نمت في تلك الليلة وأنا في طرب من حسن سماء المدينة وجمال هوائها، فلما استيقظت صباحا وأشرقت الغزالة تغشى وجه الأرض بخالص ذهبها وأنا جالس في منزل جميل فيه روضة غناء ذات دومات تتغنى على أغصانها الأطيار، والرياح تهب على الأشجار، وتلعب بأغصانها، وتقبل أوراقها، وتضاحك أزهارها، فكنت أسمع لها غويرا وصفيرا وغناء مختلف النغمات، فخامرني الطرب، ولن أشبهها إلا بأجمل موسيقى، تنوعت نغماتها، وتداخلت أصواتها، واختلفت فنونها، وهي إلى الطبيعة أقرب، وكأن الموسيقيين في العالم نسخوا صورة من صور نغمات الأشجار عند هبوب الرياح، ثم قلت: لم أطربتني هذه النغمات، إن ذلك لتلاؤمها، وتحابها، وتوافقها، مع اختلافها قوة وضعفا، وارتفاعا وانخفاضا، ثم قلت: أفليس الإنسان موسيقى الإنسان، الإنسان أحق بهذا الاتحاد، لا عقل عند الهواء، ولا فكر عند الأشجار، والإنسان عاقل، فكيف حرم الموسيقى في السياسة، ونالتها تلك المخلوقات التي سخرت له إن هذا لعجب عجاب.
الحكمة الثالثة
جاءني خطاب من صديق لي في اليابان، فأجبته بخطاب وأودعته صندوق البريد، ثم هجس بخاطري، وخطر بروعي أن سائر الأمم والممالك تخدم خطابي وتوصله إلى اليابان.
إن الدول الأوروبية والممالك الشرقية وسفنها التجارية حافظة لخطابك، لولا السفن البريدية والطرق البحرية والعلوم الفلكية والسوق التجارية والمعاهدات الدولية ما وصل كتابي لليابان، أنا أضع الكتاب بفلوس قليلة، وأمم الشرق والغرب تحمله، الإنسان كنفس واحدة، اختلفت صورها، إن هذه الفكرة تدعو لتحاب الأمم واتحادها، ما السبيل وما العمل!
الحكمة الرابعة
دخلت زقاقا من أزقة القاهرة خاليا من المشاة والركبان فأحسست بوحشة وقلت: سرور الإنسان بالإنسان، فالحرب جهل، إنها تضاد المحبة العامة، ألا ساء مثلا المحاربون.
الحكمة الخامسة: ركوب الحمار
سريت ليلا إلى إحدى القرى، وأنا راكب حمارا، ومعي خادم، وقد أنزل القمر من لدنه فضة ذائبة ملأ بها الجو، وغشي بها وجه الأرض، وزين بها وجوه الأشجار والبحار والأنهار والمزارع والسبل، أخذ الحمار يعدو فوق جسر ممدود بجانب نهر جار، حتى إذا ركبت وتوسطت الطريق نزلت للسلام على صاحب سلم علي، فما أن أردت الركوب كرة أخرى تعسر علي ولم يكن لبرذعة الحمار من ركاب، وآنست هنالك منحدرا سهلا تنزل من الطريق إلى الأرض التي بجانبه، فأخذ الخادم بخطامه، وأنزله إلى المنحدر، وبقيت في أعلى الجسر، وركبت، فلما استويت على ظهره اعترتني دهشة، وقامت بنفسي فكرة، إني أيقنت أن في هذه سرا مكتوما مخزونا، إن ركوب الحمار على هذا المنوال يعرفه العامة والأطفال ليس أمرا ذا بال، ولكني أيقنت أن فيه سرا عجيبا وحكما وغرائب.
إن في ذلك لمثلين؛ مثلا أدنى، ومثلا أعلى.
أما الأدنى فأنك ترى الأمم العاقلة الرشيدة تنتهز فرصة نوم الأمم الجاهلة الضعيفة، فترسل لها شرذمة من قومها يسومونهم سوء العذاب، فيذللونهم ويحكمونهم ويتخذونهم خدما وحشما خاضعين، فالحمار مثل الأمم الجاهلة، والخادم مثل رجال حكومات الأمم القوية، وأنا مثال نفس تلك الأمم، ونزول الحمار للمنحدر مثل لخضوع الأمم الجاهلة.
ناپیژندل شوی مخ