فويل للأمم من كبرائها إذا أغروهم على ظلم العباد، وهل أتاك نبأ أمة عظيمة، سلمت مقاليد سيادتها، ومفاتيح سياستها لطائفة من رجالها عرفوا بالمال والثروة، والعظمة والجبروت، وأمسكوا بسياسة العالم، وأصبحت الكرة الأرضية في أيديهم لعبة صبيانية، وقد فتح ذلك الشعب عينه فرأى أنه مقهور مغلوب، كما رأى آدم في الأحقاب الغابرة أنه وزوجه عاريان من اللباس.
ولقد علمت أن ذلك الشعب يحاول التملص من قبضة أولئك السراة، والتخلص من قفص أولئك السادة الولاة، إذا هو في شبكة من حديد، فقل لذلك الشعب: ذلك بما كسبت يداك؛ أغريت أولئك السادة على الفتك بالأمم الضعيفة، فاستمرأ لحمك مع اللحوم، وجعلك صيدا لطعامه، وفريسة لنهمه.
الحاكم من الأمة بمنزلة الأستاذ من التلميذ، وكيف يجوز في شرعة المنطق أن تجمعوا بين الضدين، وتعملوا بالنقيضين؛ تعدلون في القضاء وتحللون ظلم الأمم، والأمم الذين هم تلاميذ الحكومات يشهدون ويعلمون، وهل تصلح الأمم وسواسها فاسقون، ألا إن لصوص الأمم أكبر جرما من لصوص الأفراد، ومن ذا الذي يرضى لولده أن يقرأ الآداب والأخلاق على لص معروف، ألا إن الأمم اليوم رضيت أن تكون تلاميذ اللصوص السارقين.
قد نص علماء الأخلاق أنه لا يهتدي من جهل فظن الغي رشدا، وتفاخر بالجرائم وتباهى بالسخائم، فذلك لا يرجى برؤه عند علماء الأخلاق، والأمم اليوم فاخرة بظلمها، معتقدة حل نهبها، فلتعلموا الحكومات تصلح الرعايا، إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، إنما يصلح التعامي عن ذلك للأمم في أيام جهالتها، والعقول في نومتها، أما وقد انتشرت العلوم وكثرت الفنون فالعيون مفتوحة، وعيوب الحكومات عند الشعوب معروفة مشهورة، فلا صلاح للأمم ما لم تصلح الحكومات، فعلموا نواب الأمم وملوكها حسن السلوك مع الشعوب الأجنبية الأخرى تقلدها رعاياها فيما لديها من الأعمال، وما أوتيت من السلطان. هنالك آذنني بالانصراف، وحياني تحية الوداع، وقال: عسى الموعد أن يكون قريبا. فحييته بابتسام، ومضى بسلام، ونمت إلى أن انفلق عمود الصباح، فكتبت ما وعيت، وحفظت ما كتبت.
الفصل الحادي عشر
حكم في فترة اللقاء كتبتها في كناشتي
ظللت مضطرب الفؤاد مشغول القلب بقية شهر مايو ويونيو وبعض شهر يوليو سنة 1910 أتربص صديقي فلا يلقاني، واشتاق رؤيته فلا يراني، وكم ليلة أرقت وسهرت، وكم من ساعة خلوت وفكرت، ودعوت فلا سميع ولا مجيب، ثم أرجع فأقول، يا ليت شعري، ماذا أقول إذا أشعت الحديث بين الناس وأذعت هذا السر المكتوم، وما أدري أهذا يقظة أم منام، إن هذا الأمر لعجيب، ثم اشتعلت في قلبي جذوة نار الفكر والنظر، وكان كل شيء أراه أو أسمعه أو أذكره في هذه الدنيا يناديني: السلام السلام العام يا بني الإنسان، إنكم جاهلون، وصبيان غافلون، وكأنما الشمس بهذا تناجيني، والقمر يخاطبني، والزهر يحدثني، والنهر يناجيني، والطير به يغني، وكل جميل وعجيب يذكرني، فكتبت في مذكرتي تلك المدة ما أعرف من الحكم.
الحكمة الأولى
ذهبت إلى مدينة حلوان لأروح النفس وأفرج الهم بالهواء النقي، فلما أن جن الليل وأرخى سدوله نظرت السماء صافية زرقاء بهية، تبسمت فيها النجوم، وضحكت الكواكب، وأشرقت أكنافها، وكأن الكواكب تتناجى بالسلام ويسار بعضها بعضا بالكلام، منظر عجيب. فقلت: يا ليت شعري هذه النجوم في السماء آمنة مطمئنة متحابة متجاذبة، كل في فلك يسبحون، وفي منظرها الجميل عبرة وحكمة لعقلاء الأمم أن يتصافوا ويتحدوا ويكون بعضهم لبعض ظهيرا. الحيوان يعجز أن يدرك سر هذا الجمال وأدركه الإنسان، فأين المحبة وأين السلام، وأين رحمة الإنسان، وأين جمال العقول كما جملت هذه النجوم.
الحكمة الثانية
ناپیژندل شوی مخ