، ثم تترضى زوجها، وتطلب إليه العفو عنها؛ لما سببت له من الحزن الذي برح به، وتبدي له تمنيها لو كانت معه في جدة؛ لتقوم على خدمته، ووجد أن لمياء تغمر والدها بفيض من المحبة والدموع، وقوزمان يدعوه إلى الإسكندرية ويهون عليه الأمر، إذ يذكر أنه لا خوف عليهم من الفرس؛ لأن في مقدروهم أن يركبوا البحر إلى ما وراءها إلى قيرين (برقة) أو غيرها، خشي النضر أن يتأثر أبوه برجائهم فيرحل إليهم في الإسكندرية، وتكون هرميون قد انتصرت عليه، فعزم على ألا يطلع أباه على الرسالة، ولا أن يعلمه على الأقل بعدول هرميون عن تزويج ابنته؛ مقتا منه لهرميون، واستبقاء لوجد أبيه عليها ولو آذاه هذا الوجد، وكاشف أخته قتيلة بذلك - وكانت قد حضرت من الطائف للقيام بشئون أبيها في مرضه - معتذرا بأن حالة أبيها لا تسمح أن تهزه عواطف عنيفة تبعثها عواطف شوق الابنة وعبارات ترضي الزوجة، وحذر أخته أن تفاتح أباها في شيء من ذلك؛ لئلا يطلب إليه الرسالة، وهو لا يريد أن يطلعه عليها، ولكن قتيلة كانت أرق قلبا من أخيها، وأرعى لأبيها، فإنها رأته كثير التفكير كثير الزفرات فأدركت أنه يفكر في امرأته وابنته، وأنه في ضيق لما قدر من أن يكون السهم نفذ فتزوجت لمياء من دميان، وثبت لها هذا من هذيانه في نومه، وخشيت أن تعاوده الحمى، أو يصيبه الجنون وهو قريب ممن يكون في مثل حاله، فلم تعد ترى رأي أخيها النضر من صلاحية كتمان الأمر عن أبيها، وإن كانت تعلم أن النضر لم يرد هذا وحده؛ بل أراد أن يمنع عودة الصلة القلبية بين أبيه وامرأته الرومية وابنته منها، وعزمت قتيلة على تسرية همه بإفضائها إليه بما يسره، ولكن لم تجد الوقت المناسب للحديث معه في ذلك، حتى أفاق والدها ذات صباح، وجلس يستقبل الشمس تملأ غرفته وتنعش النفس - وقال لها: يا ليتني تخذت جدة مقاما لهرميون! إذن لم يكن حدث ما حدث! فوجدت قتيلة في ذلك الوقت المناسب، وقالت: الحمد لله يا أبي على أن امرأتك نزلت على إرادتك فلم تزوج لمياء من ابن عمتها.

