276

زما ورقې ... زما ژوند (لومړی برخه)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

ژانرونه

أغمض عينيه كأنما نام وهو واقف، ثم أطرق إلى الأرض، ربما اجتاحه شعور بالإثم وتأنيب الضمير، سؤال يدور في عقله، أيمكن أن يكون بطلا دون وجود الإنجليز الأعداء؟! أحرجه السؤال فاستدار، لم أعد أرى إلا ظهره، وارتفع صوت الفدائي يمزق الصمت: يا إخواني، إن جبل سيناء معنا ضد الإنجليز؛ فقد ظهر الله فوق هذا الجبل لسيدنا موسى عليه السلام، اصطفاه الله من كل جبال العالم ليهبط فوقه، وهناك أيضا معبد سانت كاترين، والطريق الذي سارت فيه السيدة مريم مع سيدنا عيسى عليه السلام ويوسف النجار هاربين إلى مصر، هذا يا إخواني جبل مقدس، الرمال فيه مقدسة، التلال والصخور تتربص بأعدائنا الإنجليز، وإذا كان الجبل معنا فإن الله معنا والنصر معنا، وسوف تصبح هذه المعسكرات حطاما بإذن الله، نزيلها من الوجود، ونبني مكانها جامعا ومئذنة يرتفع من فوقها صوت الحق، الله أكبر الله أكبر!

دب الحماس في الشباب، هتف بعضهم: الله أكبر. فريق آخر راح يهتف: يحيا كفاح الشعب المسلح! وانطلقت أصوات أخرى تهتف: النحاس النحاس! وارتفع شعار الهلال والصليب في الجو، مع راية عليها سيفان يحملان المصحف الشريف، وراية أخرى مرسوم عليها المطرقة والمنجل، وعلم مصر يرفعه بعض الشباب.

كان رئيس المعسكر واقفا من بعيد يتطلع إليهم، نصف وجهه العلوي يختفي تحت الكاسكيت، عضلات فمه مشدودة، يمسك ذقنه المربعة بأصابع متوترة، ربما كان يفكر أن معركته الأولى هي إخضاع هذه الفرق المتناحرة، ثم بعد ذلك يأتي إخضاع الإنجليز، أيكون إخضاع الإنجليز أسهل؟! هؤلاء الشباب الفدائيون ليسوا جنودا من أبناء الفلاحين الفقراء الجهلة، إنهم طلبة في الجامعات، رءوسهم محشوة بالأفكار الجديدة: حرية الرأي، الاستقلال، الديموقراطية، العدالة الاجتماعية. هل تنفع هذه الأفكار في الحرب؟! الحرب ليس فيها إلا فكرة واحدة: الطاعة العمياء للأوامر وقتل العدو أينما كان!

كلما فرغت الدماغ من الأفكار أصبح الجندي أفضل.

كان واقفا من بعيد مطرق الرأس كأنما يفكر في هذه العبارة، الغبار الرمادي الأصفر يغطي الكون، العواصف الصحراوية تهب يعقبها نباح الكلاب، صوت طلقات الرصاص من بعيد، أهي بنادق صيد؟! هل خرج الإنجليز في رحلة للصيد في الصحراء أم خرجوا مع كلابهم في حملة استكشاف أوكار الفدائيين؟! كلابهم لديها جهاز عصبي حساس يعرف رائحة العدو، هذه الرياح الصحراوية قد تحمل رائحة الفدائيين إلى أنوف الكلاب، الرياح قادمة من ناحية الجبل، أينقلب الجبل ضد المسلمين ويصبح مع الإنجليز؟!

كان السؤال يدور في رأسي وأنا واقفة أنتظر سائق اللوري، أتلفت حولي في دهشة لا أكاد أعرف من أين جئت وإلى أين أمضي؟! الأرض مفروشة داخل الخيمة بقطع من فروة الخرفان، سرير من الصاج ترقد فوقه وديدة، فوقها كليم من الصوف، طشت نحاس وإبريق ماء، تحت وسادتها المصحف الكريم، آية منقوشة تتدلى عند باب الخيمة

إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، مقعد من القش المجدول، كنبة من البامبوه أو عيدان البوص المشغولة بأيدي النساء من البدو، حصيرة فوق الأرض من القش أو الجريد.

كانت وديدة راقدة في سريرها تحملق في الظلمة، تنظر إلى أصابع يديها، أصابع شاحبة رفيعة تهتز في الضوء الشاحب، ترسم على الجدار ظلالا سوداء على شكل أصابع، عيناها شاخصتان مفتوحتان لا يطرف لهما جفن. سرت فوق جسدي قشعريرة، «وديدة!» ناديتها بصوت هامس، لم تتحرك شفتاها، تصورت أنها ماتت في هذا الوضع، يدها اليمنى فوق صدرها، صغيرة ناعمة كأصابع الطفلة، خاتم الخطوبة يلتف حول إصبعها، يشع في الظلمة ضوءا خافتا ذهبي اللون.

بعد عام واحد من هذا اليوم كنت أمشي في فناء مستشفى قصر العيني الجديد، رأيت وديدة تمشي منحنية الظهر ترتدي ملابس الحداد السوداء، تصورت أن خطيبها قتل في الحرب؛ لكنها أجهشت بالبكاء، وهمست في أذني: يا ريته كان مات في الحرب على الأقل كنت أفتكره بالخير ... مسحت دموعها وصمتت، تصورت أن خطيبها تعرض لخيبة الأمل مثل أحمد حلمي، يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة، الحرب مثل وابور الطحين يا وديدة، إن لم تقتل الجسد قتلت الروح، يصبح الإنسان ميتا وإن عاش.

أجهشت وديدة بالبكاء المكتوم، أنفاسها تتقطع مع كلماتها وهي واقفة في فناء المستشفى: موت الضمير أفظع شيء يا نوال، والرجل الخائن للحب يخون الوطن أيضا. كان خطيبها من البوليس السياسي، تنكر في زي الفدائيين، عاد من القنال سرا قبل حريق القاهرة 26 يناير 1952. اختفى عن خطيبته وديدة ستة شهور حتى قيام ثورة ضباط الجيش يوم 23 يوليو، ظهر اسمه في الصحف بعد بضعة شهور، فتحت وديدة الجريدة ذات صباح، رأت صورته وخبرا عن حفل زفافه إلى ابنة أحد رجال الثورة، كان الحفل ليلة عيد رأس السنة الجديدة أو يناير 1953. ارتدت وديدة ملابس الحداد السوداء، ابتلعت مائة قرص لونه أسود مع كوب من الماء، تمددت في سريرها داخل عنبر الممرضات، أنقذوها في المستشفى بغسيل سريع للمعدة. أجهشت بالبكاء حين عادت إلى الحياة، حاولت الانتحار مرة ثانية، أنقذها من الموت طبيب جديد في سنة الامتياز، وقعت في حبه وكفت عن الانتحار.

ناپیژندل شوی مخ