إهداء الكتاب
كلمة للمؤلف
مقدمة
1 - في المقارنة بين نظام العالم ونظام الأمم
2 - سؤال عن حال الإنسان
3 - أخلاق الإنسان
4 - فضائل الإنسان
5 - في استعداد الإنسان
6 - في أنواع الحكومات والفلاسفة
7 - لم نقرأ إلا سطرين سطرا من المادة وسطرا من العقل
ناپیژندل شوی مخ
8 - أين الحكمة في المادة والعقل
9 - الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على الأرض وكيف جهلها الإنسان
10 - المنطق والأخلاق والسياسة
11 - حكم في فترة اللقاء كتبتها في كناشتي
12 - في الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون
13 - في المذكرات
14 - الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية
15 - في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك
16 - إيضاح مسألة الأقوى والأضعف وإننا نفعل فعل الحيوان
17 - على أي قاعدة تبنى سياسة الأمم
ناپیژندل شوی مخ
18 - في درس تعليم الأطفال الحب العام
19 - مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية
20 - وهو خلاصة الكتاب
نغمة من موسيقى الكتاب
إهداء الكتاب
كلمة للمؤلف
مقدمة
1 - في المقارنة بين نظام العالم ونظام الأمم
2 - سؤال عن حال الإنسان
3 - أخلاق الإنسان
ناپیژندل شوی مخ
4 - فضائل الإنسان
5 - في استعداد الإنسان
6 - في أنواع الحكومات والفلاسفة
7 - لم نقرأ إلا سطرين سطرا من المادة وسطرا من العقل
8 - أين الحكمة في المادة والعقل
9 - الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على الأرض وكيف جهلها الإنسان
10 - المنطق والأخلاق والسياسة
11 - حكم في فترة اللقاء كتبتها في كناشتي
12 - في الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون
13 - في المذكرات
ناپیژندل شوی مخ
14 - الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية
15 - في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك
16 - إيضاح مسألة الأقوى والأضعف وإننا نفعل فعل الحيوان
17 - على أي قاعدة تبنى سياسة الأمم
18 - في درس تعليم الأطفال الحب العام
19 - مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية
20 - وهو خلاصة الكتاب
نغمة من موسيقى الكتاب
أين الإنسان
أين الإنسان
ناپیژندل شوی مخ
تأليف
طنطاوي جوهري
إهداء الكتاب
إلى عطوفة الوزير الجليل ناظر المعارف العمومية
إن قبول أمتي المصرية المحبوبة لعملي كان خير معوان لي على المزيد؛ فصنفت هذا الكتاب ذكرى لأولي الألباب، وبدأت بعرض خلاصته على اللجنة التنفيذية لمؤتمر الأجناس العام بإنجلترا، والأستاذ أغناطيوس غويدي برومية الكبرى، وحضرة صديقنا الدكتور محمود بك لبيب محرم بألمانيا.
فما كان جواب اللجنة التنفيذية إلا الموافقة عليه، وقفى على آثارها الأستاذ غويدي أغناطيوس، وهكذا الفاضل محمود بك لبيب محرم، وقد طلب الأخيران التعجيل بطبعه باللغة العربية قبل أن يظهر بلغات الغربيين، فلم يكن إذ ذاك بد من نشره ببلادنا الشريفة المصرية بعد استشارة ذوي العلم والمكانة بالبلاد.
ولما كان زمام الحركة العلمية والنهضة الأدبية بيد وزيرها الجليل الهمام أحمد باشا حشمت ناظر المعارف العمومية دخلت البيت من بابه، وعرضت الكتاب على جنابه، فحاز القبول لديه، ووافق على طبعه لتعميم نشره، فالتمست أن أقدمه إليه لينشر باسمه في العالمين؛ اعترافا بفضله ولما أبداه من التعضيد والتأييد، فقبل الهدية أفلا أكون له من الشاكرين.
كلمة للمؤلف
وذكر ما دار بينه وبين علماء أوروبا من المراسلات بشأن الكتاب
هذا كتاب كتبته للناس، خاطبت به حكماء الخافقين، وعلماء المشرقين، وفلاسفة المغربين، تبصرة وذكرى للعادلين، من كل نبيه ونبيل، وعالم جليل، وملك عظيم، ووزير خطير، ونائب عن أمته كبير، ذكرى للأمم، وعبرة للدول، وسعادة للناشئين من البنين، عسى أن يعدل الناس عن ظلمهم، ولا يتبعوا خطوات غيهم، ويسيروا على الصراط المستقيم.
ناپیژندل شوی مخ
إني ضممت جوهرة الإنسان، إلى فلذة الحيوان في النظام، وقرنت نظام الكواكب الدري، بما رآه بسمرك وسلبري، وسويت ما بين نواميس الأحجار في سقوطها، وقوانين الكواكب في هبوطها، وبين نظام الأمم الأرضية، وأحوالها السياسية.
ولست أدعي النهاية في تحقيقه، والإجادة في تنميقه، فما أكثر العوائق من الأعمال الدراسية، وما أبعدها عن هذه المرامي النائية، والمطالب السامية.
وما هذا الكتاب إلا خطرات خاطرات، ولمحات سانحات، وبوارق لامعات، في ليالي الحوادث المدلهمات.
وهو وإن كان قطرة من بحر السلام العام، فسوف تتبعها المزن الممطرات، ولسوف يقوم بهذا الأمر علماء محققون من رجال الشرق والغرب، وليعلمن نبؤه بعد حين.
الدنيا بحر ملح أجاج، متلاطم الأمواج، يغشاه موج الحياة المدلهمة، من فوقه المظالم المطلخمة، من فوقه سحائب الحروب الشيطانية البشرية، بحيث إذا أخرج المرء فيها يده لم يكد يراها، وضل في موجه العظيم، هذا مثل حال الإنسان، الضائع في ثنايا الزمان.
لذلك ألفت هذا الكتاب؛ ليبحث العقلاء عنه في ذلك العباب، وأسميته «أين الإنسان».
وأعطيته باليمين للحكماء، ممن تحت السماء، وباليسار للسواس العظماء، على سطح الغبراء.
ولما كانت الأشكال أولى بأشكالها، والفضائل أقرب إلى أهلها، والعيون أعلق بأهدابها، وكان كتابي موجها لطائفتين من العالمين، ومهدى إلى نوعين من العقلاء العاملين، رجل عليم، وسائس عظيم، بدأت بإرساله إلى مؤتمر الأجناس العام؛ لأنه جمع بين الحسنيين ونال المنقبتين، لولا علو المنار ما عم نوره المسافرين، ولولا ضوءه ما هدى السفائن في ظلمات الغياهب ولا الضالين.
إن لتأليف الكتاب أسبابا يطول شرحها، وقد أرجأتها لتذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولما تم ترتيبه وانتظم عقده، أيقنت أن أفئدة تهوي إليه إذا سمعته، وعقولا تصبو إليه إذا قرأته، من عقلاء الأمم جمعاء، ولعمرك لقد كنت أرجو انتشاره، وأود إظهاره، ولكن ما كنت أدري كيف السبيل، حتى قرأت في الجريدة خبرا عن مؤتمر الأجناس العام الذي سيقوم بالبلاد الإنجليزية، وقد شرح أمره المستر ستيد صاحب مجلة المجلات فقال ما ملخصه:
ناپیژندل شوی مخ
إن الأمم الشرقية والغربية أسودها وأبيضها وأحمرها، ستصطدم اصطداما حين ترتقي إلى غاياتها، وتنتهي إلى نهاياتها، وسيكون يوم عصيب مشئوم أمام العالمين، وهذا المؤتمر أول خطوة في تعارف الأمم والأجناس وسائر الملل والنحل، وفيه 25 رئيسا من رؤساء المجالس البرلمانية في خمسين بلدا من بلدان الدنيا، ومعظم أعضاء مجلس التحكيم في لاهاي، و12 من حكام المستعمرات، و8 من رؤساء النظار في البلاد التابعة لإنجلترا، ومائة وثلاثون أستاذا من أساتذة القانون الدولي، ومندوبو الصحافة وغيرهم، إلخ.
فلما وقفت على ذلك عجبت كل العجب من توافق ما بسطته الجريدة لفصول الكتاب، ولما قرأت أن الأستاذ مرغليوت هو الذي يتلقى ما يرد له من مكاتبات المصريين وكنت أعرفه من قبل ، أرسلت له نبذة من الكتاب، وفذلكته الدالة على ما فيه بخطاب، وذكرت أني أخاطبه كما أخاطب حكماء الأمم وملوكها تحت أعلام الحكمة التي نشرت على العالمين، وشملت الناس أجمعين، وطلبت أن ينظر هو ومن معه من رجال اللجنة في أمر كتابي، فإن استحق العرض على المؤتمر أسرعت إلى إخواني المصريين فترجموه بالإنجليزية فجاءني منه خطابان أولهما بنصه:
حضرة الجليل القدر طنطاوي جوهري
سيدي، بعد التحيات، فقد ورد كتابكم المؤرخ في ال 25 من تشرين الأول مع ترجمة إنجليزية وبقجة تحتوي على أوراق فيها جزء من مصنفكم الجديد المعنون «أين الإنسان» الذي تؤثرون عرضه على مؤتمر الأجناس العام المقصود اجتماعه في الصيف الآتي، واللجنة المدبرة لأمور المؤتمر سينعقد إن شاء الله مجلسها في منتصف الجاري.
