275

زما ورقې ... زما ژوند (لومړی برخه)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

ژانرونه

سمعت الشباب يهتفون، كل فرقة تهتف بشعار مختلف: الإخوان المسلمون يرددون لا إله إلا الله محمد رسول الله، الشيوعيون يهتفون الكفاح المسلح الكفاح المسلح يحيا الشعب، شباب الوفد يهتفون النحاس النحاس. تختلط أصوات الشباب وتذوب في الصمت، يتعالى الغبار مع ضربات المعاول في الأرض. على الضفة الأخرى للقناة أرى تلال سيناء، رمالها تشوبها حمرة تحت أشعة الشمس كأنما هي غارقة في الدم. منذ التاريخ كانت سيناء هي البوابة الشمالية يدخل منها الغزاة، يركبون الخيول والحمير والدبابات أو الطائرات. فوق الخريطة تبدو مثلثة الشكل، شبه جزيرة سيناء، تلال من الرمال دفنت تحتها أجساد الشباب الفقراء، لم يكن أبناء الأثرياء يذهبون إلى الحرب، يدفع الأب الفدية، مبلغا من المال يشتري به حياة ابنه، يموت الشاب الفقير في سبيل الله والوطن.

في الليل، داخل الخيمة، همست وديدة في أذني: ما حدش عارف حد هنا، مش عارفة أنام يا نوال، خايفة موت نرجع من غير ما أشوفه. ثم أغمضت عينيها وراحت في النوم ... تشبه الطفلة، شعرها أسود غزير يغطي وجهها، ترتدي قميص نوم من الكستور الأبيض فيه زهور صغيرة حمراء. فتحت عينيها ورأتني شاخصة إلى سقف الخيمة، همست في أذني: صاحية ليه يا نوال؟! اللي واخد عقلك يتهنا بيه! لازم أرجع بكره يا وديدة، بابا ما يعرفش إني هنا، قلت لهم في البيت إني في مستشفى القصر العيني وعندي نوبتشية، لازم أرجع بكرة يا وديدة.

كانت المرة الأولى أكذب على أبي وأمي وأبيت خارج البيت، رتبت مع السائق أن أعود معه في العربة اللوري في الصباح. فقدت الأمل في العثور على أحمد. كل شيء هنا يبدو غريبا، مثل الحلم المفزع. رأيت الممرضات يغسلن الجروح من الدم والصديد، في إحدى الخيام رقد شباب ينزفون الدم، فوق رءوسهم زجاجات الدم والبلازما، والخراطيم السوداء الرفيعة يجري فيها الدم من الزجاج إلى الأذرع الممدودة فوق الأرض، أحد الشباب لفظ النفس الأخير، دفنوه في الأرض في مقبرة بجوار الخيمة.

لم يعرف أحد كم من الفدائيين ماتوا في هذه الحرب عام 1951، لكن الأرقام نشرت بعد ثلاثين عاما. في عام 1981، وأنا داخل الزنزانة في سجن النساء بالقناطر الخيرية، جاءت زوبة، من عنبر المومسات تحمل أرغفة الخبز لنا، لفت الأرغفة الثلاثة الخاصة بي داخل ورقة من أوراق الصحف، وهمست: بالهناء والشفاء يا دكتورة نوال. كانت زوبة تهرب لنا بعض أوراق الصحف. الصحيفة تحمل تاريخ 27 أكتوبر 1981؛ أتذكره لأنه تاريخ ميلادي. لم تكن إلا صفحة واحدة داخلية، فيها بعض الأخبار وخبر صغير في أسفل الصفحة يقول: في حرب 1951 قتل من الفدائيين ما يزيد عن مائتي فدائي. كشفت الحقائق بعد ثلاثين عاما عن أن هذه الحرب ضد الاحتلال البريطاني هي التي مهدت لثورة يوليو عام 1952، إلا أن أسماء هؤلاء الشهداء ضاعت في التاريخ، بعضهم حفر اسمه على عمود من الحجر بالقرب من شط القنال، سقط الحجر مع الزمن واندثر الاسم في العدم.

كنت أرمق هؤلاء الفدائيين بعين ملؤها الحسد، وهم يسيرون برءوس مرفوعة، سلاحهم فوق كتفهم، عيونهم تلمع بالكبرياء، إن سقطت قنبلة فوق الخيمة يموتون واقفين في كبرياء، وأنا أموت في فراشي راقدة مع النساء الممرضات. لم يكن للمرأة أن تنال شرف الموت وهي تقاتل، كانت تموت وهي راقدة في فراشها، أو وهي تحمل براز الفدائيين في الجردل، أو تغسل جروحهم من الدم والصديد.

