وعلى مائدة العشاء لم يكلفه الأمر أكثر من ابتسامات أربعة أصبح بعدها يعرف كل شيء عن الأربعة الجالسين بجانبه إلى مائدة العشاء.
وكان الأمس فقط هو أكثر أيامه ازدحاما، فقد عرف فيه أكثر من ثلاثين مواطنا لبنانيا عائدين من المهجر.
وكان أغرب من عرفه حقا هو اليوناني العجيب الذي ليس في رأسه شعرة واحدة سوداء، والذي لم يصدقه أبدا وهو يروي كيف ذهب إلى العراق شابا قبل الحرب الأولى ليعمل في حقول البترول هناك، وكيف ظل يعمل ويكدح، حتى انتهت الحرب الثانية. ولما أحس بالكبر وأراد أن يستريح باع كل ما يمتلكه، وعاد إلى اليونان هو وزوجته.
والذي أضحكه بحق أن اليوناني العجوز قال إنه لم يحتمل البقاء في اليونان، ولم يرتح إلى معاشرة مواطنيه، وقد مات أصدقاؤه وتفرق معارفه، وأنه أحس فعلا بالغربة في بلده، وامرأته ضاقت بلداتها اليونانيات، وكانت تبكي دائما حين يتهمنها بأن الصحراء قد خشنت طباعها وغيرتها؛ ولهذا قرر بعد شهور قليلة قضاها في اليونان أن يعود إلى العراق هو وزوجته، فقد اشتاق إلى الماء هناك، وإلى البيت الذي على نهر الفرات، والذي طالما حلم به.
ويقهقه المدرس كلما تذكر العجوز، وهو يتنهد، ويقول بلكنته العراقية الأجنبية: وين أنت شيخ جابر؟ وين أنت جافري؟ وين كلكم؟ كلكم؟
وبينما المدرس في آخر عشاء منهمكا في حديثه مع الجار الجديد الذي تعرف به، ومنهمكا في مناقشة ما يحتويه الكتاب الأزرق عن مصر، ويتحمس وهو يعطي للسائح نمرة تليفونه، ويعرض عليه مرافقته طوال فترة إقامته.
بينما هو في هذا، كان أربعة مصريين آخرين يحتلون المائدة التي بجواره، وكانت العين لا تفلت مصريتهم، وحول المائدة طربوش وجلباب، ووجوه سمراء وأفواه فيها طعام، وضحكات، وقبضات تدق، وظهور مائلة إلى الوراء كثيرا، ومائلة معها المقاعد، ونكت تترى، و«قافية» قد انهالت على الجرسون الطلياني، وهيصة، وكلام.
وكان الأربعة خدم أمير مصري قضوا معه الشتاء في نيس، ثم أرسلهم يسبقونه إلى مصر.
وكان الأوسطى شرف الطباخ مرحا على غير عادته، وكان يرتدي نفس جلبابه الإفرنجي الذي له جيب ساعة على الصدر، والذي فيه ساعة لها «كتينة» غليظة، وعلى رأسه كانت طاقيته البفتة، وذيلها محبوك على جبهته. وكان جالسا على راحته بجسده الضخم الذي في ضخامته طيبة وعنقه الغليظ السمين، ووجهه المنتفخ الأشداق الوديع القسمات، وشاربه الكث الذي تناثرت فيه شعرات بيضاء قليلة، وكان الأوسطى يرف بعينه إلى المرأة الرومية البدينة، ويقشعر جسده، فيخفي القشعريرة بضحكة عالية تتردد بين أشداقه.
ومنذ حادثة البوفيه والمرأة تكهربه كلما رآها، فهو قد ركب الباخرة بعد أن قضى في بلاد الناس شهورا طويلة عانى في أثنائها ما عانى من الحنين إلى امرأته فردوس وسروالها البمبي المشغول بالدانتلا، والذي يصل إلى الركبة، وكان أحيانا يضعف، ولكنه كان لا يطيق أبدا أن يرتكب الفحشاء، ولو بالنظر، وحين احتوته الباخرة كان لا يزال عند تصميمه الأكيد، ولكن تلك المرأة ذات الأرداف، أعوذ بالله، هل سلطها الشيطان عليه؟ لقد كان جالسا في أمان الله في البوفيه يومها يلعب «الولد يقش» مع عوض أفندي، ومن حيث لا يدري ولا يعلم وجدها واقفة بجواره تبتسم، وحدث أن مالت الباخرة، فجعلت المرأة تكاد تلتصق به، أو على وجه التحديد جعلت ردفها الأيمن يلطشه في جانبه، ومن ساعتها وكلما رآها وقف شعر رأسه، بل وقف شعر جسده كله.
ناپیژندل شوی مخ