الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
زنبقة الغور
زنبقة الغور
تأليف
أمين الريحاني
الفصل الأول
«من غور الحياة أرفع اللهم صوتي، من وادي الأردن أحمل إليك يا رب وزري، من أعماق الأرض أنظر ضارعا إلى جبال قدسك وإلى شمس رحمتك وإلى سماء حبك.»
في الربيع الأول من هذا القرن توفيت في الناصرة امرأة اسمها سارة ولم يكن عند فراشها ساعة النزاع غير راهب من رهبان الدير الذي كانت ترعى مواشيه وفتاة لا تتجاوز الخامسة عشرة من سنها، ولقد كان البؤس رعي سارة والشقاء موردها حيث سارت وحيث جلست وفي كل بيت خدمت فيه. على أنها لم تكن ممن يأكلون خبز المذلة ويغضون على الحيف والأذى، ولم تدخل الدير طفلا فتخدم فيه فتاة لتتعود الرضوخ والاستسلام فتسوم نفسها طاعة الصغار وتتحمل دفعا للجوع تفوق الأسياد والرؤساء، وليس أشد من بلية البائس غير بلية البائس العزيز النفس.
جاءت سارة الناصرة من السامرية في الثالثة والعشرين من سنها، ووقفت مكرهة في الأبواب تقدم خدمة وتطلب عملا، وكانت قبل ذلك تقيم ووالدها الأرمل في قرية قرب جنين وتساعده في أشغاله وفي سهراته، فتقضي حاجات البيت كلها بإتقان وعناية لا مزيد عليهما فتطبخ وتغسل وتستقبل الضيوف - وترعى في بعض الأحايين الجمال؛ جمال أبيها، وقد يستغرب القارئ ذكرنا الضيوف في بيت الجمال، وقد يستغرب أشياء أخرى في هذه القصة، ولكن الحقيقة في غور الحياة وقد أبعدتنا عنها زخارف التمدن أمست غريبة بيننا، الفقر والبؤس والعار والشقاء تحجب عن الناس اليوم في معاهد الإحسان المتعددة التي شيدت لتربية الجهل واستخدامه لا لمناهضته واستئصاله. والمستقبح في هذه القصة هو أدنى إلى الواقع من المستملح فيها، لا غبار من الخيال عليه ولا يد للتصور فيه.
قلنا: إن سارة كانت تساعد أبيها حتى في سهراته، وإليك البيان؛ فقد كان الجمال قصاصا أيضا يقص في الخانات وفي بيته قصص الأقدمين في حلقة عامرة من المكارين والمسافرين والفلاحين، بل كان بيته شبه ملعب رسم الدخول إليه شيء من التبغ أو السكر أو البن، وما أجملها حلقة في ليالي الشتاء في الليلة القراء، وقد أضرمت النار في الموقد، وأشعل كل من الحضور «السبيل»، ودارت سارة عليهم بالقهوة وبدأ والدها يتلو مقدمته الشهيرة؛ أي «كان ما كان ... إلخ» فيهتز من ضحك القوم عمود البيت وتبتسم لنكاتهم نار الموقد من خلال الدخان. - برغوث على صدرك يا سارة. - اجلسي قربي الله يحرسك لوالدك. - كردم أبو آدم حفر البحر ومن يحفر قبري الليلة؟ تسلم يا نور العيون! - ما أطيب قهوتك يا سارة! - يا بنت أمير العرب هاتي بصه. - الليلة من ليالي العجوز اسمعوا الهواء يزمر. - والموقد يرد عليه. - اسمع يا شيخ بدأت القصة. - نشكر الله على سلامة البرغوث.
وما هذه إلا شرارة من الموقد الذي كانت تضطرم ناره في ذاك البيت، في وسط حلقة لسانها الجمال القصاص، وروحها ابنته ساقية القهوة، وكانت سارة ذكية الفؤاد، فصيحة اللسان، عظيمة الحافظة، أخذت عن أبيها وفاقته في صناعته، فإذا كان في سفر ليلة ما تقوم مقامه فتضحك الحضور وتبكيهم وتهيجهم وترعبهم، بما تقص عليهم من الخرافات ومن حكايات الجان والعفاريت. وكان أبوها يعزها ويعجب بها كثيرا، ويستصحبها في أكثر سفراته فتسير في القافلة إلى القدس والكرك والشام، وتفتن حيث تقطن وتضرب عند اللزوم ضربة يعجز دونها الرجال. فتاة ترمي بعينيها وترمي بساعدها، شديدة البأس ثابتة الجنان لا يتجهمها الليل ولا تستوقفها القفار، وقد طالما اجتازت وادي اليرموك وحدها توصل السير بالسرى، وهي تغني أدوار «العتابا والميجانا» بصوت جهوري رنان تردد الأودية صداه، وتصغي إليه وحوش الفلاة، وما أشبهها بالشهيرات من نساء العرب اللواتي فقن الرجال فصاحة في المجالس وبأسا في ساحات الوغى.
ولكن اليوم الأسود لم يمهل يومها، جاءها وهي صبية يسوق إليها من مثله الأيام والسنين، جاءها يوم تزوج أبوها فكانت خالتها بليتها الكبرى، ولم تكن سارة لتطيق التحكم والتأمر، فوطنت النفس على أن تهجر البيت. وكان قد حدث لها حادث منذ أشهر فعجل عليها بالفرار، فخرجت من أبيها وهي حامل في شهرها الخامس لا تعرف ملجأ تلجأ إليه، فأقامت بضعة أسابيع في بعض القرى حول المرج ثم رحلت إلى حيفا لتخفي هناك عارها، ولكنها ضلت الطريق فمشت شمالا حتى وصلت إلى شفا عمرو، وهناك بين تلك النواويس خارج البلد جلست تستريح، وكانت قد بدأت تشعر بانحلال في جسمها وتقطع في أوصالها، فأوت مساء ذلك اليوم إلى كهف من تلك الكهوف التي كانت قبورا في قديم الزمان، وعرفت لأول مرة في حياتها ما هو العذاب وما هو الخوف وما هو القنوط، ألا فإن هذه أول تجاربها.
حاولت أن تنام فحال دون ذلك ما أصابها من الآلام التي أخذت تزداد حتى أحست سارة أنها دفنت حية في ذاك القبر، حية في قبرها تئن من الأوجاع، وصاحت نصف الليل صيحات لم يسمعها غير الله وولدت كما تلد البدويات وهن في الطريق راحلات، ولكنها ولدت طفلا ميتا، فكان غمها أشد من أوجاعها. وعند بزوغ الفجر لفت طفلها بالمنديل الذي كانت تحمل فيه زادها ودفنته في الناووس الذي ولد فيه وغطته بأغصان من شجر الزيتون، وأقامت وإياه هناك بضعة أيام تندبه وتندب حظها، وبعد أن نقهت قليلا وأحست من نفسها بشيء من القوة، خرجت من ذاك اللحد والمهد لا تدري ما تصنع ولا ترى أمامها طريقا تنشط خطواتها، أترجع إلى قريتها وقد كرهت الإقامة فيها؟ أتدخل شفا عمرو وهي لا تعرف أحدا هناك؟ أطرقت مفكرة حائرة بائسة، فتذكرت أن أحد أبناء بلدها إلياس البلان يعلم في مدرسة ابتدائية في صفورية، فصعدت في الجبل تقصد تلك البلد علها تحظى بلقائه فيفتح لها بابا للارتزاق، ولكنها لم تجده في صفورية، وقيل لها: إنه نقل منذ سنتين إلى الناصرة ودخل الدير ... هناك، الدير! وقعت هذه الكلمة في قلب سارة كما يقع الندى في نخاريب الصخور فينيرها، فتحت لها بابا ظنته باب الخلاص فكان شركا من أشراك القدر جديدا، ولعل القدر في بعض أطواره مثل البشر إذا وقعت الطريدة بين يديه لا يفلتها أو يذبحها.
جاءت سارة الناصرة وقد كدها الجوع والتعب فسارت توا إلى الدير الذي أهديت إليه فلقيت هناك ابن بلدها الأخ إيلياس البلان، فتنفست الصعداء وشكرت ربها، وأول ما فاهت به هاته الكلمات: دخيلك مت من الجوع والتعب.
فتأهل الأخ إيلياس بها وطيب نفسها وأدخلها غرفة قرب المطبخ وجاءها بخوان عليه بضعة أرغفة من الخبز وقالب من الجبن وشيء من الزيتون وجفنة من الطعام. وبعد أن أكلت واستراحت سألها حاجتها، فقالت إنها تريد أن تدخل الدير، فابتسم ابتسامة ثبطت من عزمها وأخبرها أن رغبتها لا تتحقق إلا بشروط قد يصعب عليها إتمامها، ثم قال: أديرة الراهبات هنا كالشركات العقارية؛ هل عندك شيء من العقار توقفينه للدير؟ هل عندك مال تدفعينه رسم دخولك؟ هذه أهم من النذور الثلاثة، أتخدمين؟ حسن، ولكن الواقفات في أبواب الأديرة يطلبن الخدمة كثيرات مثلك.
على أنه وعدها خيرا، وبعد أيام عادت إليه فأنزلها في بيت لأجراء الدير تساعد الفلاحين وتغسل ثياب الرهابين، ثم نقلت إلى المطبخ لإحسانها الخدمة؛ فأحبها رفاقها من الخدم وأعجبوا بحسنها وخفة روحها وزلاقة لسانها، وكانوا يجتمعون كل المساء عندها في المطبخ وبينهم بعض الرهبان، فتقص عليهم المضحك المبكي من قصصها العجيبة ونوادرها الغريبة، وأول من أعجب بها وأحبها الأخ إيلياس الذي دخل ذاك الدير ليتمم فيه علومه. وكان لم يزل في ريعان الشباب يملكه من النساء حسن الوجوه وسحر العيون، وما لبث أن فتن بسارة، استهوته الفتاة فخدعها؛ اختلى بها سرا مرارا وعللها بالوعود، وكانت سارة حادة المزاج سريعة التأثر، في قلبها شعلة من الحب لا تطفئها تجارب الحياة المحزنة، فاستسلمت إلى الراهب الذي وعدها أن يخلع الثوب الأسود ويتزوج بها، ولقد بر الأخ إيلياس بقسم من وعده إذ خرج من الدير في فرصة الصيف مدعيا أنه ذاهب إلى بيته ليتفقد أهله، وكان قد أوعز إلى سارة أن ترحل إلى قرية ... قرب كفر كنا وتنتظره في الخان هناك، وفي تلك القرية أقام وإياها بضعة أشهر متنكرا، ثم تركها وهي في شهرها التاسع عائدا إلى الدير في الناصرة لعلمه أن في نية الرئيس أن يبعثه إلى سوريا ليدرس الإفرنسية في إحدى مدارس الرهبنة هناك، فهرب من مسئولية فعلته ولم يهرب حينئذ من الدير.
ولما ولدت سارة أقسمت يمينا أنها لا ترضع ابنتها قبل أن تنتقم من والدها اللئيم الخداع؛ لذلك جاءت الناصرة ليلا تحمل لفافة ألقت بها عند باب دير الأيتام، وهي تقول: سأرجع يا بنتي، سأرجع إليك وقد انتقمت من والدك.
وراحت تسأل في الدير عنه، فقيل لها: إنه سافر إلى سوريا. شكته إلى الرئيس فضحك منها وشتمها وطردها خارجا، فقالت له والغيظ يحتدم في عينيها: عرفت طريقتكم؛ استرني أسترك، الله لا يستر عيوبكم. وخرجت من الدير تلعنه وتلعن ساكنيه وسافرت إلى بيروت لتبحث عن الجاني عليها، ولكن الأخ إيلياس البلان وقد قدر ما قد يكون من عواقب إثمه غير اسمه وخلع ثوبه ولجأ إلى إحدى قرى لبنان يعلم فيها الصبيان، وبعد سنتين عاد يلبي الدعوة السماوية؛ دعوة الرهبنة، فلبس الثوب الأسود ثانية ودخل في سلك رهبنة أخرى، وتدرج إلى رتبة الكهنوت فيها، فسيم قسيسا وأصبح من المحترمين في الأرض.
وليس كالدير مأوى لأمثال الأخ إيلياس، ثوب أسود واسم جديد ودير قصي، وبال بعد ذلك مطمئن، فيا له من إثم لا يقتفي أثره أشد أصحاب القيافة حذقا، يا له من ستر لا يكشفه أكبر رجال الشحنة!
وبعد طويل البحث والتفتيش فوضت سارة أمرها إلى الله، وأقامت في بيروت تخدم في أحد البيوت، ثم نقلت إلى الشام ثم إلى بلد في لبنان ولم تثبت طويلا في مكان، ظلت عشر سنوات في سوريا والشقاء ملازمها والبؤس حليفها، وقد جفت من تصاريف الدهر طباعها وخمدت نفسها وخشنت أخلاقها، فكانت تدخل البيت ضارعة وتخرج منه ناقمة، ولم تثبت إلا في بيت لبناني سنتين متواليتين؛ لأن الامرأة اللبنانية تتحمل من الخدم أكثر من سواها.
ولا شك أن سارة عربية في أنها تكمن العداء طويلا ولا تنفك أن تطالب بالثأر، فلما سمعت مرة وهي في لبنان أن الراهب الذي تبحث عنه هو في الناصرة، حملت رزمة ثيابها وسارعت إلى تلك المدينة، وكانت تعلل النفس أيضا بلقاء ابنتها واسترجاعها من الدير، ولكنها لم تفز بواحدة من رغبتيها؛ لأن الابنة التي جاءت بها طفلا رضيعا إلى الدير ضاعت بين المئات من مثلها في معاهد الأيتام المتعددة بالناصرة، وتوارى الأخ إيلياس البلان مصعدا في مدارج النسك والتقوى.
وبين هي واقفة ذات يوم في باب الدير الذي كانت تخدم فيه منذ عشر سنوات رآها القس جبرائيل مبارك، فاعترته رعشة مزعجة وعلا وجهه الاصفرار، عرفها ولم تعرفه، فسألها متلطفا حاجتها، فحاولت أن تكشف له سرها فاضطرب عليها، فقالت: أريد أن أخدم في الدير. فأحسن القس جبرائيل إليها وجعلها من أجراء الدير ترعى المواشي.
العشر سنوات التي ولت والثوب الأسود واللحية غيرت من ظاهر الراهب فلم تعرفه سارة، ولا أدركت اضطرابه عندما شاهدها ولا السبب في جميل إحسانه إليها، فالقس جبرائيل مبارك من أسرة كريمة في جنين أمرها في الناس مطاع وكلمتها في الحكومة نافذة، على أنه لم ينبغ فيها إلا من تولى الوظائف فكان ظالما، أو تولى أمر أرزاقهم الواسعة الأرجاء فكان مستأثرا أثيما يعامل الفلاحين كما تشاء أطماعه، ويتصرف بنسائهم وبناتهم كما تشاء شهواته، وكان والد سارة الجمال من عمال بيت مبارك، يجيئهم بأحمال القمح والحبوب والحطب وغيرها من حاجات العيش، وكانت سارة كما ذكر ترافق أبيها في سفراته وتساعده في أشغاله، فتقيم وأباها أياما في بيت أسيادهم في جنين.
وفي تلك الأيام كان جرجي مبارك (القس جبرائيل الآن) في العشرين من عمره، شابا غريبا في بيته لا يشابه خلقا وطبعا أحدا من أهله وطباعه، عصبي المزاج، شديد النزعة إلى الوحدة، غريب الأطوار، كثير الهواجس سريع الغضب سريع الرضى، في نفسه شعلة دخانها أكثر من لهيبها تزيد بكآبته واضطرابه، يظهر له الحق في كل الأشياء في شكل مشوش فلا يصبر عليه إلى أن ينجلي؛ يضرب الخادم مثلا لإهمال بدا منه، ويدخل غرفته فيؤنب نفسه على ما فعل، وقد رأته مرة أمه في ساعة ملكته نوبة عصبية شديدة يدق برأسه على الحائط كالمجنون، فراعها ذلك وأخذت تناعمه وتسكن من روعه، فسألها قائلا: متى يرجع أبو سارة من المرج؟ فقالت الأم: غدا، فسكنت إذ ذاك جوارحه وهدأ اضطرابه، ولما جاء الجمال تصحبه ابنته، وهم عند المساء بالرجوع سأله جرجي أن يظل عندهم إلى الغد، فامتثل الجمال أمره، فبعثه في اليوم الثاني بكتاب إلى أحد عمالهم في حيفا، وتخلفت سارة في بيت سيدها الشاب، وكانت قد شعرت بشيء وحشي في حركاته ونظراته، وأدركت اضطرابه حين شاهدها مع والدها، ولكنها لم تخشه ولم تنفر منه، بل استسلمت إليه راغبة تلك الليلة؛ ليلة كان والدها في حيفا وأحبته حبا شديدا، ولكن جرجي نفر مما اقترف ولام نفسه، ولم يكلم الفتاة بعدئذ وما نظر قط إليها، فشق ذلك على سارة وراحت تكظم غمها وتستر بليتها، ولما عاد أبوها من حيفا قال له جرجي: لتبق ابنتك في البيت ذلك خير لك ولها، فقبل الجمال نصيحة سيده دون أن يدرك السر فيها، وامتثلت الفتاة أمر أبيها إلى حين، ثم هجرت البيت تهرب من ظل خالتها إلى ظل أشد منه ظلمة وبلاء.
وبعد سنتين هجر جرجي مبارك بيته وآله أيضا، فبينا كان سائرا إلى الناصرة ليزور أخاه الأكبر يوسف أفندي مبارك هناك خطر له في الطريق أن يدخل الدير، وكذلك كان، دخل الدير في السنة التي سافرت سارة إلى سوريا لتبحث عن إيلياس البلان، وفطم جوارحه عن الشهوات، وتاب توبة دينية حقيقية.
ولم تمض عليه سنتان في ذلك الدير حتى أصبح من أسياده المقدمين يهابه إخوانه الرهبان ويكرهونه، كيف لا وهو لا يبالي عند الحقيقة بشعورهم ولا يراعي خواطرهم بشيء؟! نفر مما كان يشاهده في بيته فنفض عنه غباره ودخل الدير، دخل الدير فكشفت له أمور ثارت عليها نفسه وهاجت لها ضغائنه، والقس جبرائيل يأله من يحب ولا يرى فضيلة في من يكره، على أنه كان يبذل الجهد ليكون سيد نفسه قبل أن يصير سيد الناس، وطالما عذبه هذا النزاع بين الشعائر المتناقضة فيه، بل بين معقوله وهواجسه، فقد كان يحب سارة ويكرهها، نسيها بعد أن جنى عليها ولكن أثر الجناية ظل حيا يضرم فيه أحيانا تلك الشعلة الحمراء القديمة، وساعة شاهد الفتاة التي جنى عليها منذ عشر سنوات هم لأول وهلة أن يطردها، ثم حن إليها فؤاده وأدخلها تخدم الدير. وكان يناصرها ويدافع عنها في كل أمر يحدث بينها وبين العمال، وكثيرا ما كانوا ينمون عليها ويغتابونها لأخلاق فيها عالية سودتها عليهم، فنقم الرهبان على سارة وكان القس جبرائيل نصيرها الوحيد بينهم، ولقد حير أمرها كل من عرفها سواه، فمن كان يراها في الفلاة ترعى المواشي كان يشاهد في وجهها كآبة لا تظهر لمن عرفها في الدير وفي المدينة، امرأة منوعة صبورة قنوعة تهضم بؤسها وتكظم أشجانها، وتكلف نفسها البشاشة فتقص القصص العجيبة على رفاقها الفلاحين. هذه سارة بنت الدير، أخت الرهبان، امرأة كئيبة حزينة، في صدرها سر كاد يخنقها وحسرة كادت تودي بها، تجلس على صخرة في الفلاة أو في ظل صفصافة في المرج، فتلقي خدها على يمناها وتتغنى بأهازيج البدو المحزنة. هذه سارة الراعية بنت المروج والجبال.
شكت أمرها إلى الناس فوقعت شكواها على آذان صماء وصادفت قلوبا مستحجرة، فلبست لبؤسها درعا من الصبر براقة، وضحكت مع الضاحكين كي لا يشمتوا بها.
وظلت على هذه الحال سنين، لا يسمع غير الله شكوى قلبها ساعة تختلي بنفسها في الفلاة، قريبة من الدير الذي دفنت فيه سرها الحي، بل من البحر الهادئ - بحر الشفقة والإحسان - الذي غرقت فيه ابنتها. ولطالما وقفت عند شاطئ هذا البحر تسائل الأمواج عن لؤلؤة قلبها فتضحك الأمواج لسؤالها.
على أنها تعرفت يوما بفتاة تخدم في أحد أديرة الأيتام، اسمها مريم، فحن إليها فؤادها وأخذت تتردد إلى ذاك الدير، فتجتمع بها وتحدثها وتمازحها وتقص عليها بعض القصص المضحكة وفيها شيء من سيرة حياتها، ومرة سألتها اسم أبيها فهزت مريم كتفها، وقالت باسمة: تقول الرئيسة إن القديس يوسف أبي، ولي في الدير أخوات كثيرات، وكانت مريم تستأنس بسارة وتحن إليها وتود لو كانت مقيمة معها، وقد قالت لها مرة: «هنيئا لك! تروحين وتجيئين حرة كما تريدين، وأنا محبوسة في هذا الدير.» وسألتها باكية أن تخلصها منه، فاغرورقت عين سارة وراحت تفكر في رفع شكوى مريم إلى القس جبرائيل عله يستطيع أن ينقلها إلى ديره.
وبين كانت مرة ترعى المواشي، رآها القسيس جالسة على عادتها في ظل شجرة تردد الأدوار المحزنة وتنتحب، فاقترب منها على حين غفلة وخاطبها قائلا: لماذا تبكين؟ فذعرت سارة وسارعت تمسح دمعها فأعاد سؤاله، ما بالك يا سارة تبكين؟ فأطلعته على بعض سرها، أخبرته أنها في ليلة عيد الصليب منذ أربع عشرة سنة ألقت عند باب دير من أديرة الأيتام ابنتها، وكانت طفلا رضيعا، وأنها لم تزل تذكر أن الدير الذي جاءت إليه هو في آخر البلد في وسط الجبل، وأنها تعرفت هناك بفتاة اسمها مريم وحنت إليها حنو الأم إلى ولدها، وسألته أن يساعدها في البحث عن أصل تلك الفتاة وقصتها، وأن يسعى في نقلها إلى ديره، فامتقع وجه القسيس لهذا الخبر لظنه أن الفتاة ثمرة فعلته، ولكنه طيب نفس سارة ووعدها خيرا.
وبينا كانت الراعية ترعى مواشيها في مكان قصي من البلد بعد هذه المقابلة ببضعة أيام، نامت في أصيل النهار برهة، فلذعتها في رجلها حية سامة، ولم يكن أحد هنالك تستغيث به، وقد حاولت أن تعالج نفسها بيدها؛ فربطت رجلها فوق الجرح بخيط من الشعر وعادت إلى الدير، ولكنها لم تصل إليه إلا بعد أن سرى السم في جسمها، فبعثت تدعو القس جبرائيل إليها فلبى مسرعا، ثم استدعى لها طبيب الدير فأبطأ في مجيئه، ولما وصل وجد أن السم سبق الدواء وأن لا مرد للقضاء، ولما أحست سارة بدنو أجلها أخذت يد القسيس وقبلتها، واستحلفته بالمسيح وبالعذراء أن يقضي حاجتها ويعرفها ويتمم وصيتها: «أرجوك أن تبعث إلى الدير ... تستدعي مريم، أحب أن أراها قبل أن أموت، وهي إذا عرفت بحالتي تحضر حالا.»
فبعث الراهب رسولا إلى الدير يستدعي الفتاة، وبدأ يعرف، سارة أخبرته أثناء الاعتراف قصتها كلها، فاغرورقت عيناه واضطرب فؤاده، وبعد أن جعلها في حل من ذنوبها ركع عند فراشها، فخاطبها قائلا: «وأنا أعترف قدامك يا سارة وقدام الله وأستغفرك قبل موتك، أنا جرجي - جرجي مبارك - دخلت الدير بعد أن جنيت عليك، اصفحي عني اغفري لي.» وأخذ يدها يقبلها فأحست بدموع تتساقط عليها، وأجابته وهي شاخصة بعينها: «ما حقدت عليك مرة ولا شكوتك مرة إلى الله، فلا تنس وصيتي أستحلفك بالمسيح ولا تبح لمريم بالسر، وإذا التقيت بابن البلان قل له: إنني سامحت وصفحت، دخيلك، أنت ابن بلدي، أنت أبي، أنت سيدي، أنت أخي فكن لمريم أبا وأخا أيضا، وخذ هذه الذخيرة أعطها إياها لتحفظها ذكرا مني.» فصعد القسيس الزفرات ثم صلى عند رأسها، وقال وهو يسألها أن تردد كلماته: قولي معي يا بنتي: «من غور الحياة أرفع اللهم صوتي، من وادي الأردن أحمل إليك يا رب وزري، من أعماق الأرض أنظر ضارعا إلى جبال قدسك، وإلى شمس رحمتك وإلى سماء حبك.»
وفي تلك الآونة دخلت مريم البيت، فمدت سارة يدها وجذبت الفتاة إليها فقبلتها، ثم قبلتها وضمتها إلى صدرها كأنها تريد أن تطلعها على ما في قلبها، كأنها تريد أن تسمعها همس الأسرار في نفس الموت، فشهقت شهقتها الأخيرة وشخصت بعينها ووقعت في أنفاسها الخمدة الأبدية.
فردد القسيس: «من أعماق الأرض يا رب أنظر ضارعا إلى شمس رحمتك وإلى سماء حبك.» وجثت مريم عند جثة سارة تبكيها بكاء شديدا، والقس جبرائيل وقد أحس من نفسه وهنا يتأمل الفتاة مضطربا حائرا.
الفصل الثاني
ليس أفضل من معقول يقرن إلى بداهة، ولا أجمل من ورع يقرن إلى هوى، ولكن هذا نادر، والنادر قياس الشعراء الحكماء، أما جمهور الناس، وبينهم اليوم عدد من المتثقفين كبير، فالمعقول عندهم يعجز عن مرافقة أهوائهم، فيضلون السبيل ويظنون الأوهام والسمادير حقائق رائعة. وإن أصحاب الأخلاق الكبيرة والإدراك المحدود من هذه الطبقة لينزعون غالبا إلى تحقير في أعمالهم وأعمال الناس قلما يفيد، بل إلى تزييف فيه تضليل وتغرير، فتلعب إذ ذاك يد التفريق في نزعاتهم وأهوائهم بل في طباعهم وغرائزهم.
العلوم النفسية «بسكولوجي» شغل مفكر الغرب اليوم، فيحلل العواطف ويشرح الأهواء توصلا إلى الحقيقة الكامنة في النشوء، بل إلى السر الكامن في تلك الحقيقة، وهذه الطريقة في العلوم النفسية نشأت عن العلوم المادية وسلكت مسلكها، وقد كان الدين في الشرق سابقا إليها فدعاها الحكماء والمتورعون «محاسبة النفس»، على أن الفرق بين الشرقي والغربي هو أن الأول يحاسب نفسه «الأمارة بالسوء» ليؤدبها فيذلها ويسترقها، والثاني يحلل نزعات النفس ليدرك خيرها فيعززها، ولا مشاحة أن كلتا الطريقتين تولد التردد والتذبذب وتؤدي إلى تشويش فيه ضعف لا إلى معرفة فيها قوة، ولعمري إن من يقتلع شجيرة النفس كل يوم ليراقب نموها لا يفوز بشيء كبير من آمال النفس العالية، والشرقي من هذا القبيل أبلغ حكمة من الغربي؛ لأنه أقرب إلى التوحيد في الحياة، لا وسط عنده في أمياله ولا ظل بين النور والظلمة في نفسه، الناسك عندنا ناسك، والخليع خليع.
والقس جبرائيل من هذا القبيل شرقي صميم، شرعته التوحيد في نزعاته وأمياله وتشوقاته وآماله، وقد كان قصده الأكبر الاهتداء إلى طريق واحدة مستقيمة، تؤدي به إلى محجة واحدة معلومة، فوجد هذه الرهبانية وسلكها عشر سنوات معتصما بمبدأ التوحيد، على أن المنعرجات الزاهرة العاطرة في تلك الطريق، ونار القرى التي تضرمها الحياة في تلك المنعرجات استوقفته مرارا، فمال بوجهه إليها عاطفا شيقا، مال بوجهه فقط ولم يعرج مرة عليها، ولا غرو إذا استوقفته طيبات الأرض؛ فإن الغريزة البشرية لم تزل حية فيه عاملة، وللوراثة حق على الإنسان لا ينكر، ولا يقهر، ولا يحتقر.
ولقد طالما غلت في صدر الراهب مراجل أهواء سكنتها الإرادة ولم تطفئ النار تحتها، نار الحياة من يطفئها غير الله؟ فقد خيل إلى القس جبرائيل مرة أن تلك النار أمست رمادا، ولكنه أدرك الحقيقة حين عادت سارة إلى الدير، فنفخ إذ ذاك الشيطان في الرماد فشعشعت خلالها بقية نار قديمة، فسارع الراهب إلى إطفائها فلم يظفر ببغيته، فاستعاذ منها بالله صابرا متجلدا، ولم يكلم سارة مدة إقامتها في الدير إلا عند اللزوم، وقلما اجتمع بها. ساقتها إليه الأقدار بعد أن طوفت بها في أغوار الشقاء عشر سنوات، فترحب بها وفتح لها باب الدير عملا بواجب مقدس، قربها منه تأديبا لنفسه، أحسن إليها طاقته سرا ليغفر الله ذنبه، ولم يكن في إمكانه أن يعمل عكس ذلك، من العار أن يطردها من الدير، ومن الجبن أن يطردها من نفسه، لذلك كان يقف في طريقه عاطفا شيقا عند تلك المنعرجات الزاهرة العاطرة، فيسكره أريجها ويعبث بنفسه سحر جمالها، فيتأكد إذ ذاك أن لم يزل خلال الرماد وميض نار، تسمل عينيه إذا نظر إليها وتحرق فؤاده إذا اقترب منها، ولما كانت سارة على فراش الموت أحس من نفسه بارتياح استغفر الله عليه مرارا، على أنه بعد أن عرفها وسمع وصيتها واطلع على سر شقائها جاشت في صدره تلك النزعات، فضاعفت الشجون فيه والعذابات. مثل لنفسه امرأة وحيدة تئن في كهف قصي من ألم الولادة وتدفن بعدئذ طفلها هنالك، فترقرقت في عينيه الدموع. فكر بالفتاة الغريبة وبذاك الراهب الأثيم والدها، فراعته أسرار هي في يد الزمان كالعواصف في أيدي الآلهة، كأن الموت أشعل في قارعة الطريق طريقه نارا لا تضاهيها نيران الحياة بشيء، كيف لا وقد ماتت سارة تاركة بين يديه وديعة عزيزة؛ صبية جميلة، واستحلفته أن يحتفظ بها ويبذل الجهد في سبيلها، أن يكون لها أخا شفيقا وأبا حنونا؟ فسمع كلماتها متبرما متألما كأنه يقول: وهل من نهاية لمغبة إثمي؟! آه من تلك الشعلة البشرية التي يضرمها الشباب فترة من الزمن فتملأ الحياة نارا يسد دخانها آفاق النفس إلى الأبد.
ولكنه وعد سارة أن يعمل بوصيتها مهما كلف ذلك، وعدا مقدسا، وهو متيقن أن شعلة الحياة بل شعلة الشباب لم تزل تلتهب في فؤاده، كيف لا وهو لم يزل في الخامسة والثلاثين من عمره؟ ولما شاهد مريم وديعته راعه لأول وهلة جمالها.
