فصاحت مستجيرة بالغريب: لا أروح، لا أروح. فتش عن غيري ما أكثر الغاويات في البلد، فتش عن غيري عرفت حيلتكم، دخيلك يا سيدي خلصني من البوليس، جئت أزور أمي، أمي مريضة، دخيلك خلصني منه.
فخاطب الغريب البوليس ونفحه ببعض المال، وقال للبنت: امشي يا بنتي، روحي في سبيلك. - كثر الله خيرك، الله يطيل بعمرك، أنت أول رجل فاضل عرفته.
ثم شخصت إليه هنيهة وأخذت بطرف عباءته قائلة: تعال معي، تعال معي، البيت قريب.
فسار الغريب وإياها يجتازان في أسواق المدينة - بل في سواقيها - حتى وصلا إلى زاروب معتم مسقوف يطفح بروائح يغمى على الثيران منها، ليس فيه غير أبواب مظلمة يكاد بعضها يلتصق ببعض، فدخلت الفتاة أحد هذه الأبواب المفتوحة، ودخل الغريب فإذا هما في ساحة موحلة يلعب فيها أولاد عراة تحت الشتاء، محاطة بغرف صغيرة على شكل صحن الدار في أحد الأديرة، فوقفت الفتاة قدام باب تقول للغريب: تفضل.
فوقف الرجل مترددا. - تفضل أعرفك بأمي.
فدخل، وإذا هو في كوخ مظلم وفي إحدى زواياه امرأة مريضة نائمة على الأرض وإلى جنبها طفل يبكي، فجلست في فراشها وجعلت ترضعه. - هذا كل ما كسبت البارح، وأعطت أمها بشلكين. - أمك نفساء. - أمي مريضة بالحمى؛ ولدت منذ أربعة أشهر ولم تزل في الفراش. - وأين أبوك؟ - أبي قواد الله يبليه، تركنا منذ سنتين. - وأمك؟ والطفل؟ فلم تجب الفتاة بل خاطبت أمها قائلة: يا أمي هذا الغريب أحسن إلي وهو أول رجل فاضل عرفته. - وجاء يتفرج على بليتنا، كثر الله خيره رح في سبيلك يا عم! رح في سبيلك.
فخرج الغريب من البيت وأومأ إلى هيلانة أن تتبعه، فأعطاها في الخارج بعض المال لتبتاع لأمها شيئا من القوت، والثياب، ثم قال لها: أتعرفين مدرسة اليهود عند الحمامات؟ والقبور هناك؟ في تلك الجهة فوق الطريق بيت منفرد ليس هنالك غيره، تعالي بعد غد فأكون هناك لي غرض معك، نهارك سعيد. - أمرك يا سيدي، الله يريك الخير، الله يطيل عمرك. وراحت إلى أمها تصفق بيديها وتقول: ليرة يا أمي ليرة، صدقيني، صدقيني، انظري بعينك.
وبسطت كفها أمام أمها في ذاك الكوخ المظلم فشع فيه قطعة من الذهب، فانقطع حليب الأم من الدهشة وجعل طفلها يبكي. - «حليقة» جيراننا كلهم لا تبلغ ليرة، يا أمي أي شيء أشتري لك؟ أشتري لك لحافا قبل كل شيء وأشتري فسطانا للصغير، وفسطانا لك أيضا، أمي لا تبكي دخيلك، غدا تشفين، وهذا الغريب أرسله الله، هذا الغريب من السماء جاء يفتقد الفقراء البؤساء مثلنا. - روحي إلى السوق واشتري لي فخذ دجاج وقالب جبن ورغيف خبز.
فسارعت هيلانة إلى السوق، فأبصرت الغريب واقفا أمام دكان يحدث صاحبه: هل عندك غير هذه الدجاجة؟ - مذبوحة اليوم وحياة الله! أقطع لك فخذا؟
فلم يدرك الغريب معناه، فقال: وهل تبيعون الدجاجة بالدرهم؟
Halaman tidak diketahui