وكان عوض أفندي كالعادة جالسا بجواره، وعينه لا تفارق الطبق الذي أمامه، وطربوشه محكم الوضع على رأسه، ووجهه الأسمر هادئ لا اضطراب فيه، ولا يلمع منه في الضوء إلا مكان العصفورتين اللتين كانتا مرسومتين على جانبي وجنته، ثم أزالهما بماء النار، وبقي مكانهما لأبيض يلمع، وكان عوض أفندي هو المختص بقهوة الأمير وتقديمها، وهو الذي عليه انتقاء البن وتذوقه وضبط السكر.
وكان ابن حلال لا يعرف لفا ولا دورانا، وقد قضى أيام الرحلة كلها يقرأ في المصحف الذي يحمله معه دائما، حتى كاد يختم الربعة، وكان هناك شيء خطير يشغله ويربكه ويسد نفسه؛ فهو كان يصلي على ملاءة السرير، وظل يصلي عليها طوال الرحلة وما أدراه أن الملاءة طاهرة والناس الذين في الباخرة لا يعرفون طهارة أو يحزنون؟
والأدهى من هذا أنه لا يجد أحدا على الباخرة يفتيه، وكل من عليها فسقة لا يصلون.
أما الأوسطى حامد الجالس ووجهه في الحائط المقابل، فقد كان سائق الأمير الخاص، وكان لهذا أتعسهم جميعا. وكانت العربة الجديدة سبب تعاسته؛ فقد اشتراها الأمير من أوروبا، وكان على حامد أن يتولى شحنها على نفس الباخرة، وقد فعل هذا على أتم ما يرام، ولكنها أصيبت بخدش واضح.
ولم يفكر حامد أثناء المجيء كله إلا في ذلك الخدش، وكيف يداويه، وهل يفلح في إخفائه عن عين الأمير الذي شغف بالعربة وجن بها، خاصة وهو الآن لا ريب قد وصل مصر من زمن، وينتظرها على أحر من الجمر، ولم يفكر إلا في هذا، ولم ير إلا وجه الأمير الغاضب وعقله الصغير، ولسانه وهو يرطن بالتركية ويرفده.
وعلى عكسه، كانت الدنيا لا تسع سعد الله السفرجي، وقد اشترى بكل ماهيته بدلة، أول بدلة في حياته، ولم يلبسها من ساعة أن اشتراها، وإنما تركها في صندوقها الكرتون الكبير، وكل ليلة كان يفتح الصندوق، ويخرج السترة ويتلمسها، وأحيانا يرتديها ويخطر بها أمام المرآة، ثم يخلعها ويطويها ويعيدها إلى مكانها في الصندوق، وقضى الرحلة كلها وهو سعيد بملمسها الدافئ، وبجيبها الداخلي الصغير الذي توضع فيه الفكة، ولا يستطيع أن يتخيل بالمرة أنه سيرتديها يوما ويصبح أفنديا.
أما السابع، فقد كان ينزوي في آخر عشاء في ركنه المعهود لا يعجبه ضجيج مواطنيه، وتشمئز له نفسه، وتنتابه موجات الضيق، وهو يشاهد مواطنه الآخر المدرس الذي لا يمل الاحتكاك بالناس ولا التظرف إليهم. وكان السابع عائدا من البعثة كالمدرس والرسام بعد أن أخذ الدكتوراه في قانون من القوانين، وكان مفروضا أن يعود في الدرجة الثانية، ولكنه آثر أن يحصل على الفرق، ويعود في الثالثة، وكانت مشاغله أكثر من أن تسعها الثانية والثالثة معا، أربعة وثلاثون طردا معه، فيها هدايا وتحف وأشياء عانى في نقلها العذاب الأليم، ومن قبل أن تبدأ الرحلة وهو مهموم يدبر كل تصرفاته يوم الوصول، وكم يأخذون في الجمرك، أو هل يعدونه يا ترى تاجرا.
وكان على العشاء الأخير يحدج مواطنيه، ويحسدهم على قلوبهم الخالية وضحكاتهم التي لا هم فيها. •••
وانتهى العشاء.
وتسلل المسافرون إلى الشرفة التي أمام المطعم.
ناپیژندل شوی مخ