فالتفت الحارث إليها يسائلها بنظارته في شيء من الدهشة، وقال: أنا لم أتمكن من أن أرسل إليها رد رسالتها حتى يكون لي لديها إرادة تنزل عليها أو تعلو. قالت قتيلة: بلى يا أبي، كان ما خططته في مطلع رسالتك كافيا للدلالة على رفضك، فأرسله أخي مع صاحب السفينة الذي جاءك برسالتها، وأبدى له أخي أن من أسباب مرضك ما أصابك من الحزن لما علمت. قال: لقد أحسن صنعا. قالت: ولقد عاد صاحب السفينة منذ أيام بما يفيد انتهاء الأمر إلى القطع، وسافرت لمياء وهرميون وجدها إلى الإسكندرية. هكذا علم صاحب السفينة من رسول القصر الذي كان أتى له بالرسالة من عيذاب، ولكن أخي لم يشأ أن يفاجئك بهذا الخبر السار، حتى تقوى على احتماله، ولقد رأيت العافية في وجهك هذا الصباح فأنهيته إليك. قال الحارث وقد أشرق شيء من النور في وجهه الحسن: الحمد لله يا بنيتي، ليس لي على شكره يدان. لم أجد وحقك فيمن رأيت من الشباب في بلاد الله فتى تحتقره العين وتمجه النفس كهذا الفتى دميان الذي كانوا يريدون تزويج لمياء منه؛ مخنث مغرم بالنساء! تأملي في هذا. هذا أسوا صنف في الرجال. ألم يرسلوا معه رسالة؟ فحارت قتيلة بم تجيب، وأخوها قد حذرها، ولكنها لم تجد غير الصدق وسيلة قائلة لنفسها: أأرعى أخي على باطل ولا أرعى أبي على حق ؟ ولكنها مع ذلك تلطفت فقالت: بلى، ولكنك كنت ضعيفا لما جاء بها صاحب السفينة، ولم تكن تملك أن تقرأ، ولا كان من المستحسن أن تشغل بها، فأبقاها أخي معه حتى تقوى. عسى أن يعود اليوم من مكة! على أن النضر لم يعد إلى جدة قبل أيام. فلما جاء تلقته أخته بما جرى ليتدبر فغضب عليها وأنبها، وكان النضر قد مزق الرسالة في بعض أحوال نزقة وألقاها. فلما سأله أبوه عنها ادعى أنه لا يدري أين هي؟ وأنه يرجح أنها سقطت منه في الطريق إلى مكة، وأراد أن يلهي أباه عنها فقال: إنها رسالة صغيرة كتبت فيما أظن على عجلة. فقال الحارث: ليتك تركتها مع أختك، أو تركتها بجوار فراشي. فما كنت قارئها حتى أقوى. قال: تالله تفتأ تذكر تلك الباغية حتى تهلك أسى. قال: الله المستعان على ما تفعل معي يا بني، قال: عدت إلى شكوكك القديمة يا أبي! قال: شكوكي! ليتك قلت يقيني! قال: أنت وما ترى! ولكني أعدك أن ستأتي إليك هرميون ولمياء عما قريب على نفس السفينة التي سافرتا عليها! قال الحارث: من أين لك هذا؟ قال: مما وقع، فقد علمت الآن؛ إذ مررت بالسوق فالتقيت ببعض بحارة عيذاب أن الفرس نزلوا بلاد مصر، وتلقاهم قساوسة المصريين بالترحيب، وأنهم استولوا من الروم على منف وبابليون وأتريب ونيقيوس، ويوشكون أن يحاصروا الإسكندرية. فإذا لم يكن قوزمان قد رحل بابنتيه إلى الغرب صوب قيرين (برقة) لينجو وهو ما كنت أفعله لو كنت في مكانه فهو لا بد حاضر هنا ما دام طريق الصحراء والصعيد خاليا. فلم يرد الحارث على كلام ولده، وانحنى يفكر في امرأته وابنته، ثم التفت عنه، واستلقى في فراشه؛ لكيلا يرى وجه ولده.

كان زياد في ذلك الوقت واقفا بالباب على عادة الخدم استعدادا لإجابة نداء سادته إذا هم احتاجوا إليه، وكان لا بد له في هذا الموقف أن يسمع ما جرى بين النضر ووالده من الحديث. فلما سمع ما قاله النضر من أنه فقد الرسالة ، ولا يدري أين فقدها؟ وكان زياد يعلم أنه مزقها في مكة، أدرك أنه تعمد إخفاء الرسالة عن أبيه نكاية بسيدتيه هرميون ولمياء، وإنما أدرك ذلك؛ لأنه تذكر حديثا جرى بينه وبين زوجته سودة خاصا بهذه الرسالة من ناحية عرضية. ذلك أنه كان قد ذهب إلى مكة في بعض حاجة السيدة وشم في أردائها رائحة طيبة فلما سألها عن مصدرها، روت له من أمرها أن سيدها النضر لما عاد من جدة وأخرج ما كان في جوالقه كان من بين ما فيه لفافات مخطوطة عرضها لعين زوجته حينما تناولها، وقال لها شامتا: هذه من هرميون اللعينة وابنتها وأبيها إلى أبي يتزلفون فيها إليه. ثم مزقها طولا وعرضا وهو يسب هرميون ويشتمها، وأعطى سودة إياها، وقال لها: خذيها فأشعلي بها كانونك، وأن سودة لم تحرقها بل احتفظت بها؛ لأنها وجدت بها عطرا جميلا، فدستها في ثيابها لتعطرها بها. تذكر زياد هذه الحادثة حينما كان النضر يتكلم، وعزم على أن يأتي باللفافات من عند سودة ممزقة كما هي، عندما يعود إلى مكة عسى أن يكون فيها خير لسيدتيه المحبوبتين. على أنه كتم الأمر عن سيده حتى أرسلوه إلى مكة في حاجة لهم فأحضرها، ولم يقدمها إلى الحارث ويذكر له قصتها حتى خلا البيت برحيل النضر وقتيلة عن جدة، وسأل مولاه بحق لمياء أن يكتم الخبر عن سيده النضر؛ لئلا يؤذي سودة ويؤذيه معها. فطمأنه سيده وأثنى عليه وأثابه، وتناول الرسائل الممزقة يقرؤها ما استطاع أن يقرأ.

