ولقد عد خطابه هذا من أبلغ الخطب السياسية في تاريخ أمريكا كله. قال عنه جريلي، وهو الذي رأيناه منذ عامين يدعو لدوجلاس ويتمنى انضمامه إلى الجمهوريين: «ما من رجل استطاع أن يبلغ بخطابه لأول مرة ما بلغه لنكولن من عظيم الأثر في جمهور السامعين في نيويورك.»
عاد لنكولن فأوضح خطة الحزب الجمهوري وموقفه من الرق، فأتى بما لا يدع مجالا بعد ذلك لدسائس خصومه، ثم استنكر ما فعله جون برون وأعلن براءة الحزب الجمهوري منه، إلى أن قال في هذا الصدد: «لا يمكننا أن نعارض في الحكم على جون برون جزاء خيانته ولاية من ولايات الاتحاد، لا يمكننا أن نعارض في ذلك. ولو أنه يوافقنا فيما يراه من خطأ الرق، فإن ذلك لا يبرر العنف وسفك الدماء والخيانة.»
ومما قاله عن الجنوبيين عبارته هذه التي توضح أسلوبه في الجدل، قال: «إنكم - كما تقولون - لا تطيقون انتخاب رئيس جمهوري؛ لأنكم إن فعلتم ذلك قضيتم على الاتحاد، ثم إنكم لتلقون في هذه الحال تبعة انهيار الاتحاد على عاتقنا، مثلكم في ذلك كمثل قاطع الطريق الذي يصوب غدارته إلى رأسي ثم يتمتم بين أسنانه: قف وأعط ما معك وإلا قتلتك فتكون أنت المسئول عن جريمة القتل!»
وأقبل عليه الناس يهنئونه بما ظفر من توفيق في هذا الحفل المشهود، ويعلنون إليه حبهم وولاءهم وإعجابهم بمبادئه، ولقد طار صيته بهذا الخطاب على نحو لم ير مثله من قبل.
وأخذ يحس الناس أنه الرجل الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء، ورأى بعض الصحف تتحدث عن احتمال أن يكون هو مرشح الجمهوريين للرياسة في الانتخاب الذي يحل ميعاده في صيف هذا العام. وقبل ذلك بأسابيع قليلة نشرت بعض الصحف أسماء أربعة وثلاثين من مشاهير الساسة الذين يمكن أن يطمحوا إلى الرياسة، فلم يك من بينهم اسم أبراهام لنكولن!
وسافر لنكولن من نيويورك إلى نيو إنجلند قبل عودته إلى سبرنجفيلد ليزور ابنه الأكبر روبرت، وكان يتلقى تعليمه في مدرسة هناك، وكان يسأله الناس أن يخطبهم في بعض الأماكن، وقد ذاع فيهم اسمه، فيفعل ويملأهم إعجابا به ومحبة له. وفي اليوم السادس من شهر مارس خطب خطبة قوية في نيوهفن ، جاء فيها عن الرق وأنصار الرق: «إن الشخص الذي يقتني الرقيق لا يحب أن يعد شخصا وضيعا بسبب تملكه هذا النوع من الملك، وعلى ذلك يقوم صراع بينه وبين نفسه، ولا يزال يجهد في إقناع نفسه بأن الرق صواب؛ وذلك لأن الملك يؤثر على عقله ... تناقش مرة أحد أحرار الفكرة من رجال الكنيسة مع آخر ممن يتمسك بآراء الكنيسة، فكان هذا يجيبه دائما: لست أرى ذلك كذلك. ففتح الإنجيل وأراه عبارة ولكنه أجابه: لست أرى ذلك كذلك. فعمد إلى كلمة واحدة وسأله: هل ترى هذه الكلمة؟ فقال: نعم أراها. فوضع المفكر الحر جنيها فوق الكلمة وسأله: هل تراها الآن؟ وهكذا الحال؛ فإن من يتملكون هذا النوع من الملك هم الذين يقررون ما إذا كانوا يرونه فعلا على حقيقته، ولكنهم في الواقع يرونه خلال بليونين من الدولارات، وهذا غطاء كثيف، ومن المؤكد أنهم لا يرونه كما نراه نحن.»
وتحدث لنكولن إلى هرندن بعد عودته إلى سبرنجفيلد عما لقيه من نجاح في نيويورك، ويقول صاحبه إن هذا النجاح قد زاد ثقة أبراهام في نفسه زيادة كبيرة، حتى ليظنه يومئذ يطمح إلى أعلا منصب في البلاد ويراه قريبا منه. ويعجب هرندن من طيب قلبه؛ إذ يراه بعد أن يقص عليه أنباء الاحتفال، وإقبال الناس عليه بعده، وتهافت الصحف على خطابه، وثناء كبرياتها عليه؛ يشير - وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه وملامحه أمارات الخجل - إلى ما كان من أمر حلته وغرابة هيئتها، وما لاقاه من ضيق أثناء خطابه كلما فكر فيها وقارن بينها وبين ما تقع عليه من حلل في هذا الحفل، بله ياقته؛ فقد كان نصفها الأيمن يثب إلى أعلى كلما رفع ذراعه بإشارة، فتظهر جزءا من عنقه بينه وبين القميص، ويضحك لنكولن ضحكة يخالطها شيء من الاستخزاء، كأنما يريد أن يقول أنى لمثله أن يكون له مكان بين هؤلاء السادة، فضلا عن مكان الرياسة ومقعد الزعامة، وإن حاله الآن ليشبه إلى حد ما حالته يوم كان يستخزي كلما فكر في زواجه من ماري .
فالق الأشجار!
وثق أبراهام من نباهة شأنه عند الناس واستفاضة شهرته، فحدثته بالأماني نفسه، وحدثته كذلك بالعبء الجسيم إذا قدر لتلك الأماني أن تتحقق.
وكان أبراهام في الحادية والخمسين من عمره في سنة 1860، وهي السنة التي كانت تتأهب فيها البلاد - كما سلف القول - لانتخاب رئيس جديد، وكان الانتخاب في هذه السنة أمرا بالغ الخطورة؛ لصلته بمصير الاتحاد كله، أيبقى كما هو أم ينصدع فإذا به شمال وجنوب!
ناپیژندل شوی مخ