فحينئذ سأعرض على أصحابي مشروعكم الدال على علو همتكم حتى إذا انحل المجلس أخبرتكم بالنتيجة، والسلام.
المخلص
د. مو. مرغليوت
في ال 6 من تشرين الثاني سنة 1910
وجاء خطاب آخر بتاريخ الخامس من كانون الأول وهو ديسمبر سنة 1910:
حضرة الفاضل طنطاوي جوهري أدام الله بقاءه
ناپیژندل شوی مخ
بعد التحيات، فقد عرض مضمون كتابكم الكريم على لجنة مؤتمر الأجناس العام، فليس عندهم ما يمنع، وأما أن تتكلفوا ترجمة مؤلفكم النفيس إلى لغة أجنبية فالغالب على رأينا أن ذلك يذهب برونقه؛ فإن انتقال الكتاب من لغة إلى لغة هو كانتقال النفس من بدن إلى بدن، لا يؤمن استيحاشها منه، والسلام.
د. مرغليوت
فأرسلت الكتاب منسوخا بخط اليد في السابع عشر من شهر مارس سنة 1911 وطلبت منه ترجمة الكتاب إذا شاء.
ولقد كنت كاتبت الأستاذ أغناطيوس غويدي بإيطاليا وحضرة العالم الشهير الدكتور محمود بك لبيب محرم بألمانيا، فجاء من الثاني خطاب بتاريخ 2 يناير سنة 1911 يحض على الإسراع في طبع الكتاب باللغة العربية إذ قال: ألح عليك في النصح بطبع الكتاب أولا في مصر، وأظن أن طبعه لا يستدعي صعوبة أو عوائق، ثم قال:
وإني بعون الله مستعد لترجمة الكتاب إلى الألمانية، فأرسل لي منه صورة لكي أزاول ترجمتها من الآن؛ حتى أتمكن من نشرها عقب طبع الأصل العربي مباشرة أو في زمن قريب منه.
المخلص
محمود لبيب
وأما الأستاذ العلامة أغناطيوس غويدي فكتب لي ما نصه:
من أغناطيوس غويدي برومية الكبرى إلى المعلم العلامة طنطاوي جوهري بالقاهرة
يا سيدي الأستاذ الأكرم، أما بعد تقديم التبجيل والتحية، فقد وصلتني رسالتك الكريمة وفهرس كتابك الجديد وفصل منه شرفتني بإرساله إلي، وقد أضمرت في نفسي أن أحير الجواب بلا تأجيل، بيد أنه عاقتني عوائق وبطأت بي أشغال لا تحصى، وأرجو من فضلك أن تقبل عذري وتغضي عن تأخيري جفنك، وقد تعجبت من علمك ومن تعرضك لمسائل ينزعج غيرك من معضلات غوامضها، ولعل كتابك الجديد يطبع الآن، وإن أرسلت إلي نسخة منه نبهت عليه في بعض جرائد بلدنا، وأخبرت عن موضوعه وفصوله ومذهب مؤلفه، فيكون ذلك زيادة للتعارف بين البلدين، والمأمول منكم معاشر علماء مصر أن تساعدونا في إنشاء المدرسة الإيطالية في القاهرة المحروسة بما يضاهي صدق مودتكم لنا.
ناپیژندل شوی مخ
هذا وقد خبرتني الست دي لبدف أن حليلتك المحترمة عوجلت إلى رحمة ربها، وأحزنني ذلك وأمضني جدا، «هي الدنيا يا حبيبي»، وعليها يصح قول الشاعر لا على النساء:
فما تدوم على حال تكون بها
غير أنك فيلسوف العرب وكندي عصرنا، ولا بد أن يستصوب مثلك بيت الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
ولا تسلي كالرضى بحكم الله؛ إذ إليه مرجعنا، وإلى رحمته تعالى مآبنا، ونعم المرجع وحبذا المآب، والسلام.
وهذا ملخص مقاصد الكتاب
في بيان استخراج السلام العام في الأمم من النواميس الطبيعية، والنظامات الفلكية، والفطر الإنسانية، وبنيان السياسة على أساس الطبيعة، وأن مدنية اليوم حيوانية، ودعوة الناس للإنسانية الحقيقية، وبيان أن الإنسان لم يفهم إنسانيته، ولم يستخرج قوته، وخطاب موجه لفلاسفة الأمم، ونوابها وملوكها، ودعوة الأولين لبحث هذا الموضوع، والآخرين للتعاون على العمل. وهو عبارة عن رواية ومحاورة بيني وبين روح من الأرواح القاطنة بمذنب هالي لما اقترب من الأرض وسأل عن السلام العام، وعن أخلاق نوع الإنسان، وهو عشرون فصلا.
الفصل الأول:
مقدمة الكتاب في أحوال مذنب هالي وعجائبه وسيره ودورته واقترابه من الأرض، وفي سكان السماوات وهل الكواكب العظيمة الكثيرة تبقى بلا سكان.
الفصل الثاني:
ناپیژندل شوی مخ
سؤال عن حال الإنسان وقول كنت الألماني: «الإنسان لم يتعلم العلم عن أعلى منه ولو تعلم لكان أرقى.»
الفصل الثالث:
أخلاق الإنسان وكيف كانت طبقاته العليا في رذائلها كطبقاته السفلى في جهلها ودناءتها.
الفصل الرابع:
فضائل الإنسان وعلومه ومعارفه.
الفصل الخامس:
استعداد الإنسان للعلوم والأخلاق وأنه كالهواء وكالمادة في ترقيهما حالا بعد حال إلى أبعد غاية وأعظم شرف.
الفصل السادس:
في أنواع الحكومات والفلاسفة وكيف كانت حكومات الناس أسدية سبعية خالية من كمال الأدب العقلي إلا قليلا.
الفصل السابع:
ناپیژندل شوی مخ
لم نقرأ من العالم إلا سطرين، سطرا من المادة وسطرا من العقل.
الفصل الثامن:
أين الحكمة في المادة والعقل؟
الفصل التاسع:
الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة، وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على الأرض، وكيف جهلها الإنسان.
الفصل العاشر:
المنطق والأخلاق والسياسة، وفيه الحقيقة المرة في مقارنة السياسة بالقضاء والتعليم.
الفصل الحادي عشر:
في حكم وعجائب تبلغ خمس عشرة حكمة.
الفصل الثاني عشر:
ناپیژندل شوی مخ
الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون وفيه وقفة لمشاهدة الجمال البهيج، والعدل والنظام في السماوات، ومقارنة ظلم هذا الإنسان بالعدل في عالم السماوات، وكيف عدل في نظام السماوات وظلم عالمنا، وفيه أيضا ذكر أربعة آلاف أمة متحدة في ذلك الكوكب.
الفصل الثالث عشر:
في مذكرات وهي سبع عشرة مذكرة، وفيه شرح حال الأمم عند نظر حجر من جبل الرصاص.
الفصل الرابع عشر:
في الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية.
الفصل الخامس عشر:
في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك.
الفصل السادس عشر:
مسألة الأقوى والأضعف وأننا نفعل فعل الحيوان.
الفصل السابع عشر:
ناپیژندل شوی مخ
على أي قاعدة تبنى سياسة الأمم؟
الفصل الثامن عشر:
في درس تعليم الأطفال الحب العام، ويتبعه ضرب مثلين؛ الأول تمثيل الإنسان وسائر أصناف الحيوان في الرسم بحال بناديل الساعة وأوسطها يمثل الحيوان ويمثل غيره الإنسان، الثاني تمثيل الإنسان في حاله اليوم بالماء في النهر وفي مستقبله بالماء في مرتفع مشرف على الأرض.
الفصل التاسع عشر:
مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية، وفيه بيان ما وصلت له الأمم من المساعدة العامة القليلة وشرح الحكمة المقدسة والحكمة العالية والحكمة الذهبية والحكمة الزاهرة والحكمة الجميلة والحقيقة المحزنة ومقارنة الإنسان بحشرة أبي دقيق.
الفصل المتمم عشرين:
في الخطبة التي خطبها السيد جامون العالم الكوكبي، وأمرني أن أبلغها للناس في الأرض شرقا وغربا؛ ليريهم كيف السبيل للوحدة العامة في سائر الأمم والممالك والدول. وقد جمعت الخطبة مجمل الكتاب وشرحت السياسة ومناسبتها لانتظام أمر الذكور والإناث في العدد على سطح الأرض. انتهى.
مقدمة
أين الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
ناپیژندل شوی مخ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فإن الحوادث الكبرى في هذا العالم موقظات للعقول، مثيرات للآراء، منتجات تغيرا وتطورا في النفوس البشرية.