هل كان في استطاعة الحارث أن يجيب دعوة أحبابه؟ بل هل يجمل به أن ينزل على حكم امرأته، وقد سافرت بغير علمه، وأرسلت إليه كلاما مرا؟ الجواب: نعم، لا مستحيل مع الحب فإنه يحب امرأته ويحب ابنته، والحب يقول: إنها لم تخطئ في الفرار، وأنه لا فائدة من استمرار تظاهره بالكدر منها، وهو لو رآها لاعتذر إليها، والواقع أن جوهر كدره كان لأنها لم تمكنه من التظاهر بالغضب عليها هنيهة تتلوها كلمة منها في شبه نغمة اعتذار فيعفو عنها، ثم يتكرم بأن يسير وراءها طائعا أو يتقدمها مختارا. إذن فليرحل إلى الإسكندرية ما دامت تدعوه وترجوه، ويرجوه كذلك حموه وابنته العزيزة لمياء التي كانوا قد أوشكوا أن يؤذوها من حيث لا يعلمون، ويجب لكي لا تتكرر هذه الحادثة أن يكون بجوارها، ولكن كيف يرحل والفرس منتشرون في البلاد، ولا بد أن تكون أبواب الإسكندرية مقفلة؟ الحب يقول: هذا لا شيء مطلقا فإن هناك ألف وسيلة ووسيلة للقاء هرميون ولمياء. ليرحل إلى عيذاب إذن في الغد. لا داعي إلى قضاء يوم آخر في جدة، وليأخذ معه زيادا. فقال له: ما رأيك يا زياد في أن نرحل في سفرة إلى الإسكندرية تشاهد فيها الدنيا وسيدتيك لمياء وهرميون، ونأتي بهما إلى جدة؟ قال زياد: لا رأي لي معك يا سيدي، وإن كنت أشتهي ذلك. قال: أشعر أني استعدت قوتي ونشاطي عندما خطر لي أن أذهب إلى مصر. إن سيدتك ترجو أن أجيئها لأعود بها هي ولمياء إلى جدة؛ لأنها تشعر الآن بالخطر المحيق. قال زياد: أصبح السفر إليها فرضا يا مولاي، فقال الحارث: هيئ للرحلة في الغد إذن، وانظر هل من سفينة شاخصة إلى عيذاب. •••

بلغا عيذاب، ولكنهما لم يستطيعا أن يقطعا الصحراء إلى قفط؛ إذ انتفى الأمن منها على أثر انتشار أخبار اندحار الروم في كل مكان، ولكن المقادير هيأت لهما صحبة بزعيم أحد مناسر اللصوص جاء إلى عيذاب يلتمس صيدا فمرض، وعاده الحارث وشفاه؛ فحفظ له جميله، وتعهد بنقله إلى قفط سالما، ولكن الحارث لم يستطع أن يبحر من قفط إلى سيوط لا في البحر ولا في البر؛ لأن جنود الفرس كانوا قد انتشروا في الصعيد، وانتشرت أمامهم ووراءهم مناسر اللصوص من المصريين أنفسهم حتى أصبحت النقلة باختيار صاحبها حمقا صريحا. فانتظر الحارث في قفط حتى تهيأت الفرصة لذلك. كان لا بد لحاكمها الرومي من أن يرحل عنها قبل مقدم الفرس وإلا قتل، وإذ كان الحارث قد اتصل به من قبل وتألفه، والحاكم يعرف غايته، أعلنه بذلك سرا، وواعده في ظاهر المدينة من جنوب؛ ليعبر النيل إلى الشاطئ الغربي، وهناك ينتظران حتى يوافيهم جنده بحموله، ويسافروا جميعا في طريق الواحة المقابلة، على أن ينعطفوا إلى الشمال في طريق الشاطئ بعيدين عن طريق الجند والمناسر معا. على هذه الخطة عملوا ورحلوا عن قفط بعد أن قضى الحارث فيها قرابة شهرين، قاصدين إلى ما وراء الفيوم.

ناپیژندل شوی مخ