من بعيد كنت أرمق معسكرات الإنجليز، ينتابني القلق أو الخوف من المجهول، هل أعيش حتى أرى هذه المعسكرات حطاما؟! إنها تبدو مثل القلعة المحصنة، مثل الأبراج العالية تسكنها كائنات غير بشرية، مفترسة ومخيفة، يتراقص من فوقها العلم البريطاني، مثل طائر خرافي من الطيور الجارحة، خطوطه حمراء بلون الدم تتقاطع مع خطوط سوداء بلون الموت.

بعد أربعة عشر عاما جئت إلى الإسماعيلية بعد حرب 1967، تغير شكل العلم فوق معسكرات الأعداء، أصبح يحمل نجمة داود، يرفرف في الظلمة، والعربة اللوري تشق الطريق ما بين الإسماعيلية وبورسعيد.

تحت ظلمة الليل كانت الصحراء تتلاشى والسماء، كل شيء في الكون يتساوى في الظلام، أعلام الدول ومعسكرات الأعداء، كلها تتساوى وتذوب في السواد، عيناي مفتوحتان لا أنام، وديدة راحت في النوم تحلم بعودة خطيبها من الحرب وليلة الزفاف. أخشى أن أسقط في النوم ولا أصحو في الصباح، أخشى أن تسقط قنبلة وأموت في الإسماعيلية، يكتشف أبي وأمي أنني كذبت عليهما وقضيت الليلة في الإسماعيلية وليس في نوبتشية القصر العيني، كان الموت أهون في نظري من انكشاف الكذب.

خرجت من الخيمة أتمشى في الصحراء، الشفق الأحمر يسري في صدري مع نسمة الفجر، أستشعر الحنين للحب، أمشي نحو عين الماء، أتصور أنني سوف ألتقي بأحمد هناك، ربما نهض من النوم ليشرب، ربما يدرك أنني هنا في الإسماعيلية، في الخيمة المجاورة له، وأنني أنهض وأمشي إلى عين الماء، كأن بيننا موعدا وأنا أمشي إليه، وهو يمشي إلي، نقطتان صغيرتان في الكون تمشيان نحو بعضهما، نجمان مؤرقان في سماء الليل والكون كله نائم. لم يكن أحد عند عين الماء، أحسست خيبة الأمل، كأنما أحمد خان العهد وتخلف عن الموعد. غسلت وجهي وذراعي بالماء البارد، ملأت كفي بالماء وشربت، ليس له طعم ماء النيل، له نكهة معدنية، كأنما أضيفت إليه مادة كيمائية، هل سمم الأعداء الماء؟! كنت أسمع من البدو أن الأعداء يسممون عيون الماء والآبار. من بعيد رأيت البدو يسيرون وهم يقودون الحمير أو الجمال، نصبوا خيامهم وانضموا إلى كتائب الفدائيين، الفلاحون أيضا جاءوا بفئوسهم، وقطاع الطرق جاءوا بالأسلحة. والفلاحات أيضا، منهن امرأة فارعة القامة تحمل بندقية فوق كتفها يسمونها أم الفدائيين، ترتدي جلبابا واسعا أسود، تربط رأسها بحزام من جلد الماعز، قدماها كبيرتان سمراوان، كعبان مشققان، تشبه جدتي الفلاحة أم أبي، خطوتها واسعة فوق الأرض، خفيفة الجسم، قفزاتها سريعة كوثبات الفهد.

هنا وهناك بركت الجمال والحمير، راحت في ما يشبه النعاس، والحصان الأبيض يركبه رئيس المعسكر، أهداه إليه أحد الأعراب من سيناء، تلال سيناء وصخورها منتصبة في غضب، كأنما تريد الانقضاض على معسكرات الأعداء. «الله أكبر ولله الحمد، هذه التلال يا إخواني خلقها الله لتحمي المسلمين من غزوات الكفرة!» هذا هو صوت أحد الفدائيين في كتيبة الإخوان المسلمين، صوته ينطلق مع أذان الفجر. وصاح شاب من كتيبة الوفد أو الشيوعيين «والحماية العسكرية هنا ليه يا أخ إذا كانت التلال دي حاميانا؟!» نشب حوار أشبه بالمعركة بين الشباب، كادت تستخدم فيه الأيدي والبنادق. لم يفضه إلا حضور رئيس المعسكر، عضلاته مشدودة، علامة القيادة، سلاحه يطل من جيبه، يرتدي كاسكيت يحجب نصف وجهه العلوي، ذقنه مربعة عريضة، راح يتمشى بعد أن فض العراك بخطوة الأسد الهادئ الواثق من نفسه، يرفع وجهه نحو السماء، عيناه تشردان في الأفق نحو معسكرات الأعداء، ربما كان يتخيلها حطاما، يتخيل نفسه بطل النصر، أينتصر حقا على الإنجليز؟! وإن انتصر وأصبح بطلا لمن يدين بهذه البطولة؟! لهؤلاء الشباب الفدائيين أم للإنجليز الأعداء؟!

ناپیژندل شوی مخ