وظل يعبدها هكذا بنظراته إلى آخر عشاء.
وبينما الرسام في هذا، كان هناك مدرس مصري آخر عائد من البعثة مشغولا كالعادة بمزاولة هوايته في التعرف إلى الناس ومحادثتهم، وفي ذلك الوقت كان يتحدث باهتمام مع جار جديد له تعرف عليه قبل العشاء بدقائق، وكان سعيدا جدا بالفرصة التي انتظرها طويلا؛ فالرجل قد أتعبه وحيره أمره، وهو يراه لا يغير ملابس الكشافة التي ركب بها الباخرة، ولا يكل عن التجول فوق ظهر المركب برأسه قليلة الشعر، ووجهه الأحمر الشديد الحمرة، والشعر الأصفر القليل الذي حول ركبتيه المكشوفتين، والكتاب الأزرق الذي لا يتركه من يده.
حيره الرجل طويلا، حتى أتيحت له الفرصة في آخر عشاء، فعرف أنه سائح ألماني في طريقه إلى مصر، وأن الكتاب الذي في يده هو عن آثارها.
وكان بيترو هو أسهل من تعرف إليه من الناس؛ إذ بعد أن وضع حقائبه في الكابينة، وصعد إلى البوفيه، وتلفت فلم يجد إلا وجوها متعبة، عجوزا ممسكة بمجلة، وفوق عينيها نظارة، ورجلان سمينان مالت رأساهما، وراحا يتهامسان، وراهبة شديدة البياض ساهمة تحدق.
وعانس كان يبدو أنها إنجليزية جالسة ترمق الموجودين باشمئناط، ولا شيء غير هؤلاء سوى المقاعد التي تنزلق وتتخبط كلما تمايلت الباخرة فوق صدر الموج الصاعد الهابط.
ولم يجد حينئذ ما يغريه، فاتجه إلى البوفيه، وابتسم لبيترو الجرسون الواقف يعد القهوة، وكأنهما صديقان قديمان، وقال له هاشا باشا بالإيطالية: بونا سيرا.
فقال بيترو: بونا سيرا سنيور.
وهكذا انتهى كل ما يعرفه من الإيطالية، وبدأ يستعين بالإنجليزية التي ذهب إلى إنجلترا يتخصص في تدريسها، وعاد يعد الماجستيراه، ولاحظ أن بيترو يجاهد بأدبه الكسول ليلم أطراف إنجليزيته، ويجيب على أسئلته الكثيرة.
ومع هذا طال حديثه مع بيترو.
وعجب المدرس لذلك الإنسان الذي له بيت وزوجة وأولاد في فينيسيا، والذي لا صديق له سوى البحر، وقد عمل فيه ثلاثين عاما، وأصبح لا يطيق ساعة واحدة يقضيها في البر، حتى ولو قضاها في بيته وبين أولاده.
ناپیژندل شوی مخ