زما ورقې ... زما ژوند (لومړی برخه)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
ژانرونه
رائحة الخبز والجبن والفلفل أعادت إلى خيالي صورة أمي في طفولتي، مثل صوت الجرس في تجربة بافلوف، يستحضر في خيال الكلب صورة الطعام، هناك تشابه بين خيال الكلب وخيال الإنسان. تعود إلى ذاكرتي قصة «كلب وغلام»، كان لأحمد أسلوب مميز في الكتابة، كلماته فوق السطر تتتابع بهدوء يشبه خطوته فوق الأرض، يشبه صوته حين يتكلم، الإيجاز في التعبير يبدو كالإعجاب، والتصوير الدقيق إلى حد التجسيد. يتراءى لي جسم الغلام الصغير النحيف، وجسم الكلاب يشبه الغلام صغيرا ونحيفا، يأكلان معا من صفيحة القمامة، عيونهما غائرة داخل عظام الجمجمة، المقلتان السوداوان بارزتان فوق البياض مشتعلتان بنار الجوع، كل منهما ينظر إلى الآخر في ألفة وصداقة، يتيمان وحيدان في مدينة القاهرة الراقدة تحت شبورة رمادية، وسماء ملبدة بالآلهة غير مبالية .
همست وديدة في أذني والعربة اللوري تدخل إلى مشارف الإسماعيلية: لازم أعرفك باليوزباشي رجب، ناويين نتجوز على طول أول ما يرجع من الحرب، وحشني موت يا نوال، حتبقى مفاجأة لما يشوفني، ما يعرفش إني تطوعت في كتيبة التمريض عشان أشوفه.
ثم أطبقت شفتيها في صمت، كأنما تخون الوطن، تفكر في الحب وقت الحرب، وتنتمي إلى عالم النسوة العاطلات الخاملات، لا شيء يشغلهن إلا الرجال.
سمعنا دوي الانفجارات من بعيد، أسرع السائق فوق الطريق المحاذي للسكة الحديد، لم أكن أعرف إلى أين نتجه، الظلمة كثيفة، الشفق الأحمر تراءى من بعيد، دوي الانفجار يشتد، السائق يدوس على البنزين، صوته يعلو على صوت الموتور: لازم نوصل المعسكر قبل الفجر ما يطلع. كأنما هو في سباق مع حركة الشمس حول الأرض أو الأصح حركة الأرض حول الشمس كما قال كوبيرنيكس، كوكب الشمس مركز الكون وليس الأرض، مسمار كبير في نعش الكنيسة عام 1543، قبل مسمار داروين بثلاثة قرون ونصف، وكم من مسامير أخرى تعاقبت حتى اليوم، وأصبحت الشمس مجرد كوكب ضمن أربعمائة بليون كوكب آخر في المجموعة الشمسية، تبعد عن الكوكب الأرض أربع سنوات ضوئية، أي بلايين البلايين من الكيلومترات، المسافة بين الشمس والأرض أكثر من مائة وخمسين مليون كيلو متر تجتازها أشعة الشمس في ثماني دقائق ضوئية، أي بسرعة نصف مليون كيلومتر في الثانية الواحدة.
المدافع تدوي في أذني، السيارة اللوري تتخبط فوق مطبات الطريق، الموتور يعلو فوق صوت السائق، زجاجات الدم والبلازما تتخبط وراءنا، التمورجي القابع في قاع السيارة يشير إلى السماء في فزع، فيه غارة جوية وفوق راسنا طيارة!
كان ذلك في نهاية عام 1951، كنت في العشرين من العمر، لا أعرف معنى الحرب، كنت أسمع عن المدافع والرشاشات، لم أعرف في حياتي حتى ذلك الوقت إلا رشاشة الفلت، أمسك مقبضها بيدي وأحركه كالمنفاخ، يتطاير رذاذ الفلت ويقتل الذباب. منذ سافر أحمد إلى القنال وأنا أرى حلما يتكرر في النوم، أمسك رشاشة الفلت وأحرك مقبضها، يتساقط الجنود الإنجليز إلى الأرض كالذباب الميت. في طفولتي كان يطربني سماع صفارة الإنذار تعلن عن الغارة الجوية، ينطلق الناس خارج بيوتهم إلى المخابئ تحت الأرض، تخرج النساء بقمصان النوم والرجال بلا أحذية ولا بدل ولا كرافتة. في المخبأ تذوب الفوارق بين الأغنياء والفقراء، يختلط النساء بالرجال والبنات بالأولاد، نلعب نحن الأطفال معا في الظلمة بقطع الطوب الصغيرة، نرسم فوق التراب المربعات ونلعب السيجة، حين تنطلق صفارة الأمان نشعر بالحزن، تعود كل عائلة مع أطفالها وراء جدران بيتها، تعود التقاليد تفصل البنات عن الأولاد، تبقى البنات داخل المطبخ ويخرج الأولاد يلعبون في الشارع. كانت جدتي تقول: إن الله فرق بين البنات والأولاد، وهو الذي خلق العائلات وخلق البيوت والجدران.
لم أكن أرى الكشافات في القرية، كنت أراها في بيت جدي في القاهرة، حين تدوي صفارة الإنذار أجري إلى الشرفة الواسعة المطلة على السماء، تتعلق عيناي بكشافات الضوء، تروح وتجيء في الكون اللانهائي، أذرعها بيضاء طويلة تمسح الظلمة من السماء، كأنما هي أذرع الله تكشف طائرات الأعداء ، وترن أصوات المدافع في أذني من بعيد مثل صواريخ العيد.
توقفت العربة اللوري عند المعسكر، خيام سوداء متفرقة تتخفى تحت الشجر، عربات جيب مصفحة مركونة على جانب الطريق، عربات كارو تجرها الخيول أو الحمير، أوعية للأكل وماء داخل قرب من جلد الماعز، شباب يرتدون بدل حرب العصابات، بدو الصحراء يجرون جمالهم من فوقها الأسلحة مختفية تحت عباءات من صوف الإبل.
بدأ الشباب ينقلون زجاجات الدم والبلازما، رأيت رئيس المعسكر واقفا أمام باب الخيمة، يتأمل الشباب ينصبون خيامهم، يحفرون خنادق تحت الأرض، الجو مشبع بالرمال والتراب. سألت أحد الشباب عن أحمد حلمي، لا أحد يعرف أحدا باسمه الحقيقي، الجميع يحملون أسماء تنكرية.
من بعيد وسط الضباب على شط القنال كتلة ضخمة من السواد تنتصب في الظلمة مثل قلعة ضخمة تحرس قناة السويس، يقولون عنها معسكرات الإنجليز، قناة السويس ترتبط في خيالي الطفولي بالخديوي عباس، وديليسبس، والفلاحين يحفرون القناة من أجل الله والوطن، كالعبيد بنوا الهرم الأكبر من أجل فرعون والوطن ... الكرابيج كالسياط تلسع أجسادهم، يسقطون من الإعياء ويموتون، يتطوع أبناؤهم الفقراء فداء الوطن، يتلقون الرصاص في صدورهم، يستشهدون في ساحة القتال وهم يهتفون: الملك، الله، الوطن!
ناپیژندل شوی مخ