فتاة فتانة قد يصفها الشاعر بابنة حورية، وقد يخيل إلى السذج أنها ابنة جنية، وكذلك كانت تدعى في الدير، ولا غرو فقد تجسد فيها شيء من حسن الحوريات ومن صفات مليكات الجن اللواتي كانت سارة تقص قصصهن، سمراء، نجلاء، شماء، حسنة القد، دقيقة الجوانب، في وجهها ما يبهت الناظر إليه فيقف حائرا بين الإعجاب والارتياب، وفي ناظريها شيء آبد لا تقيده صبوة ولا يدنيه اشتياق، إذا ابتسمت أزعجت، وإذا تكلمت أدهشت، وإذا سكتت استهوت، ألا فإن في فمها معنى غامضا لا يدرك سره إلا النساء ومن خبر النساء من الرجال، وفي طرفيه حركة كآبة مستحبة تستحيل إذا ابتسمت حركة استهتار منكرة، شفتها القرمزية الشبيهة بثمرة ناضجة تفشي إذا تحركت أسرار جفنها الدقيقة الشبيه بالألف الفارسية، وهي مع ذلك كريمة الأخلاق، وفوق ذلك ذكية الفؤاد، طامحة النفس، واجفة جامحة معا، ولم يكن يشين حسنها غير تحدب في طرفي جبينها، ولكن الزمان وإن والى العنيد يمحي كلمة العناد من جبينه.
وكانت مريم إذا جاش جأشها تنتفخ أوداجها وتختلج شعرات أنفها. لا شك أن «سيماؤهم في وجوههم»، ولا شك أن ظواهر المرء خداعة في أكثر الأحايين، ولكنها في مريم لم تكن غير صادقة، بل كانت بليغة في صدقها فصيحة في تبيانها، فتحول دون التمويه والمصانعة مهما بالغت النفس المتثقفة بالاجتهاد، ولكن نفس هذه الفتاة لم تزل ساذجة صافية ناصعة، ترسل نورها إلى عينها السوداء الكبيرة دون أن ينعكس في عقلها ودون أن يمر بلبها، ثابتة الجأش، جريئة الكلمة، نفورة مستهترة، لا تهاب أحدا، ولا تستحي أن تجهر بما يكنه فؤادها، تنعت من تحب ومن تكره لا بنعوت التفضيل فقط بل بنعوت تضحك وتغيظ، ولقد طالما قاست العذاب من محوضة طباعها وحرية قلبها ولسانها.
رآها القس جبرائيل ساعة توفيت سارة، ولم يكن يعرفها وما أدرك شيئا من معاني نفسها، ثم عاد بها إلى الدير أصيل ذاك النهار، وكانت شمس الربيع قد مالت إلى الغروب، فأحنت على الأرض بأشعتها الهادئة الناعمة؛ فماجت الألوان في الحقول الخضراء، وعلا الاصفرار جبين جبل طابور، وبدت الناصرة ببيوتها البيضاء وسطوح أديرتها الحمراء كجزيرة كونت من اللؤلؤ والمرجان.
وقف القس جبرائيل في ظل زيتونة قرب الدير، ونظر إلى مريم وقد توهجت من البكاء عيناها، فألقى يده على كتفها يلاطفها ويسكن جأشها، ثم سألها قائلا: هل أنت مبسوطة في الدير؟
فأجابته على الفور: لا. - لماذا؟ فسكتت مريم عن الجواب. - أخبريني يا بنتي ولا تخافي، إني عامل ما يرضيك إن شاء الله ويسرك، أيتعبك الشغل في الدير؟ - لا، أدخلوني المدرسة منذ ثلاثة سنوات، ولا أخدم اليوم إلا في غرفة الأكل. - لماذا إذن لا تحبين الدير، أتظلمك الرئيسة؟ - لا، لا، الرئيسة تحبني كثيرا. - أتضربك المعلمة؟ - ضربتني مرة فأخذت القضيب من يدها وكسرته، فركعتني على الحصى أربع ساعات. - لذلك تكرهين الدير؟ - وحبستني في القبو يومين بلا أكل ولا شرب؛ لأني قلت: إنها مثل الجنية تفتش عن مارد لتربطه بمسبحتها، كنت أعتني بغرفتها وبثيابها، فأعرفها. دخلت عليها مرة فرأيت المارد عندها، المارد القس يوسف خادم الدير، يا ربي، يا ربي، القس الذي يأكل جسد الرب كل يوم ولا يشبع رأيته ...
فأظلم جفن القس جبرائيل وقاطعها قائلا: أنت تكرهين المعلمة إذن ولا تكرهين الدير. - بلى، أكره المعلمة والدير. - ولماذا تكرهين الدير؟ أخبريني ولا تخافي، فلا أبوح بذلك.
فرفعت مريم رأسها قائلة: وإذا بحت لا يهم، أنا دائما أقول للراهبات: «إن الدير مثل الحبس.» وقد ضقت فيه صدرا، أحب أن أتفرج في المدينة، أحب أن أتنزه في البرية، هذه أول مرة خرجت من الدير، ولولاك لما آذنت الرئيسة بذلك، هذه أول مرة مشيت في أسواق المدينة، يا عمري! ما أحلاها وما أحلى دكاكينها وما أحلى روائحها، وما أجمل الزهر في الحقول والورد في مصاطب البيوت، هنيئا لأصحابها - قالت هذا وهي تصعد الزفرات. - وهل تكونين مسرورة في الدير إذا أذن لك بتنزيهة كل أسبوع؟ - لا، لا، لا أحب الدير أبدا، أكره روائح الغرف فيه، وأكره روائح الزيت والبخور، وأكره سكوت الراهبات؛ أدخلتني الرئيسة مرة إلى غرفتها فأجلستني إلى جنبها وأخذت تقبلني وتضمني إلى صدرها وهي ساكتة فخفت منها وصرخت، فهمست في أذني كلمات لم أفهمها، وطفقت إذ ذاك تبكي وهي تحجب وجهها بيديها. - وهل أخبرت أحدا غيري؟ - أي شيء؟ - أن الرئيسة تحبك. - أخبرت سارة فقط، ولكن الرئيسة تحب زلفا كما تحبني وزلفا أخبرتنا كلنا. - الرئيسة تحب كل البنات يا بنتي؛ هي أمكن والأم تحب أولادها، فلا يشق عليك إذا أحبت غيرك مثلك. - سامحني اغفر لي! وأخذت يده تقبلها وهي تقول: خلصني من الدير، خلصني من الدير، آه ما أحلى روائح الربيع في البرية، وقد قالت الرئيسة إنها تلبسني ثوب المبتدئات، فقلت لها: الكفن أحسن. الله يرحمك يا سارة، وعدتني منذ أسبوع أن تخلصني من الدير! وشرقت مريم بريقها وهي تمسح بكمها الدموع المتساقطة على خديها.
فأخذ القس جبرائيل يدها، وقد أعجب بنحافتها وأنيق سبكها ولدن أناملها، فقال وهو يرمقها بعين العطف ويكظم غيظه: سأخرجك إن شاء الله من الدير، ليطمئن بالك.
فقبلت مريم يده شاكرة، ودخلت الدير وهي تضطرب مما تجاذب نفسها من الهواجس والعواطف المتضاربة، فكرت بسارة فاغتمت وذرفت الدموع، فكرت بحالها وبقرب خلاصها من الدير فخفق قلبها جذلا وخفت نفسها سرورا، وفكرت بالراهب فمثلته أمامها بنظراته وبصوته وبعطفه وحنانه، فأحست من نفسها بارتياح يمازجه شعور لم تدرك سره ومعناه، لم يخاطبها أحد حتى ذاك اليوم بمثل صوته الناعم غير سارة، ولم ينظر إليها أحد بمثل عينه الرءوفة غير سارة، وأما نظرات الراهب وكلماته فلمست في قلبها وترا جديدا، فتموجت رناته في عروقها فاهتزت لها كل جوارحها، أحست أن في صدرها عصفورا مقيدا، فمد الراهب إليه يده وفك جناحيه، فراحت تلك الساعة تحلم الأحلام، وتمثل لنفسها نعيما ربيعه لا يزول وجماله لا يحول.
دخل القس جبرائيل إلى الدير مضطرب النفس فخرج منه يحتدم غيظا، حدث الرئيسة بشأن الفتاة فتأكد أولا أصلها، رآه مسجلا في سجل الأيتام واللقطاء في يوم عيد الصليب سنة 1885، طفل واحد لا غير، ابنة شهر أو أقل، وجدت على باب الدير صباح ذاك اليوم، فعمدت ودعيت: مريم، وهي لم تزل في الدير، هي مريم بعينها، مريم ابنة سارة، ثم أخبرته الرئيسة عن سلوك الفتاة وأطوارها، وقد علمت أنه يريد أن يخرجها من الدير، فقالت: البنت يا محترم نبيهة ذكية، ولكنها عنيدة، وقحة، وعينها شاردة، ولسانها فالت، البنات في الدير لا يحببنها والراهبات يلاطفنها ويبذلن الجهد في إصلاحها، وكثيرا ما يقاسين منها، أما أنا فأعجب بذكائها وأحبها، وقد بذلت جهدي في سبيلها، فأدخلتها المدرسة منذ ثلاث سنوات لما توسمت فيها من الذكاء، وهي الآن تحسن القراءة والكتابة في اللغتين الإفرنسية والعربية وتحسن الإنشاء في اللغتين أيضا، وقد أخبرتني المعلمة أنها آية في الحفظ؛ إذا قرأت أمثولتها مرتين ترويها دون غلط، ويسرني أن أخبرك أنها ابتدأت هذه السنة تصلح سلوكها فوعدتها بثوب المبتدئات.
وأخذت الراهبة تفرك يديها وهي تبتسم ابتسامة الارتياح والرضى. - وهل هي تميل إلى الترهب؟ - الفتاة لا تعرف صالحها، ومن كانت في عمرها لا ينبغي لها أن تسترسل في هوى قلبها، وأنت تعلم يا محترم حالة هؤلاء البائسات اللواتي تقذف بهن الأقدار والمآثم إلى هذا الدير، فإذا عشن دون قيد ودون إرشاد يقعن في ما وقعت به أمهاتهن، فالدير بيتهن، وخلاصهن في الخدمة وفي الانقطاع إلى الله، ومن نستأنس بها النباهة والورع والذكاء نرقيها؛ لذلك أنصح لك أن تترك مريم عندنا. - ولكنها لا تحب الدير ولا تميل إلى الترهب.
فاضطربت الرئيسة وعمدت إلى مسبحتها تلعب بها لتخفي اضطرابها، ثم قالت وصوتها يكشف ما حاولت إخفاءه: يا قس جبرائيل أنت أعلم بهؤلاء البنات مني، فهن لا يعرفن صالحهن، ومريم أكثرهن عماوة وجهلا، ولسانها عدوها الألد، لا ينجو أحد في الدير من شره، تشتم البنات، وتهين الراهبات، وتعير حتى القس يوسف خادم الدير، فقد قالت: إنه تيس مكسورة قرونه. دائما تهين معلمتها وتقول فيها: إنها جنية تفتش عن مارد، لا أعلم من أين تجيئها هذه الألفاظ، ولكن أظن أن فيها شيئا من أخلاق الجنيات، ألا ترى أنها تشبه بنات النور؟! فكيف تكون حالة مثل هذه الفتاة إذا خرجت من الدير؟ اتركها عندنا ولا تتعب رأسك، ليس مثل الدير بيت لتأديب النفس واقتلاع الأشواك منها، والأشواك في نفس مريم كثيرة طالما أدمت أيدينا، وأنت تعلم أننا لا نؤذن لمثلها بالخروج من الدير؛ لأننا مسئولون عنها، وما خرجت من عندنا خادمة إلا وكان أسيادها راضين بها معجبين بسلوكها، ومريم لا تصلح خادمة، أنا أعرفها، وأحبها رغم عنادها وقحتها وتهورها، وأحب أن أصلحها وأرقيها، وطالما جربتني، فصبرت قائلة: من أجل آلامك يا يسوع، فلا تتعب يا قس جبرائيل رأسك بها، اتركها عندي.
فنهض القس جبرائيل عن كرسيه متبرما، وأجابها قائلا: يا حضرة الرئيسة توفيت امرأة صباح اليوم عندنا وأوصتني ساعة نزاعها بمريم، فقبلت الوصية، فصرت مسئولا عنها أكثر منك، سأنظر إذن في أمرها وأخبرك عما قريب إن شاء الله بما أعول عليه وأظنه خيرا لها، نهارك سعيد. - نهارك سعيد ومبارك، صل من شأني ولا تنسني في دعائك. - دعاء الصالحين.
وخرج من الدير كمن يخرج من بيت يحترق، أو كمن يخرج من ردهة التشريح في المستشفى، قلبه كحبة الخردل، ونفسه كليلة كانون. - دعاء الصالحين! دعاء الصالحين؟ وهل في الأرض صالح أو صالحة يا رب؟
وراح يخاطب نفسه ويساجلها فيرفع تارة صوته دون انتباه، وتارة يقف في الطريق؛ ليسمع صوت ضميره. - صحيح، صحيح، صحيح ما يشيعه الناس ، صحيح ما طالما سمعت وكذبت، بنات يولدن بالإثم ويربين في المفاسد، يأكلن خبز الإحسان وقد عجنته يد الحيف السوداء وخبزته يد الخبث الصفراء، نتصدق على الأشقياء والفقراء ونتبجح، نكد أبناء نعمتنا ونرهقهم ونصمهم فوق ذلك وصمة تلصقهم بحضيض الذل حياتهم، هذه المعاهد الفخيمة؛ معاهد الإحسان المتعددة عندنا إنما هي السبب الأكبر في دوام الذل والفقر والشقاء في بلادنا، هي التي تمهد للشاب طريق إثمه، هي التي تنير ظلمات الشقاء للأمهات وللبنات فشيقين، وا أسفاه، بما يرين وما يعلمن! كيف لا وأبواب الأديرة مفتوحة لاقتبال ثمرة ضلالهن وجهلهن؟! بنت تولد في ظلمات المآثم فتربى في ظلمات الخباثة والفساد ليتها لم تولد! بنت ترضع حليب البغض وتأكل خبز المذلة وتحبس في الدير تأديبا لنفسها؛ فتموت النفس من كثرة التأديب ولا يبقى من الشقية غير جسد تعذبه رئيساتها بالقضيب تارة وتارة بالرجاسة، ليتها لم تجبل طينة ذاك الجسد، خير لأبناء الفقر والشقاء والإثم أن تقفل دونهم أبواب الشفقة والإحسان، فيصلحون أنفسهم بأنفسهم أو يموتون ويرتاحون؛ راهب يخطف ابنة من الدير! فتاة تفر هاربة من الأسر والظلم فيفترسها أحد ذئاب الشهوات، دير البنات! هو مسلخ يسرق منه الجائع قطعة من اللحم، خارج الدير ذئاب كاسرة وداخل الدير حيات متورعة، فكيف تنجين أيتها الشقية؟ مريم محقة بشكواها، والرئيسة مصيبة بكلامها، إذا ظلت الفتاة في الدير تشقى، وقد تشقى إذا خرجت منه، ولكن الغريزة التي تستنفر الفتاة من الدير أصدق من الحكمة التي تقضي بأسرها، نعم، نعم، قد يخفي الثوب الأسود عيوبنا ولكنه لا يزيلها، والذين ينظرون إلى الدير كالحبس لا يجب أن يؤسروا فيه، إذا خرجت الفتاة منه وكانت حياتها حياة بؤس وشقاء ففي تحقيق رغبتها الأولى شيء من العدل والتعزية، لا، لا، لا، النفس لا تنمو بالأسر والتشذيب، بل بالتربية والحرية، حرية المرء مقدسة، حريتك يا مريم مقدسة. مسكينة الرئيسة! مسكينة الرئيسة! أتموت النفس جوعا وقد فقدت حريتها؟ أقبلة تحيي وقبلة تميت؟ سكرة النفس تشفي مرض الجسد، فهل تشفي سكرة الجسد مرض النفس؟ الطف اللهم بنا، اغفر اللهم ذنوبنا، ذنوبنا؟ ذنوبنا؟ وهل تكون الأمراض ذنوبا؟ هل يعد الضعف البشري إثما، مسكينة، مسكينة!
وصل إلى الدير فدخل الكنيسة وسجد أمام القربان المقدس ساعة، صلى صلاة المساء ثم طفق يتمشى في الرواق وسبحته في يده. - «أبانا الذي في السموات ... اغفر لنا ذنوبنا، لا تدخلنا في التجارب، نجنا من الشرير أمين.»
ثم دخل حجرته وأشعل شمعة فيها وأخذ كتاب «الاقتداء بالمسيح» وظل يقرأ فيه حتى نصف الليل، ونام عندئذ مطمئن النفس، هادئ البال، كأن لم يحدث ذاك النهار أمر ما خطير، كأن لم يطلع على أسرار تجعل الحياة البشرية لعنة في الأرض، ولكنه حلم حلما مزعجا تلك الليلة سمع فيه صوتا يكلمه قائلا: اترك الفتاة مريم في الدير، خير لك ولها. فاستفاق القس جبرائيل مذعورا ورسم شارة الصليب مستعيذا بالله: «أبانا الذي في السموات ... لا تدخلنا في التجارب، نجنا من الشرير، آمين.» ثم أشعل الشمعة وفتح «الاقتداء بالمسيح» فقرأ بضع صفحات ونفسه مضطربة وفكره متضعضع، فنهض من ساعته ولبس ثوبه وخرج إلى الرواق يصلي صلاة الفجر.
وفي تلك الساعة أشعلت الزهراء مصباحها الذهبي فوق قمة طابور، فلمست أشعته عين المرج النائم في مهد الجبال بين السامرية والجليل، فاستحال اسمرار وجهه اصفرارا عليه غشاء رفيع من نسج الندى والنسيم، وكان ربع القمر قد دنا من البحر وقد احمرت جوانبه فشابه سيفا مخضبا، أو قلامة ظفر محني، أو قطعة بطيخ على طبق من اللازورد، وجبال عجلون وقد نظرت إلى القمر والزهراء قبالها أخذت تخلع سرابيلها السوداء؛ لتستحم بنور الفجر الذي يبدو كذوب الرصاص فيسيل كذوب اللجين فيتدفق كعصير الرمان.
وقف القس جبرائيل في رواق الدير، فأسكره هذا المشهد البهيج وأنساه صلاته، بل حرك لسان النفس فيه فنطقت بصلاة أسمى وأجمل، نظر إلى الحقول حوله فرآها تهتز جذلا، وتتماوج حبا، وتتلألأ على صدرها قبلات الندى. نظر إلى الناصرة على منحدر الجبل تحته فإذا هي نائمة مطمئنة هادئة آمنة، تعطر أحلامها الأزاهر اليقظى في مصاطب البيوت وجنائن الأديرة، وتتهادى حولها أغصان الزيتون يقبلها نسيم الليل، وتداعبها أنامل الصباح.
ثم طرقت أذنه أصوات الفجر وقد خرجت من سكينة الليل تشاطر الجبال والمروج أفراحها، في طيقان القناطر فوقه وتحت القرميد يعشش الحسون والسنونو، فسمع حفيف الأجنحة وزقزقة الصغار في أوكارها، خرجت الأم تسعى لصغارها وهي تسبح جذلة طربة، وقرع جرس إحدى الكنائس التي يقدس كاهنها باكرا من أجل الفعلة فيصلون قبل أن يسيروا إلى أشغالهم في الحقول، وفي حارة الإسلام رفع المؤذن صوته الرنان وهو يدور في مأذنته كالشمس في فلكها فتردد الجبال شرقا وغربا صدى كلماته، هيوا على الفلاح، هيوا على الصلاة، وهناك على ذاك السطح رأى شيخا يفرش سجادته ليصلي صلاة الفجر: بسم الله الرحمن الرحيم ... مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم. رآه يسجد سجداته فشاركه القس جبرائيل بصلاته، وعلى سطح آخر أحيطت به مصاطب الحبق والرياحين أناس يشربون القهوة ويدخنون الأركيلة وهم يمزحون ويضحكون، وفي الطريق خارج الناصرة تسمع أصوات القافلة فيردد المكارون الأدوار على رنات أجراس البغال ويضحكون ضحك أبناء الفلوات، وقد خلت قلوبهم من الهموم وملأ نسيم الصباح أنفسهم فزادها سرورا ونشاطا. وفي طريق العين رأى القس جبرائيل امرأة تحمل الجرة على رأسها والسبحة في يدها، خرجت من بيتها باكرة، كما خرجت الحسونة من وكرها؛ تسعى لصغارها.
توهج الفجر فأيقظ الأرض وبنيها، فرددت القوافل والأجراس والمؤذنون والأطيار صدى أصوات التسبيح، بل صدى أصوات تلك النفوس البسيطة الخاشعة الصافية، فهتف الراهب قائلا: ما أجمل هذه الساعة، وما أقدسها! هنيئا لقلوب يسكرها سكوت الفجر وأريجه وأنفاحه وأنواره، ليت الحياة ساعة من ساعات الفجر!
وفي تلك الآونة مرت فتاة تحت رواق الدير مسرعة واجفة، فطرقت أذن الراهب خطواتها ولم يكترث، بل رفع صوته يصلي: «اجعل اللهم حياة البشر هادئة صافية كفجر يومك. ارفع اللهم قلوب البشر إلى جبال قدسك؛ فيجلوها نسيم الحب ويعطرها أريج السلام.»
سمعت الفتاة الصوت فعرفته، فدخلت الدير مسرعة مستبشرة. - «سدد اللهم خطوات المصعدين في جبالك، وطد اللهم مقاصد الشاخصين إلى نجم فجرك، خفف اللهم بؤس البائسين، أنر طريق الضالين، أطلق سراح المأسورين.»
وكانت الفتاة قد صعدت إذ ذاك إلى الرواق، فسارعت إلى القس جبرائيل تقبل يديه وتصرخ: دخيلك، دخيلك، لا ترجعني إلى الدير. - مريم! مريم! ماذا جرى؟ - دخيلك، دخيلك، هربت من الدير، مساء أمس بعد أن تركتني استدعتني الرئيسة إلى غرفتها وضربتني حتى كدت أموت؛ لأنني شكوت مصيبتي إليك. - وكيف خرجت؟ وكيف جئت إلى هنا؟ من دلك؟ - الله خلصني والله دلني، جئت أفتش عنك، فأسمعني الله صوتك ... سمعت صوتك فعرفته، دخيلك ما لي غيرك، لا ترجعني إلى الدير، أموت ولا أرجع. - ليطمئن بالك يا بنتي، سكني روعك، تعالي معي.
ومشى القس جبرائيل قدامها إلى الكنيسة. - ادخلي يا بنتي، صلي ليوفقك الله، وانتظري في الكنيسة إلى أن أعود.
الفصل الثالث
في الحياة قوة خفية تجمع الناس وتفرقهم لغرض غامض قلما يدرك سره، بل في الحياة سحر قد يكون سماويا وقد يكون جهنميا يجذب الأضداد بعضهم إلى بعض ويوقد في قلوبهم شعلة الحب التي توحد بين أكبر القلوب وأصغرها، وأنورها وأظلمها، ليس بين بشرين تناقض أبلغ وأشد مما بين القس جبرائيل وأخيه يوسف أفندي مبارك؛ العضو المسيحي في محكمة الناصرة، والوجيه المقدم في قومه، وهذا التناقض الروحي والعقلي يزول دائما عند المصافحة.
يوسف أفندي في العقد الرابع من العمر طويل القامة قوي الساعد دموي المزاج، جاحظ العين، ضيق الجبين، طلق المحيا، كريم النفس بسيطها، ثلاثة في الحياة تهمه فوق كل شيء وتستهويه، ثلاثة يحذر منها الأنبياء، وينشدها بعض الحكماء، ويتغزل بها الشعراء، ويوسف أفندي لا يحفل كثيرا بما جاء في الكتب المقدسة ولا في دواوين الشعر؛ فهو لا يميل إلى المطالعة ولا يهمه الأدب والأدباء، يشره إلى اللذات لغريزة فيه، ويرغب بطيبات الحياة دون أن يستأثر بها، جليسه أخوه، وضيفه سيده، لطيف المزاج، خفيف الروح، كبير القلب، يقدس الضيافة والألفة ويمجد الوجه الوسيم والمائدة الفخمة، ولا عزيز عنده أعز من قنينة معتقة وصديق «معتق» يشاركه شربها.
على أن انهماكه باللذات واسترساله في الشهوات لا تصده عن القيام بواجباته البيتية والعمومية، فيسعى في سبيل الحق وفي سبيل الناس ما استطاع، وقد امتاز عن زملائه مأموري الحكومة باستقامة ضميره وطهارة ذيله؛ فأحبه الناس لعدله ونزاهته، وأحبه زملاؤه لكرم نفسه وخفة روحه، وما أشبه بيته بناد لإخوانه وأقرانه، بل ما أشبهه بنزل لكل لائذ بعدله وإحسانه، ولا ينكر أن بعض السعاة والوشاة كانوا يقولون: إن بيت يوسف مبارك عش للدسائس وملطأ للمعاثر، على أن المقيم في جواره، النافر من دخان ناره، قد يخطئ الظن إذ يرى الرؤساء؛ دينيين ومدنيين من رهبان وكهان ومأمورين، يؤمون داره؛ حبا بنبيذه المعتق وشغفا بطاولة القمار التي تترأسها زوجته الست هند، أو رغبة في فنجان قهوة فقط من يد إحدى جواريه الرعابيب.
ويوسف أفندي يحترم أخاه الراهب احتراما لا غش ولا تكلف فيه، ويرتاح إلى حديثه، ويجنح غالبا إلى رأيه، ولم يكن القس جبرائيل ليرتاب مرة في حبه لأخيه يوسف، ولقد طالما قال في نفسه، بيت أخي مثل ديري، وحبذا كرمه وعدله وإحسانه في سبيل إخواني الرهبان، ولقد أدرك كلا الأخوين شيئا من الحقيقة في نفسه وفي أخيه ولم يدركها كلها، فالسيئات تولد الحب مثل الحسنات، وضعف المرء يزين الضعف في سواه. أجل، فإن المرء يستأنس بنقص في أخيه شبيه بنقص فيه، ناسك يجوع جسده، وخليع يجوع نفسه، فالجوع إذن يجمع الاثنين ويؤلف بينهما.
لما ترك القس جبرائيل مريم في الكنيسة جاء توا إلى بيت أخيه فرآه يدخن الأركيلة ويشرب القهوة في فناء الدار وهو متربع على الديوان لابس فوق قميص النوم عباءة حرير زرقاء، فنهض هاتفا إذ رأى القسيس أخاه: ما شاء الله! ما شاء الله! على غير عادتك يا شيخ، ولكن الرهبان ينهضون باكرا. - صحيح، وينامون نصف النهار، الساعة الثالثة بعد الظهر هي نصف الليل عندنا. - هنيئا لمن ينامون، أنهكني الأرق، حرق ديني، وصفق كفا على كف فحضرت الصانعة. - هاتي جمرة، واعملي أركيلة وقهوة للقس جبرائيل. - لا، لا، لم أقدس بعد. - عجيب أمركم، ألا تشربون الخمر في القداس وتحرقون البخور؟ فالقهوة نوع من الخمر، والتنبك مثل البخور، يسرها، هاتي يا بنت أركيلة وقهوة. - يظهر أن الأرق ينفعك، أفلا ترى أنه يشحذ قريحتك ويجلو نفسك؟ ولعمري إن من يحسن الأسخان ... فقاطعه أخوه قائلا: المصيبة يا شيخ أنك دائما تدور الدورات «ممتطيا صهوة الفصاحة» هذه عبارة عربية تعجبك، سمعتها البارحة ففلقت ذهني وعلقت فيه، انزل إذن عن ظهر الفصاحة واجلس إلى جنبي، فإني والله مشتاق إليك، ما زرتنا منذ شهر، وإذا كنت تريدها بالملعقة فاعلم أن حضورك وليس الأرق يشحذ القريحة ويجلو النفس.
وجاءت إذ ذاك صانعة حسنة الوجه والقد والحركة، تحمل أركيلة عجمية فخمة في مائها ورد وياسمين، فأثبتتها على السجادة وقدمت النربيش ويدها اليسرى على صدرها إلى القسيس، فأخذه باسما وألقى به على الديوان، ثم جاءت صانعة أخرى بفنجان من القهوة في ظرف من الفضة على صينية من النحاس الشامي الثمين، فأخذه القس جبرائيل واستنشق منه قليلا، وقدمه إلى أخيه قائلا: بنكم عاطل جدا. - وعذرك مثل بننا، بالله قل لي، ما الفرق بين الاستنشاق والشرب وبين الشم والذوق، هل الفم لك والأنف لغيرك؟ - ما جئت هذه الساعة أباحثك في علم الفيزيولوجيا، كم خادمة عندكم اليوم؟ - عرضنا كل ما عندنا الآن. - اثنتان فقط. - والطابخة، ولكن تعرف امرأة أخيك فقد تطرد واحدة منهن أو تطردهن كلهن غدا، فهي لا تطيق خادمة عندها أكثر من شهرين والخادمات لا يطقنها يوما واحدا. - أعرف فتاة تعجبك. - لا يفيد، ينبغي أن تعجب الست هند. - وهذا ما أعنيه، تعجبها كثيرا، فتاة ذكية فهيمة خفيفة الحركة نشيطة بارعة، ولكنها عنيدة، وينبغي لكم أن تداروها في أول الأمر، الفتاة عزيزة علي، وقد أوصيت بها وهي لا تحب أن تخدم في الدير، وأحب أن تخدم عندكم لتظل تحت مراقبتي، أوصيك بها خصوصا. - وكم عمرها؟ - ست عشرة سنة. - وهل تحسن الخدمة؟ - كانت تخدم في غرفة المائدة. - وأين هي الآن؟ - عندي، تنتظرني في الكنيسة، سأجيئكم بها بعد القداس.
وهم القس جبرائيل بالانصراف، فمشى أخوه معه حتى الباب ثم قال: وما هذه الإشاعات التي يشيعونها عنك؟ كيف حالك وإخوانك الرهبان؟ سمعت البارح أن رئيس الدير ينوي أن ينقلك إلى لبنان. - لبنان أحسن من الناصرة. - والامرأة سارة التي توفيت البارح، أصحيح ما يقال: إنها ... - هي أم الفتاة التي حدثتك بشأنها. - أم الفتاة؟ أولم تكفك الأم وما أشاعوه عنها وعنك؟ - الله وحده يعرف ما في قلبي، الله وحده يدينني، ولا أسألك أنت يا يوسف غير أمر واحد؛ أن تساعدني في تربية هذه الفتاة، وأن ترمقوها بعين العطف والحنان وتعاملوها بالمعروف، سأجيئكم بها اليوم.
وعندما ودع أخاه كانت الست هند خرجت من غرفتها فرأت الراهب في الباب، فسألت زوجها: ما الغرض من زيارته؟ فأخبرها، فسرت بذلك؛ لأنها تتمكن إذا جاءت الخادمة الجديدة من طرد إحدى الثلاث عندها؛ أي الجميلة فيهن.
الفصل الرابع
مثل الست هند من النساء تدعى عند العرب الأخصائيين: امرأة زنمردة، ولكننا نكتب لأبناء العرب لا لأجدادهم ولجمهور الناس لا للأخصائيين، لذلك نتحرى البساطة في الوصف والتعبير، ولكن اللبيب إذا تدبر هذه اللفظة العبلة الرجراجة وحللها يجد فيها ألفاظا عديدة تدل على ذكاء واضعها وصفات المتصفة بها، كيف لا وفيها: «زنى» و«مرد» و«تمرد» وغير ذلك من مفاتيح أسرارها، ولكننا لا نرمي الست هندا بها؛ لأنها تكبر تارة على بعض معانيها وتارة تصغر عنها، ففي لغتنا وطريقتنا إذن نحاول أن نفيها حقها.