ومن أهمها الحوادث السماوية، كالمذنبات اللاتي تقترب من الأرض، فتحدث في هلعا، وفي العقول جزعا، فيضطرب النوع البشري الإنساني، ويغدون ويروحون، في المراسم والمناهج، ويموج بعضهم في بعض، وتختلف أقاويلهم، وتعدد مذاهبهم، وتكثر أوهامهم.
ففي سنة 1328 هجرية وهي سنة 1910 ميلادية، في شهر مايو، في العشرة الثانية منه، أنذر علماء الفلك الناس في أنحاء الكرة الأرضية، باقتراب المذنب المسمى بمذنب هالي، ليلة الثامن عشر منه، وأنذروا الناس بدهياء داهمة، وقالوا: إن ذنبه طويل، ولعله يلامس الأرض فتحرق ويخلو وجهها من ساكنيه، وتحشر إلى العالم الآخر، فأخذت الأمم تؤولها بحسب ما يتاح لها، فمن أهل أوروبا من باع ثروته ليتمتع بها أياما قبل انقضاء حياته، وفوات الفرص للذاته، ومنهم من عمد إلى قتل أحبائه من الزوج والأولاد قبل أن تقع الواقعة، التي ليس لوقعتها في عقله كاذبة، وكأنه يقول ما قالت الزباء: «بيدي لا بيد عمرو.» ومن أهل الشرق من أخذ يقتل أعداءه قربى إلى الله وزلفى عنده، حتى تقدم في دفتر حسناته قبل هلاكه بالمذنب، ومنهم ومنهم.
ومن العجب إنا نسمع ذلك الاختباط عن الخاصة ، كما نسمعه عن العامة، وعن العقلاء كما نسمعه من الجهلاء، أما أنا فكنت مغرما أن أراه في أنحاء القبة الزرقاء، فرصدته ليلة السابع عشر من شهر مايو قبيل الفجر إذ أخلفه عمود من النور الضعيف الممتد من الشرق إلى الغرب الجنوبي المستطيل نحو 50 درجة فلكية، فكرت في أمره وأخذت أجيل النظر في هذه العوالم العجيبة، أن هذا المذنب الكبير أحد مذنبات هائلة كثيرة العدد تعد بالملايين، تطوف حول الشمس كما تطوف السيارات المعروفة، وهذا المذنب يدور في دائرته 75 سنة وهو في الثانية الواحدة يجري نحو 50 كيلو مترا، مسرع لا يمل، ولا يفتر، ولا يقف لحظة، فهو في الخمس والسبعين سنة سائر على هذا النمط، وتعجبت من هذا الكوكب ثم اعتبرت بضوئه المستطيل خلفه، وقد أرانا ضوءه وأطال ذنبه، ولم يعبأ بأقوال الفلكيين، ولا نظر الناظرين، ولا تخرص المتخرصين، إنه ألقى شعاعه في السماء، وخالف سنة الكواكب بذنبه، واتبع طريقه، ليفتح للناس باب الفكر، هكذا علماء الأمم والحكماء والأنبياء يوقظون الناس من غفلاتهم بما يلقون عليهم من الحكم البديعة التي لم يألفوها، والآيات العجيبة التي جهلوها، فيجمعون بين الإيضاح والإغراب، والشجاعة والإعراب، والإقدام والآداب، إن في هذا الكوكب معتبرا للمذكرين، ويا ليت شعري ماذا حال الأمم إذا رجع كرة أخرى بعد 75 سنة، وكيف يكون حال الممالك والدول، وهل يتغير وجه الأرض وتزول المظالم والقسوة والوحشية من هذا الإنسان، أم تزداد المظالم وتكثر المغارم، أخذت أجول في عالم الفكر وأسيح في بحار الخيال، وتأملت في تلك العوالم العجيبة المنظمة السير البديعة النظام، إن هذا المذنب يقطع فلكه الذي هو عبارة عن قطع ناقص، ويجري بسرعة مدهشة وسير منتظم لا يخطئ في سيره ولا يتوانى في جريه، وكم في كواكب السماء من سريع الجري حسن النظام باهر الضوء عجيب الإتقان مثله.
لا يزال علماء الفلك كل يوم يتبينون مذنبا جديدا يرصدونه بالمراصد، ويثبتونه في الدفاتر، وهي كلها منظمة السير، دائرة أبدا أمدا حتى يفنى هذا النظام العام، ومثلها في النظام السيارات المعلومة وكثير منها غير معلوم، وهكذا الكواكب الثابتة التي تعد بالملايين كل في فلك يسبحون بنظام وإتقان، هذا المذنب من قبل ظهرت حركاته منظمة، ودوراته مرتبة عرفها التاريخ، وقد شاهده الناس عام 12 قبل المسيح عليه السلام، ثم في يناير سنة 66 بعده، ومارس سنة 141، ومارس سنة 218، ومارس سنة، 295 ومارس سنة 373، ويوليو سنة 451، ويوليو سنة 530، ويوليو سنة 608، وأكتوبر سنة 684/الموافق ربيع الأول سنة 65 هجرية، ويوليو سنة 760/ربيع الأول سنة 143ه، ويوليو سنة 837/رجب سنة 222ه، ويونيو سنة 912/ذو القعدة سنة 294ه، وسبتمبر سنة 989/جمادى الثانية سنة 389ه، ومايو سنة 1066/رجب سنة 458ه، وسبتمبر سنة 1152/جمادى الثانية سنة 547ه، وسبتمبر سنة 1223 رمضان سنة 620ه وديسمبر سنة 1301/ربيع ثان سنة 701ه، ونوفمبر سنة 1378/شعبان سنة 780ه، ويونيو سنة 1456/رجب سنة 860ه، وأغسطس سنة 1531/المحرم سنة 938ه، وأكتوبر سنة 1607/رجب سنة 1016ه وسبتمبر سنة 1683/رمضان سنة 1093ه، ومارس سنة 1759/رجب سنة 1172ه، ونوفمبر سنة 1835/رجب سنة 1251ه ثم في مايو سنة 1910/جمادى الأولى سنة 1328ه. فهذه 25 دورة في 20 جيلا، فهو يدور في كل ثلاثة أرباع القرن دورة واحدة، فتأمل وتعجب، لهذا المذنب عجائب في ظهوره ولطائف في مروره، كم رصده الراصدون وحسب له الفلكيون، وأحجم عن الحرب وأقلع المحاربون، وكم شجع ظهوره قوما وكم ذعر منه أقوام، ألا ترى قصة المعتصم وحربه عمورية وأقوال الفلكيين وكيف غلب وانتصر ومدحه أبو تمام بالقصيدة التي أولها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
وفيها يقول:
ناپیژندل شوی مخ
وخوفوا الناس من دهياء داهمة
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
فهو مذنب هالي؛ لأن ذلك في سنة 222 في شهر رجب الموافق يونيو سنة 837، ولقد ذكر رجب في القصيدة؛ يقول: ... ... ... ... ... ...
ما كان من صفر الأصفار أو رجب
هكذا سماه الفلكيون سنة 1066 بمذنب الفتح إذ غلب غليوم الفاتح دوق نورمانديا في أيام ظهوره على البلاد الإنجليزية، فأنت تراه منظم الحركات، بديع الخطرات، لا يخطئ في تقديره، ولا يبطئ في مسيره، إلا لعوارض وطوارئ نادرة، دعاني ذلك إلى النظر في أمره، والتفكر في سيره، والبحث في عجائبه، وغرائبه ، فراقبته مع الناظرين، ورصدته مع الراصدين، ورأيته كرتين، كرة في الشرق قبل الفجر، وبعده، وآونة بعد الغروب، وقد سار في طريقه، وجرى في شوطه، واستبق يعدو في هذه العوالم الشاسعة، والفيافي القاصية، والدنيا الواسعة، إنه لن يعود إلا ونحن تحت أطباق الثرى، جسدا هامدا، وصعيدا جرزا، حرصت أن أراه، لئلا أحرم من عبرته، والحكمة فرصة سانحة، فإذا ما غفل عنها المرء باء بالحسرة، وعاش كئيبا لها وهو مع النادمين، وها هو غاب عن الأبصار، وفارق الديار، وسار يعدو في ذلك العالم الواسع العظيم.
