ويرى دوجلاس في هذا الحادث فرصة يحذر أن تفوته، فيعلن أن ذلك ليس بعجيب، فلن تفضي مبادئ الجمهوريين إلا إلى مثله، ولقد جعل هذا المارد الصغير ديدنه الطعن على الجمهوريين، لا تفلته حادثة ولو كانت أبعد ما تكون عنهم، كهذه الحادثة التي لا تمت إليهم من قريب ولا من بعيد.
وأدرك لنكولن خطر التهمة، ولو كان غيره مكانه لأخذته مما هوش به المارد الصنير ورطة، ولكن صوت الحق لن يضيع في ضجيج الباطل، فها هو ذا لنكولن يتلقى دعوة من نيويورك فيلبيها مسرعا، ويلقي هناك خطابا من أبدع وأبرع ما واتته به عبقريته، وفي جمع لم يسبق أن وقف في مثله.
تلقى أبراهام الدعوة في أكتوبر سنة 1859، وهو الشهر الذي وقع فيه حادث جون برون، بينما كانت البلاد مقبلة على موسم انتخاب رئيس جديد للولايات؛ إذ كانت سنة 1860 هي نهاية مدة الرئيس القائم، وكان انتخاب رئيس الولايات أهم الحوادث السياسية التي تشهدها البلاد ، وإنه لأعظم خطرا اليوم وأبعد في مصير البلاد أثرا؛ ذلك أن الانتخاب يقوم هذه المرة على ما يشغل الناس من أمر الرق ومن أمر الاتحاد؛ لهذا كان ذلك العام نقطة يبدأ منها تاريخ البلاد عهدا جديدا ويتدرج في مسلك جديد.
ورغب الناس في الولايات الشرقية أن يروا لنكولن، هذا الذي سمعوا عنه أنه من أهل الغرب، رأي العين، وأن يستمعوا إليه خطيبا وأن يناقشوه ويتبينوا سياسته، وما تلتفت قلوبهم إليه يومئذ إلا لأنهم أحسوا ما بات له من شأن وخطر.
وأجاب لنكولن الدعوة وحدد شهر فبراير سنة 1860 لإلقاء خطبة، وقضى الوقت بين تلقي الدعوة واليوم المحدد للسفر في إعداد تلك الخطبة والتأهب لهذا الموقف الخطير.
واحتشد لسماعه في تلك المدينة العظيمة جمع من كبار الساسة وقادة الرأي وذوي الثقافة وأساطين الصحافة، فكان لهذا الحفل بهم مهابة وجلال وخطر، واحتشد كذلك عدد هائل من عامة الناس ليروا لنكولن هذا، الذي كان يشتغل نجارا أول ما نشأ فما زال يرقى حتى استطاع أن يقف من دوجلاس الشهير موقف الند، وأن يظهر عليه في الخطابة والمجادلة.
ولقد ارتاع فؤاد أبراهام عندما بلغ مكان الاجتماع، وذلك حينما رأى هؤلاء السادة في ملابسهم الأنيقة، ورأى في وجوههم نضرة النعيم، وفي أحاديثهم وتحياتهم روح المدنية. ولما نهض للخطابة شاهد الناس علامات الحيرة بادية عليه؛ فقد كان على غير ما ألف مشغول البال بحلته العتيقة التفصيل والحياكة، التي تبدو بمقارنتها بما يقع عليه بصره كأنما جيء بها من متحف! وقد كانت في الواقع حلة جديدة، ولكنها كانت على نمط أهل الغرب في حياكتهم، كما أنها تكسرت من طول وضعها في الحقيبة.
وتطلع الناس إليه في دهشة، وقد قدمه للخطابة وليم جلن براينت، الشاعر والسياسي والصحافي الشهير، الذي ربما كان أبرز شخصية يومئذ في نيويورك، وتقسمت ألحاظ السامعين بين قامته الطويلة ويديه الكبيرتين اللتين تدلان في جلاء على أنهما خلقتا للمعول لا للقلم، ووجهه المصفار المسنون الذي تغشاه سحابة عميقة من الهم، وعينيه الواسعتين اللتين تعبران عن وداعة الأطفال وحماسة الرجال، وأنفه الأشم الغليظ الذي يترجم عن صرامة عزيمته وقوته في الحق، وشعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير في غير نظام كأنه ألفاف الغابة.
وصفه أحد من شهد الحفل فقال: «كان يستقر رأسه على جذع طويل نحيف، ولم أتبين ما بلغت يداه من الضخامة حتى بسطهما في إشارة من إشاراته، وقد بدأ في صوت عميق، أشبه بصوت من اعتاد الكلام في الفضاء الطليق ويخشى أن يجهر بصوته، وقال مستر تشيرمان واستعمل غيرها من العبارات العتيقة، وقلت لنفسي: لن تفلح يا صاحبنا الكهل، إن ما يبدو منك صالح الصلاح كله للغرب البري، ولكنه لن يشاكل نيويورك. وكان من جميع أقطاره أشبه بهؤلاء البسطاء من الناس الذين يسره أن يعد واحدا منهم. ولم يك ثمة شيء أخاذ في مظهره، وكانت تتهدل ثيابه على هيكله البائن الطول كأنه المارد، وكانت ملامحه مغبرة شاحبة لا يتردد فيها لون، غير مستوية، تحمل أمارات البؤس والحرمان. ولاحت عيناه الغائرتان يملؤهما الهم، ولكنه حين استرسل أخذ يضيء وجهه بما في باطنه من نيران، وجلجل صوته وعظمت قوة خطابته، واتفق له إلى مدى عظيم مثل سهولة الإنجيل البالغة. وكان يسود المكان صمت عميق بينما كان يتكلم، حتى لقد كان يسمع إذا سكت هسيس الغاز منبعثا من ثقوب المصابيح، فإذا تحمس السامعون دوت في جنبات المكان رعود قاصفة من الاستحسان، ولما فرغ من خطابه وثبت على قدمي وصرخت كما يفعل هندي مجنون، وفعل بقية الناس مثل فعلي. إنه لشخص مدهش!»
بهذه الموهبة التي من الله بها عليه استطاع ابن الغابة، الذي علم نفسه بنفسه والذي لم يدخل قط مدرسة أو جامعة، أن يسحر السامعين في دنيا الحضارة؛ في نيويورك العظيمة، وأن يحمل على الإعجاب بشخصه والافتتان به الألوف من ذوي الثقافة والمدنية. هذه هي العبقرية إذ تستعلن في مظهر من مظاهرها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ناپیژندل شوی مخ