الست هند ربيبة السويداء وعشيرة الرهابين، كأنها أدركت قول الشاعر: «ولكل شيء آفة من جنسه» فراحت تداوي سويداءها بسود الثياب وسود اللحى، وكانت تتدخل في سياسة الأديرة لسد فراغ في وقتها، فتلعب بالرهبان كما تلعب بالقمار، وتدخن الأركيلة عند جثة خصمها كما لو كانت تقرأ في ديوان أحد شعرائها المحبوبين، وهي آية في الحفظ، ترغب بالمطارحة وتحب المكافحة، فترمي جليسها ببيت شعر من صفي الدين الحلي، أو زهير أو الفارض فتصرعه وتحرق فؤاده، ثم تزجر الخادمة وتضربها لإبطائها بكأس ماء أو فنجان كنياك، ولم تكن في الناصرة امرأة تحسن مثلها لعب القمار ورواية الأشعار وسياسة الرهبان وزجر الخدم، والسبب في غوايتها وأدوائها ظاهر بسيط، فقد تزوجت صغيرة، وخبرت الحياة الزوجية صغيرة، وكبرت صغيرة، اجتازت أربع مرات جحيم الولادة قبل أن تجتاز الخامسة والعشرين من سنها، ولم يعش من أولادها غير واحد ربي منعما، فنشأ مخنثا، فشب شقيا، تلقن شيئا من العلوم في كلية من كليات بيروت، فدفنه في مواخيرها وقهاويها قبل أن يعود إلى بيته، وتعرف برجال الشحنة وزار مرة السجن إتماما لدروسه، وكان يدمن الخمرة احتراما لأبيه ويقامر حتى الفجر توقيرا لأمه.
ولقد طالما استلفت القس جبرائيل نظر الأبوين إلى ابنهما عارف وحذرهما من عواقب أمره، فأغفلت الست هند نصيحة سلفها وكرهته؛ لأنه لم يكن مثل سائل الرهبان من عباد محاسنها، فلا يحضر مجلسها ولا يحرق البخور أمامها ولا وراءها، وما الراهب في عينها غير باب فرج للمرأة أو ستر لسوءتها، ومتى كانت المرأة مثلها كريمة المحتد ربيبة المجد ينبغي أن يكون الراهب خادما لها، وإذا كانت جميلة أيضا ففارسا من فوارسها ومجاهدا في سبيلها، ولكن محاسن الست هند ولت باكرا، فلم يبق منها غير سحر في لحظها وخلابة في لسانها، وحركة تغري عند إدبارها.
وكان بيتها صورة مجسمة لنفسها، يضج بالأمتعة الفخمة النافرة بعضها من بعض، ويمثل في كل غرفة منه مأساة كل يوم، فترى الذوق مذبوحا على الديوان، والترتيب مشنوقا في الدار، والاقتصاد مجندلا عند قدمي البذخ والإكثار.
تظل الصورة مثلا مائلة أو مقلوبة على الحائط شهرا فلا تستلفت نظر الخادمة إليها ولا تحفل بها، يجد الزائر السكاير مبددة على الدواوين والطوائل والكراسي، فإذا أحب إشعال سيكارة تفتش الخادمة ساعة عن علبة الكبريت، ثم تجيء والفوز يتلألأ في وجهها حاملة بملقط صغير جمرة كبيرة ويدها اليسرى كالصينية تحتها، فتتفتت الجمرة، فتحرق يدها، ثم السجادة ثم الديوان، ثم ثوب الزائر، ولا ينجو من الحريق غير السيكارة السعيدة الطالع. في روض الست هند العاطر يذبل الورد على صدر أمه ويموت، والأواني الصينية الفخمة في بيتها تئن وتتأوه من الأزاهر الاصطناعية فيها. في غرفة الست هند على مغسلة من الجوز فاخرة تزدحم قناني العطر والطيب، وحناجير الأدهان والمعاجين، وعلب المساحيق، والأدوية والزيوت لتحسين البشرة وتطويل الشعر، وليس هناك مقراض أظافر أو فرشاة أسنان.
وهذه أمثلة صغيرة من غرائب هذا البيت وسيدته قبل أن دخلته مريم، ولم يمض عليها شهران فيه حتى تجلت في ترتيب فرشه وغرفه وأمتعته وأوانيه روح أنيقة جديدة، وقد أحدثت فيه ثورة لا بد من تدوينها، وبدعة في غرفة المائدة تستحق الذكر.
دخلت مريم صباح يوم حجرة سيدتها تحمل باقة من الورد، وضعتها في الإناء الذي كان فيه أزاهر اصطناعية، ورفعته تبتهج وتقول: أليس الورد يا معلمتي أحسن من هذا القماش الوسخ؟ فأجابتها الست هند: بلى بلى الحق معك، فسرت مريم باستحسان سيدتها وأقدمت على العمل الذي كانت تفكر فيه، ولقد طالما ثار ثائرها على الزهور الاصطناعية فوجدت في بيت مبارك ما يكفي لإضرام نار الثورة في سبيل عرائس الحقول وربات الرياض، وكانت تأخذ كل يوم طاقة من تلك الطاقات الكبيرة التي تضيع الراهبات في صنعها وقتهن الثمين، وتخبئها في غرفتها وتضع في الإناء مكانها إضمامة من أزاهر الجنينة ورياحينها، ولما خلعت كل تلك العرائس الكاذبة من عروشها جمعتها ذات ليلة على السطح، وسكبت فوقها إبريقا من زيت البترول ودعت الخادمات رفيقاتها إلى الجنازة، ولما حضرن أضرمت في تلك العرمة النار، وأخذت بأيديهن فرقصن حولها ضاحكات، ومريم تصيح مقلدة اليهود الدوارين، خام وشيت ومقصور!
ولم يغظ هذا العمل الست هند مثلما غاظها قول مريم: إن مغسلتها تفتقر إلى فرشاة أسنان. - يقطع عمرك! وأين رأيت أنت فرشاة أسنان؟ - عند الرئيسة في الدير، وهي تنظف أسنانها صباح مساء، يا عمري ما أجمل أسنانها! - أجمل من أسناني يا مريم؟ - أسنانك يا معلمتي صفراء.
فاكفهر وجه الست هند وهمت بضربها، فاستدركت الفتاة قائلة: لا تؤاخذيني ولكن الرئيسة لا تدخن بالأركيلة مثلك، الله يقطع الأراكيل فهي توسخ الأسنان. - اسكتي، وقحة، ثرثارة!
وبعد أيام رأت مريم فرشاة أسنان على مغسلة سيدتها، فضحكت وقالت في نفسها: ما أحلى معلمتي! تشتمني وتقبل نصيحتي.
والحق يقال: إن الست هند تحب مريم سرا وتعجب بها، وتكرهها سرا أيضا وتخشاها؛ لأنها أجمل وأبرع خادمة دخلت بيتها، وكانت إذا أثنى زوجها على الفتاة تسكت أو تغير الحديث. - يا هند ما رأيت زماني مثل هذا الترتيب في البيت.
فنفرت قائلة: وما علمك أنت بالترتيب، لا تدلع الخدم فيظل البيت مرتبا.
فلم يحفل يوسف أفندي بما قالت: وهذه الأزهار، جميلة! جميلة! كأن الجنينة جاءت تشاركنا بيتنا. - وأنت تشارك الكل، هل يجي المطران الليلة؟ - نعم وسيجيء رئيس الدير أيضا، والقائمقام.
وذهب يوسف أفندي إلى محكمته وهو يفكر في الطريق بالفتاة مريم ويمثل لنفسه جمالها وذكاءها وتفننها فيبتسم فؤاده جذلا وإعجابا.
أصدرت الست هند في ذات الصباح أوامرها، فجاءت مريم تسأل الطابخة عن العشاء وألوانه فأخبرتها. - والنبيذ؟ - وما غرضك من كل هذا - تتدخلين دائما بما لا يعنيك - روحي إلى شغلك. - دخيلك يا لطيفة أخبريني. - يا لطيف يا ستار! مثل العادة يا بنتي، عرق وسبعلي مر، وقبرصي أصفر، وشمبانيا، خلصيني منك.
فراحت مريم إلى غرفة سيدها فأخذت من مكتبه قلما ودواة، وطلحيتين من الورق الشبيه بالرق الذي يستخدم في المحاكم، واختلت ساعة في حجرتها ولم يدر أحد بما صنعت، وبعد الظهر رتبت المائدة ترتيبا جميلا فوضعت باقة من الورد في إناء على الخوان، وقرنفلتين واحدة حمراء وأخرى بيضاء عند كل صحن، وإلى جنبهما صحيفة مثبة إلى قدح تبدو منه فوطة المائدة كالزنبقة البيضاء، وقد خط في تلك الصحيفة بالخط الكنائسي ما يلي:
قالت الحكماء: «من قل طعامه صح جسمه وصفا قلبه.»
الفاتحة:
سنمورة، قلب أرضي شوكة مكبوس، سلطة بطاطا وبيض، فجل إفرنجي، زيتون شامي، عرق زحلاوي مثلث.
الدور الأول:
شوربة بزلا، سمك مشط بطرطور، بامية خضراء بلحم وأرز مفلفل، نبيذ سبعلي مر.
الدور الثاني:
كبة أرنبية، حجال مقلية ومطرزة بالفطر والبندورة، نبيذ قبرصي أصفر.
الدور الثالث:
روستو عجل تشيعه كماة السنة، سلطة هندباء ورشاد، شمبانيا مم.
الخاتمة:
معمول، عيش السرايا، مشمش حموي وخوخ إفرنجي.
ولما جلس الضيوف إلى المائدة أعجبوا بإتقانها وترتيبها، وأدهشت قائمة الطعام حتى الست هند، فقال المطران والقائمة في يده: هذا شيء جديد على المائدة العربية يا يوسف أفندي. - الخادمة الجديدة يا سيدنا تجيئنا كل يوم بأمر عجيب. - وهل هذه اختراعها؟ - علمي والله علمك، اسألها.
فقال القائمقام: لا شك أن الست هندا ... فقاطعته ربة البيت قائلة: لا، وحياتك، لا علم لي بها.
فأوقف المطران مريم وهي تقدم الشوربا وسألها قائلا: هل هذا خطك يا بنتي؟ - نعم يا سيدنا. - ومن علمك كتابة هذه القائمة؟ - رأيت واحدة بالإفرنسية عند الرئيسة في الدير، كانت تحفظها ذكرا لمأدبة حضرتها لما كانت في باريس، فخطر في بالي أن أكتب مثلها في العربية؛ فتعرفون منها في الأقل ما يقدم لكم. - ولكن عادات المطاعم لا يجرى عليها في بيوت الأماجد. - وهذه العبارة، قالت الحكماء؟ - قرأتها في كتاب، والراهبات في الدير دائما يرددنها ويذكرن البنات بها، كنا نجوع إكراما للحكماء. - واليوم أخذت بثأرك منا، ها ها ها! ما رأيت حياتي أذكى من هذه الفتاة، أهنئك يا ست هند بها، وأنصح لكم يا سادة أن تعملوا بقول الحكماء، يظهر من هذه القائمة أن يوسف أفندي يريد بنا شر. - لا إكراه أيها السيد لا في الدين ولا في الطعام. - ولكنا بشر يا ابني وضعفنا رأس مال إبليس. - أنا أستعفي من الدور الثاني. - ألتبرهن لنا يا سعادة القائمقام أنك حكيم؟! لعمري إن الحكماء أضعف البشر وإبليس يزدريهم ولا يحفل بهم. - الدور الثاني أحسن ما في القائمة، هل الحجال صيد اليوم؟ ونظر رئيس الدير إلى الست هند ولاحت في عينه ابتسامة. - وإذا كانت من صيد البارح؟ - عفوا يا ست هند، لا تستثقلي التعنت من راهب معدته عاصية عليه. - وأنت دائما تبرطلها بالمآكل الضخمة. - بل أعاقبها تأديبا لها وانتقاما منها، ليت الراهب يستطيع أن ينزع معدته قبل دخول الدير.
فوضع القدح يوسف أفندي من يده وقال ضاحكا: عندئذ يا محترم تقفل كل الأديرة.
فهتف المطران قائلا: أحسنت أحسنت، دير بلا خمر لا يكون، ورئيس بلا كرش ينافي كل معقول ومنقول. - سيادتك ناقم على الرهبان. - لأن خمرهم في هذه الأيام عاطل ومعدهم فاسدة.
فقال يوسف أفندي: ليت المعدة وحدها فاسدة، ها ها ها قدمي السمك إلى الرئيس يا مريم، يقول الأطباء: إن السمك أسهل المآكل هضما وأكثرها غذاء، وهذه السمكات كانت صباح اليوم في البحيرة تسبح الله، اعطف على «السبعلية» أمامك يا سعادة القائمقام فقد حرم النبي الخمر ولم يحرم النبيذ، عصير العنب كعصير التفاح أو الرمان. - صحيح، وقد أدرك ذلك أسلافنا الأمويون. - وأسيادنا الأتراك يحذون حذوهم. - رجل في الجامع وأخرى في الحانة، هذه روح العصر أليس ذلك يا سعادة البك؟ - نعم يا ست هند، ومن رأيي أن قليلا من الخمر يفيد الإسلام، ينهض بالمسلمين من خمولهم.
فقال رب البيت وقد أفرغ كأسه وملأها للمرة الثالثة أو الرابعة: والكثير منه ينصرهم على أعدائهم، الحماسة سر النجاح والخمرة تضرم في النفس نار الحماسة، للخمرة وحدها فضل على الأوروبيين عظيم، الخمرة أم الحرية.
فقال المطران يغير الحديث: هذا الحجال «المطرزة» من أفخر وألذ ما طبخ، فأجابه يوسف أفندي وهو يحدج مريم بعينه الجاحظة: في «التطريز» يا سيدنا لذة غريبة.
فقال سيادته يغير الحديث ثانية: وكيف حال عارف؟ - لم يزل «يطرز» في بيروت.
فابتسم المطران وأمعن القائمقام في الضحك، أما رئيس الدير فلم يسمع النكتة؛ لأنه كان يحدث الست هند بصوت خافت في موضوع ظهر من إصغائها إليه أنه يهمها جدا. - وهل أتم عارف دروسه؟ - تممها قبل أن يدخل المدرسة، الغلام يا سيدنا سر أبيه، وهو قريبا يعود إلينا غانما ظافرا إن شاء الله، يا ظريفة هاتي الشمبانيا.
فسارعت الخادمة إلى الدلو في الصهريج تلبي الطلب، وكان يوسف أفندي قد اخترع طريقة لتبريد الشمبانيا تقوم مقام الثلج إذا نفد، وفي الناصرة كما في باريس ولندرا قطعة الثلج تعد من الأعلاق، فاستغنى يوسف أفندي عنها بحبل ودلو وصهريج. - لا أنكر أن هذه العروس أجمل على المائدة إذا تسربلت بالثلج والفضة فلا يبدو منها غير فمها الذهبي، ولكننا في الناصرة يا سادة، وسرابيل العروس تعيق في مثل هذه الساعة.
ثم فتح يوسف أفندي القنينة بلياقة نادرة كأنه خدم عشرين سنة في نزل باريسي شهير، فطارت الفلينة وسقطت على رأس المطران، فضحكت الست هند وقالت: ستربح الليلة يا سيدنا. - لا يربح من يلعب معك يا ست هند.
فقال القائمقام: ولكن حضرة الرئيس يدحض قول سيادتكم، فهو دائما من الرابحين.
فنظرت الست هند إلى الراهب كأنها تتلو عليه بلحظها بيتا من الشعر.
فقال يوسف أفندي: كل ربح على طاولة القمار خسارة، أما الربح الحقيقي، الربح الحقيقي عندك سيدنا؛ الربح الحقيقي في البر والتقوى وال ...
وكانت مريم تقدم إذ ذاك الثمر فأوقفها قربه يتعلل بالاختيار، فأخذ خوخة واحدة بيده وأخرى من خدها بنظره، وهو يقابل في نفسه بين لون شفتيها ولون الثمر، والست هند تراقبه سرا، وتظهر لرئيس الدير أنها صاغية لحديثه. - ما أجمل لون هذه الثمرة، بالله يا هند أن تروي لنا بيتا من الشعر فيه ذكر خوخ الخدود.
فقالت الست هند على الفور وهي تنقر الطاولة بأناملها: «ألا خدد الله ورد الخدود»، وسكتت.
فهتف زوجها قائلا دون أن يدرك معنى الشاعر: أحسنت أحسنت! ولكن الخوخ أحسن، وبالأخص إذا كان لونه كلون الورد.
وقال المطران: الشاعر يا ست هند يدعو على كل ما تشتهيه نفسه ولا تناله.
فأجابته على الفور: عسى أن تنال نفسك كل ما تشتهيه فتدعو للناس ولا تدعو عليهم - تفضلوا.
ونهضت فنهض الكل وخرجوا إلى فناء الدار، فراح يوسف أفندي يحلج بين القائمقام والمطران ويمازحهما ضاحكا، والراهب وزوجته يتخافتان ويتهامسان. - إشاعات، إشاعات. - ولكن القرائن تدل على صحتها، فقد أحب القس جبرائيل أم الفتاة حبا شديدا عجيبا شاع أمره في الدير وفي البلد، وقد وصته عند موتها بابنتها مريم، مريم من الأسرة المباركة يا ست هند. - هس، لا تفضحنا، متى يصدر أمر الرئيس العام بنقله إلى لبنان؟ - لا أدري، في إمكانك أنت أن تعجلي ذلك، ثم وقف عند الباب يستعطفها ويضغط على يدها. - لا، لا، لا تجئ غدا ولا بعد غد، الإثنين القادم بعد القداس، فتبع الرئيس الست هندا وهو يفرك يديه مستبشرا مطمئنا. - ها ها ها! هذا يا سيدنا من أغرب ما سمعت، ولكن هندا لا تصدق هذه الأخبار؛ لأنها محبة ومخلصة لزوجها، وهي تظن كل النساء مثلها.
فسمعت زوجته الجملة الأخيرة، فقالت ضاحكة: مثلي أنا؟ لا سمح الله. وجاءت إذ ذاك مريم بصينية من الفضة كبيرة في وسطها قنينتان من المشروب الإفرنجي، الواحد أخضر اللون والثاني ذهبي تحيط بهما أقداح صغيرة دقيقة مستطيلة شبيهة بزهر الزنبق، وإلى جنب كل قدح فنجان من القهوة في ظرف فضي مخرم جميل، فمشت الست هند مع الخادمة تسكب لكل ضيف اختياره. - أمشروب النعنع سيدنا أم «البندكتين»؟ - لا أحب ما يصنعه الرهبان في هذه الأيام.
فملأت قدحا من السيال الأخضر وقدمته إليه، فتناوله منها باليمنى وأخذ يدها بيسراه فقبلها قائلا: يد الكريمات أحرى بالتقبيل من أيدينا.
فقالت الست هند ضاحكة: قبلتك تجلب السعد، سأخسرك الليلة فلسك الأخير. وأنت يا محترم، أمشروب الرهبان تريد؟ - لا يا ست هند، من لطمك على خدك الأيمن ... ونحن نقتفي أثر سيادته مهما بالغ بالتقريع.
فأجابته على الفور: خباثة منك هذه، أنت تحب النعنع وتكره «البندكتين». - برافو برافو. - وأنت يا سعادة القائمقام. - اعفيني من الأخضر والأصفر واسمحي لي بفنجان من القهوة، ثم سكبت لنفسها كأسا ورفعته قائلة: وأنا أشرب «البندكتين» استميح من سيادتكم عذرا؛ لأنني أحب الرهبان.
فقال المطران: ونحن نحب ما تحبين يا ست هند. - سبق السيف العذل.
جاءت عندئذ ظريفة بالأراكيل، فوضعتها بإشارة من سيدتها في الغرفة المجاورة لردهة الاستقبال؛ أي غرفة القمار، وبعد أن شرب السادة القهوة امتثلوا أمرها ودخلوا يلبون دعوة «البوكر»، فجلس رئيس الدير إلى يمين الست هند والقائمقام إلى شمالها والمطران أمامها، فعدت الحجارة وأعطت منها بمائتي غرش إلى كل من الجلوس، وافتتحت الجلسة بغاية الرصانة والخشوع وكأنها تفتتح بالصلاة اجتماع «أخوات مريم» في الكنيسة.
وظل يوسف أفندي في الدار يدخن بأركيلته إلى أن سقط النربيش من يده فاستلقى على الديوان متخدرا من الخمر.
أما الخادمات فبعد أن تناولن عشاءهن وتممن شغلهن اجتمعن في غرفة قرب المطبخ، وكانت مريم قد أشعلت فيها سراجا وافتتحن جلستهن.
ومن أسرار نشأة مريم التي لا ندركها تعلمها لعب «البوكر»، فهل تعلمت يا ترى من مجرد ترددها إلى صاعة اللعب، فاختلست مثائلها وهي تدور على الجلوس بالقهوة والمشروب؟ أم هل علمها سيدها؟ لا نعلم ولكننا نؤكد أنها علمت رفيقاتها تلك اللعبة وكن يجتمعن سرا فيجلسن على الحصير، وتترأس مريم جلسة «البلف» برصانة تفوق رصانة سيدتها «بالفة» المأمورين والرهابين، وكانت تستخدم الفول بدل شظى العاج الرسمية، فتعد لكل من رفيقاتها بمقدار عشرة غروش وتضع المال تحت الوسادة وتوزع الورق قائلة: الفتحة بخمس فولات، ومحدودة. - ثلاث فولات. - فوقك خمس فولات. - جئت. - وأنا جئت، ورقك. - جوزان بالاس. - ثلاث صبيان. - ثلاث بنات. - وليكن معلوما من تأكل فولاتها تخسر فلوسها. ••• - اضبط لعبك يا سيدنا، كم ورقة أخذت؟ - اثنتين. - طيب، وفوقك مجيدي. - وفوقك مجيديان. - وثلاثة مجيديات. - وهذه الليرة. - لست ممن يهربون، ورقك؟
فأظهر المطران ورقه ضاحكا.
فقالت الست هند، غير «بلفتك» صرنا نعرفها، ورمت ثلاثة صبيان على الطاولة وخلطت الورق وما تبقى بيدها. - آمري لنا بالقهوة إذن!
فصفقت الست هند ثم صفقت فلم يلبها أحد، فصاحت، يا مريم يا ظريفة يا لطيفة، يقطع عمر الخدم!
ونهضت غضبة ناقمة فجاءت المطبخ فلقته خاليا، فسارت إلى الغرفة المجاورة له فرأت فيها نورا، فوقفت في الباب تسترق السمع، فإذا بمريم تقول: هذا آخر دور اجعلوا الدخول نصف بشلك عشر فولات، ففتحت الباب وصاحت بهن صيحة ألقت الرعبة في قلوبهن، ولكن مريم تشجعت فقالت تدافع عن نفسها ورفيقاتها: أنت يا سيدتي قلت لي أن أقتدي بالأكبر مني، وقد سمعتك مرارا ترددين هذا البيت:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه ... ... - يقطع الله عمرك! سدي فمك! وقحة، ثرثارة، وأخذتها بأذنها وصفعتها على خديها وقذالها، وراحت تلعن الساعة التي دخلت فيها هذه الفتاة البيت، ومرت في الدار فسمعت زوجها يغط فأيقظته بعنف قائلة: قم غط في غرفتك.
فاستفاق يوسف أفندي من حلم جميل ونهض عن الديوان وخرج إلى السطح يستنشق الهواء، وبين هو واقف هناك مرت مريم في طريقها إلى المطبخ فأوقفها سيدها بيده وحدق نظره بها دون أن يكلمها ثم جذبها إليه وطفق يقبلها.
وقضت مريم تلك الليلة تبكي وتفكر بالقس جبرائيل الذي لم يزرها منذ شهرين.
الفصل الخامس
أما القس جبرائيل فقد كان في هذه المدة بسوريا يتفقد شئون الرهبان هناك، ويبحث عن دير يقيم فيه قبل أن يصدر الرئيس العام أمره بنقله إلى لبنان، والقس جبرائيل لا يعطي الباغي مراده فيه، سئم الإقامة بالناصرة بين إخوان اعتزلوا الله لا العالم يتنازعون السيادة ويتألبون بعضهم على بعض، سلاحهم النميمة، والحسد حشو ثيابهم، فوطن النفس على هجر ديرهم، فقد أشاعوا عنه الإشاعات الكاذبة فسمعها تردد حوله ولم يفه إباء بكلمة حق أو كلمة باطل، ودسوا الدسائس ساعين به واشين فلم يحرك ساكنا عليهم، ورموه بالفحشاء فلم يحفل بهم، وقد طالما قال في نفسه: الكبير فيهم لا يكبر علي بغير ذنوبه ومآثمه، البعد أولى وأجمل.
ولكن الحالة في سوريا ليست أحسن مما هي في فلسطين، فبين هو هناك بدت له أمور كادت تزعزع إيمانه، واجتمع في أحد أديرة لبنان بالقس بولس عمون فاستطلعه أخبار إخوانه، فقال: حالتنا يرثى لها، فقد أمسى الدير ملطأ للمعاثر، وعشا للمفاسد، وسوقا للمكسب والارتزاق، فلا طريقة اليوم لمن يريد الانقطاع عن العالم غير طريقة النسك؛ النسك في البرية، ولعمري إن النوتي خير من راهب هذا الزمان. - والانضمام إلى البحرية خير الترهب لا شك، الطف اللهم بنا.
وأمعن الراهبان في الحديث وكل منهما مسترسل إلى الآخر مسرور بالاستزادة. - ولا أظنكم تنوون البقاء هنا. - كلا ثم كلا، سأسافر عما قريب إلى القاهرة لأدرس اللغة العربية في إحدى المدارس هناك. - وهل حضرتكم من أسرة عمون اللبنانية؟ - لا، أنا من فسلطين. - من أي ناحية؟ - من السامرية.
فأطرق القس جبرائيل مفكرا وبدا في وجه القس بولس شيء من الاضطراب، كان ندم على ما قال فقام من ساعته يعتذر إلى الزائر متعللا بالصلاة.
وبعد أيام عاد القس جبرائيل إلى الناصرة وهو حائر في أمر الراهب الذي جمعته به التقادير، فخاطب نفسه مرارا يقول: بيت عمون من السامرية، مستحيل، مستحيل، لا أذكر أن في السامرية أحد يدعى عمون، ولم لم أسأله عن إيلياس البلان يا ترى؟! إيلياس البلان، خطر في بالي أن أسأله فنسيت الاسم، ولا بد أن أجتمع به ثانية، غريب، غريب.
وما كاد يصل إلى الناصرة حتى أخذت تتراجع في أذنه صدى الوشايات والدسائس وقد تضاعفت في غيابه وازدادت خبثا وشرا، فصرفت باله عن تلك الصدفة وكادت تنسيه إياها، وفي اليوم الثاني جاء يزور أخاه ويتفقد حال مريم.
سنة وبضعة أشهر ولت، ومريم تخدم في بيت مبارك فتزداد نفورا رغما عما كانت تقاسيه، كرهت سيدتها وقرفت سيدها وهمت مرة بالفرار تخلصا من توحش الاثنين، ولكنها تمالكت نفسها قائلة: الأحسن أن أنتظر إلى أن يرجع القس جبرائيل، وكانت مريم تزداد تلعقا بالراهب حين تشاهده، فتود أن يظل قربها ليحميها من تصوراتها وأوهامها، تحبه وتحترمه وتخشاه، إذا حضر تقف قدامه كالنعجة بين يدي الراعي، وإذا غاب تشيعه بدموعها وتتبعه بأفكارها، وكانت تشعر أحيانا أنها كالعصفور قدام الأفعى، ومع ذلك لم تكن توده بعيدا عنها، وشد ما كان فرحها لما رأته قادما إليها بعد غياب شهرين، قبلت يده ضاحكة فأحس القس جبرائيل بدمعة سقطت على زنده، بكت فرحا وبكت حزنا، شكت إليه أمرها فطيب خاطرها ووعدها خيرا: قريبا أنقل إلى لبنان يا بنتي فآخذك معي ليطمئن بالك. - لا تطل غيابك هذه المرة، دخيلك، أحب أن أراك كل يوم. - سأزورك مرة كل أسبوع أو مرتين إن استطعت. - ألا يؤذن لي أن أزورك في الدير؟ - لا لا، إياك أن تفعلي ذلك، ابق في شغلك إلى أن يجيء يوم السفر فتسافرين معي.
ولكن سيطول أمر تلك الهجرة وقد يزول؛ لأن القس جبرائيل أدرك بعد أيام أن يد امرأة «مباركة» تشتغل في إهلاكه. - من بيت أبي ضربت، امرأة أخي تسعى لنقلي، تناصر الرئيس وزمرته علي، لا بأس، لا بأس، ولكن مصرع الباغي ذميم سيسافر الرئيس إلى لبنان وسيبقى القس جبرائيل مبارك في هذا الدير، ورجله على رأس الحية الرقطاء.
وهذه أول مرة سادت أحقاد القس جبرائيل على حلمه، فظل في الدير يدير شئونه بيد من حديد وعين لا تنام، وكان يزور بيت أخيه كل أسبوع ليتفقد شئون مريم بالرغم عما كان يقاسيه من أشياء في نظرات تلك الفتاة وكلماتها حار فيها لبه.
وفي ذات ليلة بعد أن ارفضت جلسة «القمار» في بيت مبارك وانصرف المقامرون، أظهر يوسف أفندي لزوجته اشمئزازه من تصرف رئيس الدير وحديثه. - يا هند، هذا القسيس خبيث منافق، فإذا كنت تحبين زوجك وتحترمينه لا تقبلي في بيتك من ينم على سلفك ويدس له الدسائس، وسلفك مثال الفضل والتقوى.
فسكتت زوجته هنيهة ثم قالت وهي تشهر الحرب عليه: وهذه الخادمة مريم شيبت رأسي، لم أر بزماني فتاة عنيدة، عتية، وقحة مثلها، وماذا بينها وبين أخيك القسيس؟ ألا ترى كيف يختلي بها كلما جاء يزورنا، وكيف ينور وجهها وتلعب عيناها حينما تراه؟ يوسف، أخوك لا يليق أن يكون في الدير وبالقرب منا، هتك حرمة بيتنا، فضحنا. - وأنت أيضا من أعدائه؟! أنت تناصرين الرهبان عليه؟! أنت تصدقين ... - أن مريم ابنته، نعم، وخير له ولنا أن يأخذ الفتاة ويسافر وإياها إلى حيث لا يعرفه أحد، أن يبعد؛ يبعد عنا. - هند، من كان بيته ... -لا يراشق بالحجارة، يا يوسف.
فاستشاط يوسف أفندي غيظا ووثب إليها رافعا يده، ولكن تمالك نفسه والتزم السكوت.
وبعد أيام دخلت مريم على سيدها صباحا تحمل إليه حسب العادة الأركيلة والقهوة وكانت - وقتئذ - سيدتها في الكنيسة، فوقفت أمامه والحرد يلوح في عينيها. - في وجهك خبر يا مريم. - لا تؤاخذني سيدي، أحب أن أترك البيت. - ولماذا؟ - أنت تعلم. - هل تخافين مني؟ وأخذ بيدها وأدناها منه ثم ضمها بلطف إلى صدره وجعل يقبلها ويطيب نفسها، فتفلتت منه وهي تقول: لا لا، أحب أن أترك البيت اليوم. - ولماذا، ألا تخبريني؟ - في كل السنين التي قضيتها في الدير لم تضربني الراهبات إلا مرتين، والست هند تضربني دائما كل يوم، صباح مساء لأقل الأسباب وبدون سبب، الست هند تكرهني ودائما تلعن أبي وأمي، وأنا أكرهها ولا أحب أن أخدمها. - طيب، لا تخدميها، ابقي في البيت ولا تخدميها، وأنا ... أنا - فاحتدمت إذ ذاك شعلة الغرام في جوارحه كلها - أنت خادمتي أنا، أنت مرمورتي.
وطوقها بذراعيه وقيدها بعينه فتبرمت وتأففت، وطفقت تبكي وهي تحاول أن تتفلت منه، فوقعت على الديوان فنهض بها يسكن روعها ويقول: لا تخافي، فلا أضرك أبدا امسحي دموعك، كوني مطمئنة البال، غدا أسافر إلى حيفا لقضاء بعض الأشغال فتسافرين معي تتفرجين على المدينة.
فخرجت مريم من غرفة سيدها وأوداجها تنتفخ وصدغاها ينبضان كالساعة الدقاقة.
وفي ذاك اليوم جاء القس جبرائيل فتضرعت إليه أن ينقلها من بيت أخيه. - ولأي سبب. - لا أحب أن أخدم هنا، أحب أن أسافر، إلى سوريا، إلى مصر، إلى أي مكان كان لا فرق عندي بشرط أن ...