الفصل الأول
في المقارنة بين نظام العالم ونظام الأمم
سنحت لي هذه السوانح، وفكرت في تلك العوالم المدهشة العجيبة، وأخذت أقارن ما بين نظام العالم الجميل، ونظام الأمم الضئيل، فرأيت بونا بعيدا، وبعدا كبيرا؛ ذلك متقن منظم، لا ظلم فيه، ولا خلاف ولا فتور، وهذا سياجه الظلم، وأسه الخداع، وبنيانه المكر والنفاق، وطلاؤه الكذب، أرى حركات الكواكب في نظام عجيب، وحركات الأمم في ظلم وشقاق بعيد، فرفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا الله، كواكبك منظمة باهرة، وها هو حسابها محكم، لا خلل فيه، ولا تقديم ولا تأخير، فالشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، بنظام، وكل كوكب ونجم وأرض وقمر ومذنب، كل في فلك يسبحون، بحساب دقيق، لا يعتوره الخلل، ولا يقفه الملل، فأما الأمم الإنسانية، والدول الأرضية، فإنهم عن الصراط لناكبون، وعن سبيل الحق حائدون، اللهم أنت مالك الممالك، ملكت القلوب، كما ملكت النجوم، وسيرت الأجسام الإنسانية، كما أدرت الكواكب الفلكية، فما بالنا نرى الفرق بين الحركتين، والبون شاسعا بين النظامين، ويا ليت شعري، أفي تلك العوالم الشاسعة، والفيافي السحيقة الواسعة، في الأقطار السماوية، أحياء مثلنا ذوو نفوس عالية، وعقول سامية، وسياسات راقية، ونظامات باهية، وهل فيهم أمم وجماعات، وآباء وأمهات، وملوك وملكات، وحكمة وحكماء، ومستضعفون وعظماء، وهل عندهم الدهاء والنفاق، والمكر والخداع، أم هم أجل مقاما، وأصدق كلاما وأحكم نظاما وأعلى في العلم كعبا، لا يخشون في الحق رهبا، ولا يرجون رغبا.
وإذا كنت أرى البحار الواسعة، والأقطار الشاسعة، والهواء الجوي، مسكونة بالحيوانات، معمورة بالمخلوقات، بحيث لم يخل منها الماء الملح الأجاج لملوحته، ولا المر في أعماق البحار لمرارته، ولا السرجين لقذارته، بل الحياة لم تذر مكانا ظاهرا إلا ولجته، ولا باطنا إلا دخلته، فهي في باطن البحار، وفوق الجبال، وداخل الصخور، وفي الظلمة والنور، فكيف مع هذا تخلو تلك العوالم الكبيرة من السكان، وهل خلق جمالها عبثا، أم أحكم صنعها، وهندس شكلها، وزوق نقشها، وزين فرشها، وعرشها، باطلا، وهل خصت أرضنا بالعناية، وهي أقل الكواكب جسما، وأصغرها جرما، ذلك ما لا يقبله الوجدان، ولا يرضاه عقل الإنسان، وهل خلق ذلك الجمال للعميان، وشع النور وتلألأ لمن لا ينظرون، كلا، إن في جمالها ونظامها، لدلالة على أحياء بها عالمين، وعقلاء لهيئتها فاهمين، ثم إن ذنب هذا الكوكب الجاري في السماء، يمثل حال الجبال والأرض والنجوم، إذا جاء أجلها، وحطمت أجزاؤها وقامت قيامة أهلها، فإنها تكون كالعهن (الصوف المندوف) المنفوش.
الفصل الثاني
ناپیژندل شوی مخ
سؤال عن حال الإنسان
وبينما أنا أجيل هذه السانحات في نفسي، وأنظر في هذا العالم بقلبي، قلت: يا ليت شعري، لو أن امرأ ركب متن هذا الكوكب، وساح العوالم العظيمة، وباحاتها الشاسعة، وساحاتها الواسعة، فدرس نظامها، وقرأ علومها، ثم رجع فروى لنا أخبار الأمم العظيمة، وشرح لنا السياسات الكبيرة، لأفاد الإنسان، وعلمه البيان، فقد قال العلامة «كنت» الألماني في كتاب التربية المترجم إلى اللغة الإنجليزية بقلم الكاتبة أنتي شارتون
Annettee Churton : إن الإنسان لم يتسن له تلقي العلم إلا عن بشر مثله، ولو أنه أتيح له عالم آخر، فأتاه علما، وأهداه فهما، لكان ذلك أقرب لسعادته، وأدعى لراحته، وأسرع لارتقائه، في مدنيته، والمعلم إذا لم يكن أوسع دائرة، وأحد بصرا، وأقوى بصيرة، وأرقى عقلا، وأسمى نظرا من التلميذ، لم يتسن له انتشاله من وهدته، وإسماؤه إلى أعلى درجته.
كل هذه الخواطر السانحات جالت بخاطري، وقد أخذتني سنة فنوم، في ليلة التاسع والعشرين من شهر مايو، وبينما أنا نائم إذا شخص دخل غرفتي، وهي موصدة الأبواب، مقفلة الشبابيك ، محبوكة الستائر، فوكزني برجله، وسمعت وأنا مغمض الأجفان، غائب عن عالم العيان، قائلا يقول: قم أيها الإنسان، فلم أفتح عيني لمقالته، بل ظننته من أضغاث الأحلام، وخطرات المنام، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فعاد الوكز، وعاودت الاستعاذة.
فلما كانت الثالثة فتحت عيني، إذا نور مشرق في ظلام الحجرة الحالك فدهشت من هجمته، بل ذعرت من هيبته، وأخذتني هزة الرعدة، لا هزة الطرب، ثم استجمعت قواي، وشددت فؤادي، وقلت: ما هذا، أنا في يقظة أم في منام، إن هذا إلا أضغاث أحلام.
ثم أغمضت عيني، إذا صوت أسمعه من ذلك النور الساطع، والضوء اللامع، يقول بلسان فصيح عربي مبين، لا تخف إني صديقك، وعاشق للحكمة مثلك، اتحدت روحي وروحك، قم لأحل لك معضلات المسائل، وأهم الوسائل، وأضع لكم يا أهل الأرض قانونا مسنونا، وصراطا مستقيما، ولكنني قبل ذلك أسألك: أين الإنسان؟ ففتحت عيني، إذا شخص لم أر مثله في هذا العالم المشاهد، كأنه شاب في سن العشرين، لم أتبين شكله لمكان الظلام المحيط بنوره، متوسط القامة، عليه حلل مرصعة بالماس، منظومة بالذهب، محلاة بأنواع من الجواهر والأحجار الثمينة، لا أعرف لها في الأرض نظيرا، ولا أكاد أميزها للدهشة وظلام الليل، فأعاد السؤال كرة أخرى وقال: أين الإنسان؟ فقلت: نحن بني آدم نوع الإنسان. فقال: أوهذا منتهى ما تصل له يد استطاعتكم في الكمال والأدب، والنظام والمدنية والفضل؟ وهل تجاريبك العلمية، ومباحثك العقلية، أرشداك إلى أن هذا هو الكمال في الإنسان؟
فقلت له: خبرني أيها السيد، من أين أقبلت؟ ومن أنت؟ فقال لي: إنني لي اسمان، الحقيقة والوجدان، وقد أقبلت من مذنب هالي، وأنا روح من الأرواح السائحة في العالم، وإني أحبك حبا جما لحبك لنوع الإنسان، واهتمامك بنظامه العام.
ولما اقتربت من الأرض نظرت إليك نظر المحب الشفيق، والوامق الصديق، فجئت لأسامرك الليلة، وأجاذبك أطراف الصداقة والخلة، ثم ارجع من حيث أقبلت.
إني سألتك: أين الإنسان؟ فتلكأت في الجواب، وأوجبت بما لا يزيل اللبس، فأجب بالحقائق المعروفة لديك، واختصر اختصارا، وليكن قولك إيجازا، وإذا لم تفد الحقيقة فضع بدلها مجازا.
الفصل الثالث
ناپیژندل شوی مخ
أخلاق الإنسان
أفدني كيف حال نوع الإنسان، وكيف أخلاق الطبقات المختلفة؟ قل لي ألست أنت الذي حكمت على الإنسان بأن فيه خيرا وشرا، وكمالا ونقصا، وجهلا وعلما، وقوة وضعفا، وإنك خالطت سائر طبقاتهم، ودرست جميع أخلاق وأحوالهم، تارة بالمجالسة، وأخرى بالمكاتبة، وآونة بالنظر في الأخبار والجرائد وكتب الآفاق؟ عشت مع الفلاحين، وزرعت مع الزارعين، وتخللت صفوفهم، وخالطتهم في حقولهم، فرأيت نفوسا خاملة، وعقولا قابلة، ومنهم البررة المتقون، ومنهم الطالحون، ومنهم من يمكرون كالثعالب، ومنهم من يختانون كالذئاب، والمعظم فيما بينهم ذو الجاه والمال، ومن كان أكثر مكرا، وأقدر على النميمة، وأتم في الحيل، وهم يحبون العلماء، ويودون الأولياء، ووجدت طبقة الفقهاء فريقين، فريقا سبح وصلى بكرة وعشيا، فكان قوله صدقا، وحكمه عدلا، والآخرون جعلوا العلوم حيلة محتال، وشبكة صائد وبهتان دجال، فأكسبهم قوة بها على الجهال يصولون، وأعطاهم قدرة على المكر والدهاء فهم لا يرحمون، فخالطت أهل الآداب والفضائل، ومن اتسموا بالعلم وسار ذكرهم في الآفاق، فعاشرتهم وخالطتهم، فرأيت صفات العامة كامنة في أخلاقهم، وغرائز الجهلاء باقية في أوصافهم، ولكنهم يمتازون بالقول الخالب، والمكر السيئ، فلما رأيت الخبيث والطيب، والجيد والرديء فيما حولك، رجعت البصر إلى العوالم المتمدينة، العالية الرأس، السامية الذرى، فألفيت فيما بينهم سياسات العامة، وعلوم الخاصة، إنك قلت أن النوع الإنساني ما زاده العلم إلا زيادة القوة الحيوية، بالعلوم الرياضية، ودرس المسائل الطبيعية، والمهارة الصناعية، هذه هي العلوم الحقة الصادقة.
