ولشد ما كانت شماتة الحاكم الرومي بقساوسة القبط؛ إذ كان يعلم أنهم على فرط ما أبدوا من الفرح، وما قدموا من براهين الترحيب القلبي بالفرس لم يلقوا من الفرس إلا رعاية متورط لا يدري سر فرح المأكول بآكله. فما لبثوا أن انقلبوا عليهم بالأذى والابتزاز وإن لم يعترضوا لصلواتهم في كنائسهم وترهبهم في أديارهم
1
بل تركوهم يصلون ما شاءوا، ويدعون ما شاءوا، وانصرفوا إلى ما جاءوا من أجله؛ فقد كان الفرس قوما دنيويين يفتحون البلاد ليملكوها، ولا تهمهم الأديان ولا المذاهب، ولا يحملون أحدا على قبول دينهم، ولذلك ما كانوا يتعرضون لأديان أهلها. جاءوا ليطردوا الروم، ويحلوا محلهم في استغلال مصر واستعباد أهل مصر، فإجلاؤهم إذا سر القبط لم يكن مقصودا منه أن يفرح القبط؛ بل أن يتمكنوا من بلادهم، ويستولوا على خيراتها
2
فإن كان في الكنائس شيء من هذه الخيرات دخلوها للاستيلاء عليها لا ليمنعوا صلاة الناس فيها لمن يحبون من الآلهة! أما قساوسة القبط فكان كل ما يشغلهم من أمور الدنيا أن يقول لهم الحاكم إن دينهم هو الحق ودين غيرهم باطل؛ ولذلك يجب أن يفرحوا لدخول المجوس بينهم، ويجب عليهم أن يحملوا الناس على أن يعطوهم أموالهم وأنفسهم ووطنهم من أوله إلى آخره من أجل أن يقول لهم الحاكم: إنه هو الحق لا حق سواه، وأنكم أولاد الله الحقيقيون. أما غيركم فأولاد حرام! وكانوا على هذا الحال المزري منذ ما كان في هذا البلد السيئ الحظ بأهله أديان. غير الكهنة دين هذا البلد ألف مرة، وكان كل دين قائم هو الحق، الذي يجب من أجل الاعتراف بحلاوته أن يعودوا فيحملوا المصريين على التفريط في وطنهم وأنفسهم، وينسون أنهم كانوا يفعلون مثل ذلك في عهد الدين السابق. •••
لم تكن الفيوم قد وقعت بعد في يد الفرس، ولذلك بقي بها الحارث مدة في جوار صاحبه حاكم قفط الذي جاء معه، في انتظار أن يقوم منها عير إلى الإسكندرية، حتى علم هذا الحاكم أن هناك جماعة من جند الروم القدماء عازمين على السفر إلى الإسكندرية؛ ليعززوا حاميتها فتكلم معهم في شأنه، وسمحوا أن يلقاهم في مكان معين خارج الفيوم؛ ليرافقهم على أن يكتم يوم سفره حتى لا يتنبه اللصوص إليهم.
جاء يوم السفر فودع الحارث صديقه حاكم قفط، وشكره على فضله شكرا جزيلا، وأكرم جنوده بما أوجب عليه البر في ذلك المقام، وخرج هو وزياد إلى حيث يجتمع بعير الروم الراحل إلى الإسكندرية به، وانحدر معهم إلى البحر.
ولشد ما كانت دهشته؛ إذ رأى في العير بعد مسيرة ساعة صديقه الفيلسوف اليمني - نعيما الصيدلاني - الذي كان استودعه ورقة. أما كونه في مصر فلم يدهشه؛ لأنه كان يعلم شدة رغبته في رؤية مصر، وأما كيف أتى إلى مصر فكان هذا محل دهشته وعجبه؛ لأن الطريق فيها في هذه الأيام لم يكن مما يجوز لمثله أن يستسهله، وهو لا يطلب زوجة مثله يحبها أو ابنة شاقته الوحدة والشفقة إليها، ولذلك سأله في ذلك: فقال نعيم: قد يكون الصديق أحب إلى الإنسان من امرأته، ويكون للإنسان ولد من غير صلبه أحب إليه من ابن دمه، ولقد جئت إلى مكة؛ لأراك وأرى ولدي ورقة هناك، وعلمت أنك في جدة فجئت جدة، فقيل: رحلت إلى مصر، فأدركت أنك قصدت إلى بيت قوزمان؛ لترى امرأتك وابنتك؛ وإذ كنت عازما من قبل على السفر إلى مصر فقد وجدت الدافع إلى ذلك مزدوجا، ولم أتهيب الطريق؛ لأنك لم تتهيبه، ولكن العجب أنك لم تصل بعد إلى الإسكندرية حين أني جئت في أثرك بعد شهرين. قال قضيتهما في الطريق. قال: ولكني لا أرى ورقة فأين ذهب ! ألم يعد إليك؟ قال: لا: وا حسرتاه! لقد أهدر ولدي النضر دمه فرحله بنو هاشم إلى يثرب فهو هناك الآن. فلما سمع نعيم هذا الخبر حزن حزنا عميقا؛ لأنه كان يشتهي أن يرى ورقة، ولعله ما اشتد به العزم على السفر إلى مصر إلا أملا في لقائه؛ إذ قدر أن يكون الحارث قد عمل على إرجاعه، ولكنه سرى عن نفسه الهم على عادته بأن أسقط الأمر من قلبه؛ لينعم بلقاء الحارث.
قضت القافلة عشرة أيام حتى بلغت ديرا قائما على مدى خمسة عشر ميلا من الإسكندرية. هناك وقف بهم الضابط الرومي صاحب العير؛ ليردهم عن متابعته قائلا: هنا مكان الافتراق أيها السادة الأغراب. لقد التمستم أن تسيروا في حمانا حتى تبلغوا الشاطئ، وها نحن أولاء قد بلغناه، وسنركب البحر من هذا المكان قاصدين إلى الإسكندرية، وهي لن تفتح اليوم بابها البحري لغير الروم؛ إنها في حصار كما تعلمون. نستودعكم الله. فتقدم الحارث ونعيم يودعانه ويشكرانه. على أن الحارث رجا منه أن يعمل على لقاء العالم قوزمان أكبر أطباء الإسكندرية وأشهر علماء معهدها فيخبره بمجيئه، وأنه سينزل في دير الهانطون في انتظار ما يفعله؛ للسماح له بدخول المدينة.
رحل الروم في سفينة صيد استأجروها إلى الإسكندرية، وقصد الحارث بنعيم وزياد على الأقدام إلى الدير القريب فقضوا في ضيافة أهله بقية يومهم، ثم خرجوا إلى طريق الإسكندرية قاصدين إلى دير كان للحارث بوكيله صحبة ومودة كان سببا في إقراضه إياهم قدرا من المال رمموا به الدير إثر من أنزل به أعوان بونوسوس من التهديم، وأعطوه في مقابل قرضه قطعة من السوق المجاورة للكنيسة، وإنما اضطر أهل الدير إلى الاستقراض؛ لأن بونوسوس ورجاله كانوا قد استولوا على جميع أملاكهم في مصر العليا والسفلى، وقطعوا عنهم المدد، واستولوا كذلك على كل ما كان في خزائن الدير، وسائر الأديار اليعقوبية من الأموال.
ناپیژندل شوی مخ