ولأي سبب؟ هل حدث حادث؟ هل أهانك أحد؟ هل ضربتك سيدتك؟ - لا لا، معلمتي لطيفة ليس مثلها بين النساء، ومعلمي من أفضل الرجال، ولكني لا أحب أن أخدم في هذا البيت.
فاضطرب القس جبرائيل مما تخفيه مريم، ولقد طالما سمع شكواها ولم ينسب ما تبديه من القلق والضجر إلى غير الطفيف من الأسباب، أما الآن فبدأت تتجلى له الحقيقة في المسئولية التي اتخذها على عاتقه، ألح عليها أن تجهر بما تخفيه فتلجلجت وبكت. - أخدم في الدير عندكم. - ولكنك تكرهين الأديرة، وأنت الآن في بيت أماجد يحبك آله ويودونك، وإذا انتهرك سيدك فإنما يريد صلاحك، ومع ذلك فقد قلت لك: إنني أنوي أن أنقل إلى لبنان فأستصحبك إن شاء الله. - لا، لا، أحب أن أترك اليوم، فجهمها القسيس قائلا: هذا مستحيل يا مريم، ستبقين هنا إلى أن أنظر في أمرك، خرجت من الدير تحت رعايتي، فلا أعمل إلا ما يعود عليك بالخير. - وهل تنقلني من هنا؟ - إذا عملت بإشارتي. - أنا مطيعة لك رهينة إشارتك، لا تنسني، دخيلك، دخيلك. - وأخذت يده فقبلتها فاعترت الراهب هزة وردت وجنتيه خجلا وبين هو خارج التقى بأخيه في الباب عائدا من المحكمة. - ارجع تعش معنا. - لا، لا، غير ممكن. - وماذا جرى؟ - كلهم جبناء أخساء؛ إذا حضرت يعفرون وجوههم أمامي وإذا غبت يسعون بي وينمون علي. - والرئيس العام غير سياسته، فينبغي لك أن تظل في الدير إلى أن يتم لنا النصر. - لا أترك الدير مأمورا مهما جرى، داروا مريم داروها من شأني.
فقال يوسف أفندي واضعا يده على كتف أخيه ومحدقا به نظره: طمئني، أرح بالي، أنت تعلم أنني كذبت كل ما سمعت. - لا أحد غير الله يعرف ما في قلبي، ولا أبرئ نفسي أمام بشر غيرك؛ لأنني أحبك واعتبرك وأعزك، أقسم بالله وجروحات المسيح.
كفى كفى، صدقتك. - يوسف! أنت الوحيد، الوحيد في هذه الديار، لا يصدقني أحد غيرك.
فعانق أخوه وقد اغرورقت عيناه وراح القس جبرائيل وهو يوصيه بمريم.
ومضت على هذه الحال ستة أشهر ومريم تنتظر قرب خلاصها، والحرب بين القس جبرائيل والرهبان يتراوح أمرها بين المناوشات والهدن، إلا أنه لم ينته كما شاء الأخوان؛ الراهب والقاضي، ولا كما يشاء الله.
ففي صيف تلك السنة عاد عارف من المدرسة ببيروت، فهام بمريم لأول نظرة وكان نصيرها الثاني في البيت على سيدتها، فازداد الحال ارتباكا واضطرابا. - أنت يا أمي لا تطيقي الخادمات البارعات الذكيات، وكل مرة نتوفق إلى خادمة مثل مريم تطردينها من البيت. - وأنت مثل أبيك ومثل عمك «المفقوع»، لتخدمكم هذه الملعونة الوالدين، وخرجت الست هند من الدار تحتدم غيظا. - وقد أخطأت في وصف ابنها؛ لأن عارفا وقد علق الفتاة عاملها على طريقته الخصوصية لا مثل أبيه ولا مثل عمه، ولا هي أحست بشيء من القرف الذي كان يعتريها من قبلات أبيه، ولا بشيء من الجزع الذي يصيبها من وجود عمه قربها، بل شعرت مريم بروح ترف في البيت جديدة، نفحاتها تنعش النفس وتهيج العواطف. قلنا: إنها شعرت بذلك، فأضلتها حواسها؛ لأن الخيال في نفس الشاب أو الصبية يتحول بلحظة عين إلى حقيقة تلمس وتقاس، فكانت إذا جاءت إلى عارف بشيء تقف أمامه غاضة الطرف محنية الرأس، وإذا حانت منها التفاتة ترسل عينها - على غير علم منها - نظرة من نظراتها النواعم النوافذ؛ فيختلج فؤادها لابتسامة منه، ويخب الدم في عروقها مستبقا إلى خديها.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف الحارة بعد أن أطفئت الأنوار في البيت وساد السكون، نهض عارف من سريره يتلمس إلى غرفة مريم طريقه، وكانت الفتاة تنام وحدها في حجرة صغيرة تفتح على سطح ضيق صفت على حافتيه؛ دفعا للحوادث صناديق من الخشب والتنك وأواني من الفخار، وقد زرع فيها الرياحين والأزهار من حبق ومنثور وفل وياسمين، وكانت الليلة مظلمة فانسل عارف إلى جنب الحائط فوجد الباب مفتوحا فدخل آمنا ولم يكد يخطو خطوتين حتى تعثرت رجلاه برجلي الفتاة النائمة على الأرض قرب الباب، فركع إلى جنبها ومر يده على وجهها وهو يهمس اسمه في أذنها، سمعها تصعد الزفرات، سرت إليه حرارة جسمها، هب هواء الليل ففاحت في الغرفة روائح الفل والحبق والياسمين فأسكرته وسكنته معا، لبث قربها هنيهة يستنشق من شعرها وفي بيتها مزيجا من هواء البحر وشذاء الياسمين وعاد إلى سريره ساكن الجأش هادئ البال.
وظل على عادته هذه يزورها ليلا ويعللها نهارا بالوعود التي يزخرفها الشباب والغرام، فراحت الفتاة تمثل لنفسها بيتا في بيروت تكون فيه سيدة لا خادمة.
ولكن كأس الحب لا تصفو لبشر فكيف بكأس الشهوات؟ وقد شاهد عارف أباه مرة يقبل مريم فوقف مبهوتا يكذب ناظريه، ثم سأل مريم سؤالا أجابته عليه دموعها، فغلت مراجل الغيرة في صدره.
وفي ذات ليلة وهو يتلمس سبيله إلى حجرتها التقى بوالده على السطح، فجمد الدم في عروقه واحتدم النار في عينيه.
فابتدره أبوه قائلا: ما أشد هذه الليلة! لم أستطع النوم داخل البيت.
فسكت عارف وانثنى راجعا، فتعثر بإناء من أواني الفخار فأخذه بيده ورماه تحت السطح وهو يقول في نفسه: سألحقه به إذا لقيته ليلة ثانية هنا.
ومر على هذا الحادث أسبوعان، والابن ينظر إلى أبيه شذرا والأب لا يكلم ابنه إلا تكلفا، وكان عارف ومريم قد عزما أن يسافرا سرا إلى بيروت.
وفي هذا الأوان جاء الناصرة أحد أقاربهم؛ أيوب مبارك، ليراقب حصاد أرزاق له في المرج، فأقام عندهم بضعة أيام أو بالحري بضع ليال؛ لأنه كان ينزل باكرا إلى المرج ولا يعود حتى المساء، فظن يوسف أفندي أن وجود أيوب عندهم يردع عارفا عن غيه، ونهض ذات ليلة يغتنم تلك الفرصة الثمينة، وما كاد يصل إلى السطح حتى رأى عارفا خارجا من غرفة مريم، فصاح به قائلا: يا لعين، أتضطرني أن أراقبك حتى في الليل؟ ألا تنجو خادمة من شرك؟ إلى متى هذا التهتك؟ إلى متى هذا الجنون؟
فسمعت مريم صوت سيدها ووقفت واجفة عند الباب تسترق السمع.
وظل عارف مكانه ثابت الجأش هنيهة، ثم قال متهكما وهو يشير بيده إلى غرفة مريم: تفضل، تفضل.
وخطا خطوة نحو أبيه وهو يصر أسنانه غيظا. - ستندم يا كلب على فعلاتك. - سمع أذنك يا أبي سمع أذنك.
ووثب إلى أبيه يهول بيديه، فصفعه أبوه صفعة اصطدم منها بالحائط.
فلطمت مريم داخل الغرفة وجهها ولم تجسر أن تخرج إلى السطح.
وراح عارف يسب أباه وينذره بالويل، وأخرج من صندوقه تلك الليلة الخنجر الذي كان يحمله في بيروت.
وفي اليوم الثاني أطلع أمه على ما جرى فأعطت مريم أجرتها وطردتها من البيت، وأسرع يوسف أفندي إلى الدير فأوعز إلى القس جبرائيل أخيه أن ينقل الفتاة من بيته حالا، فاستمهله لذلك يوما واحدا.
ولكن الأقدار لا تمهل البشر ولا تحفل بتدابيرهم، رزمت مريم ثيابها وصرت أجرتها في منديل وارته في صدرها، وعولت على الرحيل صباح الغد إلى حيفا عملا بإشارة عارف الذي أوصاها أن تنتظره في نزل هناك، فيوافيها بعد يومين ويسافر وإياها إلى بيروت.
ولسوء حظها وحظ عارف وحظ آل مبارك أجمعين أن ضيفهم أيوب حال تلك الليلة دون ذا التدبير، وأيوب مثل نسيبه يوسف مزاجا، إلا أن الغريزة «المباركة» أشد فيه وأخبث، فما كادت عينه تبصر مريم يوم وصوله حتى نهمت نفسه إليها، وجعل يترقب الفرص لقضاء وطره، فراقب حركاتها وسكناتها دون أن يدعها تدري بذلك، واستبشر لما علم أنها تنام وحدها، وأيوب أفندي لا يرى للمقدمات في مثل ذي الأعمال لزوما، فلم يستوقف مريم مرة، ولا كلمها، ولا نظر إليها إلا خفيا، ولا أظهر إعجابه مثل غيره بحسنها وذكائها، فإن هي في نظره إلا جارية مثل الكثيرات من الجواري اللواتي عرفهن، لا تستحق الالتفات إلا في حالة واحدة.
وعاد من المرج مساء ذلك اليوم وهو يفكر بالفتاة ويعلل النفس بقرب الوصول إليها ولم يحفل كثيرا بما رآه في وجوه أنسبائه من دلائل الكدر والهم، ولا سأل أحدا منهم السبب في ذلك، ولا ألح على الست هند في اللعب لما رفضت معتذرة ودخلت إلى غرفتها تضجع باكرا على غير عادتها، وكان ارتاح إلى السكينة في البيت تلك الليلة؛ لأنها أفضل لقصده وأجمل، فنهض عند نصف الليل وهو لا يدري ما حدث ذاك النهار والليلة السابقة، ومشى في فناء الدار المظلم مارا بغرفة عارف فسمع فيها صوت أوراق تمزق فلم يكترث، وسار مسرعا إلى السطح.
وكانت مريم قد أرقت تلك الليلة من شدة الهواجس والغم فجلست في فراشها تصلي إلى العذراء لتوفقها في بلاد الغربة ونور القمر وقد تسرب إلى داخل الغرفة ينير وجهها، فاعتراها وهي تصلي النعاس، ولما وقف أيوب في الباب رآها جالسة مسبحتها بيدها، ورأسها يميد فوق صدرها، ثم استفاقت مذعورة كأنها حلمت حلما مخيفا، وخيل إليها أن شبحا واقفا في الباب فرفعت رأسها وصرخت إذ رأت الغريب صرخة سمعها عارف في غرفته، ونهضت تسارع إلى السطح مستغيثة فقبض أيوب عليها وأسكتها متوعدا، فتنشنشت الفتاة في قبضته الشديدة ومادت إلى الأرض كغصن هصرته الريح، وما هي إلا لحظة، فلاح هناك خنجر ثلاث مرات كوميض البرق سرعة ولمعانا، فصاح أيوب: أمان! أمان! وخر من تلك الطعنات صريعا، فأيقظ الصراخ الخادمات في غرفتهن قرب السطح، ففتحت لطيفة الشباك فشاهدت عارفا يجر شخصا برجليه من غرفة مريم، ثم وقف بعيدا عنه مبهوتا مذعورا، ثم عاد فقبض عليه كالمجنون ورماه تحت السطح ، فوقع فوقه صندوق من صناديق الزهور.
فصاحت لطيفة صيحة أوقفت عارفا هنيهة في عمله وراحت تولول وتلطم خديها. - مريم، مريم! اخرجي من البيت حالا يجب علينا أن نهرب الليلة هذه الساعة، عجلي! عجلي! روحي قدامي، وانتظريني عند البيادر.
وأسرع عارف إلى غرفته يلبس ثيابه، ولكن الخوف غلب الفتاة وزعزع عزمها، فطفقت تدور في الغرفة كالمجنونة لا تدري ما تصنع.
وكانت قد استيقظت إذ ذاك الست هند، فجاءت تركض والخادمات يركضن وراءها، فلما رأت مريم في تلك الحال وشاهدت الدم والخنجر على الأرض صاحت وهي تلطم منكبيها، يا بنت الكلب من قتلت؟ قتلت ابني؟ يا باطل! يا باطل! قتلت عارفا يا يوسف، قتلت ... فقالت لطيفة تطمئنها: عارف في غرفته يا معلمتي، عارف في غرفته، وأخذت بيد سيدها فأرته ما تحت السطح.
وكان هناك بعض الجيران، وقد أيقظهم الصياح وهم يقولون، مات، مات. - الخواجا أيوب يا معلمي.
فصفق كفا على كف. - من قتله؟
فقالت لطيفة: لا أعلم، لا أعلم. - اخرجي يا هند، اتركي الخنجر مكانه، واتركي البنت، اخرجي.
فخرجت الست هند وهي تقول لمريم التي همت أن تخرج أيضا: مكانك يا لعينة مكانك!
ثم أقفلت الباب واحتفظت بالمفتاح، وصاحت بالجيران المجتمعين تحت السطح اتركوا الجثة مكانها وأخبروا البوليس.
أما يوسف أفندي فراح يطلب عارفا في غرفته فلم يجده، فسأل لطيفة عنه فقالت: رأيته يلبس ثيابه، لعله عرف بما جرى راح يستدعي الطبيب.
فقالت الست هند: أسرعي أسرعي! وقولي لعارف أن يرجع حالا لا لزوم للطبيب.
فخرجت لطيفة وهي لا تدري ما تصنع.
وبعد نصف ساعة وصل إلى بيت يوسف أفندي مبارك ثلاثة من رجال الشحنة، فدلتهم الست هند على الجثة وفتحت لهم الغرفة المحبوسة فيها مريم.
الفصل السادس
من أرهب مشاهد الدنيا وأكملها في الساميات والسافلات معا مشهد في بلادنا، تتناهى عنده أغرب الصفات الطبيعية والسماوية والبشرية، مشهد منقطع النظير منحصر في بقعة من الأرض صغيرة، يجمع بين ما تدانى من أطرافها أكبر المتناقضات في مظاهر الوجود، من أغوار وأنجاد، ومن نيران تشتعل تحت الينابيع، وثلوج تذوب فوق الجبال، ومن مجد قدسه التاريخ وقداسة دنسها الإنسان، ومن إلهيات في أنوار الطبيعة تتهادى، ومعرات تعتس في ظلمات البشر، ألا فإن هناك درجات للنشوء والانحطاط في الطبيعة وفي النفس، أولها مثل آخرها باد للعيان، بل هناك هيكل أشعلت فيه مشاعل الحقائق الروحية وصفرت فيه رياح الأضاليل، سمعت فيه كلمات الله، وسمعت فيه قهقهة إبليس، فتجسدت الأولى في الطلول والآثار، واستحالت الثانية مدنا وأديانا وحكومات.
ألا في سبيل الله جمالك، أيتها البحيرة الزرقاء العين، الذهبية الجبين، الفضية الجوانب، الباسطة أذيالها تحت رجل طبرية الموحلة السوداء، المستظلة في ظلال الجبال الخضراء والبيضاء، الكامنة في قلبها البراكين، الزاهرة على ضفاتها الدفلى والفل والخزام، الشاخص إليها «الهرمل» وقد اعتم بالثلج وتسربل بالغيوم، المدفون حولها المجد والصلاح، وقد حجب الشوك ضريحهما وحنى فوقهما الشوكران، عروس الأردن هي تأخذ منه وتعطيه، فتستحيل الشريعة فيها حبا، والناموس جمالا، فيها يبتدئ سلم الطبيعة وسلم النفس، وفوقها درجات لتاريخ الأرض تقارن درجات في تاريخ الإنسان، فدرجات في أغوار الحياة وحياة الأحزان، أكثرها حزنا وأبعدها سرا تلك التي وقف عليها برهة أطهر البشر نفسا وأقدسهم كلمة، ثم ولى كما ولت آلهة الزمان، فنصب من ذكراه القدوس خيال يحجبه عن آل عثمان، مجد الرومان، وإن زهرة الشقيق التي كونت من دمه لتقف نائحة كل ربيع بين دخان الوثنية وشرر الإسلام.
ومن أبعد الرموز الطبيعية معنى وأحبها صوتا، تلك الينابيع الحامية التي تذوب فيها أحقاد الأرض ملحا وكبريتا، فتحملها المياه مرقرقة مسرعة إلى البحيرة الحلوة الفم المثلجة الفؤاد، وهذه في أعماق الأرض حقيقة الحياة الرائعة؛ تغلي الضغائن في صدور الناس ملحا وكبريتا فتلقى في قلب البحيرة؛ بحيرة الأبدية بل بحيرة المسيحية صفاء وعذوبة وبردا وسلاما.
وإن البحيرة التي كتب على مائها أغرب ما في التاريخ - تاريخ الطبيعة وتاريخ الإنسان - من الآمال والأحلام، وأعلنت حولها أقدس الأنباء السماوية والبشرية، لم تزل تجتذب إليها من كل حدب وصوب جماهير الناس من مرضى النفوس والأبدان، فتريهم أعجوبة الله في سمائها وأعجوبة الطبيعة في أرضها، يجيئها الحجاج فيغتسلون بمائها المقدس؛ تطهيرا للنفس ويؤمها أولو الأسقام تخفيفا لآلامهم واستشفاء منها، كبريت في تلك المياه يشفي الأبدان وحلاوة فيها تشفي النفوس، وهذه من أعاجيب بحيرة الجليل وينابيعها.
ولكن المقيمين في جوارها لا ينالهم من بركاتها مثقال ذرة؛ ذلك لأنهم يعبدون خيالا ولا يعرفون جمالا، وإن شقاء هم فيه؛ شقاء لا مثيل له في العالم لا في الجهة الجنوبية بلندن أو بنيويورك ولا بغيرهما، شقاء يفترش الأقذار ويلتحف الخمول ويشكر الله - إن مثل ذا الشقاء ليبعث إلى الكفر بالله. يهود طبريا أتفسد حالتهم أسمى الحقائق الروحية التي أنزلت في تلك الأرض أرضهم؟ أيقيمون عند ينابيع العجائب ويحرمون بركاتها؟ أمرضى النفوس والعقول والأبدان وفي مهد الشرائع الموسوية والمسيحية؟ على أن صاحب البيت أدرى بالذي فيه، ولعلهم أدركوا الحقيقة التي قلما يدركها من زار تلك الديار، فسخروا من بني الإيمان وذوي الأسقام اللاجئين إليها، وهؤلاء بالنسبة إلى الحجاج قليلون، ولا غرو، فالاستحمام في المياه المقدسة يعظم فضله بالمشقات، وإذا قضى المستحم نحبه فيها فهناك النعيم الأكبر، أما الحمامات المعدنية؛ حمامات طبرية ففضلها لو علم الناس أعم؛ لأن مشقتها أكبر وأشد، ولا عجب إذا أجهز على المريض فيها ولا بأس، فإن في الإجهاز تمام الشفاء، فهنيئا لمن يؤمها! وهنيئا لمن يموت فيها! إن الصابر على حمام كبريتي حام لكالصابر على ما في الحياة من النار والكبريت، والصبر باب الجنة، على أن السكينة هنالك، والبعد عن الناس، وجمال الطبيعة ولطف الهواء لتحول نوعا دون الاستشهاد، فتفعل بالنفس وبالتالي بالآلام الجسدية ما لا تفعله المياه.
قلنا: البعد عن الناس، وقد يستغرب ذلك؛ لأن الحمامات المعدنية في أوروبا أصبحت اليوم مشرعة الأصحاء ومحجة الأغنياء والأدعياء، فيجتمعون هناك كما يجتمعون في حلقة السباق؛ سباق الخيل أو في الأوبرا أو في القهاوي ليعرضوا نعيما هم فيه، أو ليبحثوا عن نعيم لا حجاب في بابه ولا حرج على أصحابه، فيعجبون بعضهم ببعض، ويفاخرون ويزعجون بعضهم بعضا، أما في طبرية فلا يجد الزائر حتى في إبان الموسم نعيما واحدا معروضا إذا استثنينا نعيم الاستشهاد، ليس هناك من يزعج النفس أو من يقلق البال، فالمستحمون والعمال إذا أضفنا إليهم صاحب القهوة والامرأة الوحيدة التي تتردد إليها لا يتجاوزون الخمسين عدا.
والضجر في الحمامات المعدنية من أنجع الأدوية للمصابين بالروماتزم - عفوا أيها الأستاذ - للمصابين بالدحار، فإن له رد فعل مدهشا، الضجر «حراقة» روحية إذا استعملها المريض عشرين يوما يرى العجب، ولكنها لا تفيد بعد ذلك إلا إذا كررت في حمام آخر، وكل ما يصرف النفس عنها يضعف مفعولها، فمن يرغب بالأركيلة مثلا ويرتاح إلى حديث القهوة - وفي حمام طبريا قهوة واحدة كما قلنا، وامرأة واحدة تتردد إليها - فلا يضجر تمام الضجر ولا يشفى تمام الشفاء. ••• - وهذا القسيس يا محمود من أغرب الناس، يعطيني كل يوم بشلكا لأجدد له الماء في الحوض صباح مساء، فما قولك؟ - بخيل، ولكنه أكرم من إخوانه. - وماذا تظنني أفعل؟ أدخل إلى الحمام فأقفل الباب وأدخن سيكارتي وأغني: «يا رائحة عالشام خذيني معاك» ثم أدعوه: تفضل يا محترم. - وهل هذا حلال يا أحمد؟ - حلال؟! المياه الكبريتية تطهر كل شيء، وهل هو أفضل من سواه، هذا الحوض العمومي يستحم فيه خمسون نفسا من أصحاب السوالف في وقت واحد ولا تجدد مياهه إلا مرة واحدة في الأسبوع، وقد سمعت الحكيم يقول: إن المياه المعدنية إذا استحم بها عدد من الناس تزداد المعادن فيها وتكثر منافعها، صل على النبي، ويظهر أن اليهود يفهمون ذلك، فما مرة سألني يهودي أن أغير له الماء - أركيلة يا طنوس - ولكن القسيس ابن حرام! فقد أحس بالطبخة، فنزل البارح ووقف في الحمام أمامي، فنزعت ثيابي والله وغطست فصاح بي: يا بليد يا حمار (الأبعد) هات «خيط مصيص»، فجئته به فربط السداد بالخيط وربط الخيط بوتد دقه إلى حافة الحوض، فصحت وأنا متظاهر بالجهل ومعجب بشطارته: والله يا محترم نحن أغبياء ما عندنا فكر، وصرت كل يوم أجدد لك المياه أي ساعة شئت، ولا أسلق حالي كل مرة وأعرض نفسي بعدئذ للشمالي أبي الموت. - إذن القسيس نفعك. - نفعني؟ وأنت أبسط منه، من يدفع بشلكا لأجدد له المياه حين يرى أن ذلك لا يكلفني غير سحب الخيط؟ وهذا الابن الحرام قطع عني البشلك بعد هذه العملية، نزل هو بنفسه البارح ورفع السداد ونزلت أنا صباح اليوم وقطعت الخيط، ما شاء الله أيغلبني قسيس أفندي؟ - ومن أين هذا القسيس؟ - لا أعلم والله، فهو قلما يكلم أحدا، ولا أحد يعرف اسمه. أعطنا قدحين عرق يا طنوس وأكثر من المازا. - وغير هذه الأركيلة. زبوني «أبو السلة» يا محمود أحسن من زبونك، فقد سافر معي البارح إلى تل حوم، وفلق رأسي بالسؤالات، ولكنه يخوف والله، حكيت له حكايات تطقطق الخواصر فما ضحك وما ابتسم مرة والله، وقد حرت في أمره أراه لابسا لبس البدو ولهجته لهجة نصراني من بلادنا، بالك ها هو.
ومر إذ ذاك رجل في زي الأعراب، طويل القامة نحيلها أشقر اللحية قطوب الوجه يلبس عباءة سوداء بسيطة، وكوفية من لونها شدت على رأسه حتى عينيه بعقال من الشعر. - يروح إلى البلد ماشيا وما هو بخيل والله، أعطاني ثلاث مجيديات البارح أجرة السفرة، والسواح الإفرنج - يلعن جدودهم - لا يدفعون ثلاث مجيديات إلى تلحوم، وأظنه يمشي إلى البلد كي لا يخالط الناس في العربة؛ فهو أيضا قلما يكلم أحدا. - محظيون السنة بالخرس، أهلا بهيلانة.
ودخلت إذ ذاك القهوة فتاة تلاوص وتتغنج، وهي قصيرة القد غليظة الجوانب وسيمة الوجه مخضبة مكحلة مبهرجة، فبادرها أحمد بالكلام قائلا: يا بنت الحرام أين كنت الليلة البارحة؟ هذه النطنطة لا تعجبنا أبدا، فإما أن تقيمي في المدينة وإما عندنا في الحمامات. - اسمعوا أخبركم ما جرى، كنت راجعة إلى هنا مساء البارح فاستوقفني في الطريق أحد البوليس، وقال: ما قولك بليلة نقضيها أنا وإياك في السجن؟ امشي، امشي، فترددت فهمس في أذني كلمات دغدغت قلبي، فسرت وإياه، وهو مثل القمر، وليس مثلك يخوف القرود، ولما وصلنا إلى دائرة البوليس حبسني في غرفة هناك ووعدني أن يرجع إلي بعد ساعتين، عشقته والله ، وأخذت أعلل النفس بقرب الاجتماع، فجاء بعد ساعتين يقول: اتبعيني، فمشيت طائعة فأدخلني دارا ثم أخرجني منه، ثم فتح بابا في بيت قريب من الدائرة، وقال: ادخلي، فدخلت فأقفل الباب وتركني وحدي، فإذا أنا بغرفة مفروشة بالسجاد وفيها سرير له قبة حمراء ومائدة ممدودة عليها الدجاج المحمر والأرز المفلفل والمحاشي والسمك، وعرق من أحسن ما شربت في حياتي ونقل فاخر، فقلت في نفسي: الله كريم، ليلة حظ هذه، وقلبي مشغول بالشاب وعيني مشغولة بالمائدة، ولبثت أنتظره وأغني: «يا عيني أنا الصابر على النار» وإذا بالباب انفتح ووقف فيه شخص وجهه مثل الصاج المقدح، ورأسه كرأس الثور وعيناه كعيني السعدان، فسقط قلبي من الخوف وذاب الكحل في عيني من الكمد، كلمني الغزال وسلمني إلى الدب. - يا بنت الحرام كنت عند مدير البوليس. - يلعن سحنته ما أعطاني ولا بارة. - تستأهلي أكثر من هذا، مليح، سامحناك، هات عرق لهيلانة يا طنوس، سألني عنك القسيس الليلة البارحة. - بالله؟ ماية قسيس ولا مدير البوليس. - ولكن القسيس هذا يريد أن تسافري معه، وحياة النبي، سألني البارح قائلا: يا ابني، ومن هذه الفتاة التي تظل عندكم في القهوة؟ فقلت: والله يا محترم هي الدجاجة الوحيدة بيننا أتحسدنا عليها، فزجرني ابن الحرام وقال: إنه سيكتب إلى القائمقام لينفيك من هنا. - يلعن لحيته هو والقائمقام ومدير البوليس مثل رجلي، وهل رأيت «أبو السلة» صبحته فما رد علي، وغمزته فلم يلتفت إلي؟! «أبو السلة» حلو، مثل القمر والله، وتنهدت هيلانة ثم قالت: الله ابتلاني بكم، سليلة القرود، ثم تنهدت ثم قالت كأنها تخاطب نفسها: اصطادني الغزال وسلمني إلى الدب، وهذه عيشتنا، يفرجنا ربنا علبة البقلاوة ويعطينا، يا طنوس! قنينة العرق.
الفصل السابع
في فصل الشتاء من تلك السنة، بعد أن أصيب بيت مبارك بتلك الفاجعة التي ألبستهم الحداد والعار، جاء قسيس إلى طبريا ليستحم بمياهها المعدنية، فاستأجر غرفة فوق الحمامات فريدة في بابها، أرضها كخريطة لبنان البارزة، وسقفها كالجو المرصع بالغيوم، وجدرانها كجذوع الصنوبر مرشقبة، وقد زينها العنكبوت بكرناش من الحرير، ونقشت الجرذان في زواياها المحاريب، وبنت السنونو أوكارها فوق الشبابيك، فأقام القسيس فيها ورفاقه هؤلاء الأطهار معتزلا الناس، إلا أنه كان يذهب إلى طبريا باكرا ليقدس في إحدى كنائسها ويعود إلى بيته الكثير السكان، فيقضي معظم وقته بالمطالعة والكتابة والصلاة، مناجيا السنونو والعنكبوت والجرذان، وفي ذات يوم هب الهواء ناقما عليه فبعثر أوراقه وخطف واحدة من بنات أفكاره، فوقعت في الطريق فعثر «الأعرابي» بها وهو سائر إلى طبريا، وقرأ فيها ما يلي: «وبعد أن جلس المعلم على كرسيه أمام تلاميذه سأله قائلا: ما هي الحياة؟
فقالت الرتيلاء: الحياة كفن من الحرير أحوكه لنفسي.
وقال السنونو: الحياة فراش من القش يتخاصم فيه الذكر والأنثى فيكسران بيضات العش.
وقال الجرذون: الحياة بضعة لحم منتنة، وفخ مخلع، وقط جائع.
فقال المعلم في نفسه: وكذلك في الناس، كل ينظر إلى الحياة من بيته، من عشه، من جحره، فيبني رأيه على تجاربه الصغيرة المحدودة؛ نتيجة ذلك الفوضى، أما الحقيقة فهي في جانب من ينظر إلى الحياة من السماء من فوق الأرض وسائر الأكوان، فالدين إذن - منزلا كان أم لا - هو أحسن في الأقل من فلسفة العنكبوت والجرذان.»
ثم قرأ على الجهة التالية من هذه الورقة ما يلي: «كلما فكرت بالماضي؛ ماضي حياتي ينقبض قلبي، أجمل الأسرار الدينية كلها وأنفعها سر الاعتراف، فهو مرهم لجروح النفس. لولاك يا ربي لمن يعترف المجرم الأثيم؟!»
فطوى الرجل الورقة ووضعها في جيبه وسار في طريقه إلى البلد يفكر بما حوته من الحكمة، ومن الصدف أن هذا الرجل جاء تلك الناحية لما كان القسيس هناك، ولكنه لم يقم عند الحمامات، ولم يكن قصده الاستحمام، فعلى شاطئ البحيرة بين طبريا وسمخ بيوت حقيرة شبه أكواخ منفرد بعضها عن بعض، يستطيع المرء أن يقيم في إحداها بعيدا عن الناس وقريبا من البلد، وهذا الغريب استأجر كوخا في أسفل الجبل إلى الجهة الجنوبية من قبور هناك لبعض علماء التلمود بين الحمامات وسن النبرا، وكان المقيمون في الحمامات والعمال يراقبونه ويرجمون بالغيب في أمره، ومن طبع الناس أنهم لا يستطيعون أن يجاوروا سرا دون أن يمنحوه اسما ويحيكوا له من عنكبوت ظنونهم ثوبا وقصدا، فلقبوا الرجل ب «أبي السلة» لأنه لم ير مرة مارا بلاها، وقالوا: جاء لا شك يتجسس للعربان، ولكن محمودا البحري رآه يكلم امرأة في تلحوم عرفته وسلكت قدامه مسلك الخادمة قدام سيدها.