أما في الأخلاق والإخلاص والصدق وحب نوع الإنسان، فذلك قليل في الأمم، ولم يقم بهذه الخصلة الشريفة، والخلة الحميدة، إلا أناس نبغوا في كل أمة يتخللون ثنايا الزمان، كالنجوم الزواهر، في أكناف السماء. فقلت له: أيها السيد النبيل، نبل قدرك، وجزل رأيك، ونطقت بالحق، وخبرت بالصدق، لقد عبرت عن بعض ما يختلج قلبي من المعاني، وإني لأزيدك إيضاحا ؛ إن الطبقة المتنورة في سائر الأمم والممالك، تخضع لزخرف القول، وتستنيم للأكاذيب، ويغرها البهتان، ويسحرها الكلام الخالب، فحال الناس في سياساتهم ومعاشراتهم كحال المحامين أمام القضاء، والشعراء المادحين، يعمدون إلى طلاء القول وما يؤثر في الوجدان والضمائر، وما يستفز النخوة ويبعث النجدة، كما ترى في جرائدهم وأخبارهم، فشأن أكثر الناس إلا قليلا أن ينخدعوا بالطلاء الكاذب، والزخرف الباطل، وما مثل المخادعين والمزخرفين إلا كمثل من رمى شبكته ليصطاد، فهو يرتقب صيدا لا محالة، ولقد شهدت أهل الرأي في مجالسهم يخدعون وينخدعون، ويقتطع زيد من كلام عمرو جملة بتراء، لينفذ فيها سهم نقده، ويقدح فيها زناد فكره، ويتجاوبون بالباطل، ويفعلون فعل العامة. ولقد نجحت بعض الأمم في تهذيب الشعب كما يروى عن أهل سويسرا، ولكن التهذيب والتأديب في سائر الأمم والممالك قاصر على الفضل فيما بينهم، واقتسام الرحمة عندهم، وهم حرب على من سواهم، من الأمم والممالك، لا سيما أئمة السياسة، وأكابر الأمم، فأولئك بأممهم وحدها مغرمون، وعلى حياتهم وحياتها يحرصون.
الفصل الرابع
فضائل الإنسان
وهنا أخذتني الغيرة، وذهبت سكرة الحق، وجاءت فكرة التعصب للجنس والنخوة والحمية. فقلت في نفسي: يا للعار ويا للشنار! روح من الأرواح تجلت لك ساعة من الزمان، فتشرح لها حال الإنسان، فيذمنا عند العوالم الأخرى، ويا عار الأمم الأرضية، إذا رجع صديقي الوجدان إلى كوكب المريخ أو المشتري، أو ركب متن مذنب هالي وساح في النظامات الفلكية العالية، وربما قابل علماء أورانوس ونبتون، وربما ركب كوكبا آخر، فصعد إلى المجرة التي فيها ما لا يتناهي من الملايين النجمية، فيخبرهم بأخلاق الأمم الحاضرة، وما فيها من زور وبهتان، وجهل فاضح، أوأكون أنا السبب في نشر هذه الأخبار في عوالم السماء عن أرضنا! فوالله لأذكرن محاسن الإنسان، كما ذكرت مساويه، وأنشر فضائله، كما أذعت نقائصه، ولأذيعن الخير كما أذعت الشر. كل هذا خطر لي وأنا ساكت.
فدنوت إليه فوجدته يتبسم. فقلت له: أيها الملك الطاهر، والصديق الخالص، إن الإنسان وإن أساء فقد أحسن، وإن ضل فقد هدي، ألا ترى أن منا الأنبياء والمرسلين، والحكماء والعلماء والصالحين والأولياء، وفينا صفة الرحمة! فمن منا لا يجزع لمصيبة حلت بأخيه الإنسان! ومن من المصريين والشرقيين لم يجزع لحوادث زلازل الطليان، وقد اختلف القومان، وبعد المكان، وتباين الدينان، ولقد آنست قوما من فقراء الروم يطلبون الإحسان، والمعونة، أمام كنيسة رومية في شارع الحمزاوي بالقاهرة، فبكيت ورحمت، وآنست مرة غلاما روميا يبكي، وقد ضل الطريق، فسألته فكلمني بلغته فلم أفهم، فجزعت ولم يسكن ألمي إلا بعد أن أسلمته لرجل من بني جنسه فعرفه، وأنه ضال طريق المدرسة، وإنا ليسرنا شعر شعرائهم، وعلم كبرائهم، كما يفرحهم علمنا ورقينا، ويسوءهم جهلنا وضعفنا، وإن غطت الشهوات على العقول، وزاحم الطمع الرحمة، والشدة اللين، والشر الخير، فالإنسان مركب من الخير والشر، والصالح والطالح، والطيب والرديء، هكذا كان وهكذا سيكون. فلما انقضى الحديث، ودعني ذلك الصديق الحميم، وانصرف ومعه الفؤاد، وقال: إن شاء الله يكون الاجتماع في الليلة القادمة، فأغمضت عيني، واستيقظت في الصباح وأنا جذل فرح بما وعيت، فقيدته في ورقة وأنا لا أدري، أذلك حقيقة أم خيال، وعجبت كما سيعجب القارئون.
الفصل الخامس
في استعداد الإنسان
فلما كانت الليلة الثانية، ونمت وأنا في حيرة من أمري، إذا قائل يقول: قم أيها النائم، فعلمت أنه صديقي ليلة أمس، فرأيته بشكل بهيج، ومنظر عجيب، ومن عجب أن صوته في الحديث موسيقي، لم أسمع مثله في عالمنا، كأنه مطرب يعلم ومعلم مطرب، فتمنيت لو يتاح لنوع الإنسان أن يحسن نغماته، ويتقن حركات أصواته، ويطرب سامعيه برناته، فأخذ يسمعني من بدائع العالم ما سرني وبهرني، ومن قوله أتظنون أيها الناس أنكم وصلتم الغاية المطلوبة، والدرجة المرغوبة، كلا، إنكم في أول طريقكم سائرون، وعن الصراط السوي ناكبون. ثم قال: لقد ذكرت الخير والشر وامتزاجهما في نفوسكم وقرره حكماؤكم، وذلك دأبكم، تحكمون على الأشياء بمظاهرها، ولا تدرسون ماهيتها وحقائقها، إن ما ذكره حكماؤكم في الإنسان قطرة من بحر، وذرة من جبل، ألا أعرفك حقيقة الإنسان واستعداده. فقلت: ذلك غاية مقصدي، ونهاية مطلبي ، وأنت مشكور، وبالفضل مذكور، فقال: على شريطة أن تنشر الكتاب في أنحاء الكرة الأرضية، والعوالم البشرية. فقلت: ذلك عهد بيني وبينك.
ناپیژندل شوی مخ
فقال: إن حقيقة النوع الإنساني واستعداده لا تنجلي بتعاريفكم الفلسفية، ولا تعرف بآرائكم العلمية، وإنما أقربها لك بمثالين اثنين؛ المادة العامة الكونية، والهواء المحيط بالكرة الأرضية، ألا إنما مثل الإنسان كمثل الهواء، وكمثل المادة، فإذا درستهما وعرفتهما آن لك أن تعرف استعداد الإنسان وقواه وملكاته. فقلت: إن هذا القول غامض، فأرجو إيضاحه، وأطلب تبيانه. فقال: إن المادة غامضة عليكم، مجهولة حقيقتها لديكم، وليس للبشر أن يقفوا على كنهها، ويطلعوا على سرها، وإنما تعرفونها بأوصافها الظاهرة، وأعراضها القاصرة. تعلم أن المادة تكون ضوءا وحرارة وكهرباء، وهو آخر الآراء عندكم يا أهل الأرض. فقلت له: نعم. فقال: وتكون أثيرا وهواء وماء ومعادن أرضية، كالذهب والفضة والبلاتين والنحاس والقصدير، ونباتا، كالفواكه والحبوب والملابس كالقطن والكتان، وتكون حيوانا في الماء كالأسماك، وفي التراب كالحيات، وعلى وجه الأرض كالبهائم، وفي الجو كالطيور، وتكون كواكب وأفلاكا، وسماوات وأرضين؟ قلت: نعم. قال: المادة واحدة تطورت وتغيرت وتشكلت، فإذا رأينا نحن علماء السماوات حجرا في جبل، نظرنا ببصر غير بصركم، وسمعنا بأذن غير آذانكم، وعقلنا بقلب غير قلوبكم أنه نبات وأسماك وحيوان، فهو فاكهة وروح وريحان، وذهب وفضة ونحاس وقصدير، وجنة ونار، وأرض وسماء، وحيوان وإنسان، فتراه عالما متبحرا، وشجرا مثمرا، وذئبا عاويا، وغزالا أغن، وأسدا رابضا، وإنسانا كاملا، وجاهلا مرذولا، وعالما مقبولا؛ ذلك لأنه يصلح لسائر ما وصفنا، ويتشكل بكل ما ذكرنا من الأشكال.