وفي ذات يوم عاصف ماطر، بينا كان القسيس واقفا عند شباك غرفته يراقب هياج البحيرة، أبصر الغريب مارا في الطريق فدهش دهشة عظيمة واستدعى أحمد من ساعته. - أتعرف ذاك الرجل يا أحمد؟ - «أبو السلة» لا يا محترم، هو غريب جاء هذه الناحية منذ أسبوع. - وأين يقيم؟ - لا أدري والله، إلا أنه يجيء من هذه الجهة؛ جهة سمخ فيذهب إلى البلد. - وهو ذاهب إلى البلد الآن؟ - نعم، أظن ذلك. - راقبه عندما يرجع خفيا، واتبعه واهتد إلى منزله، خفيا أفهمت؟ وتعال أخبرني. وأعطاه بشلكا، فأخذه أحمد وهو يقول: أمرك يا محترم، محسوبك يا محترم.
أما الغريب فركب ذاك اليوم العربة التي تسير بين طبريا والحمامات ظنا منه أنها تقيه في الأقل الأوحال، ولكن عربة السلطان لا تخلف مثل ذا الظن في تلك الطريق وفي مثل ذاك اليوم، فكيف بعربة مخلعة متهدمة، سجوفها ممزقة، وأجزاؤها ملزقة، سقفها كالغربال، وعريشها مربط بالحبال، يجرها ثلاثة من الكدش الجائعة الناحلة المنهوكة، وتقل طابورا من يهود طبرية، وقنطارا من الأمتعة، وإن من يشاهدها عن بعد في مثل ذاك اليوم تسقط، وتعلو، وتكر، وتفر، فتلعب الرياح بخامها الممزق، وترشقها الطريق بأوحالها فتختفي تارة في الماء دواليبها، وتارة تغزل في الهواء، يظنها قاربا في البحيرة تتقاذفه أمواجها الهائجة، ومن سوء الاتفاق لتتم في تلك الساعة ضربات إسرائيل على الغريب كانت الفتاة هيلانة من المسافرين جالسة قباله، فجعلت تغازله برجليها، وترشقه بأوحال عينيها فتنشدح عليه إذا غارت العربة، وإذا انجدت يهوي عليها، فتجلع فاها مكركرة وهو ساكت صابر، وتصيح صيحات يردد صداها اليهود هاذرين هاذين. - روضيه يا هيلانة! - فارت الطنجرة يا هيلانة! - ارفعي الغطاء. ارفعيه! - أنزلي الستارة يا هيلانة! - «رايح فين يا مسليني يا بدر حبك كاويني.» - سدي الطاقة سديها! - سدوا «طيقانكم» يقطع الله أعماركم! حبيبي حلو ومحتشم، آه حبيبي!
فنظر إليها الغريب بعين رءوفة وخاطبها بلطف قائلا: وهل الحشمة تضرك يا بنتي؟ - الحشمة؟ مؤكد! تقتلني، إذا أنا احتشمت أموت من الجوع، وتموت ... وسكنت عند هذا منكسة رأسها. - إذا أنت احتشمت تحيين حياة سعيدة، تنجين من الأجلاف الأشرار وتكتسبين محبة الأفاضل من الناس. - الأفاضل؟ أين هم الأفاضل؟ في طبريا؟ اها ها ها ها! ما رأيت في حياتي كلها رجلا فاضلا، أبي قواد الله يبليه! وأخي ديوث الله يعميه! وكل الرجال مثل أبي وأخي. - فتجهمها الغريب قائلا: احتشمي يا بنتي تأدبي قد يكون بيننا الآن رجل فاضل.
فسكتت هيلانة وأطرقت مفكرة. ثم سألها الغريب: وهل أمك في قيد الحياة؟ - لا تسألني عن أمي، أمي!
وشرقت الفتاة بريقها واغرورقت عيناها.
ولما وصلت العربة إلى الساحة خارج البلد دفع كل من الركاب نصف بشلك إلى الحوذي، ودفع الغريب عنه وعن الفتاة، واجتازوا تلك الساحة - بل تلك البركة - غائصين في أوحالها ومياهها حتى الركاب، وسار الغريب تتبعه هيلانة، وما كادا يدخلان البلد حتى أبصرها البوليس فاعترضها في سبيلها قائلا: إلى الحبس، إلى الحبس.
فصاحت مستجيرة بالغريب: لا أروح، لا أروح. فتش عن غيري ما أكثر الغاويات في البلد، فتش عن غيري عرفت حيلتكم، دخيلك يا سيدي خلصني من البوليس، جئت أزور أمي، أمي مريضة، دخيلك خلصني منه.
فخاطب الغريب البوليس ونفحه ببعض المال، وقال للبنت: امشي يا بنتي، روحي في سبيلك. - كثر الله خيرك، الله يطيل بعمرك، أنت أول رجل فاضل عرفته.
ثم شخصت إليه هنيهة وأخذت بطرف عباءته قائلة: تعال معي، تعال معي، البيت قريب.
فسار الغريب وإياها يجتازان في أسواق المدينة - بل في سواقيها - حتى وصلا إلى زاروب معتم مسقوف يطفح بروائح يغمى على الثيران منها، ليس فيه غير أبواب مظلمة يكاد بعضها يلتصق ببعض، فدخلت الفتاة أحد هذه الأبواب المفتوحة، ودخل الغريب فإذا هما في ساحة موحلة يلعب فيها أولاد عراة تحت الشتاء، محاطة بغرف صغيرة على شكل صحن الدار في أحد الأديرة، فوقفت الفتاة قدام باب تقول للغريب: تفضل.
فوقف الرجل مترددا. - تفضل أعرفك بأمي.
فدخل، وإذا هو في كوخ مظلم وفي إحدى زواياه امرأة مريضة نائمة على الأرض وإلى جنبها طفل يبكي، فجلست في فراشها وجعلت ترضعه. - هذا كل ما كسبت البارح، وأعطت أمها بشلكين. - أمك نفساء. - أمي مريضة بالحمى؛ ولدت منذ أربعة أشهر ولم تزل في الفراش. - وأين أبوك؟ - أبي قواد الله يبليه، تركنا منذ سنتين. - وأمك؟ والطفل؟ فلم تجب الفتاة بل خاطبت أمها قائلة: يا أمي هذا الغريب أحسن إلي وهو أول رجل فاضل عرفته. - وجاء يتفرج على بليتنا، كثر الله خيره رح في سبيلك يا عم! رح في سبيلك.
فخرج الغريب من البيت وأومأ إلى هيلانة أن تتبعه، فأعطاها في الخارج بعض المال لتبتاع لأمها شيئا من القوت، والثياب، ثم قال لها: أتعرفين مدرسة اليهود عند الحمامات؟ والقبور هناك؟ في تلك الجهة فوق الطريق بيت منفرد ليس هنالك غيره، تعالي بعد غد فأكون هناك لي غرض معك، نهارك سعيد. - أمرك يا سيدي، الله يريك الخير، الله يطيل عمرك. وراحت إلى أمها تصفق بيديها وتقول: ليرة يا أمي ليرة، صدقيني، صدقيني، انظري بعينك.
وبسطت كفها أمام أمها في ذاك الكوخ المظلم فشع فيه قطعة من الذهب، فانقطع حليب الأم من الدهشة وجعل طفلها يبكي. - «حليقة» جيراننا كلهم لا تبلغ ليرة، يا أمي أي شيء أشتري لك؟ أشتري لك لحافا قبل كل شيء وأشتري فسطانا للصغير، وفسطانا لك أيضا، أمي لا تبكي دخيلك، غدا تشفين، وهذا الغريب أرسله الله، هذا الغريب من السماء جاء يفتقد الفقراء البؤساء مثلنا. - روحي إلى السوق واشتري لي فخذ دجاج وقالب جبن ورغيف خبز.
فسارعت هيلانة إلى السوق، فأبصرت الغريب واقفا أمام دكان يحدث صاحبه: هل عندك غير هذه الدجاجة؟ - مذبوحة اليوم وحياة الله! أقطع لك فخذا؟
فلم يدرك الغريب معناه، فقال: وهل تبيعون الدجاجة بالدرهم؟
فقالت هيلانة وقد وقفت إلى جانبه: ومن يقدر أن يشتري دجاجة كاملة عندنا؟ - أتريد دجاجة كاملة؟ يا حايم يا حايم رح إلى البيت وقل لأمك تذبح دجاجة حالا وهاتها.
فقال الغريب: بل دجاجتين.
ولو علم الغريب أن في باريس أيضا تباع الدجاجة أقساما؛ فخذا فخذا وجانحا لزال عجبه.
ثم وقفت عند ذاك الدكان فتاة صبية تحمل طفلا، فقالت: أعطني قوانص الدجاجة.
فوزن لها صاحب الدكان القوانص، وأخذ من الأقذار المتراكمة عند الباب جريدة فلفها فيها وتناول منها متليكين.
ثم وقفت الفتاة أمام رجل جالس في الوحل على حافة قناة الماء، وأمامه على الأرض يقطينة قسمها عدة أقسام، فابتاعت قطعتين منها وأعطته متليكا واحدا وراحت في سبيلها.
فقال صاحب الدكان للغريب: هذا يوم عيد عندها فقد قبضت «الحليقة». - «الحليقة»؟ وما هي «الحليقة»؟ - يا سيدي، أكثر يهود هذه البلد يعيشون على الحسنات التي تجيئهم من إخوانهم في أوروبا، وكل بيت يقبض من الحاخام أو القنصل قيمة معلومة كل شهر، هذه هي «الحليقة».
ووقفت عندئذ امرأة أخرى تحمل طفلا ويتبعها صبيان، فابتاعت فخذي الدجاجة ثم ثلاث قطع من اليقطينة وراحت في سبيلها، والولدان يركضان في قناة الأقذار ويصفقان جذلا. - أولادها كلهم. - نعم وقد يكون عندها غيرهم في البيت. - ولكنها صبية. - صحيح هذا، بناتنا يتزوجن صغيرات، وقبل أن يبلغن العشرين يبلغ عدد أولادهن - وأشار الرجل بيده كلها. - خمسة؟ - وستة أحيانا.
وكان قد عاد الولد إذ ذاك يحمل الدجاجتين، فأعطى الغريب هيلانة واحدة منهما ووضع الثانية في سلته.
وسار إلى سوق الخضر يقول لها: اتبعيني، فابتاع هناك شيئا من الكوسى والبندورة والبصل والثمار وملأ لهيلانة سلة منها وودعها قائلا: سلمي على أمك، وتعالي بعد غد إلى البيت الذي دللتك عليه.
وبينا هو عائد في طريقه منقبض النفس كسير القلب مما شاهد، مر قرب الشاطئ حيث تصب بواليع البلد في البحيرة، فرأى هناك النساء يملئن جرارهن من تلك المياه وقد مازجتها أقذار البواليع.
فمال بوجهه قرفا وحزنا وسار في طريقه.
فاتفق له أن مر ببيت الامرأة التي ابتاعت فخذي الدجاجة ، وكانت واقفة في الباب فألقى إليها السلام، فسارع إليه أولادها الثلاثة وهم حفاة عراة وعيونهم تحدق في السلة، فأعطى كلا منهم برتقالة فراحوا يصفقون ويرقصون. - وهل عندك غيرهم؟ - ولد آخر. - وكم عمرك؟ - ثلاثة وعشرون. - وهل تأذنين لي بالدخول؟ - تفضل تفضل.
فدخل الغريب إلى غرفة صغيرة مظلمة مفروشة بحصير واحد، وليس فيها من المواعين غير طنجرة وجرة وإبريق. - وأنت وزوجك وأولادك تقيمون في هذه الغرفة؟ - ونشكر الله دائما، حالتنا أحسن من حالة جيراننا، هم عشرة ومنهم شاب مزوج يقيم وامرأته وابنه مع والديه وأخوته في بيت مثل بيتنا هذا. - فودعها الغريب وراح يجتاز في جادات المدينة الضيقة المظلمة الموحلة المنتنة التي تكاد البيوت إلى جنبيها تصطدم وتقع بعضها على بعض، فطرقت أذنه رنات العود وأصوات المغنين، فقال في نفسه: وهم مع ذلك فرحون جذلون، سبحانك اللهم! - ولم يكن يصل إلى منعطف الجادة حتى شاهد في الشارع جماعة، بينهم عواد وضارب قانون وناقر دف، واثنان يحملان طبقا عليه أنواع الحلوى، وهم يعزفون على آلات الطرب ويغنون، فاستطلع أحد التجار خبرهم، فقال له: وهل أنت من باريس؟! ألا تعرف الزفة؟! عرس يا شيخ العرب، عرس، وهذه هدية العريس إلى العروس، والليلة يجيئونه بها.
فضحك الغريب ضحكة اليائس وراح يردد في نفسه قائلا: يتزوجون ويتكاثرون ويعيشون على الحسنات، ويقيمون في الأقذار ويشربون مياه بواليعهم، وعندما يبعث الله إليهم باعثا مطهرا كالطاعون أو الوباء يجيء هؤلاء المحسنون من الإفرنج، والادعاء في إحسانهم أشد وباء من الطاعون فيحاولون مقاومة العناية الإلهية، يبنون الصروح والمستشفيات ليعيش فيها أفراد منهم لا رزق لهم في بلادهم، فيستثمرون بؤس العباد وأقدار البلاد ويعترضون صنع الطبيعة؛ فيحاولون حفظ ما يريد الله استئصاله، وكم مرة جاء الوباء يريح طبريا من شقائها وويلاتها فناهضه هؤلاء الإفرنج وردوه خائبا.
هنيئا لوحوش البرية! هنيئا لأطيار الفلاة! لهفي عليك يا طبرية ولهفي على أبنائك، يتزوجون ويتكاثرون ويعيشون في البواليع على الحسنات، لا أثمرت خليقتك يا رب، تبارك عقم الرمال والصخور، تبارك عقم البحار، الرجل الذي هو مليك مخلوقاتك كلها إنما هو أضعفها وأحطها، والامرأة أمة الرجل. هذه طبرية وهي منذ بناها هيرودس حتى اليوم مهد الخمول والجبن والعبودية، بل كان اليهود مرتقين عزيزي الجانب لما بنيت قديما فرفضوا أن يسكنوها، فجلب هيرودس إليها جماعات من الأجلاف والأوغاد والشحاذين فأقاموا فيها ناعمي البال، فهل يهود طبرية اليوم من نسل أولئك الناس يا ترى؟ تبارك عقم الرمال والصخور، تبارك عقم البحار.
وجلس الغريب على شاطئ البحيرة برهة، وكانت قد سكنت الريح وكف المطر، فاستخرج من جيبه كتابا وقرأ بضع صفحات وصلى صلاة المساء، ثم نهض وسار في طريقه عائدا إلى منزله، وبينا هو مار بالحمامات راقبه أحمد واتبعه خفيا، فاهتدى إلى بيته وعاد يخبر القسيس.
وفي تلك الليلة أطلع أحمد إخوانه في القهوة على ما شاهد هناك. - والله يا أحمد هذا الرجل «أبو السلة» أمره عجيب، له قصة عجيبة لا شك. - ما لنا وله؟ هات العرق والنقل يا طنوس. - اسمع بالله، وللقسيس غرض معه، والله أظن أن للاثنين علاقة بالفتاة. - أي فتاة؟ - أبو السلة مقيم فوق الطريق قرب القبور، وامرأة ... وأشار أحمد بيديه أن الامرأة حبلى. - وما ظنك؟ يمكن أن تكون امرأته. - ويمكن أن تكون ابنته. - وما غرض القس يا ترى؟ - قد يكون علم أن هناك فتاة، قسيس أفندي ابن حرام - الله يوفقه - اشرب، اشرب.
أما القسيس فبات بعد ذلك يراقب الغريب، فلما شاهده في أصيل اليوم التالي ذاهبا إلى طبريا سار توا إلى البيت الذي أهداه أحمد إليه، فالتقى قدام الباب بفتاة مشحوبة اللون ثقيلة الحركة عيناها ذابلتان والكآبة بادية في وجهها، فألقى إليها السلام فردته واجفة. - كأنني عرفت الرجل المقيم معك يا بنتي، فجئت أتحقق ذلك. - وماذا تريد؟ - لا شيء سوى التعرف والألفة، أنا غريب هنا أليف الضجر. فجزعت الفتاة وهمت بالدخول إلى البيت. - لا تخافي يا بنتي، فقد أكون متطفلا ولكن الغريب إلى الغريب نسيب، من هو الرجل المقيم معك؟ - أبي. - هذا ما ظننته، ومن أين أنتم؟ - من الكرك. - واسم أبوك؟
فلفقت الفتاة اسما ثم قالت: تفضل زرنا عندما يكون أبي هنا، ودخلت البيت وأقفلت الباب، فعاد القسيس وهو حائر في تصرف الامرأة مشكك في قولها.
وبينما هو عائد إلى غرفته في الحمام التقى بالغريب في الطريق، فتبادل الاثنان نظرة سريعة وكل منهما سائر في سبيله، ثم التفت الغريب كأنه يريد أن يتحقق ظنا فرأى القسيس واقفا يلتفت إليه. - هو هو بعينه، نبذ الثوب وتزوج، سبحانك يا رب.
وفطن القسيس إذ ذاك إلى تلك المقابلة في لبنان وتذكر السؤالات التي سئلها، فقال في نفسه: الأوفق ألا يعلم بوجودي هنا.
أما الغريب فلما وصل إلى البيت أخبرته الامرأة بزيارة القسيس وسؤاله عنهما.
فرفع يده إلى جبينه متبحرا، هو بعينه؛ هو القس بولس عمون ذاك العالم الفيلسوف الذي قابلته في لبنان، وهذه الورقة التي عثرت بها عند الحمامات لا شك أنها من أوراقه، ثم قرأ فيها ثانية: «كلما فكرت بالماضي؛ ماضي حياتي ينقبض قلبي، أجمل الأسرار الدينية سر الاعتراف ... لولاك يا ربي لمن يعترف المجرم الأثيم؟»
ثم قرأ ما كتب في الجهة الثانية وقال: ليس هنا أحد يحسن مثل هذه الأشياء ويكتبها، والاعتراف! الحق معه لمن يعترف المجرم الأثيم لولاك يا رب؟
وبات الغريب حائرا بائرا تلك الليلة يفكر بالقس بولس عمون وبإيلياس البلان، واستيقظ صباحا وجاء إلى الحمامات ليقابله، فقيل له: إن القسيس سافر مساء البارح.
الفصل الثامن
لا نظن القارئ يجهل الآن الغريب في زي الأعراب المعروف بأبي السلة والفتاة المقيمة معه، ولكنه يتوقع شيئا من أخباره قبل مجيئه إلى طبريا ومن قصة الفتاة بعد أن ألقيت في السجن، فإن تلك الدعوى دعواها كمثل الكثير من الدعاوي التي تسمع في محاكم البلاد فتخفى حقيقتها على رجال الشحنة والقضاة، أو إنها تخفى عمدا وعدوانا حبا بكسب، أو إرضاء لصاحب نفوذ، أو تزلفا لذي أمر، فيبرأ مذنب، ويتهم بريء ولا يذنب - الحق والعدل - في كلا الحالتين غير الحكومة الأثيمة.
وإننا لنسرد الآن إيجاز خبر القضية التي ألبست بيت مبارك عارا لا تدثره الأيام، وأقامت رجال الحكومة وأقعدتهم ، وأشغلت القس جبرائل عن خصومة الرهبان، واضطرته في نهاية الأمر إلى أن يخرج من الدير.
ما كادت تشرق الشمس على تلك الجريمة حتى ضجت الناصرة بأخبارها وتعددت حسب العادة في مثل هذه الحوادث الإشاعات، فمن الناس من قال: إن يوسف مبارك قتل ابن عمه غيرة على عرضه. ومنهم من قال: إن مريم سبب الجريمة والست هند مرتكبتها. ومنهم من أشاع أن للرهبان أصدقاء الست هند يدا فيها، وما أحد ذكر عارفا، بخير أو بشر؛ ذلك لأن الشاب كان متغيبا معظم الوقت عن البلد، ولم يخطر أمره في بال أحد من الناس إذا استثنينا المدعي العمومي.
ولما نمى الخبر إلى القس جبرائيل صباح ذاك اليوم هرول إلى بيت أخيه يستطلعه الحقيقة، وكان يوسف أفندي قد استنطق العشية لطيفة، فأخبرته بعد كثير التردد بما شاهدت، فأخبر أخاه القسيس وسأله رأيه في تلك المحنة السوداء، وليس يوسف مبارك أبا رومانيا ليجلس في كرسي القضاة فيحكم على ابنه المذنب بالسجن أو الموت، وإنما الضعف البشري والحنان الأبوي سولا له الكذب، فقال: إن عارفا كان غائبا ليلة ارتكبت الجريمة ولم يزل، فوافقه القسيس في ذلك على شرط أن يساعده في خلاص الفتاة المتهمة زورا وظلما.
ثم ذهب القسيس إلى السجن فقابل مريم وسألها أن تصدقه الخبر، فقالت: إنها لا تعلم شيئا، وأصرت على إنكارها، وكان الهلع قد استولى على الفتاة فأمست قليلة الكلام، كثيرة الأوهام، على أنها لم تغير من قصدها مثقال ذرة ولم تقر أبدا بما كانت تعلم، قالت: إنها لا تدري من القاتل، ولم تقل غير ذلك، وأقسمت يمينا للقس جبرائيل إنها بريئة.
وظلت الفتاة أربعة أشهر في السجن تقاسي مر العذاب من آلام ظاهرة، وآلام خفية، ريثما تبحث الحكومة وتحقق في الدعوى.
وقد قيل: إن المدعي العمومي أظهر في الإجراءات من إصابة الرأي، وطهارة الذيل، وعفة النفس ما قلما شاهده أبناء الناصرة في أمثاله، كيف لا وقد استنطق بيت مبارك كلهم من الست هند الجليلة حتى العشية؟ هذا ما عرفه الناس وقد فاتهم أن يوسف أفندي وكلماته كانت تحرك في كل هذي الإجراءات قلم المدعي العمومي ولسانه.
وقد شهد يوسف أفندي نفسه أنه ساعة ارتكبت الجريمة كان نائما، وأن ابنه عارفا غائب منذ أسابيع، وأنه لم ير ساعة جاء يلبي صراخ الخادمات غير الفتاة مريم في غرفتها والجثة تحت السطح، وكذلك شهدت الست هند والخادمة ظريفة، أما العشية فقالت تزيد على ذلك: إنها حين فتحت شباك غرفتها رأت رجلا لابسا رداء أسود يسحب الجثة من غرفة مريم ويرميها تحت السطح، ولكنها لم تر وجهه.
ثم جاء المستنطق والقائمقام إلى موقع الجريمة يفحصان المكان ويدققان النظر في هيئته وشكله، فوجد المستنطق أن للسطح درجا من الحجر يصل إلى نصف الحائط، فيظل بين آخر درجة منه والأرض علو مقداره أربعة أذرع، يستطيع أن يثب إليها أي كان من الرجال.
فقال المستنطق وقد انجلى له الأمر وانكشف السر: إن الجاني تسلق هذا الجدار إلى هذا الدرج إلى هذا السطح واتخذ بعد ارتكابه الجريمة ذات الطريق هاربا، فأسر إليه إذ ذاك القائمقام ما يعرفه بنفسه من تردد الرهبان على بيت يوسف أفندي وانشغال قلب أحدهم بحب مريم، فسكت المستنطق إذ ذاك وأوقف الإجراء والاستقصاء.
أما مريم فلم تكن لتقر بما جرى لها في بيت مبارك، وأنكرت أنها تحب أحدا في البيت أو في المدينة، أو أن أحدا في البيت أو في المدينة يحبها، إلا أن الست هندا ألفتت نظر المستنطق إلى القس جبرائيل قائلة: إنه هو المفتاح الوحيد لقلب مريم، وقد يكون المغري على قتل أيوب مبارك؛ لأن الفتاة تشكو إليه الصغير والكبير من أمرها دائما، وشد ما كان شماتة الرهبان وشد ما كان سرورهم لما استدعي القس جبرائيل إلى سراي الحكومة ليستنطق مثل سائر الناس، فامتثل القسيس أمر المدعي العمومي، وبعد أن أجابه على سؤالاته كلها زار مريم في السجن وعرفها مطمئنا أن ما تقوله في كرسي الاعتراف لا يطلع عليه غير الله والكاهن، فاعترفت له بكل شيء؛ بفعلات أخيه وتحبب ابن أخيه لها، وبقتله أيوب مبارك وباغتصابه إياها، وجعلت إذ ذاك تبكي فانتبه القسيس إلى حالتها وجاء بعد أن عرفها يسأل القائمقام الإسراع في استماع دعواها؛ لأن الفتاة حامل، وقد ترتكب الحكومة جريمة لا تغتفر إذا داومت التأجيل من أسبوع إلى أسبوع ومن يوم إلى يوم.
وفي أوراق التحقيق التي رفعها المدعي العمومي إلى المحكمة، ويوسف أفندي عضو من أعضائها، قال: إنه بعد طويل البحث والتمحيص والاستقصاء ظهر أن القتيل مطعون في ظهره ثلاث طعنات بخنجر وجد مرميا على الأرض - وهذا، وايم الله، يستوجب طويل البحث والاستقصاء - وأن رأسه مكسور من صندوق الزهور الذي وقع فوقه - وهذه من اكتشافات المدعي العمومي النير الذهن الذكي الفؤاد - وأن الطعنات في ظهره وحدها لا تسبب الموت - هنيئا لحكومة عمالها علماء أطباء فقهاء - فلو فرض أن الفتاة قاتلة أيوب مبارك فليست هي التي رمته تحت السطح، والعشية لطيفة تشهد على ذلك، والمدعى عليها تقول أيضا: إنها لما كانت في قبضة أيوب مبارك رأت رجلا يطعنه في ظهره فهلع قلبها وأغمي عليها فلم تر غير ذلك، فلو فرض أنها هي القاتلة فينبغي أن يكون لها شريك في الجريمة، وحكم المصحف الشريف في سورة يوسف يصح في هذه القضية - وهذا منتهى الذكاء والبراعة في تحقيق المدعي العمومي - إذا كان قميصه قد من قبل فصدقت وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. والقتيل طعن من دبر ساعة كانت الفتاة مريم في قبضة يده، وهو فوق ذلك طويل القامة فلو فرض أن الفتاة هي الطاعنة تلك الطعنات لوجب أن تكون الطعنات في أسفل ظهره لا بين كتفيه، فمما تحقق من موقع الجريمة إذن ومن شهادات الشهود يستدل أن رجلا، وقد يكون لصا، تسلق الجدار إلى الدرج ومنه إلى السطح قصد السرقة - ليهنأ العدل بأربابه - فلما رآه أيوب مبارك قبض عليه فطعن اللص أيوب تلك الطعنات ورماه تحت السطح وفر هاربا!
وبناء على ذلك برأت المحكمة مريم وأطلقت سراحها، وأوقفت الإجراء في الدعوى لظنها أن المجرم راهب لا لص كما ادعى المدعي العمومي النير الذهن الذكي الفؤاد.
وبرأ الناس أيضا مريم، ولكنهم لم يبرئوا بيت مبارك، فكانوا إذا ذكروا الحادثة يقولون: «يا للعار!» حانقين، ولم يقل واحد منهم: «يا حرام!» آسفا.
واضطر يوسف أفندي أن يسافر إلى سوريا؛ هربا من سهام الرأي العام، وتخفيفا لمضض الآلام التي أصابته من هذه الفاجعة، ورغبته بالاجتماع بابنه عارف ليطلعه على ما جرى ويعود به إلى البيت.
أما الست هند فلم تفتأ أن تنشر الأكاذيب عن سلفها القسيس وتشتغل سرا وجهرا في نفيه من الدير، وإن الاهتمام الذي أظهره في هذه الفاجعة لمما يحقق ظنون بعض الناس ويثبت حجة الرهبان عليه. وكذلك كان، فثار الرأي العام عليه وصار إذا مشى في أسواق البلد يشار إليه بالبنان: هذا مخلص مريم وأبوها. وإذا أقام في الدير لا يسمع ما هو أخف من ذلك وقعا على أذنه وقلبه.
وقد حار القسيس في أمر مريم لما خرجت من السجن وحالتها تشير إلى ما هي فيه، فأين يذهب بامرأة حامل؟ إلى من يأخذها وهي اليوم لا تستطيع الخدمة، بل هي في حاجة إلى من يخدمها؟ جاء بها إلى الدير فأنزلها في غرفة هناك ريثما يفكر في أمرها وفي مصيره، فهاجت عليه خواطر الرهبان وتهددوه والفتاة بالطرد.
ولقد طالما قال: الزهد في الأديرة أضحوكة سفيهة؛ خداع وضعف وجبن وخباثة، والنسك في الأديرة تجديف على اسم الله القدوس.
وها قد حان الوقت ليعمل بقوله، فوطن النفس على الرحيل ومريم؛ ليخلصها مما هي فيه، لينقذها من عار يكتنفها، ليكون لها عونا في محنة جرها هو عليها إذ أدخلها خادمة في بيت أخيه، فجاء بها إلى شاطئ البحيرة متنكرا في زي العربان؛ ليظل بعيدا عن الناس غريبا، واستأجر بيتا خارج الحمامات عند مقابر علماء إسرائيل، فأقام وإياها فيه وهو يقول: سأبني قرب البئر صومعتي وسأحرق الحبل والدلو، سأقيم عند الماء وأعف عنها، هذا هو النسك الحقيقي، هذا هو الزهد المقدس.
ومع أنه أقدم على ذا العمل الخطير ثابت القدم، جريء القلب، فلم يشأ أن يطول أوانه، ويذكر القارئ أنه عند وصوله إلى تلك الناحية سافر مع محمود البحري إلى تلحوم لغرض جوهري يختص بمريم، فإن له في سهل الغوير بيتا وبعض أملاك، ولم يشأ أن تقيم الفتاة هناك وهي في حالتها الحاضرة، فبعث أحد أجرائه إلى حيفا بكتاب إلى عارف ابن أخيه يبشره فيه ببراءة مريم ويسأله أن يوافيه حالا إلى البيت في سهل الغوير.
الفصل التاسع
- ولكنه لطيف كريم، يا أمي، وعدني ببيت وبعريس إذا قبلت نصيحته وأصلحت حالي وندمت على خطاياي. - هل هو كاهن نصراني؟ - لا هو رجل غني، له أملاك في جهة تلحوم وعنده أجراء، ويريد أن أقيم هناك معهم فأخدم في بيته ويزوجني بشاب ظريف ابن أحد أجرائه. - ما لك وهذا التلفيق، هو خداع منافق مثل سائر الرجال، كم يدفع أجرتك في الأسبوع؟ - مجيديين. - مجيديين فقط؟ اطلبي منه أربعة مجيديات، يدفعها، وحق الله إذا كان يحبك يدفعها وابقي معه إلى أن يسافر إلى بلاده، ثم عودي إلى شغلك، ولا تغرك تلفيقاته، من يعيشني إذا بعدت عني وأنا الآن مريضة، وافرضي أنني شفيت غدا فلا أحد يلتفت إلي، ولت أيامي، يا بنتي، كبرت وشبت من الويل والشقاء، ألا ترين كيف هجرنا ذاك اللعين أبو هذا الولد، لا عاشت الأولاد، ولا عاش الرجال!
وكان الطفل إذ ذاك نائما فاستفاق وجعل يبكي، فجذبته بعنف إليها ودقت برأسه على صدرها وهي تقول: ارضع ترضع السم، ارضع ترضع البلاء، سأرميك في البحيرة يوما ما وأرتاح منك ومن بذرة أبيك، هاتي الإبريق يا هيلانة، أحس أن في جوفي أتون نار، آه ما أحلى الموت! هنيئا للموتى! - أنت دائما يائسة يا أمي، ويحق لك أن تفرحي اليوم. - نعم يا بنتي، الجنة التي نحن فيها تفرح القلب، اسمعي ألم تقولي لي: إن الامرأة التي مع هذا الرجل حبلى؟ - بلى. - ارجعي إذن إلى بيته، وابقي عنده إلى أن تلد فأخبرك بعدئذ ما تفعلين، واطلبي منه أربعة مجيديات كل أسبوع، أفهمت؟ أواه! أين جمالي يخدمني الآن؟ فإني الآن أعرف كيف أنتفع به، كفاك، كفاك يا بن الستين كلب! قطعت ثديي، هس! لا تبك، لا تبك. الإبريق يا هيلانة! احترق قلبي والله، احترق كبدي. أفهمت ما قلت لك؟ اطلبي منه أربعة مجيديات كل أسبوع، وهبيه البيت والعريس. - وربما كان هو العريس بنفسه، والله يا أمي! هو شلبي وكريم ولطيف وغني، أحبه والله أحبه. - الله يعمي قلبك، حمارة، دابة، ماذا يريد الرجل من بنت الهوى؟ زواجها؟ لم تزالي بسيطة يا هيلانة، يتمتع بك ويتركك مثلما تركني ذاك النذل، الله يبليه بالبرص، الله يبليه بالطاعون، أتعرفين ما كنت أصنع لو كنت اليوم صبية جميلة يا بنتي؟ أعطيني الإبريق! لو كنت اليوم صبية جميلة لبنيت علية على شاطئ البحيرة أكرسها للغرام وللموت فأمتص فيها حياة الرجال وأجعلهم بعد ذلك طعما للأسماك، أواه! روحي إلى شغلك يا بنتي، أعطي وانسي! ولكن لا تنسي أن تطلبي من معلمك أربعة مجيديات.
وعادت هيلانة إلى بيت القس جبرائيل لا تعرف بأي نصيحة تنتصح: أبنصيحة أمها، أم بنصيحة الغريب سيدها؟ ولكنها استسلمت إلى التقادير وظلت تخدم القسيس ورفيقته شهرين لتطبخ وتغسل الثياب وتجيء إلى البلد تقضي حاجاتهما وتبتاع لهما زادا، وكانت ترافقهما في نزهاتهما أيضا، كأنها تقيم معهما رفيقة لا خادمة، وكان سيدها يحسن إليها ويرشدها ويعاملها ومريم معاملة واحدة.
ولم تكن مريم لترضى بذلك، فازداد غمها واحتدمت نار الغيرة في موقد أحزانها؛ فنفرت من هيلانة ولم تتمالك نفسها فأخذت تخشن لها الكلام وتسيء معاملتها، وكانت هيلانة إذا حدثت مريم تكثر من ذكر الرجال وتردد بعض أقوال أمها البذيئة. - قلت لك مائة مرة: لا ترددي على مسمعي مثل هذا الكلام. - لا تؤاخذيني، ولكن مثلك لا تشمئز من ذكر الرجال. - سدي فمك. - أمرك يا معلمتي، ولكني طالبة الإفادة، سمعت الناس يقولون: إنك زوجة معلمي ولست ابنته. - هذا لا يعنيك يا هيلانة. - بلى يا معلمتي، هذا يهمني، فإذا كنت زوجته لا أفسد - والله - بينكما، بل أعود إلى بيتي، إلى شغلي. - وما معنى كلامك؟ - معنى كلامي: إذا كنت زوجة معلمي فرزقي إذن على الله، ولو أحبني فأنا لا أفتن بينكما.
فلم تتمالك مريم أن ضحكت، فتشجعت هيلانة وتمادت بمثل ذا الحديث، فأسكتتها مريم وضربتها.
فشكتها إلى القس جبرائيل فطيب خاطرها ونصح لمريم أن تعاملها بالحسنى. - لا نقدر أن نغير خادمتنا كل أسبوع يا بنتي، ونحن نبتغي الستر والبعد عن الناس، ولا نقدر أن نعيش هنا بلا خادمة، فاصبري عليها من أجلي.
وبعد أيام بعث القسيس هيلانة برسالة إلى أجيره في تلحوم، فأدتها وجاءت بالجواب، وفي عودتها عرجت على طبريا لتزور أمها، وكانت قد تعافت فأخبرتها بما جد في أمرها. - الحق معك يا أمي، كنت أظن أن البيت في تلحوم قصر وإذا هو كوخ، وأن الشاب ابن أجير معلمي ظريف وإذا به مثل القرد، والامرأة التي معه خبيثة شرسة، وأظنها ابنته أكرهها من كل قلبي، ضربتني بنت الكلب وعيرتني، والله لو لم تكن في تلك الحالة لأخذتها بشعرها ومرغت فمها بالتراب، لكسرت رأسها والله. - وهل قرب يوم ولادتها؟ - لا أدري، ولكني سمعته يقول لها: إن هذا شهرها، غريبة والله أطوار هذا الرجل؛ فقد أقام في بيته حاجزا من الخام، فأنام أنا والامرأة في شقة منه، وينام هو في الشقة الثانية، وما رأيته مرة يقترب منها لا ليلا ولا نهارا، وقد راقبته مرات في الليل وأنا أتناوم، يظهر يا أمي أنها ابنته. - لا فرق ابنته كانت أو امرأته، فهو يحبها وهو غني أليس كذلك؟ - بلى. - إذن ينبغي أن ننقل من هذا البيت إلى حارة أخرى في قلب البلد، فقد دبرت الأمر وإذا سمعت كلامي وعملت بإشارتي نغتني، ابقي اليوم عندي تساعديني في النقل، وغدا تعودين إلى بيت معلمك.
وفي اليوم الثاني عادت هيلانة تحتفظ بوصية أمها وتحمل إلى القس جبرائيل جواب أجيره في سهل المغير، وقد قال فيه: إنه سافر إلى حيفا وبحث هنالك عن عارف فلم يجده ولم يسمع له خبرا.
فمزق الكتاب وملامح الغيظ والفشل تبدو في وجهه. - وأين كنت الليلة البارحة؟ - نمت عند أمي. - حسن، ولكنني أسألك ألا تتغيبي في هذه الأيام أبدا، لازمي معلمتك، ولا تغيظيها بشيء، والتي مثلها اليوم تضيق أخلاقها، فكوني طائعة أمرها صابرة عليها، أفهمت؟ وأعطاها ثلاثة مجيديات. - نعم، أمرك سيدي. - وسأعطيك ليرة عندما تلد معلمتك. - كثر الله خيرك.
وراحت الفتاة إلى شغلها، وراح القس جبرائيل يداوي نفسه في الحقول، وكان الشتاء وقتئذ قد هم بالرحيل، فصعد في الجبل فوق الحمامات وجلس على صخرة هنالك بدأت تنطق بجمال الربيع، فنورت في نخاريبها بعض زهيرات أخذ القسيس واحدة منها وطفق يقلبها في يده وهو يقرأ في كتابه المحبوب «كتاب الاقتداء بالمسيح»، ثم نظر إلى البحيرة وقد صفا وجهها، وهي نائمة تحت قدميه كالطفل في رابعة النهار والنسيم يهز سريرها والحمام فوقها ينتحب وينوح، فهتف صارخا. - يولي الشتاء والحمام لا يفتأ ينوح، يجيء الربيع والحمام ينتحب وينوح، تبتسم الطبيعة لهذه الأماكن المقدسة والحمام فيها ينوح، تنيرها الشمس فتدفئها وتحييها وينيرها القمر فيخفي معاصيها والحمام لا يزال ليل نهار يبكي وينوح، فما سرك أيها الحمام وما خبرك؟ أفي نفسك نفس تلاميذ السيد؟ أفي صوتك صوت المريمات؟ أفي انتحابك تتجسد أصوات الدهور وأنين الشعوب؟ أو هل هو نبأ من أنباء الرب القدوس تردده الأيام والأنام فيسمعناه في مهد روحياته الحمام؟ آه، أواه! وإن في الإنسان مهما تقلبت أطواره ومهما تغيرت أيامه صوتا مثل صوت الحمام حيا أبديا، آه، أواه! إن في سرك أيها الحمام، وفي خبرك، ولو تممت غدا أشرف مقاصدي وأسماها، لو تكلل غدا مسعاي في سبيل الفتاة مريم لكان الغد أسعد أيامي، ولسمعت مع ذلك نوح الحمام؛ نوح الحمام في الجليل ونوح الحمام في نفسي، آه، أواه! «ارحمني يا رب حسب رحمتك، حسب كثرة رأفتك امح معاصي، اغسلني كثيرا من إثمي، ومن خطيتي طهرني؛ لأني عارف بمعاصي، وخطيتي أمامي دائما.»
وبينا هو عائد إلى البيت زالت سكرته الروحية وأحس بنار الجسد تتأجج في صدره، فأخفى دخانها نور بره وتقواه وأسمعه اضطرابه صوتا يقول: قسمت يمينا أن أرعى هذه الفتاة وأصونها من تصاريف الزمان، وحين أراها تهتز لها جوارحي كلها، يبتسم لها فؤادي، أحبها وأكرهها، أودها بعيدة مني قريبة، لحظاتها ذبحت نذري، سكوتها هدم مذبحي، تأوهاتها فرطت مسبحتي، كلماتها محت اسم الله من كتاب صلاتي، آه أواه! إيلياس البلان! إيلياس البلان! أين أنت؟ عارف، عارف! أين أنت؟ لو علمت اليوم أن أباها في الهند لذهبت بها إليه، ولو علمت اليوم أن عارفا في أميركا لسافرت وإياها إلى أميركا، ولكن الله وقد أخفى عني وعنها الاثنين يريد أن أحمل الحمل وحدي، لتكمل مشيئتك يا رب، لتكمل مشيئتك، ولكن القس جبرائيل عبدك إنما هو بشر يا ربي، ومنذ أخذ يد مريم بيده يوم ماتت أمها سارة ما زالت أمواج الحب والعفة تتلاطم حول نفسه. «قد سررت بالحق في الباطن ففي السريرة تعرفني حكمة، طهرني بالزوفا فأطهر، اغسلني فأبيض أكثر من الثلج، أسمعني سرورا وفرحا فتبتهج عظام سحقتها، قلبا نقيا اخلق في يا الله، وروحا مستقيما جدد في داخلي، لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني.»
ولم تكن مريم أقل غما واضطرابا من القس جبرائيل، بل كانت نفسها تردد دائما صدى تأوهاته البشرية، وهي في بلاء أشد من بلائه؛ لأنها وحدها لا تعرف لمن تشكو مصابها ولا لمن ترفع عتابها، الراهب وصيها يناجي الله فيجد في يقظاته الروحية بعض التعزية، وهي تناجي نفسها فتزداد حسرة واحتراقا، وإن فتاة في عمرها ومزاجها لقيت باكرا أشد المحن وأخبثها ولم تستيقظ الروح فيها لجديرة بعطف غير عطف الناسك، وبحب بشري لا تشوبه إلهيات البررة الزاهدين، وأما القس جبرائيل فكان يمازج عطفه وحنانه وإرشاده شيء بلبل بال مريم وزاد بحيرتها وعذابها، فلم تدرك سر اضطرابه ولم تحسن فهم إرشاده وعتابه، ولما ألبسها الذخيرة التي أعطته إياها سارة لم يقل لها: إن تلك الذخيرة من أمها، فظنت الفتاة أنها منه وفرحت لذلك، إلا أن إقامتها وإياه في ذاك البيت تحت سقف واحد وليس بينهما غير حاجز من الخام أزعجها جدا وكاد يهد قواها، وفوق ذلك لم يكن يأذن لها أن تحدث أحدا من الناس أو أن تخرج وحدها إلى النزهة، فسئمت مريم الحياة وضاقت صدرا، ولم تكن تجسر أن تحدث القس جبرائيل بما يكن فؤادها، ولكن ما بدا في شحوب وجهها وفي ذبول عينيها وفي ضعفها وسقمها وأخلاقها كان ينطق بأفصح بيان بما في أعماق قلبها الكسير، فيسمعه القس جبرائيل ساكتا صابرا، ويلجأ إلى الله؛ صونا لنفسه لا صونا لنفسها، وتخفيفا لآلامه لا تخفيفا لآلامها.
وعلى هذه الحال قضت وإياه شهري حبلها الأخيرين، وفي ذات يوم عند غروب الشمس بينا كان يصلي على شاطئ البحيرة جاءت هيلانة إليه تقول: معلمتي متألمة جدا، فبعثها إلى البلد تستدعي قابلة: أسرعي، خذي العربة عند الحمامات، وارجعي وإياها حالا. فامتثلت هيلانة أمره، ولما وصلت إلى طبريا ذهبت توا إلى أمها. - الليلة، الليلة. - طيب، وهل استدعيتم القابلة. - أنا ذاهبة الآن إليها. - حسن، عند القبور بعد ساعة أو ساعتين ولا تنسي ما قلت لك، تشجعي وتيقظي وكوني رشقة وشاطرة.
وفي تلك الليلة ولدت مريم بعد طويل العذاب وشديد الألم طفلا ذكرا، وكان القس جبرائيل ينتظر على شاطئ البحيرة خلاصها، فجاءت هيلانة تبشره بذلك، ثم سارعت إلى جهة القبور فكلمت شخصا واقفا هناك تقول: بعد ساعتين، أجيئك بعد ساعتين.
وفي الساعة الثانية بعد نصف الليل، وقد كانت القابلة أنجزت عملها ونامت، وكانت مريم والطفل والقسيس نياما كذلك، نهضت هيلانة تتسلل إلى فراش القابلة فأخذت الطفل من جانبها فاستفاق باكيا، فاستفاقت لبكائه القابلة، فتظاهرت هيلانة بأنها تربته وتطايبه لينام، ثم عادت إلى فراشها تترقب الفرصة، ونهضت بعد نصف ساعة فحملت الطفل النائم وأسرعت به إلى الشخص الذي كان ينتظرها عند القبور، وعادت إلى فراشها فنامت ناعمة البال نومة البررة الأطهار.
ونهض القس جبرائيل باكرا صباح ذاك اليوم فدخل على مريم ليهنئها ويشاهد ولدها، وكانت النساء الثلاث لم يزلن نائمات فأيقظ القابلة وسألها عن الطفل، فنظرت حولها يمينا ويسارا ثم نهضت تصفق كفا على كف وتصيح، فأسكتها القسيس وأيقظ الخادمة هيلانة وما كاد يتم سؤاله حتى أخذت تبكي وتقسم بالله وبالأنبياء، فاستدعا الاثنتين إلى الخارج؛ خوف أن يوقظ لغطهما مريم فتعلم بالحادثة فيجهز عليها. - لما عدت أنا إلى البيت يا هيلانة كان الباب مفتوحا وكنت خارجا. - نعم سيدي. - وهل أقفلت الباب عند رجوعك؟ - لا، تركته مفتوحا حسب العادة، والله يبليني ويضربني بالسبع ضربات إذا كنت ... فأومأ بيده أن اسكتي، وأوعز إليها وإلى القابلة أن يقولا لمريم: إن ولدها عند المرضعة في البلد ترضعه إلى أن تتعافى.
وراح يسرع إلى الحمامات مشتت الفكر مضطرب البال.
الفصل العاشر
ليس في العناصر الطبيعية وقواها ما يستمر أبدا ثائرا، أو يستقر أبدا هادئا، وليس في قوى الإنسان ومقاصده ما يخالف النواميس الطبيعية، تطمو السواقي والأنهار، ثم ترسب، ثم تغور، ثم تجف، ثم يبعث الله فيها ماء الحياة؛ لتعيد على مسمعه نشيد التراوح الأبدي بين الحب واليأس، والثبات والتردد، والخيبة والأمل، وكذلك في الأنفس البشرية، وفي السامية منها خصيصا، تملؤها المقاصد النبيلة نورا، تكللها المساعي الشريفة آمالا، يعلو بها الإيمان والإحسان إلى ذروة الإلهيات فتنور هنالك سوسنا ذهبيا، ثم يبعث الله من لدنه رسولا لا يفرق بين فصول السنة ومراحل السالكين، ولا بين سوسن الربى وزنابق الغور، ولا بين سواقي الجبال والأنفس البشرية.
ونفس القس جبرائيل الفائضة حبا وإحسانا أخذت بعد أن سرق الطفل أن ترسب وتغور، فلقد وصل في جهاده إلى محجة تعجز النفس أن تتجاوزها مهما تعاظم عزمها دون أن يعترضها عارض يوقفها قليلا فتستريح ثم تستأنف السير والسعي ناشطة مطمئنة، وأما الحادث المحزن هذا فبدل أن يوقف القسيس أقعده، وأسكنه، وزعزع من العزم والإيمان.
لقد فكر لأول وهلة أن يبحث عن الطفل عله يظفر به فيعيده إلى أمه، وراح صباح ذاك اليوم ووجهته الحمامات قصد الاستقصاء، ثم انثنى عن عزمه وأحجم آسفا يائسا، وتاه في الحقول والجبال معظم النهار يساجل نفسه في الأمر وهو يحس منها وهنا واضطرابا.
من يوم تولى شأن مريم وأخذ على عاتقه أمر تربيتها لم يهدأ له بال، ولم تصف له حال من الأحوال، خلصها من الدير فوقعت في أشراك أشر من أشراكه وأخبث، فجاهد في سبيلها دون أن يحفل بوشايات الأقارب والإخوان وبتنديد النساء والرهبان، ثم خلصها من السجن وفادى بمنصبه وبنفوذه من أجلها، بل اقتبل الفضيحة والعار وخرج من الدير قبل أن ينتصر على خصومه فيه؛ خرج منه مدحورا مذموما وجاء بالفتاة يعيش وإياها على شاطئ البحيرة متنكرين، جاء يستر عارها ويعينها طاقته على مشقة قدسها الله فيداوي نفسها ونفسه الكليمتين ويكفر نوعا عن ذنب ابن أخيه.
ولقد أعياه الجهاد في الناصرة وأسقمه ضجيج الناس، وقد أسكرتهم أحاديث الإفك والفسق والافتراء، ففر من المجتمع البشري هاربا يناجي الله في البرية ويستمد منه تعالى ما يعينه في بلاياه.
وها الأقدار ثانية تعيد الكرة عليه، فآثر معقوله هذه المرة على شعوره ولم يحرك في سبيل الطفل المفقود ساكنا، وقد يستغرب مثل ذا التصرف من القس جبرائيل، ولكنه لا يستطيع في ذا الوقت أن يثير في طبريا ما هرب منه في الناصرة، فإن له في مريم قصدا يستوجب الستر والتنكر وإذا لجأ إلى الحكومة ينفضح أمره ويخذل لا شك في مسعاه.
ولقد شاهد فوق ذلك من شقاء البنين والأمهات ما يعذر في نظره السكوت عن سرقة طفل ولد إثما وحراما، وعاد إلى البيت يسلي نفسه بمثل ذي التأملات ويبرئها بمثل ذا المنطق الفاسد، أعياه الجهاد فتعلل ببؤس العباد، وصرخ متأوها: تبارك عقم الرمال! تبارك عقم البحار.
وعول ألا يبحث عن ولد مريم وأن يكتم أمر سرقته عن الناس وكان ذلك مستحيلا، فالقابلة نشرت الخبر في البلد، وأم هيلانة لتصرف عنها عيون الشبهة وتضيف إثما إلى إثم؛ أشاعت أنها سمعت أحد النوتيين يقول: إنه شاهد تلك الليلة رجلا على الشاطئ قبالة مدرسة اليهود قرب الحمامات يرمي في البحيرة طفلا باكيا، فانتشرت الإشاعة وتجسمت حتى أصبحت عند الناس يقينا، وقالوا محققين ذلك: إن هذا الغريب لا يكتم مثل ذا الحادث الرهيب؛ حادث السرقة ولا يسكت عنه لو لم يكن هو الجاني على الطفل وأمه. بل قال أحمد يخاطب محمودا في القهوة: لهذا الرجل على الفتاة معه ثأر يا محمود، وقد قتل ابنها ورماه في البحيرة انتقاما منها وأشاع أنه سرق ليبرئ نفسه، وهذا معقول.
ومر أسبوعان والقس جبرائيل يعلل مريم بالولد، ولم يشأ أن يطلعها على الخبر قبل أن تشفى تماما، ولكن هيلانة بعد أن قابلت أمها جاءت يوما تخبر مريم أنها سمعت الناس يقولون: إن سيدها رمى الطفل في البحيرة ليلة ولد، فبهتت مريم بين تصديق وتكذيب، وسارعت إلى القس جبرائيل جائشة القلب تسأله أن يصدقها الخبر وتلح في طلب ولدها. - أصحيح الخبر، قل لي، قل لي. - ومن أخبرك؟ - هيلانة.
وكان قد نما إلى القس جبرائيل شيء من هذه الإشاعات. - أريد أن أرى ولدي الآن، هذه الساعة، قل لي: من هي المرضعة فأذهب بنفسي إليها، أو أبعث هيلانة الآن تجيئني به، هيلانة! يا بنت! - اسمعي، يا مريم! سأبعثها، سكني من روعك.
ودخل القس جبرائيل البيت فأعطى هيلانة أجرتها وهو يكظم اغتياظه منها، وقال: لم نعد في حاجة إلى خدمتك يا بنت، روحي في سبيلك الله يصلحك ويوفقك.
وراح يردد في نفسه: هذا جزاء الإحسان، هذا جزاء المعروف.
وولى النهار ولم تعد هيلانة فازدادت مريم قلقا واضطرابا، فنهضت باكرا وهي لم تنم تلك الليلة تطالب القس جبرائيل بولدها وتبكي. - ما بالك لا تتكلم؟ إذن أنا أبحث عنه، أنا أفتش عنه، وهمت مريم بالخروج من البيت. - إلى أين؟ إلى أين؟ تعالي أخبرك، اجلسي وسكني روعك. - ابني ولدي، أين هو؟ ولماذا لم ترجع هيلانة؟ - يا بنتي! سلمي إلى الرب أمرك، الرب أعطى والرب أخذ. - مات! مات ولدي! وجعلت تلطم خديها وتنتحب. - لتكمل مشيئة الرب، يا بنتي.
فصاحت مريم: كذاب، كذاب! أنت قتلته، أنت رميته في البحيرة، صدقت هيلانة، صدق الناس، أنت، أنت يا قس جبرائيل. وهجمت عليه هجوم اللبوة على صائد اصطاد شبلها، فصاح بها: مريم! - لا يخوفني صياحك، لا ترهبني نظراتك، ابني مات وأنت قتلته، أنت رميته في البحيرة، ويلك يا قس جبرائيل من ربك! ويلك مني! والله سأشكوك إلى الحكومة سأخبر الناس، سأرفع صوتي في كل مكان، إلى الله أشكوك، أهذا معروفك يا سيدي؟ أهذه طريق خلاصك؟ ليتني لم أعرفك، ليتني بقيت في الدير، أنت جررت علي البلاء، أنت سبب فضيحتي في بيت أخيك، وجئت الآن تقتل ابني وترميه في البحيرة، وما ذنب الطفل؟ ليتك قتلتني أنا، اقتلني، اقتلني وألحقني بولدي بفلذة كبدي، اسمعوا يا ناس! هذا الرجل قتل ولدي ورماه. - مريم مريم. - لا أسكت، لا أسكت، سأبكي وأنتحب وأشكو إلى أن ترد إلي ولدي، إلى أن يسمعني الناس فيجازونك، إلى أن يسمعني الله فيأخذ بثأري منك. - مريم، قفي! قفي أكلمك.
وأمسكها بيدها يصدها عن الخروج وأقفل الباب. - اسمعي أخبرك حقيقة الحال، ابنك سرق من البيت ليلة ولد. - كذب! كذب أنت قتلته. - وسنبحث عنه فنلقاه إن شاء الله. - كذب، كذب، تلقاه في البحيرة؟ أنت رميته في البحيرة. - مليح، أنا رميته في البحيرة، فاعملي ما يخطر لك. وفتح إذ ذاك الباب. - روحي، روحي واتركيني في بلائي وحدي، ما بالك وقفت؟ ما بالك سكت؟ آه يا مريم لو علمت ما أنا فيه، لو علمت ما أنا أقاسي من أجلك، لو علمت ما أنا أدبر لك، مريم، بنتي! سكني روعك، وأنصتي إلى كلامي، الحياة يا مريم لعنة في الأرض، لعنة هي الحياة، خير لي لو لم تلدني أمي، خير لك لو لم تلدك أمك، أمك! أتعرفينها! أباك أتعرفينه؟ ألم تلعنيهما أمامي مرارا؟ كذلك ولدك المولود بالإثم يلعنك، المجتمع البشري لم يزل ينظر إلى مثلك وأبناء مثلك نظر الأمير إلى عبيده، والحكومة لا تمتعكم بشيء من حقوق الإنسان، تعيشون مذمومين، منبوذين، بائسين، يائسين، وحقا لكم أن تعيشوا مثل أسيادكم الأدعياء في مجتمع نخر السوس عظامه وألبسه الظلم ثوب الجلاد. مريم، بنتي، لا يحرمونك الحقوق الاجتماعية والمدنية والدينية فقط بل يفسدون عليك حقوقك الطبيعية، يقول لك الكاهن: ولدت بالإثم فالجحيم مأواك. ويقول لك القاضي: ولدت خارج الشرع فلا حقوق لك في مجتمع شرعه سلطان. ويقول لك عبيد العادات والتقاليد: ولدت في الفسق والشقاء فافترشي الفسق حياتك والبسي الشقاء حتى مماتلك. أما أنا وليك، أبوك، أخوك، صفيك، فأقول لك يا مريم: ولدت كما تلد الأزاهر، وكما تلد الأطيار، وكما تلد مخلوقات الله جمعاء، فلا أحرمك عطفي وحبي وولائي إلى أن يحرمك الله نور شمسه، لا أنبذك يا مريم إلى أن تنبذك الشمس وينبذك القمر، فاشكري الله الآن على خلاصك، ولا تسترسلي إلى الحزن فتنتكسي، أنا لك ما زالت لي قوة تساعدني على السعي في سبيلك في سبيل سعادتك، جئت بك هذه الناحية لأقيك شر الناس، لأنقذك من البلاء والعار، وقد فزنا بشيء من رغبتنا والحمد لله، ليس لبشر كل ما يريد في الأرض، كم من أمهات يلدن ويحزن ساعة الولادة! بل كم من أمهات يمتن في الولادة! وكم من أمهات يربين أولادهن ويفقدنهم وهم في عنفوان الشباب! وكم من بنات تبتلين مثلك فلا يجدن مأوى يأوين إليه ولا من يعطف عليهن ويمد إليهن يدا بيضاء، فاشكري ربك، يا بنتي، ما زلت معك لا يمسك شر إن شاء الله. - وأي شر أكبر من هذا الشر! ليتك تركتني في عاري، في بلائي، فأتعزى في الأقل بولدي. - لتعزيك الآن سلامتك، يا بنتي. - لا كانت سلامتي، لا كانت.
ولزمتها إذ ذاك نوبة عصبية فأغمي عليها وسقطت إلى الأرض، فنهض القسيس بها يعالجها حتى استفاقت ولزمت ذاك اليوم فراشها، ثم أخذت بعدئذ تقضي حاجات البيت وقلما تفوه بكلمة، وظلت أسبوعا على هذا الحال، تخرج ووليها إلى النزهة على شاطئ البحيرة أو في منحدرات الربى، فتنصت لإرشاداته وتمتثل أوامره وهي ساكنة مطرقة، وفي ذات يوم سألته عن عارف مبارك، فقال لها: إنه بعث يبحث عنه في حيفا فلم يجده، وقد كتبت إلى أخي يوسف وهو الآن في سوريا عل ابنه يكون هناك، وكتبت أيضا إلى مصر، فعسى أن يجيئني جواب مرض من إحدى البلادين قريبا. - يا قس جبرائيل! - نعم يا بنتي.
فنظرت مريم إليه ساكتة وقد ترقرقت عيناها بالدموع، فطايبها وحاول أن يستطلع ما تفكر به فلم تتكلم، كأن ما في نفسها من الغم والحسرة أوقع السكتة في لسانها، وظلت كذلك أياما لا تدري ما تصنع وما تقول، كأن شيئا رهيبا غير حزنها على ولدها بدأ يشغل قلبها ويضرم فيه نيرانا زادها السكوت التهابا، فتسمع في النهار تأججها وتكاد ترى في ظلمات الليل شرارها.
والقس جبرائيل - وهو لا يدري لسذاجة فطرية فيه أن الفتاة تسيء فهم كلامه ولا تهتدي إلى الصواب في تصرفه - كان يواظب على خطته صابرا، متجلدا، متيقنا أن سعادة مريم موكلة بها، فخاطبها مرة يقول: لم هذا السكوت يا بنتي؟ ما بالك لا تكلميني؟ لم أنت دائما يائسة؟ ألم أخلصك من السجن؟ ألم أنقذك من الموت؟ ألم أخرج من الدير وأتنكر في هذه الأثواب من أجلك؟ ألم أقتبل الفضيحة والعار حبا بك؟ ألم أبذل ما بوسعي لأعيد إليك طهارة ماضيك؟ لقد أخطأت مرة وجل من لا يخطأ، وسوف لا تخطئين ثانية بإذن الله، فقد ذقت مر الحياة ... فقاطعته مريم قائلة: نعم وذقت حلوها أيضا، ووقع عندئذ نظرها على نظره فارتعشت نفسها، بل أحست بسحر عينيه يجري في عروقها كلها فيسكن آلامها، بل شعرت بلذة غريبة من مجرد نظراته تلك الساعة، فأخذها بيدها وأجلسها إلى جنبه قائلا: حلو الحياة يزول يا بنتي، وذكراه حينما يزول تؤلم، أما مر الحياة فيلازمنا إلى القبر، حقيقته وذكراها كلتاهما مكربة مريعة، كلتاهما توجع وتغم، وليس أشقى من المجرمين غير البائسين الذين يولدون خارج الحظيرة، يولدون ونير العبودية على رقابهم، يلعنون في المهد، يرهقون في المدارس، ينبذون في المجتمعات، ويساقون إلى المآثم والجرائم، ألا تذكرين كيف عوملت في الدير؟ فلو كان لك أب يكرمك وأم ترعاك لما شقيت يا بنتي، فلا تحزني ولا تجزعي، روحي إلى طبريا تشاهدي هناك شقاء البنين والأمهات، مريم، إني أحبك، أحبك من صميم قلبي، وأود صالحك، وأنشد سعادتك، وأسعى في سبيلك طاقتي، أحبك ابنة لي وأختا، ولقد نجوت الآن من البلاء والعار وستكونين رفيقتي إن شاء الله في هذا الوادي؛ وادي الدموع، ستقيمين معي إن شئت وستلاقين دائما ما يسرك ويرضيك، سيفتح الله طريقا لك تتنعمين فيها، وإذا كنت تتضجرين مني ولا تريدين الإقامة قربي فسيكون لك من تحبين، ولكني أقسم بالله إنني لما أكون قربك أشتم شذاء نفسك فأنتعش، وأرى في عينيك نورا يشع في فؤادي فيدفئه، النور يا بنتي، في النور خلاصنا، في النور سعادتنا، شذا الورد خير من الوردة، خيال الشجرة قصيدة حبها، أنعام الأطيار ألذ ما فيها، أنت الآن ابنتي، ولي في ظلك ونورك ونغمات صوتك وطيب شذاك ما يخفف أماني فيك إن شاء الله.