إن المادة واحدة صالحة للجميع، فإذا فنيت السماوات وحطمت الأرضون، وطاح الحيوان، وذهب النبات، وهلك الإنسان، وذبل الجمال، وراح البهاء، فذلك كله كامن في المادة، مستقر في الهيولي، فليس بمعدوم أثره ولا زائل عنصره، وما المادة إلا كحب الحنطة، وبذرة شجر القطن، متى أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت الأغصان، وأبرزت الأزهار، وأطلعت الأوراق، وألبست القطن، وأهدت القمح، فهكذا المادة تصلح لكل شيء، فإذا أفرغ الله عليها حكمته، ونفحها قدرته، تنوعت أصنافها ، وتشكلت أوصافها، بما تراه، فأنت من هذا عرفت استعداد المادة وتنوعها وتشكلها بما لا يتناهى، فهكذا الإنسان، إن أرواحكم كالمادة، قادرة على الخير والشر، والرفعة والضعة، وإذا ما نظرنا إلى زنجي دميم، أو ملك عظيم، أو عالم حكيم، لم نفرق بين الأبيض الجميل، والصعلوك الوضيع، والجاهل البليد؛ لأننا نعلم الاستعداد الإنساني، وقبوله الرقي، كما قبلت المادة الصورة الحجرية. وتشكلت بالصورة الإنسانية، فلا يشكل المادة إلا العلم والقدرة، ولا يخرج الإنسان من جهله وخموله وبساطته إلا التعليم، وكما تكون المادة بالتشكيل ضارة، كالعقارب والحيات، فهكذا قد يكون الإنسان بالتعليم شرا وبيلا، وشررا مستطيرا، كعلماء اللصوص، وبعض رجال سياساتكم في الأرض. فقلت: وهل سيكون في الأرض سياسات ممدوحة؟ قال: نعم، بعد نشر هذا القول في الكرة الأرضية، سيكون له أثر محمود، وفضل مشهود. فقلت له: فأوضح لي المثل الآخر وهو الهواء. فقال: أنت تعرف الهواء؟ قلت: نعم. قال: إن الإنسان يقبل رقيا عاليا، ومجدا غاليا، لا يحصيهما عد، وليس لهما حد، والفرق ما بين نقصه وكماله، وقبحه وجماله، كالفرق ما بين الهواء في حجرتك الحائم حول دواتك، المحيط بقلم كتابتك، والهواء الخارج من القصبة الهوائية، المغذي للأجسام الإنسانية، الممتزج بالكرات الدموية، المولد للحروف الهجائية بنغماته، المفهم لسامعيه عجائب الحكمة بآياته، ودرر المعاني وغرر العلوم برناته.
فقلت: أوضح لي المثل. فقال: إن الهواء الجوي يغدو ويروح في الجو، وله فوائد معلومة، ونعم محدودة مشهودة، يحمل السحاب، ويرفع قطرات الماء، ويقبل الأصوات، وهو الأمين على اللغات، حافظ أنواع المسموعات، بحيث يميز ما بين صوت وصوت، ولغة ولغة، ورائحة ورائحة.
هذه وأمثالها فوائد الهواء الذي يغمركم بكرته الجوية، ويحيط بكم وهو في حالته الفطرية، فإذا ما تطور بأطوار أخرى، فإنه يأتي بفوائد كثيرة، ألا ترى أنه يغذي النبات فيمتزج بمائه، ويتخلل عصاراته، وهو نفسه وغذاؤه، فهذا مدرسة أولى للهواء، يمتزج بالعناصر الأرضية، ويحدث منها الأغصان، ويخرج الأزهار، ويمازج الأشجار، فهذه الأشجار الخضرة، والأزهار النضرة، والثمار البهية، يدخل في تركيبها الهواء، كما مازجها الماء والتراب، والأضواء ، فالنبات يتنفس ولكنه لا صوت لنفسه، ولا حروف ونغمات ولا علوم ولا آداب، ثم الحيوان يستنشق الهواء فيمتزج بتركيبه، ويدخل في بنيانه كما دخل في النبات، وكون الأوراق والأزهار، لكنه في الحيوان أعظم قدرا وأوفر عملا وأجل فائدة، ألا ترى الطيور بأصواتها الشجية المبهجة، ونغماتها البديعة البهية، أليس هذا من العجب؟ مصلحة الهواء الامتزاج بالدم، وتكوين اللحم والشحم والعظم والعروق والحواس، فما باله زاد في الحيوان جمالا وإبداعا، فصار دلالة بين الأم وولدها، والذكر وأنثاه، والحمامة وأفراخها، والنعجة وحملها، واللبوة وأشبالها، وذلك لم يكن بين الغصن وأزهاره، ولا بين الساق وفرعه، ولا بين الفروع وأثمارها، فإذا تخطينا إلى الإنسان وهو المدرسة الكلية العالية للهواء، رأينا أمرا عجبا، فإنه يفعل كما فعل في النبات من التغذية، وفي الحيوان من النغمات والفهم والإفهام، وزاد عليهما باللغات، والعلوم الناشئات من الحروف الهجائية، المركوزة في الطباع البشرية، ألا تتأمل، ألا تتعجب من الهواء كيف كان في الجو قليل الفوائد، فلما أن دخل المدرسة الأولى النباتية أفاد المواد الغذائية، فلما أن دخل المدرسة الثانية الحيوانية أفاد الدلالة والإفهام، فلما أن وصل المدرسة العليا الإنسانية كانت النغمات المشجية، والحروف الهجائية، والعلوم الكونية، فصار معبرا عن سائر الكائنات، وبجميع اللغات، فكم لغة كونت ودونت! ويقال: إن في الأرض أربعة آلاف لغة تحصر ما في العالم العلوي والسفلي من العلوم، فهل تجد تلك العجائب في هواء دارك، الساكن في غرفتك، أم الصنعة التي أدخلت عليه جعلته في أعلى مكانة وأسماها، لعمرك إنه لا فارق بين هواء غرفتك، ونغمات الموسيقى، ومطربات الموسيقار، وكلمات الحكم والأخبار إلا بالصنعة والإتقان، فالهواء هواء اعترته العوارض ودخلته الصنعة فارتقت به إلى أبدع الأحوال وأسماها، وأعز المقامات وأغلاها، فهل تقصر الروح الإنسانية، عن النسمات الهوائية، إن نفوسكم أرق وأرقى، وأعز وأغلى، فإذا دخلتها الصنعة غلت قيمتها، وعلت رتبتها، وزادت كرامتها، ولئن تدرج الهواء في الصنعة من البساطة في الجو إلى نغمات مشجية مطربة، وحكم عالية، وعلوم باقية، وآداب غالية، أفلا يصل الإنسان من مقامه الوحشي بين الأنعام، إلى رتبة السادة الأخيار المصطفين الأحرار.
ثم قال: يا أيها الناس إن نفوسكم لشريفة عالية ، وأرواحكم طاهرة باهرة، وعقولكم سامية فاضلة. وقدرتكم تزيل الجبال، وترفع الحصون، وتذلل الصعاب، أرواحكم مطلقة فقيدتموها، ومقدرتكم واسعة فضيقتموها، ولئن وسعت المادة سائر الأشكال، من الظلمات والنور، والظل والحرور، والإنسان والجماد، والبحر والبر، فإن نفوسكم أعظم اتساعا وأوفر اقتدارا، وأعلى منارا، وإذا كان الهواء يرتقي إلى أن يحمل الحكمة بسائر أنواعها في حروف هجائية، فالأرواح الإنسانية أجل منه مقاما، وألطف بهاء، وأوسع جاها، وأبهى جمالا، وأبهر حسنا وكمالا. ما لي أرى أخلاقكم نازلة، وسياساتكم عاطلة، وحكوماتكم ناقصة، مشوهة! إنني لما اقتربت من الأرض وشاهدتكم في محن العذاب مسخرين، وفي عذاب جهنم الذل خالدين، أيقنت أنكم مسجونون في هذه الكرة، لا تفارقونها إلا بالموت، كتب عليكم أن تسجنوا في الأجسام، وأن لا تفروا من الأرض، فزدتم القيد قيودا، ذلك أنكم حبستم أنفسكم في سجن الجهالات، وفاسد الحكومات، جهلتم قدر أنفسكم فحبستموها، وبهذا السجن عذبتموها، وكم لكم من قدرة تركتموها، ومن حكمة دفنتموها! كل هذا وأنا مصغ لقوله، سامع لوعظه وزجره، ودعني وولى مدبرا، فنمت، فلما انفلق عمود الصباح كتبت ما قره وسطرت ما حققه.