لا، لا، لن أعود بك إلى الدير، فإني أعلم منك بأسراره وخباياه، ولكني أعد لك في سويداء قلبي مركزا لا تمسه يد بشرية ولا تدنسه الأهواء والشهوات، في الحياة الروحية يا مريم، وفي البعد عن الناس وعن الأديرة تمام السعادة، وإن لك بيتا على شاطئ هذه البحيرة في هذه الأرض المقدسة تقيمين فيه ومن تحبين، لا إخالك تجهلين يا مريم ما أقاسيه في مناهضة الميول السافلة وفي مكافحة الشهوات، هاتي يدك أرفعك إلى الذروة التي وصلت إليها، انظري إلي، هاتي يدك أرفعك فوق ما فيك وفي من آثار بربرية وغرائز حيوانية، لا شيء يدوم يا مريم غير الروح وآثارها السامية، اللذات تزول يا بنتي ولا يزول قرفها، ولا تزول سوء مغبتها، ما بالك؟ ألا يروقك كلامي؟ أتتضجرين مني؟ تكلمي ولا تخافي، ألا تريدين أن تبقي معي وأن تقيمي في الأقل بجواري؟ أنا مدبر لك ما يرضيك في الحالين، فلا تتبرمي، ولا تستسلمي إلى السكوت واليأس والسويداء. - ليس في طاقتي، ولا أعرف كيف أعبر عما في قلبي، فلا تؤاخذني إذا سكت. - ولكني أود أن أصرف أفكارك عن حزنك، فإن التفكر الدائم في ما كنت فيه يضرك. - الموت خير لي من الحياة، ولو فهمت معنى كلامك فلا أفهم معنى ما في نفسي، وما في نفسي يكاد يقتلني. - اعترفي لي بذلك يا بنتي، ولا تخافي، الاعتراف مرهم للقلوب الكليمة. - وكيف أعترف لك وأنت سبب حسرتي وبلائي، منذ عرفتك يا سيدي منذ رأيتك أول مرة منذ أخذت يدي بيدك ، سرى إلي منك شيء عجيب لا أعرف ما هو نور فؤادي وفتح عيني وبدد غيمة أثقلت وقتئذ نفسي وأظلمتها، ولم يزل ذاك الشيء العجيب ينمو في ويزعجني، يعذبني، وبالأخص حينما أكون قربك.
وسكتت مريم هنيهة محنية الرأس ثم نظرت إليه نظرة حادة صافية، كأنها فازت على ما يقيد نفسها ويضغط عليها، وقالت: أتريد أن تعرف ما في أعماق قلبي؟ أتريد أن تطلع على رغبتي؟ أتريد أن تعرف سبب حزني وكمدي وحسرتي؟ أتريد أن أريك نفسي التي تحترق وتحرق كل جسمي؟ - تكلمي، تكلمي، ولا تخافي. - بل أخافك، وأشعر عندما أكون قربك كأني واقفة على شفير الهاوية، وفيها ما يجذبني إليها ويحببني بعمقها وبظلماتها، فهل تخطئ الفتاة إذا أظهرت ما في قلبها، إذا أعربت عن رغبة تحرقها وتحرمها النوم؟
وسكتت مريم تنتظر جواب القسيس فلم يفه بكلمة، ثم قالت: ألم تدرك معناي؟ ولدي، ولدي، أنت سلبتني ولدي، أنت قتلته ورميته في البحيرة. - لا تعيدي هذا الكلام يا مريم، لا تعيديه. - أتنكر أن ولدي مات، إذن - وهذه رغبتني - أسأل الله ولدا بدله، وأسألك أنت أنت، أطلب منك. - ولكنها حجبت وجهها عنه وطفقت تبكي، ثم جثت عند قدمي القسيس وأخذت يده تقبلها، وتقول: سامحني، واغفر لي، أنا ابنة خاطئة، أنا امرأة ضعيفة، فقيرة، حزينة، وحيدة، ليس لي في العالم غيرك، سامحني، سأظل معك، سأكون خادمتك، بل عبدتك، سأذهب وإياك حيث شئت. - انهضي يا بنتي، الله يغفر لك ويباركك، انهضي، آمني بالله، آمني بنفسك، آمني بي، الإيمان يا بنتي يذلل كل ما في الحياة من الأهواء المهلكة والأميال، آمني بالله وبنفسك التي هي من عنده تعالى، وفكري بمن مشى على هذه البحيرة وقدس بخطواته وبكلماته هذه الربى، فكري بالمريمات اللواتي رفعهن الإيمان إلى روحيات السيد المسيح، اسمعي يا بنتي! سنبقى هنا بضعة أيام ثم ننقل إلى بيتي في سهل المغير، وإذا كنت لا تحبين الإقامة هناك نسافر إلى لبنان فنقيم هنالك في ظل الأرز في تلك الجبال المقدسة، وعسى أن يجيئني قريبا جواب من سوريا فنلتقي هنالك بعارف أو أبعث أستدعيه إلينا.
فأجابت مريم برأسها بالإيجاب وهي دفينة غمها، وأقاما في ذاك الكوخ على شاطئ البحيرة أسبوعا آخر كان القسيس فيه يظهر لمريم أضعاف ما عودها من العطف والحب والحنان، ولكن مريم لم تجد في ذلك تعزية لنفسها أو مرهما لقلبها.
وفي ذات ليلة نهضت من فراشها تهرب من نار ليلها الآكلة، ومشت إلى الجهة التي ينام فيها الراهب فرأته متربعا في فراشه منكسا رأسه، كان يصلي ولم يرها فأصبحت واجفة، خجلة، وعادت إلى فراشها ذليلة، وفي اليوم الثاني نهضت على عادتها واليأس مالكها والذبول يحجب وجهها، فراحت تهيم في البرية وتقول: سئمت لطفه، سئمت كرمه، سئمت معروفه، سئمت تقواه، سئمته، مللته كرهته.
وفي ذاك اليوم سافر القس جبرائيل إلى تلحوم ليرى إذا كان جاءه جواب من سوريا أو من مصر، وبينا مريم عائدة إلى البيت من نزهتها مرت بالحمامات فشاهدت بعض السياح قادمين من سمخ، فوقفوا هناك ليتفرجوا على الحمامات، فسمعتهم مريم يتكلمون الإفرنسية فألقت إلى الامرأة بينهم السلام وعرضت عليها خدمتها: أتريدين أن تتفرجي على الحمامات؟ «بارايسي مدام».
فاستوقفت نظر السيدة الإفرنسية وقد أعجبت بها، فسألتها مازحة إذا كانت تحب أن تسافر معها إلى فرنسا فتخدم في بيتها هنالك.
فأجابت مريم على الفور بالإفرنسية: «وي مدام آفك بليزير.»
فقالت السيدة وقد أعجبت بمريم كثيرا: تعالي إلى النزل في طبريا، سأسافر بعد يومين إلى حيفا ومنها إلى مصر. - «وي مدام آفك بليزير مدام.»
ولما عاد القس جبرائيل من تلحوم كانت مريم تنتظره في البيت وقد أعدت العشاء، فأخبرها أنه بعث رسولا إلى أخيه في سوريا وسيعود بعد أسبوع، وأنه بعد يومين ينقل وإياها إلى البيت في سهل المغير. - ما بالك لا تجيبين؟ - إرادتي في يدك. - حسن، حسن يا بنتي، ليباركك الله.
وفي اليوم التالي شخص القس جبرائيل إلى سمخ لقضاء حاجة تختص بأملاكه في السهل فاستغنمت مريم الفرصة وذهبت إلى النزل في طبريا لتقابل السيدة الإفرنسية، وبعد أن استطلعت هذه شيئا من أمرها وتحققت رغبتها أوعزت إليها أن تجيء صباح الغد باكرا فتسافر معها إلى حيفا ومنها في المساء إلى مصر، فعادت مريم مستبشرة بقرب خلاصها فرحة بالسفر إلى فرنسا مع سيدة جليلة إفرنسية، ولما وصلت إلى البيت كان القسيس يضرم النار في الموقد ليسخن شيئا من الطعام، فسألها: أين كنت؟ فأجابت: كنت في طبريا. - وما غرضك هناك يا بنتي؟ - التفرج والنزهة.
فسكت القس جبرائيل ثم قال: لا تروحي مرة ثانية وحدك إلى أبعد، لو أظهرت لي رغبتك لرافقتك، وتناول وإياها العشاء مساء ذاك اليوم وهو مسرور بما شاهد في نفسها من الخفة والبشاشة، ومسرور بقرب رجوع رسوله يحمل إليه وإليها خبرا من أخيه يوسف مرضيا.
ونام تلك الليلة مطمئن النفس ناعم البال، ولكنه طلب مريم في صباح اليوم الثاني فلم يجدها.
الفصل الحادي عشر
من عادات أكابر الفرنسيس وخاصة منهم أكابر الطبقة الوسطى طبقة ال «بورجوازي» أنهم يستخدمون في بيوتهم لتربية أولادهم المربيات الأجنبيات، وقد أمست العادة هذه زيا تجري عليه ربات البيوت ويغرقن فيه، حتى إن الواحدة منهن لتفاخر أترابها بتعدد أولئك المعلمات في بيتها، فتذكر مس جسي مثلا مربية ابنها الإنكليزية إذا ذكرت سيارتها الجديدة، وتشير ازدهاء إلى رأي السنيورا كارولينا معلمة ابنتها الموسيقى إذا تكلمت عن الرواية الأخيرة في ال «أبرا» وتثني على فرولن شمت المعلمة الألمانية إذا ذكرت المناوشة الأخيرة بين الألمان والفرنسيس في ننسي أو في متز، ولا تنسى مس - الله أعلم - الأميريكية معلمة أولادها ال «جمنستيك» والرقص إذا كان الحديث في المال والأزياء الأخيرة، وفي أكثر الأحايين تدور على الأولاد من كثرة المعلمات الدوائر، وتدور على السيدة ربة البيت أيضا إذا كان زوجها ضجرا ملولا وكانت المعلمة قد خصت بشيء غير العلم.
أما مدام لامار فأرملة لا زوج لها غير الإحسان، هي من السيدات الإفرنسيات المتدينات اللواتي يوقفن على المستشفيات والأديرة في الشرق الأموال الطائلة ويحسن إلى رجال الدين عندنا إحسانا جما متواصلا، وهي تحب سوريا خاصة وأبناءها، وتحب أن تقيم فيها وابنها الوحيد، لذلك شاءت أن تعلمه اللغة العربية، ولما جمعتها الصدفة بمريم وعلمت أنها يتيمة وأنها تحسن اللغتين العربية والإفرنسية ماجت في صدرها ثلاث عواطف متباينة، فقالت في نفسها أولا: «مسكينة هذه الفتاة.» والشفقة في ذوي الإحسان عاطفة مطبوخة حاضرة، ثم قالت: «نعم المعلمة لفرنسوا.» ثم همست في قلبها: «وسأفاخر أترابي بمعلمة شرقية سورية.»
ولقد أحبت مدام لامار مريم وأعجبت بذكائها، ولما وصلت إلى الإسكندرية مكثت فيها بضعة أيام تنتظر الباخرة الإفرنسية وابتاعت للفتاة من حاجات اللبس والسفر ما يجعلها أهلا لرفقتها، فلبست مريم المشد والقبعة ذات الريش والحذاء العالي الكعب، وسرت سيدتها بشكلها الجديد وأعجبت بارتياحها في الزي الإفرنجي كأنها اعتادته صغيرة، وبينا كانت وإياها في السوق دخلت إلى مكتبة تبتاع بعض الجرائد الإفرنسية والمجلات، فسألتها إذا كانت تحب المطالعة؟ فأجابت بالإيجاب، فاشترت لها رواية تأليف فرنسوا كبه ورسائل مدام دي ستال وكتاب «سياحة في الشرق» للامرتين، فتناولت مريم الرزمة من صاحب المكتبة وسألته قائلة: «وهل عندك كتب عربية؟» فهز رأسه بازدراء، فتعجبت مريم، فقالت مدام لامار: يظهر أن الكتب العربية لا تباع في البلاد الإنكليزية. - وأين تباع؟ في فرنسا؟ - أصبت، فقد اشترينا الكتب الإفرنسية في مصر، وسنشتري الكتب العربية في باريس.
فلم يعجب مريم ذا التهكم من سيدتها، وبينا هما سائرتان في شارع شريف باشا، ومريم - وقد استفزتها الغيرة الوطنية - تحدق في شبابيك المخازن علها ترى هناك كتابا عربيا ترفع به شأن وطنها في نظر السيدة الإفرنسية، لاح لها في أحد الأزقة إلى جانب الشارع الكبير جرنال عربي معلق بشريطة تحت صف من الزجاجات، وفيها التبغ والسكاير وعلب الكبريت وأنواع الأبازير، فطرقت وسيدتها تلك الناحية فإذا هناك دكة أو بالحري دكان فيه شاب يكاد من ضيق ما هو فيه لا يستطيع حراكا، وراءه رفرف بعض الكتب مرصوصة بين صناديق من الكرتون عهدها أقدم من «العهد القديم».
فقالت مريم مستبشرة: وهل عندك كتاب عربي؟ - نعم، عندي.
وسحب الشاب رزمة من خلال تلك الصناديق ونفض عنها الحديث من الغبار وفكها يعرض الأجزاء، فاستوقف نظر مريم عنوان أحد الكتب فأخذته تقلب في صفحاته، فقال الشاب: ذوقك سليم والله، ذوقك جميل، أهم كتاب طبع في هذه الأيام، وقد أحدث ضجة في العالم العربي، وأقام العالم الإسلامي وأقعده، مؤلفه من نوابغ الزمان، كتاب نفيس والله، ينبغي أن تطالعه كل امرأة شرقية، جاءني منه نسختان في الشهر الماضي ولم يبق غير هذه التي بين يديك، خذيها، فلا تندمي، طالعيها تستفيدي.
فاشترت مريم كتاب «تحرير المرأة» وراحت تترجم لسيدتها ما قاله الشاب فيه، فضحكت مدام لامار لسذاجة الشرقيين، أو ما يظنه الإفرنج سذاجة فينا، وهي تفكر بكتاب وصف هذا الوصف وما بيع منه في شهرين سوى نسختين. - يحق لك أن تفرحي، فقد ظفرت بكتاب عربي. - نعم.
ووقفت مريم إذ ذاك تنظر وراءها كأنها رأت بين العابرين من تعرفه ثم توارى في مزدحم الناس، فسألتها سيدتها: ما بالك؟ فاضطرب عليها. ومشت ترافقها إلى شركة البواخر الإفرنسية، فقضت مدام لامار حاجتها هناك، وركبت العربة تعود إلى النزل، ولم تكد مريم تستقر فيها إلى جنب سيدتها حتى رأت الشاب ثانية وهو داخل إلى مكتب الشركة، فصاحت على الفور: «مدام مدام!» كأنها تنادي أحد رجال الشحنة، فأوقفت مدام لامار العربة تقول: هل نسيت شيئا؟ فقالت مريم: لا لا، وراحت تردد في نفسها: ما أشبهه به يا ربي ما أشبهه به!
المصائب إذا تعددت ينسخ بعضها بعضا، يزيل اللاحق منها السابق أو يخفف أهواله. والفرح الشديد ينسي أجل الخطوب، لما فجعت مريم في ولدها نست عارفا، ولما جد في حالها ما جد من سفرها مع السيدة الإفرنسية نست القس جبرائيل وما قاسته في الناصرة وعلى شاطئ البحيرة من الشدة والعذاب، وما كان النسيان فيها غير ضرب من الرقاد يزول إذا لمسته الصدف بقضيب سحرها، ولما أمست في الباخرة في اليوم الثاني هبت العاصفة في صدرها؛ عاصفة الحب والذكرى لمجرد وجه رأته في مزدحم يموج بالألوف من الوجوه البشرية، فندمت لأنها لم تكلم ذاك الغريب لتحقق ظنها، ووقفت عند الغروب في مؤخر الباخرة تتكئ على الحافة وتنظر كئيبة حزينة إلى زبد الأمواج تحتها، ثم أخذت من صدرها الذخيرة التي أعطاها إياها القس جبرائيل، ففاح منها أريج مروج الجليل وأسمعتها هديل حمام البحيرة فطفقت تقبلها وتبكي، وبين هي كذلك كان أحد المسافرين يتمشى على ظهر الباخرة ويراقبها خلسة، وكان قد رآها أصيل ذاك النهار تصعد إلى الباخرة فراقه جمالها وأشكل عليه أمرها.
وقرع إذ ذاك جرس المائدة فمسحت مريم دموعها وما كادت تميل بوجهها حتى تراءى لها الوجه الذي أبصرته في المدينة؛ وجه من كان يراقبها، فاعترتها رعدة أغشت بصيرتها فهتفت قائلة: هل هو بعينه يا ربي أم أنا واهمة؟ ولكنها حينما جلست إلى المائدة رأته جالسا أمامها فزالت دهشتها؛ [فقد كان] غير الشاب الذي رأته في الإسكندرية.
وفي اليوم الثاني بينما كانت جالسة في كرسيها على ظهر الباخرة تطالع في كتاب «تحرير المرأة» اقترب منها فخاطبها بلهجة لا يجسر أن يخاطب بها سيدة إفرنجية، فقال دون ديباجة أو اعتذار: أظنك من مصر؟ - فدهشت مريم لهذه المبادرة وأجابته بصوت شجي تتمازج فيه أنفة مع لطف ومعروف: لا يا خواجا، لست من مصر. - من لبنان إذن. - ولا من لبنان، بل من فلسطين. - ولماذا كنت تبكين مساء البارح؟ هل من حاجة لك أقضيها؟ - لا حاجة، كثر الله خيرك.
وقالت في نفسها: ما ألطف هذا الشاب، وما أجمل معروفه! ولكنها لم تدرك شيئا من وراء ذينك اللطف والمعروف.
نجيب أفندي مراد من أسرة كريمة غنية في بيروت شبيه صيتها بصيت بيت مبارك في فلسطين، وهو من الشبان الأغنياء الذين يسافرون كل عام إلى باريس ليذوقوا الحديث من لذاتها، ولكنه سئم ما اعتاده هناك ومله وصارت نفسه تصبو إلى كل مستغرب جديد، ولما علم أن مريم مسافرة والسيدة الإفرنسية إلى باريس ازدادت رغبته بها ووطن النفس على أعلاقها، فرمى الشبكة على عادته في مثل ذي المواقف وطفق يعالجها بلطف يتخلله المبتذل من التغرير وببراعة تتراوح بين الأدب والتمويه، ومعشر النساء قلما يدركن كنه الاثنين إذا كان الصائد دقيق الحيل، وقلما يميزن بين معروف هو أرجوحة للنفس منشأه كرم الأخلاق ومعروف هو أحبولة للجسد، فكيف بفتاة قروية ساذجة.
على أن مريم، وإن تكن من البنات اللواتي لا يطيب لهن عيش مجرد من الحب بعد أن يعرفنه فيعدن إليه راغبات مستهلكات رغم ما يقاسين منه، وإن تكن من الشرقيات اللواتي يتلجلج في أنفسهن روح النساء البابليات، بل تحتدم في عروقهن شعلة من تلك النار التي كانت تضرم في الهياكل السورية قديما، فقد قاست من سذاجتها واستهتارها ما علمها شيئا من «صرف» الحب، فصارت تعرف بعض مفرداته وتراكيبها، وتدرك بعض أفعاله وأوزانها، وتستطيع فوق ذلك أن تصرف في بعض الأحايين ما لا ينصرف منها، فلو عاشت مريم في قديم الزمان؛ زمان الآلهة، زمان الشعر والجمال والعهارة الدينية، لكانت من ربات الهيكل - هيكل الغرام - تعبد فيه وتقدم على مذبحه ضحية ذكية، ولكن الزمان هدم الهيكل وحفظ المرأة، فهل يجعلها أسيرة الوراثة اليوم وكانت قديما أسيرة الدعارة؟ جواب الدين على ذا السؤال سؤال آخر معروف، وهو: وهل ينبت العوسج تينا؟ أما العلم فيقول: وإن كان العوسج لا ينبت تينا فقد ينبت تدريجا بواسطة التربية نبتا أرقى من العوسج فيثمر ثمرا أحسن من التين، وأعجب ما في نشوء الأخلاق وأطوارها أن الخلة الموروثة قد تضعف فتصير كالخلق المكتسب، والخلق المكتسب قد يتوطد فيصير كالخلة الموروثة، ولعمري إن إفراطا في الحب يقرن إلى سذاجة في الخلق ليكسب صاحبه من التجارب ما يجعله سيدا على الموروث فيه من الطباع والمكتسب، هذا إذا كان فطنا نبيها، عزوما طموحا، حافظا ذاكرا، فلا ينسى اليوم حساب الأمس، ولا يرضى من الغد بما رضي به اليوم.
إذا كانت مريم قد استأنست بنجيب أفندي مراد الذي استمر أثناء السفر يحدثها ويناعمها، ويتقرب منها، فقد كانت تزن كلماته وسلوكه بالميزان الذي اصطنعه لها القدر في بيت يوسف مبارك بالناصرة؛ هذا أديب ولكنه رجل، حسن الوجه، حسن السلوك، حسن الحديث ولكنه رجل، يرف حولي كطير الحمام، حفيف جنحيه كالنغم الرخيم في قلبي ولكنه رجل، ثم قالت مستشهدة على عادتها: ولا بأس به وإن كان رجلا.
وجعلت تباحثه في موضوع الكتاب الذي تطالعه فتزعجه تارة وتارة تدهشه وتضحكه. - إذا كانت المرأة أضعف عقلا من الرجل فالسياج ينفعها ولا يضرها والحجاب نوع من السياج. - وهل تفادين بحريتك خوفا من عواقبها؟ - لا، ولكنني لا أركب الفرس الشموس قبل أن أسرجها وألجمها، الحرية فرس شموس ذللها الرجل ولم تذللها المرأة، أوليس خيرا للمرأة الشرقية في حالتها اليوم أن تركب لغايتها جحشة سهلة الانقياد، لا ترعبها إذا كبت وإذا سقطت لا تضرها. - ولكن المرأة التي استعبدها الرجل أحقابا من الزمن ... - أراك تردد كلام هذا المؤلف الذي يكثر في كتابه من ذكر العبودية؛ عبودية المرأة، ما هي يا ترى العبودية؟ أنا لا أعرفها، إذا خدمت فأخدم راغبة، وإذا أحببت فأحب راغبة، وإذا جننت فأجن راغبة - أعمل دائما ما أريد، وما عرفت هذه العبودية التي ... - ستعرفينها عندما تتزوجين. - وهل العبودية في الزواج؟ إذن لا أتزوج، والمرأة التي تعرف وتؤكد أن الزواج عبودية وتتزوج راضية لا يحق لها أن تشكو العبودية، والرجل الذي يتولى الدفاع عنها وهي قانعة بما هي فيه راضية، فإما أن يكون قليل الأدب طفيليا، وإما أن يكون منافقا. - أجد هذا منك أم مزاح؟ - وهل في مثل ذا الموضوع باب للمزاح؟ أقصى العجب من امرأة تلبس الحجاب رغم أنفها، وترضى بظلم الرجل كرها منها. - وماذا كنت تفعلين لو كنت من أولئك البائسات السجينات؟ - أمزق الحجاب بيدي ولا أكلف رجلا الدفاع عني والرثاء لحالتي، عشر نساء يسرين سافرات الوجوه في شوارع المدينة خير من مائة كتاب يكتب في سبيل تحريرهن.
وجاءت إذ ذاك مدام لامار فرأت مريم تحدث الشاب الغريب، فاستدعتها إليها تسألها عنه: لا يجب أن تحدثي أحدا لا تعرفينه يا مريم. - ولكنه عرفني بنفسه وهو شاب أديب من بيروت؛ نجيب أفندي تفضلي مدام أعرفك به.
فدهشت السيدة الإفرنسية وانقبضت لذي الحرية في الفتاة وذي السذاجة، وأفهمتها بعدئذ أن السيدات لا يعرفن بالرجال، وإنما الرجال يقدمون إلى السيدات. - كان ينبغي لك أن تستأذني أولا، فإذا أذنت تعرفين الشاب قائلة: اسمحي لي، مدام، أن أقدم إليك فلانا.
فاعتذرت مريم إليها ووعدت أن تعمل في المستقبل بإشارتها.
وجعل نجيب مراد يتقرب من السيدة ويجاذبها أطراف الحديث، فراقها منه كياسة تكاد تكون إفرنسية، وعلمت من أحد المأمورين في الباخرة أن الشاب من أسرة سورية كريمة، كثير المال، كثير التجوال، ولم تنته مدة السفر حتى تدرج نجيب إلى قلب مريم وإلى إكرام سيدتها، فلما رست الباخرة في مرسيليا كان فرنسوى لامار على الرصيف ينتظر أمه، وفرنسوى شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من سنه، قصير، لحيم، ناصع البياض، بليد البادرة، وبعد أن حيته أمه وعانقته قدمت مريم إليه تقول: جئتك بمن يعلمك اللغة العربية، فرنسوى ابني يا مريم.
ثم عرفت ابنها برفيق السفرة أحد أعيان سوريا نجيب أفندي مراد، فتصافح الاثنان وتبادلا المبتذل من عبارات السلام والسوري يتأمل الشاب ويفكر بمريم، فقال في نفسه: لا خطر في وجه سمين ويد باردة، ثم أعطته مدام لامار بطاقتها. - ينبغي أن تزورنا في باريس. - أتشرف مدام.
وودعهم نجيب مراد مطمئن البال يهنئ نفسه بنجاح الدور الأول من مشروعه، وبعد أسبوعين زار مدام لامار في بيتها وجالس مريم برهة يسألها عن حالها. - وهل أنت راضية بمهنتك مسرورة؟
فهزت مريم كتفها. - وهل علمت سيدك قام زيد؟ وضرب عمرو زيدا؟
فابتسمت ابتسامة الضجر. - وهل تأذن لك سيدتك بالخروج إلى المدينة؟ - يوما واحدا في الأسبوع؛ يوم الجمعة. - وهل خرجت تتفرجين على باريس. - آذنتني مدام أن أرافق الخادمة شرلت إلى البلد، فأخذتني إلى قصر فخم يدخل إليه الناس واحدا واحدا مثل المعزى بين قضيبين من الحديد، والبوليس مثل الراعي يراقبهم ويعدهم، ولكن القصر من داخل جميل غريب، رأيته غاصا بالناس وله مصطبة يحجبها ستار من المحمل كبير، أمامه أناس يصوتون بآلات من النحاس كبيرة ويضربون على الدف والطبل، وقد انتصب بينهم رجل بيده قضيب يرقص ويهول به كالمجنون، ثم رفع الستار عن بنات يرقصن ويغنين ويلعبن والرجال، لم أفهم من لفظهم ورطاناتهم شيئا، ولكن رقص البنات أعجبني، الله ما أبرعهن وما أليقهن! تقف الواحدة منهن على رءوس أصابعها هكذا (وخلعت مريم حذاءها وحاولت التقليد) فتنتقل كالعصفور وتدور مسرعة كالبلبل دون أن تقع.
فضحك نجيب لهذا الوصف وسألها إذا كانت تحب أن ترافقه يوم الجمعة القادم ليفرجها على المدينة. - مؤكد أكون ممنونتك.
فاستأذن مدام لامار بذلك فأذنت، وجاء في اليوم المضروب يبر بوعده، فأخذ مريم في السيارة إلى الحرج وتناولا طعام الظهر في قهوة هناك، وعاد بها إلى المدينة بعد الظهر ففرجها على قصر اللوفر وقبر نابوليون، ثم تناولا العشاء في قهوة في البوليفار الكبير وأخذها بعدئذ إلى تياترو تشاهد الرقص الذي أعجبت به، ولما ودعها عند الباب وعدها بيوم آخر مثل هذا بل أحسن منه الأسبوع القادم، فباتت مريم تلك الليلة فرحة مدهوشة، كأن ما شاهدته من غرائب المدينة وعجائب آثارها ملأ فؤادها فصرفه عن رفيقها، بل مضيفها، بل عشيقها، ولم يخطر نجيب في بالها ذاك اليوم إلا في صفة الدليل.
ولما جاء المرة الثانية قالت له مدام لامار: يجب علي أن أشكرك عن مريم، فقد أثنت عليك ثناء كبيرا ونوهت بكرمك وشرف أخلاقك. - هذا تعطف منك جميل، مدام. - واليوم إلى أين؟ - إلى فرساي، وإذا عدنا باكرا نزور الكسنبور. - حسن، حسن، تحذري يا مريم عند اجتيازك الشوارع، وعسى أن تعجبك قصورنا وآثار بلادنا، وا أسفاه! أين هي من آثار بلادكم المقدسة؟
خرت السيارة وعجت وراحت تلتهم الطريق التهاما، وعمد التلغراف إلى جانبيها تعلو وتهبط كأنها صفوف من رواقص الجن أو أشباح من عالم الخيال، والأشجار تهوي فوق حقول خضراء تمر مسرعة كصور السنماتوغراف، والبيوت هنا وهناك تبدو كالغيوم البيضاء والسوداء، ثم تدنو كالجبال فتولي كالخيال، ومريم، وقد اعتراها الخوف، جامدة ساكتة كأنها تقبض على قلبها بيدها، ونجيب يحدثها هازئا ضاحكا، وهي لا تكترث.
ولما وصلا إلى فرساي دارا في القصر ساعة يتفرجان على الصور فيه والتحف والآثار، ثم تناولا الغداء في قهوة هناك فخمة، وخرجا يتنزهان في جنينة القصر المنقطعة النظير، وبينما هما جالسان أمام نوفرة من النوافر المتعددة هناك، أعطى نجيب مريم علبة خضراء صغيرة، ففتحتها فإذا فيها سلسلة من الذهب ذات أيقونة في شكل ورقة الحندقوق فيها ثلاثة حجارة من الماس. - يا ربي! لا أقبلها منك هذه ثمينة جدا ولا تليق بي. - ما يليق بالإمبراطورة أوجيني يليق بك، خرج نابوليون الثالث صباح ذات يوم من هذا القصر يتنزه وخطيبته الأميرة أوجيني، فرأت ثلاث نقط من الندى على ورقة من الحندقوق فأعجبت بها جدا، فبعث الإمبراطور إلى صائغ القصر في باريس يأمره بصنع أيقونة في هذا الشكل، فأهداها إياها. - القصة جميلة، ولكنها لا تناسب، فلا أنت نابوليون، ولا أنا أوجيني. - الحب يا مريم يتوج المحبين ويجعلهم ملوكا.
فوقفت مريم إذ ذاك وأحنت رأسها أمام نجيب تقول: أحييك يا صاحب الجلالة، مريم معلمة المسيو فرنسوى لامار تحييك.
ثم قالت وقد غيرت لهجتها: لا، لا، إذا كنت تقصد أن تخطبني بهذه الهدية فأنت واهم، لا يا أفندي لا، فقد قلت لي: إن الزواج عبودية. - عند الإسلام يا مريم لا عندنا. - إنما المرأة مرأة، والرجل رجل، إن كان عند الإسلام، أو عند النصارى، أو عند اليهود، أقبل هديتك وأقبلها، ولكن لا تحرمني نعيما أنا فيه، خلني عند مدام لامار أعلم سيدي المسيو فرنسوى اللغة العربية - وجعلت تقلده - واهد، اتنين، أربا، كمسه، سبا، تامانيه، يخزي العين ما رأيت أذكى منه، بعد شهرين يصير أستاذا عربيا، قم بنا نرجع إلى البلد، فقد اشتقت إلى سواد عينيه. - عيناه زرقاوان. - لا تؤاخذني، ولكنهما يظهران أحيانا كلون البحر إذا هاج أو كلون ثياب العرب إذا «باخت».
وكأنها انتبهت إذ ذاك إلى شيء ففتحت كيسا من الحرير تحمله بيدها وجعلت تفتش فيه. - ما لك؟ - نسيت لائحة الطعام، ولا أرجع إلى البلاد بلاها، فعرج نجيب على القهوة وجاءها بها، فقلبت فيها عينيها وتنهدت. - أكثر من مائة لون، يا ربي! ما أجشع هؤلاء الإفرنج، ومن يقدر أن يحفظ أسماءها كلها، سأبذل جهدي، فلا أطيق الخادم آمرا ناصحا يعلمني ما ينبغي أن آكل وأشرب، عيب ، عيب، إذا عزمتني في الأسبوع القادم أعدك أني أطلب الغداء دون أن أستشيرك أو ألجأ إلى الخادم وأقسم أن اختياري يعجبك، امش.
وبعد العشاء في المدينة تلك الليلة سألها قائلا: وهل تزوريني الآن في بيتي؟ - في بيتك؟ أتخطب العصر وتتزوج المساء، أولم أقل لك إنني لا أقبل هديتك كخطبة؟ لا.
فضحك نجيب، ثم سألها: أتحبين أن تسمعي الغناء الإفرنجي؟ - لا، لا، يمزق أذني. - التمثيل إذن؟ - لا أفهم منه شيئا. - الرقص؟ - عليك نور، كما يقول ابن مصر.