الفصل السادس
في أنواع الحكومات والفلاسفة
فلما أن كانت الليلة الثالثة دخل الحجرة وأيقظني وأجلسني فآنست وجها يخجل القمر، وقد لبس ثيابا بيضاء مصفرة ومعه ساعة من الذهب، فرجع إلى الكلام على حال الإنسان وقال: ما الذي عملتم بفطركم وعقولكم؟ فقلت: نظمنا الحكومات، وقرأنا الديانات، وأوسعنا العلوم واللغات، واخترقنا الجبال، وعبرنا الأنهار، وسخرنا الهواء، والحجر والماء، فنحن لذلك كله مسخرون. فتبسم وقال: سأريك قيمة ما وصفت، وأعرفك أنه ليس شيئا مذكورا في إنسانيتكم، أجبني: «أين الإنسان؟» أنتم متحاربون متقاتلون متعادون، أنتم ذئاب على أجسادكم ثياب، إنني إذ سحت العوالم السماوية، ونظرت نظاماتها السياسية، وقارنت سياستكم بسياستها، ودولكم بدولها، ما شككت أنكم يا أهل الأرض معذبون غافلون، إني عجبت لكم، إن لكل امرئ منكم قلبين متضادين، ونفسين متناقضتين، ووجهين متشاكسين . فقلت: كلا، بل قلب واحد، ونفس وعقل ووجه. فقال: ألستم تقابلون بعضكم بما تعلنون، وهو مخالف لما تضمرون ؟ ألستم تفشون، وتكذبون وتنافقون، وأنتم متظاهرون بالصلاح، وكثير منكم فاسقون؟ أوهذه حياة الإنسانية؟! إن هي إلا حياة شيطانية.
ثم قال: خبرني، أليست حكوماتكم هي التي أكل عليها الدهر وشرب، ما هذه الحكومات، يا عجبا للإنسان! يا ويل الإنسان! أطلق له السراح كما أطلق للمادة، فتدلى عن الحيوانية، وانحط أسفل من البهيمية؛ ألستم تخضعون للأوهام والدجالين والكذابين؟ ألستم تحسون بضعف أنفسكم أمام وارثي الملك فتملكونهم عليكم، والطبيعة والفطرة تناديكم، أين عقولكم؟ أين أحلامكم؟ «أين الإنسان؟» إن الفطرة قد تكفلت لكم بكل حكمة وسياسة، إن الحكمة العالية الإلهية سنت لكم القوانين، ونظمت لكم كل شيء وأنت غافلون. قلت له: فأفدني. فقال: سيريك الشيخ الوقور من بعد «جامون السماوي». (وسيكون له القول الفصل في آخر الكتاب.)
فقلت له: من أين استمد الإنسان أكثر الحكومات الحاضرة؟ فقال: إن الإنسان عاش مع الحيوان أمدا طويلا يتصارعان ويتجاولان، وقد ركبت فيكم صفات الشهوة لتعيشوا كالبهائم، وصفات الغضب لتدافعوا كالأسود، وصفات العلم والحكمة لترقوا وتسعدوا كالملائكة، ولكنكم يا معاشر الإنسان، لا تزالون مع الأنعام، ولا تقدسون إلا صفات الآساد.
ناپیژندل شوی مخ
فقلت له: إن فينا الأنبياء والحكماء والعلماء. فقال: أما أنبياؤكم فقد خالفتموهم، وأولتم كلامهم، وأما حكماؤكم فإن أكثرهم ساروا مع العامة، وعللوا ما وجدوه بلا بحث ولا تنقيب، كما فعل علماء اليونان في الأفلاك، وما قاله أرسطاطاليس في المذنبات، وداروين في السياسات، وسبنسر في المطعومات، وعامة علماء أوروبا في الصين واليابان. فدهشت إذ سمعت هذا القول، وعجبت كيف عرف أسماء الحكماء في الحديث والقديم. فقلت: أيها الصديق الفاضل، رعاك الله، أوضح لي ما ذكرت. فقال: أما علماء اليونان فإنهم لما رأوا قبة زرقاء، منظورة دائمة الوجود، قالوا: أنها لا تقبل الخرق ولا الالتئام، ولا الفساد ولا الفناء، وهي دائمة أبدا وأمدا. وهذا القول كذبته العلوم، وذهبت دولته، وانهارت سياسته، فأنت ترى أنهم عللوا الكرة السماوية كما يلتمس علماء البيان حكمة الاستعارة المكنية، وكقولهم إن الكواكب السبعة البهية توسطتها الشمس كما تتوسط شمس القلادة قلادتها، وهي أثمن جوهرة العقد في جيد الحسناء، إذ تكون في وسط الخرزات البهجات، أفليس ذلك عيبا في الحكمة وجهلا بالنظام؟ أما أرسطاطاليس فإنه علل النيازك والكواكب ذوات الذنب بأنها أبخرة أرضية، صعدت في جو السماء وصادفت الكرة النارية فاشتعلت فحدث الضوء المنير، وأنت تعلم سقوط هذا الرأي في العلوم العصرية، والحكم الكونية، والاكتشافات الحكمية.
وأما داروين فإنه لما نظر جمال الدنيا وبهجتها وزخرفها وحكمها ونظامها ووقف على غلبة الأسود للظباء، والعنكبوت للذباب، والذئب للدجاج، والقوي للضعيف، ورأى الأمم القوية تفتك بالضعيفة وتبيدها من الوجود، جارى ما يشاهده من الناس، فحكم بألا فلاح إلا بالغلبة والقوة والسلاح والكراع، فأخذت الأمم تجد في السلاح والمدافع والرصاص، وهو حق أريد به باطل، وصدق أريد به كذب، وستفهم فيما بعد أنه أخذ القضية من أحد وجهيها، ولم يحقق مقالته ولم يحكم حكمته، ولعل أنصاره هم الضالون، وإلا فكيف عاش الفيل تحت الشجرة، والعصفور فوقها والنمل أمامها، والصعو (الميكروب) في جسمها، والذباب يطن على أذنيها، والجميع في جو واحد، منعتهم من التزاحم حواجز طبيعية، أفلا تحجز الناس حواجز حكمية، ليطابق العقل الإنساني حكمة الكون العليا، ودرجته القصوى. ولم يكن هذا مذهب داروين وحده، بل سبقه به أبيقور اليوناني وهو يحدث عن العالم بطريق الحدس والتخمين، وهكذا ذكر هذه الغلبة العرب، ولكنهم لم يريدوا أن يجعلوها أساسا للسياسات.
أما بعض علماء أوروبا فإنهم حكموا على الصين واليابان قبل الآن، أنهم لا يرتقون إلا لدرجتهم الحالية «إذ ذاك»، وعللوا ذلك بزوايا الوجوه، وأوضاع الأنوف، وربما جعلوا للألوان أثرا في السياسة، فخاب ظنهم، وضل سعيهم، وكذبهم ما فعلته اليابان مع الروس، وما قام به الصين من العلوم العصرية، وهي الآن آخذة في الارتقاء ساعية جهدها إلى العلاء، وأما سبنسر فإنه لما أحس أن كثيرا من الناس قرم للحم، مغرم بأنواع الطعام، فضل أدنى الخصلتين، وذم النباتيين، وقال: إن أكل اللحم صفة الآساد والنمور، وهي أمتن قوة، وأعظم سلطانا، والأمم التي تأكل اللحم تقهر النباتيين، فكذبه أن قامت اليابان، وكذبته بأوضح برهان، فإنهم بالأرز مغرمون، وعن إكثار اللحم معرضون، وقوى حجة استكثار أنواع الطعام على المائدة، ليسهل هضمها ويعظم نفعها، ولعمرك إن هذا عكس ما قرره الأطباء، وبرهن عليه الحكماء. وإنما قرر ذلك مجاراة للزمان، ومسايرة للشهوات الهائجة، في البلاد الشرقية والغربية.
فالعادة كثيرا ما تضطر حكماءكم إلى أقوال غير صادقة، وتحملهم على قضايا لا يألفها المنطق، ولا تصدقها العقول العالية، والنفوس الشريفة الراقية. هذه قضايا حكمائكم، وآراء فلاسفتكم، يخضعون للعادات، وينقادون للشهوات، ومن منهم إلا حرض قومه على إهلاك غيرهم، وإبادتهم وتسخيرهم، وجعلهم سلما لسعادتهم، كأنهم خلقوا واسطة لغيرهم، وطريقا لحياتهم، وإن هم إلا بشر مثلهم، إلا أنهم هم الظالمون.
فقلت: أوضح لي نظرية سياسات الأمم اليوم إيضاحا شافيا، وأبن لي نظيرها في الموجودات المشاهدة، والمخلوقات الطبيعية الحية، وما برهان نقصها، وما سبب اختيارها وتفضيلها. فقال: لقد شاهد آباؤكم الأقدمون، وحكماؤكم السابقون أنواع النمور والأسود والصقور تعيش عيشة هنيئة، بتمزيق اللحوم، وتهشيم العظام، واقتناص الغزلان، وصغار الحيوان، فعمدوا إلى تقليدها، والسير على منهاجها، وقالوا: ما أهنأ عيش الأسود والنمور والذئاب، إن النمر يعتمد على قوته، والذئب والثعلب على خدعته، فتأكل اللحوم سهلة هينة سائغة للقانصين، وقلدوها في سياستها، وزاحموها في وحشيتها، واستمدوا قوة من سلطتها، فاتخذوا الكراع والسلاح والقنا والسيف، وأكلوا ثمرات غيرهم، واستطابوا عيشة النهب والسلب، وهذه هي القوة السبعية الكامنة في الإنسان، قام بها أسوأ قيام، أخضع لها العقل الملكي، فأخذ يدبر ليكون وحشا كاسرا، وقاهرا فاجرا. فقلت له: أيها السيد، بارك الله فيك، إن هذا ليس ظلما، إن السباع محددة الأنياب، شاكية الأظفار، والشواهين والصقور ملتوية المناقير، قد حكم عليها أن تعيش على لحوم الغزلان والأرانب وأمثالها. فتبسم، ثم قال: وهل هذه براهينكم؟ الأسد لا يأكل الأسد، وإنما يأكل البقر والمعز والضأن، وقد أعدها الخالق الحكيم طعاما للآساد، وما أقل الآساد! وما أكثر الأنعام والضأن والمعز! فأما أنتم يا معشر الإنس ، فإنكم تسخرون أبناء جنسكم بلا ضرورة تلجئكم، ولا حاجة تحرجكم، فأنتم مختارون غير مضطرين، والآساد مضطرة. على أن أكل الآساد وسائر السباع لحكمة بالغة، ونظام عجيب؛ ذلك أن تلك الحيوانات إذا بقيت رممها وجللت وجه الأرض تعفن الجو بأنواع الحيوانات الصغيرة المسماة بالميكروب فيعم الوباء، ويكون البلاء بفساد الجو، ففتك السباع حكمة منظمة مدبرة، على أنها لا تبيد هذه الأنواع، فهي باقية أبدا ما دامت الأرض والسماء، فقولكم: إن الأقوى يقهر الأضعف، كلمة حق أردتم بها باطلا، وصدق أردتم به كذبا، ونظام أردتم به خللا، وعلم أردتم به جهلا، إنكم يا معشر الإنسان ظالمون جاهلون.
أخبرني أي أمة من البقر حاربت أختها فأفنتها، ثم سخرت عجولها لأعمالها؟! وأي أسد اتخذ معه آسادا، ونظم جيشا فحارب آسادا أخرى وسخرهم لمعيشته؟! وأي كلاب جمعت جموعها فأرهقت الكلاب، وأيتمت الأجراء، وأرملت الكلبات؟! فقل لي أيها الإنسي، «أين الإنسان؟» فقلت له: إن النمل لتحارب وتأسر وتسخر نملا آخر في أعمالها. فقال: ويحكم يا معشر الإنس! وهل النمل أستاذكم؟ أتحققتم أن النمل الغالبة من جنس المغلوبة؟ ولعل الفرق بين الغالبة والمغلوبة، والبعد ما بين القاهرة والمقهورة في الشكل والإدراك، كما بين الإنسان والقرد، فيكون الغالب من غير نوع المقهور. ولعل هناك حكما لا تدركونها، وأسرارا لا تعلمونها، كالتي فهمتها الآن في نظرية الأسود والغزلان. يا أيها الإنسان، «أين الإنسان؟» ولئن ظننتم أن النمل القاهر والمقهور إخوان، فما بالكم تقلدون الحيوان في الضلال! فكيف تدعون أنكم أعلى مقاما، وأرفع منارا، وأهدى من القطا، وأرقى العالمين! وإذا كنتم تؤيدون نظرياتكم بأعمال الحيوان، وتدعون الصالح، وتصطفون الطالح، فخبرني، رعاك الله، كيف تدعون بأنكم أرقى الحيوان! «أين الإنسان؟» فقلت له: كيف تنكر سيادتنا ورفعتنا، ونحن الألى رفعنا منار العلم، وأقمنا بينات الهدى، وبنينا الدور، وشيدنا القصور؟ فقال: أي دور وأي قصور؟ إن الخطاطيف تبني، والعصفور وسائر الطيور، فحاصل ما تصنعون يشبه ما يفعله سائر الطير في الأشجار، والوحش في الفلا والقفار، ولقد عثر الباحثون عندكم على عنكبوت مائية، اتخذت لها بيتا تحت الماء لتعيش فيه، بحيث يوضع مقلوبا وتملأ قمته بالهواء، وهذه لم يتسن لكم إلى الآن الاهتداء إليها.
وهل أتاك نبأ كلاب البحر في أستراليا، فإنها تضع حواجز للنهر كذلك الذي تسمونه العرم والنجف، يخزن الماء ليكون حصنا على أبواب بيوتها الغاطسة فيه، ولكل بيت من بيوتها دوران أعلى وأسفل، فالأعلى للجلوس، والأسفل لخزن الطعام، على أنكم برعتم في الأبنية، وإنما ذلك لوقاية الأجسام من العطب والعاديات، وليس ذلك فضيلة فيكم، ولا فخر لكم، فأنتم فيه والحيوان سواء، فبم امتزتم عليه، يا أيها الإنسان.
لعلكم تفخرون بسكة الحديد، ورسائل البرق والبريد، وتسخير الحيوان، وعبور البحار بالسفن الكبار، واتخاذكم الأثير بالبريد البرقي المسمى تلغراف ماركوني، وإنكم أخذتم تصعدون الجو في السفن الهوائية المسماة بالبالون والمنطاد. ولعلكم تفرحون بتشييد الحصون، وتحديد السلاح، وتدريب الجند على الكفاح، وأن الأمم الغالبة تنزع السلاح من المقهورة، وتتخذها خولا وعبيدا، وترفع منها العلم، وتذيع الجهل، ليكون الأولون آسادا، والآخرون غزلانا وأرانب وخرفانا، فقل أين الإنسان؟ أوهذه عقولكم؟ أنا ما سمعت في كوكب من الكواكب السماوية التي سحت فيها سكانا شرا منكم، فأين الإنسان؟ أين الإنسان؟ أتدري كل ما به تفخرون وما أنتم عليه عاكفون، ذلك كله أعمال حيوانية، بل ألعاب صبيانية؛ فما سكة الحديد والقطار، إلا أنكم أوتيتم أرجلا سريعة أسرع من كل حيوان، وأن فرق ما بينكم في سرعة النقل وبين الإبل السريعة العدو لأقل مما بين عدو الأرانب والنمل؛ فأسرع قطار ليس أسرع من جري الجمال البختية مرتين. والأرنب أسرع من النمل آلافا مؤلفة. فقل لي: هل سرعة السير فضيلة جديدة؟ إذن كانت الأرانب إنسانا. بل إنكم قبل ركوب القطار منذ ثلاثمائة عام مثلا كنتم أبطأ من أكثر الحيوان جريا، فالأسود والنمور والبقر والغنم كانت أسرع منكم، فإذن هي الأرقى والأعز الأعلى، وأنتم تدعون الفضل عليها بالعقل لا بالسرعة والبطء، فلا ينبغي لكم اليوم أن تتبجحوا بقولكم القطار والبخار. ولئن سلكتم هذا السبيل، وسرنا معكم فيما تدعون، وقلنا: أنتم فضلتم الحيوان في هذه. فأي فضل لكم في شيء ليس يجلب إلا الطعام والشراب؟! فأنتم لا ترحلون ولا تحلون إلا لمواد حياتكم من الطعام والزراعة والتجارة والسياسة، وكلها لغذاء الأجسام وكسوة الجلود ودفع الأعداء، فلم تفضلوا بها الحيوان شيئا مذكورا، وما قلناه في القطار نذكره في البريد والرسائل البرقية، وإن هي إلا رسائل لمادة الحياة كما تعيش سائر الحيوان.
لندع التطويل ونرجئ إتمام البحث إلى مقال السيد جامون، فأنتم يا معشر الإنس اتخذتم الظلم عادة وفخرتم على سواكم جهلا وزورا، وقلدتم أسوأ الحيوان حالا، وأقله فضيلة، وإني ما رأيت شرا منكم في تدمير جنسه، وتسخير قومه وخدعه في قوله ونفاقه في عمله. فدعوا الدعوى والعظمة، واعلموا إنكم غير ما تظنون. فقلت له: ما لك رفعت ووضعت، ومدحت وذممت، قد أثبت أن نفوسنا تشابه الهواء في قبوله للرقي وحسن الصنعة، وتضارع المادة في تشكلها وترقيها، وها أنت تسومنا السوء وتضعنا في أسفل سافلين؟ فقال: نعم، يقول الله:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين
ناپیژندل شوی مخ