فذهبا إلى تياترو ترقص فيها راقصة مشهورة رقصا شرقيا جديدا، فسرت مريم به أكثر من سواه، وقالت لنجيب: رقص أولئك البنات اللواتي يقفن على أصابعهن رقص يدهش، ولكن رقص هذه الامرأة يسكر كالخمر، الله ما أجمل فنها وما أبدع حركاتها!
وبعد أيام ذهبت مريم والخادمة شرلت إلى المخزن الكبير فابتاعت قميصا من الحرير صفراء، وبعض قطع من الحرير الهندي وأحراما من السندس الأحمر القاني، وآخر أبيض. - ما غرضك يا مريم؟ - سترينني، أدعوك غدا مساء إلى غرفتي.
في ذاك المساء خلعت مريم ثيابها حتى جواربها ولبست تلك القميص وشدت الأحرام حول خصرها منبسطا على حقويها معقودا تحت بطنها ورفعت الأحرام الأبيض بيديها أمام وجهها فبدت كالراقصة الشرقية وأخذت ترقص رقصها، ثم دعت شرلت فدهشت إذ رأتها في ذاك الزي وراحت تستدعي سيدتها، فجاءت مدام لامار يتبعها المسيو فرنسوى، وأغرق الجميع في الضحك والاستغراب، ثم أخذت مريم تقلد الراقصة المشهورة فضجت الغرفة؛ غرفتها بالتصفيق والهتاف ...
Tres bien! Tres bien.
C’est excellent!
C’est epatent!
Encore encore!
وهذا أول ظهور مريم راقصة، غرفتها المسرح وغرفتها التياترو وسيدتها وسيدها والخادمة شرلت الحضور، وقد فازت بظهورها فوزا مبينا، فتشجعت واستمرت تتمرن على الرقص، وفي تلك الليلة بعد انتهاء الرواية عاد المسيو فرنسوى يطرق باب الراقصة الشرقية التي افتتن بها، ففتحت مريم الباب فرأته واقفا يفرك يديه ويردد أمثولته مبتسما: واهد، اتنين، أهبك.
فقالت مريم وقد لاح الغيظ في جبينها: اعذرني يا مسيو فرنسوى، فقد قلت لك: إنني لا أعلم في الليل. - أهبك، أهبك! أهبك! - ولكني «أهب» أن أنام، اعذرني.
وأقفلت إذ ذاك الباب، فنقم فرنسوى لامار منها وكمن لها في قلب حبه البارد شيء من العداء، على أنه كان يسألها دائما أن ترقص فتفعل؛ لأن مريم وقد شغفت بالرقص استمرت تمارسه في غرفتها أمام المرآة فتخترع من الحركات والإشارات والسكتات والوقفات فوق ما كانت تشاهده على مسارح باريس، فازداد جسمها مرونة وازداد سيدها هياما بها، وبدأت تشعر بوحدة في باريس شبيهة بوحدتها على شاطئ البحيرة. - ما بالك اليوم كئيبة؟ هل حفظت أمثولتك؟ عليك أن تطلبي العشاء الليلة حسب وعدك. - لم أحفظ من تلك اللائحة شيئا، كنت مشغولة عنها بالرقص، وبالتعليم، وبالضجر. - أبدأت تضجرين في باريس؟ هذه خطيئة مميتة. - لا أعرف ما هي الخطيئة المميتة، ولكني عرفت الضجر، والقرف، والسأم، فاعلم يا نور العيون أن سيدي وتلميذي يريد أن يكون سيدي وزوجي، ثروة طائلة وعينان «بائختان».
قصر فخم، ووجه لحيم، كن دافئ، ويد باردة، أفلا تهنئني، أولست ممن يغبطن من النساء؟ - ويشقين في غبطتهن، نعم. - لله من عاشق، يجثو أمامي على ركبتيه ويبسط ذراعيه، ويحني رأسه ويشخص بعينيه، ثم يلطم صدره بيده البيضاء الباردة ويتلو أمثولته علي - أهبك! أهبك! أهبك! ثم يأخذ يدي فيقبل رءوس أناملي قبلات «نار الجحيم أبردها».
الله، الله! أهكذا يحب الإفرنج؟ أهبك! أهبك! أهبك! قرف قرف قرف! - لا تشرب زجاجة الشمبانيا وحدك. - لا تؤاخذيني، فقد شغلت عنك بلذيذ حديثك. - هذا سر بلادي، لم أزل أذكر بيتا من الشعر:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة - ومن هو الحبيب؟ - أترى أغني في الطاحون؟ سيدي وتلميذي المسيو فرنسوى لامار. - أرفع كأسي على صحة المسيو فرنسوى وصحتك. - أف عليك!
ورمته مريم بشيء من لب الخبز كانت تعجنه ناقمة بين أناملها.
فرفع نجيب يده إلى شفتيه وأشار بها إليها شاكرا. - قل للخادم أن يعجل بالقهوة، هذه الأنغام تحزنني جدا. - إذن لا تريدين أن نقضي السهرة في ال «أبرا». - بلى، أحب أن أرى ما تسميه «باله» فأحتمل الموسيقى والغناء أو بالحري الضجيج والصياح من أجل الرقص؛ رقص «الباله».
ولكنها لم تعجب بهذا النوع من الرقص كثيرا، فقالت وهي خارجة من ال «أبرا»: يقدر الإنسان أن يعلم الدب والسعدان الرقص، رقص هؤلاء البنات علمه أكبر من فنه، أما رقص تلك الراقصة المشهورة فالفن فيه أكبر من العلم، فيه حركة خصوصية وما يدعوه الشعراء ارتجالا، ابتكارا. - سنزور الآن أكبر قاعة عمومية للرقص في باريس فتشاهدين فيها ما لم تشاهديه بعد من أنواع هذا الفن، وركب وإياها سيارة سارت بها إلى ناحية ال «أبزرفاتور» ووقفت أمام صرح كبير فخم كأنه من صروح الحكومة أو من قصور الملوك الأقدمين، فقالت مريم وهي داخلة: يظهر أن لا شغل لهؤلاء الإفرنج غير الأكل والشرب والرقص. - وتوابعها، لا تنسي توابعها. - السكر والموت؟ - بين الاثنين فترة لا يزدري نعيمها بشر، إنما هي الحياة. - لا أعرفها. - ستعرفينها، ما قولك بهذا النوع من الرقص؟ - مليح، ولكن في رقص العرب رجالا ونساء أدب، ولا أدب في هذه الست من رأيي؟ بلى، الرجل الذي يخاصر امرأة في قاعة عمومية على هذا الشكل مثلا، وذاك - وأشارت إلى بعض الرجال الذين لا يكتفون بالمخاصرة على ما يظهر - هذا حيوان لا بشر، قم بنا، مثل ذي المشاهد تغيظني، تزعجني.
وخرجت مريم من تلك القاعة وقد ضاقت فيها صدرا.
فشيعها نجيب إلى البيت وودعها حسب عادته عند الباب، وكانت إذ ذاك الساعة الثالثة بعد نصف الليل.
رمت مريم بنفسها على الفراش تلك الليلة وهي تضحك ضحكة اليأس، وتقول: هل هو يا ترى مثل القس جبرائيل؟ هل هو مثله؟ ثم صرت بأسنانها، ولعنت حظها، وما نامت إلا قليلا فنهضت على عادتها باكرا وهي خامدة الذهن، بطيئة الحركة، ثقيلة القلب، سيئة الخلق، حردة ناقمة، فجاءت سيدتها تؤنبها وقد علمت أنها تأخرت ليلة البارحة في عودتها إلى البيت. - هذا مضر بصحتك يا بنتي ومشين بسمعتك. - ليس أمري في يدي مدام. - أنا مسئولة عنك، جئت بك إلى باريس. - وندمت؟ دعيني إذن أرجع إلى بلادي. - هل أنت مريضة يا مريم هل تشكين ألما ما؟ - لا مدام، أنا حزينة، ولدت شقية، وسأعيش شقية، وأموت شقية، ولا أقدر أن أعلم المسيو فرنسوى ولا ... ولا ... أحسنت إلي مدام فلا أسيء إليك، ولا أقبل ما لا ينعمني ويشقيك، ابنك مدام ابنك ... - فهمت يا مريم، طيبي نفسا يا بنتي، سأنظر في أمرك وأمره.
وكانت مدام لامار قد علمت بمكنونات ابنها ولواعج قلبه من الخادمة شرلت ومنها أيضا، فاحتالت عليه في إبعاده عن مريم إلى أن تنظر ما تصنع في أمرها، بعثته ليتفقد شئون كروم لها في أواسط فرنسا، فسافر المسيو فرنسوى وهو لا يدري ما وراء سياسة أمه، ودع معلمته آسفا متأوها ووعدها أن يعود بعد أسبوعين.
وجعلت مدام لامار تفكر في مصير مريم، ليس من العدل أن تطردها من البيت، وليس من الحكمة والرحمة أن ترمي بها إلى البحر في باريس، بلا قيد ولا شراع، أتعطي اسمها إلى سمسار الخدم في المدينة فيدخلها بيتا تخدم فيه؟ أتبعثها إلى كرومها فتخدم هناك مع الأجراء؟ أتقدمها إلى صديقة لها سألتها عما إذا كانت تعرف أحدا يعلمها العربية؟ أو ترجعها إلى بلادها، لقد حارت مدام لامار في أي من هاته الطرق تتبع.
وقد مر الأسبوع ومريم تفكر تارة في اتخاذ الرقص مهنة لها وتارة في نجيب مراد، وفي كلتا الحالين وطنت النفس على الخروج من بيت مدام لامار، ومن طباع مريم أنها إذا ملت أمرا فلا تقيم عليه، وإذا كانت غير راضية في بيت فتهجره، وشد ما كان غيظها لما مر يوم الجمعة ولم تر فيه ابن بلدها، فقالت في نفسها: هل ملني فهجرني؟ حفظه الله! سأبقى في باريس وسأصير من راقصاتها المشهورات.
ولكن نجيبا كان في لندرا يقضي بعض حاجات تختص بأشغالهم المالية بسوريا، فأقام هناك أسبوعا وعاد إلى باريس.
وفي صباح الجمعة من الأسبوع الثاني بعد سفر المسيو لامار كانت مريم خارجة من البيت قصدها التنزه فالتقت بنجيب في الباب وهو قادم إليها، فاستأنست به وفرحت للقائه. - ظننتك سافرت من باريس. - ظنك في محله، وقد كتبت إليك من لندرا. - لم يصلني كتابك. - عجيب! ولكن من حضر ما غاب، تفضلي. - إلى أين؟ - إلى جنة عدن. - جنة عدن؟ سمعت معلمتي في الدير تقول مرة: إن جنة عدن في بلادنا. - في بلادنا أخبارها وفي باريس آثارها.
ولما استقر نجيب في مركزه وأقفل الباب أدار السائق دولابه ونفخ بوقه وسارت السيارة على رحمة الله تتخلل صفوفا من العربات في شوارع يموج في جانبيها مزدحم من البشر لا نهاية له ولا بداية. - قد شاهدت كل متاحف باريس وآثارها وأكبر مسارحها وأهم قهاويها وأغرب ما فيها، بقي علي أن أريك ما لم تريه بعد وما لم يره إلا القليلون من السياح وأفراد من كبار الفرنسيس. - وما هو يا ترى؟ - هو سر لا يفتحه غير هذا، واستخرج من جبيه مفتاحا أصفر صغيرا، ثم قال: هذا المفتاح عزيز عجيب، لا يظفر به إلا الأمراء والأعيان وكبار المأمورين والسياسيين، وبعض الأميركان المجانين الذين يتقيئون أموالهم أمام الأجانب، هذا المفتاح قد يكون حمله أحد رؤساء الجمهورية أو أحد أعضاء «الأكاديمي» أو أحد الوزراء أو أحد ملوك أميركا، فاعلمي أن في هذه المدينة - في بعض زواياها الشريفة - جنات لا يدخلها غير البله الأغنياء أو أبناء باريس الكبراء. - ومن أي الطبقتين أنت أيها السيد الشرقي؟ - هذا يوم جد لا يوم مزح، ها قد وصلنا انزلي هاتي يدك.
وكانت قد وقفت السيارة في زقاق مظلم ضيق مهجور أمام بيت ظاهره حقير وبابه وشبابيكه مقفلة كلها. - ويلي إلى أين تسير بي، أهذا بيتك يا نجيب؟ - بيتي في النزل الذي تعرفينه، وهل سقطت إلى هذه الدرجة في عينيك لتظني أني أقيم في مثل ذا البيت وفي هذه الناحية؟ - وكان قد فتح نجيب الباب بذاك المفتاح السري الصغير. - ادخلي، ادخلي، ما بالك؟ أتخافين وأنا دليلك؟
فدخلت مريم وإذا هي بين بابين مقفلين في صفة مظلمة باردة، ففتح نجيب الباب الثاني وصعد وإياها درجا سجاده الأحمر الثقيل يخسف تحت الأقدام، وعلى قاعدة درابزون البراق تمثال فتاة عارية تحمل قنديلا كبيرا بيديها المرتفعتين فوق رأسها، وفي زاويتي الصفة - صفة الدرج - تمثالان من الرخام يمثل الواحد منهما شابا رومانيا يحمل أكرة كان يريد رميها، ويمثل الثاني امرأة تخلع ثوبها وقد بدا نصف جسمها عاريا من إحدى كتفيها إلى قدميها، وعلى رأس الدرج تمثال آخر يمثل كاهنا يحرق بخورا أمام إلهة من آلهات الأقدمين، وعلى الجدران المبطنة بورق فخم من لون السجاد صور شتى تمثل فصولا من كتاب الحب الأبدي.
صعد نجيب الدرج ولم يحفل بهذه التحف والآثار كأنه ألفها، وأما مريم فلما شاهدت الصور وقفت خائفة واجفة. - ما هذا، وما ذاك؟ لا، لا، لا أحب هذا البيت لا أحبه، دعني أخرج منه، دخيلك. - أتروعك هذه الصور؟ ألم تشاهدي مثلها في قصر اللوفر؟ - ولكن ذاك محل عمومي آهل بالناس، وهذا البيت مهجور - ربي! أخاف من ذي السكينة، تذكرني بسكينة الدير، وسكينة القبور، أخاف من نفسي ومنك فيه، دخيلك، لنخرج من هنا. - كما تريدين، إذا كانت الصور ترعبك فادخلي هذه القاعة الخالية منها.
ووقف أمام سجف أحمر عند رأس الدرج وفتح بابا وهو الباب الوحيد هناك وأخذ مريم بيدها فأدخلها، فإذا هي في ردهة كبيرة كل جدرانها مبطنة بالمرايا من الأرض حتى السقف لها شباكان مقفولان عليهما ستارات من الخرج الثمين فوقها سجوف من المخمل الأزرق الفاتح، والفرش والسجاد من لون السجوف، والكراسي مذهبة الإطار محفورة عليها شارة أحد ملوك الفرنسيس، كأنها أثر من الآثار القديمة.
وقفت مريم في تلك الردهة المتلألأة تطوقها بنظرات مستغربة فتمثل لها من نفسها أشخاص لا تعد منعكسة في المرايا أمامها ووراءها ورأت من نجيب مئات حولها يضحكون، ثم أخذت تدور فيها فتجس الجدران كالعمياء فلم تهتد إلى باب واحد، حتى إن الباب الذي دخلت منه اختفى أثره تماما. - وسترين ما هو أعجب من هذا، فلا تجزعي، كوني ثابتة الجأش ليس في الأمر سحر، ولا في البيت جن، أترين هذه الطاولة؟ لا شيء عليها سوى هذه الأزاهر، عليك نور.
ثم تقدم نجيب إلى الحائط فكبس زرا في إطار من أطر المرايات يكاد لا يبدو للعيان، ثم نقل إلى الحائط المقابل له وكبس زرا آخر فانفتح إذ ذاك باب فأدخل مريم منه، يقول: أسرعي، أسرعي، ثم أغلق الباب وأقفله من جهته الخشبية لا من جهة المرآة، وأصبح ومريم في غرفة صغيرة اعتيادية مفروشة بديوان شرقي وثير حافل بمخدات الريش والوسائد السندسية، وعلى جدرانها صور من بعض إلاهات اليونان. - هذه غرفة الانتظار، وهذا باب الحمام. وفتحه نجيب وكبس زرا فنورت أنوار الكهرباء في حمام من الرخام الأبيض يبرق كالمرآة المصقولة. - وهذا باب آخر ظاهر، لا شيء سري في هذه الغرفة الصغيرة، تفضلي ادخلي إلى هذه الردهة، فدخلت مريم فإذا هي في ردهة أخرى كبيرة أبوابها سرية، ومخارجها خفية، وفرشها وسجادها وسجوفها والآنية فيها من اللون الأصفر الغامق أو الذهبي القديم، في وسطها ديوان شرقي قباله على الجدران الثلاثة مرايا طويلة بينها صور تمثل أطوارا من مشاهد الحب، وفي إحدى زواياها سرير أميري ذهبي العمد سندسي القبة. - مريم هذه جنة عدن، ولكن الجنة الخالية من العاشقين إنما هي كالقفر السبب أو كالطلل الدارس، اخلعي برنيطتك، اخلعيها.
فامتثلت مريم أمره، ثم وقف باسطا ذراعيه ينظر إليها مستعطفا فوقعت على صدره جائشة باكية. - أتبكين ونحن في الجنة؟ تعالي أريك الآن الأعجوبة.
فكبس في موضع تحت صورة من الصور فانفتح الباب فخرجا فإذا هما في غرفة الانتظار ثم فتح الباب الثاني فإذا هما في ردهة المرايا بل في ردهة المائدة، فوقفت مريم أمام الطاولة وهي حافلة بآنية الفضة والصحون والزجاجات. - قلت لي أن لا جن في هذا المنزل، فمن جاء بهذه الأشياء كلها؟ - إله الحب، رب العاشقين، اجلسي.
ورفع نجيب أغطية الفضة عن صحون يتصاعد منها البخار وتفوح بروائح اللحوم والبذورات الطيبة، وإذا هناك غذاء أو ما يدعوه الفرنسيس ترويقة مؤلفة من أربعة ألوان ومعها الحلوى والجبن والثمار وركوة من القهوة على سراج له صفيحة من الحديد أشعل نجيب النار تحته لتظل القهوة فيها حامية.
وإلى جنب المائدة عروسها، بل بيت شعرها، ذات الفم الذهبي غائصة في الثلج في دلو من الفضة، ولما فرغت زجاجة الشمبانيا سكب نجيب القهوة ونهض يعمد إلى زر في الحائط. - هذه الأزرار تخيفني، كأنها جراب الكردي أو خاتم سليمان. - بل هي جراب الكردي، تعالي انظري!
جاءت مريم واجفة فإذا هي أمام خزانة فيها أنواع اللحوم الباردة تحت أغطية من الزجاج، وزجاجات شتى من الخمر ومن المشروبات الروحية. - أمن هذه الزجاجة أسكب لك أم من هذه؟ أم من تلك؟
شرترز، بيندكتين، كريم دي منت، كنياك. - كريم دي منت. - والآن وقد وفينا الغذاء حقه نعود إلى غرفة الانتظار فأريك بعدئذ أعجوبة ثانية.
فدخلت مريم ودخل نجيب وراءها بعد أن كبس الزر في الحائط فانفتح الباب المقابل لتلك الغرفة ودخل خادمان لا صوت لوقع أقدامها ولا لحركاتهما ينقلان الصحون وأواني المائدة، ويعيدان إلى القاعة ترتيبها المألوف، وما هي إلا برهة حتى انتهيا من عملهما فغلق الخادم الباب إذ خرج فأقفل من الداخل؛ أي من قاعة المرايا. - استلقي على الديوان ترتاحي، وقد تريدين أن تنامي قليلا، ودخل نجيب إذ ذاك غرفة النوم فخلع ثيابه وكبس زرا في الحائط فانفتح باب فإذا بخزانة فيها بعض ثياب النوم، فارتدى نجيب قميصا واضطجع قليلا للراحة، ثم نهض بعد فترة وراح يستيقظ مريم فوجدها جالسة على الديوان تسند رأسها بيدها، فقال لها: تعالي أريك الآن الأعجوبة في غرفة المائدة.
فخرج وإياها إلى غرفة الانتظار بعد أن كبس الزر فدخلت الخادمة من باب خفي تلبي الدعوة فرتبت الردهة وعادت من حيث أتت، فأغلقت الباب فأقفل من الداخل. - أين المائدة الآن؟ قلت لي أن لا جن في البيت؟
فأطلعها نجيب على السر في هذه الحركات الخفية كلها. - لو كنت قيصرة روسيا وكنت أنا عاهل الألمان وجئنا هذا المنزل السلطاني، بل الجني نقضي به شهرا كاملا نأكل ونشرب وننام محفوفين بخدم لا نراهم ولا يروننا مثل آلهة الحب التي تحرسنا فأكدي أن لا أحد في العالم يدري بوجودنا هنا إلا صاحب البيت، نعم، ولكن صاحب البيت يعرف أن بيته مأجور، ولا يعرف لمن من الناس.
فقالت مريم وصوتها يرتجف: وهل تنوي أن نقيم هنا شهرا. - ليكن ذلك إذا شئت، فنقول بعدئذ: «على ثروة مراد السلام!» - لا، لا، سيدتي توبخني إن لم أعد الليلة، ولا أطيق توبيخها، وقد تطردني من البيت. - ستعودين إن شاء الله.
وفي تلك الليلة أكثرت مريم من الشمبانيا وأغراها نجيب فوق ذلك بسيكارة من الحشيش فنست الفتاة سيدتها ونست حالها، فرقصت رقصة بنات الهيكل وقدمت نفسها على مذبحه ضحية ذكية.
وفي صباح اليوم الثاني قال لها نجيب: «أنت الآن ضيفتي ونحن عرب تقاليدنا عزيزة عندنا مقدسة، وحق الضيافة ثلاثة أيام.» ومريم وقد تخدرت مفاصلها ولم تعد تملك إرادتها أحنت رأسها ساكتة.
ثلاثة أيام أقاما في ذلك المنزل الجني لا يريان من النور غير نور الكهرباء، ولا يسمعان من الأصوات غير أصوات الغرام.
ولما خرجا أصيل يوم الاثنين ركبا سيارة إلى الحرج. - ساعة في الهواء النقي قبل أن تعودي إلى البيت. - ويلي وماذا أقول لمدام لامار. - قولي لها: إنك التقيت بسيدة سورية تعرفينها فعزمتك إلى بيتها خارج باريس تقضين عندها بضعة أيام. - ولا تنس أن تقابل مدير ال «التياترو». - سأقابله غدا وستظفرين بما تريدين إن شاء الله. - ومتى أراك؟ - الأسبوع القادم حسب العادة.
أما مدام لامار فقلقت جدا لتغيب مريم وبعثت إلى إدارة الشحنة باسمها تسألهم التفتيش عنها، وعولت إذا عادت الفتاة أن تسفرها إلى بلادها حالا، فلما دخلت مريم مساء ذاك اليوم بهتت مدام لامار لرؤيتها على تلك الحال، مشحوبة الوجه، غائرة العين، خامدة الذهن، بطيئة الحركة. - ماذا دهاك يا مريم، هل أنت مريضة؟ هل تشكين ألما ما؟ - لا مدام. - وأين كنت؟ أشغلت بالي جدا، أين كنت متغيبة؟ فسكتت مريم. فأعادت عليها مدام لامار السؤال فأجابتها بصوت شجي خافت: ليس أمري في يدي مدام، لم أعد أليق أن أكون خادمة لك ولا أن أقيم في بيتك.
فأظلم وجه السيدة الإفرنسية، فقالت مناعمة: حسن يا بنتي، فقد عولت أن أعيدك إلى وطنك. - لا أعود إلى وطني، لا أعود إلى فلسطين.
فأطرقت مدام لامار مفكرة وتركتها تلك الليلة وشأنها، وفي صباح اليوم الثاني جاءت تقول لها: تعرفين يا مريم أنني أريد صلاحك، وأظن أن مصر توافقك ويكون لك فيها مستقبل حسن، وسأعطيك كتاب توصية إلى أحد أصدقائي هناك، فينبغي أن تسافري حالا، الباخرة الإفرنسية تبحر من مرسيليا بعد يومين، اجمعي ثيابك وأغراضك، وسأبعث إلى الشركة أبتاع لك تذكرة السفر.
وفي اليوم التالي تناولت مريم من يد سيدتها تذكرة سفر إلى مرسيليا وأخرى إلى مصر في الدرجة الثانية، وكتاب توصية إلى جمال الدين باشا أحد مدراء البنك الإفرنسي هناك، وغلافا فيه عشرون ذهبا أجرتها.
ودخلت شرلت إذ ذاك تقول: العربة في انتظار. - وهل أنزل الصندوق؟ - نعم. - الله يوفقك يا مريم، شيعي مريم إلى المحطة يا شرلت. - لا لزوم لذلك مدام، لا لزوم، أنا أقدر أن أعتني بنفسي. - حسن، بن فوياج - قولي للحوذي يا شرلت أن يوصلها إلى محطة «ليون».
ولكن مريم لا تحب أن تسافر إلى بلادها، بل لا تريد أن تترك باريس، فإن لها من يعينها فيها على رغبتها، وينبغي أن تراه، ما العمل؟ ما التدبير؟ أطرقت الفتاة مفكرة بينا العربة تسير بها إلى المحطة، فلاح لها فكر بعث الأمل في عينيها، ولما وقفت هناك، أنزل الحوذي صندوقها وحقيبتها فاستلمهما أحد الحمالين، ولبث ينتظر أمر السيدة المسافرة.
صرفت مريم الحوذي ووقفت على الرصيف حائرة بائرة كأنها نسيت أمرا أو أضاعت شيئا، ثم استدعت حوذيا آخر وأمرت الحمال أن يعيد أمتعتها إلى العربة. - لا أقدر أن أسافر الليلة.
ونفحت الحمال بقطعة من النقود وأعطت الحوذي اسم النزل المقيم فيه نجيب مراد.
ولما وصلت إلى ذاك النزل الفخم في قلب المدينة استأجرت غرفة فيه وسألت عن ابن بلدها فقيل لها: إنه سافر. - متى سافر؟ - مساء البارح مدام. - وإلى أين؟
فعمد الكاتب إلى سجل يقلب في صفحاته، ثم قال: لا نعلم مدام، لم يعطنا المسيو مراد عنوانه.
الفصل الثاني عشر
صعدت مريم إلى غرفتها مساء ذاك النهار فخلعت ثياب السفر، ثم اغتسلت وصففت شعرها وجلت أظافرها، ثم ارتدت ثوبا من الحرير الأحمر الغامق تحجبه وتظهره غلالة من الخرج الأسود الفخم وهو الثوب الوحيد من نوعه عندها، لبسته مرة واحدة فقط، وذلك ليلة زارت ال «أبرا» ونجيب مراد، فبدت فيه مكشوفة الأذرع والترائب وسلسلة الذهب ذات الأيقونة الحندقوقية في عنقها، وقد ظللت مؤخره ظلال خفيفة من ضفائر شعرها الأسود الكث المضفور في شكل يزدري العناية والتكلف مسترخيا مستمسكا، تدخل الطية منه في الطية مائجة، كأنها حيات في أحجارها وقد بدت الرءوس من خلال ثنياتها.
وقفت مريم بانحراف أمام المرآة، وقد مالت بوجهها تنظر إلى الصورة المنعكسة هناك فأعجبها منها قدها، وأنيق جانبها، وانسلاك كتفها، والضفائر المسترخية فوق جيدها، ونزلت إلى البهو الكبير وهي كما يقال فتنة للعالمين تتناول العشاء، فاستقبلها رئيس الخدم في الباب محني الرأس باسما. - هل مدام وحدها؟ - نعم.
فمشى قدامها إلى وسط القاعة والناس نساء ورجالا يحدجونها بالأنظار معجبين مستغربين، فقالت سيدة وقد رفعت المنظار الصغير إلى عينيها: أميرة هندية في زي باريسية، روح العصر! روح التمدن! فأجابها الرجل: وقد تكون مسلمة خرقت حجابها، جميلة فتانة.
وقف رئيس الخدم عند طاولة صغيرة يعد للسيدة الكرسي، فجلست مريم والتيه جالس بين عينيها والإباء يكلل جمالها، فقدم إليها قائمة الأطعمة ثم قائمة الخمر، فألقت هذه جانبا وجعلت تقلب نظرها في تلك، وهي تفكر بالمرة الأولى التي رأت مثل هذه القائمة فهالها تعدد الألوان فيها وظنت أن على المرء أن يأكل منها كلها.
ثم جاء الخادم ينتظر أمرها، فأصدرته وهي سامدة الرأس والقائمة بيدها دون أن تنظر إليه: أن دبنه، أه دزوليف، أه بوي، سان جرمن، فيله دي سل، بوله إن كسرل، سالاد أنديف، ركفور، د مي تاس، أه أين دمي بوتاي دي مم سك.
وترجمة ذلك في لغتنا الشريفة، ولكن الترجمة تذهب بلذة هذه الأطعمة الغربية الأسماء، وحسب القارئ أن يعرف أنها تبتدئ بفنجان من الخمر وتنتهي بزجاجة من الشمبانيا ليدرك بعض ما جال في نفس مريم تلك الليلة.
ولما عادت إلى غرفتها بعد العشاء عمدت إلى التلفون فطلبت علبة من السكاير المصرية وجرنال المساء، فجاءها الخادم بالعلبة على صينية من الفضة فتناولتها ووضعت مكانها قطعة من النقود فأحنى الخادم رأسه شاكرا.
أشعلت مريم السيكارة تلو الأخرى وهي تتصفح الجريدة وتفكر في طريقة تحل بها لغز القضاء فيها، فأخذت السطر الأول من أول عمود في الصفحة الأولى من الجريدة والسطر الأخير من آخر عمود في صفحتها الأخيرة، فكتبتهما على ورقة وجمعت كلماتها فإذا هي ثماني عشرة كلمة، ثم جمعت حروفها فإذا هي خمسة وستون حرفا، فضربت العدد الأول بالثاني، ثم قسمت الحاصل على تسعة؛ أي تاريخ ذاك اليوم، ثم على ثمانية عشر؛ أي عمرها فكان خارج القسمة عددا مفردا، ثم أسقطت منه أربعة، وهي عدد الحروف في اسمها فظلت النتيجة عددا مفردا.
فنهضت إذ ذاك ونزعت ثيابها ونامت مطمئنة البال، وذهبت في صباح اليوم الثاني إلى بيت الشركة؛ شركة البواخر، لتعيد تذكرتها، فقبلت التذكرة في الشركة وأعيد إلى مريم بعد إسقاط عشرة بالمائة من الثمن رعي الأصول ما تبقى من المال، فضمته إلى ما معها وعادت إلى النزل تحسب حسابها. - هذه القيمة لا تقوم بنفقاتي في هذا النزل أسبوعا كاملا، علي إذن أن أنقل منه.
وأخذت الجريدة تطالع في عمود الإعلانات منها، فكتبت على ورقة أسماء بعض النزل الخصوصية «بنسيون» وراحت تستكشف خبرها، فتوقفت إلى غرفة في واحد منها تدفع فيه لقاء الأكل والنوم في الأسبوع ما لا يقوم بنفقات يوم في النزل الكبير. - حسنا فعلت، غرفتي في بيت مبارك بالناصرة لم تكن أكبر من هذه والحمد لله أن لهذه شباكا وإن كان صغيرا، ربي! لا أظنه فتح منذ شيد البيت، وهذا المتراكم على زجاجه، لا غبار يعرف ولا دخان ولا صقيع، وقد يكون مزيجا متجمدا منها كلها، لا بأس، وكيف يفتحه، (طق طق طق طق!) وجعلت تدق إطار الشباك بكعب حذاءها.
فسمعت سيدة البيت الطقطقة فجاءت مسرعة. - ما بالك مدموازل. - أحاول فتح الشباك. - لا لزوم لذلك مدموازل لا لزوم لذلك. - بل لازم جدا هل أعيش بلا هواء؟ - الهواء يقتلك مدموازل، نحن في فرنسا لا نفتح الشبابيك قطعيا. - ولماذا الشبابيك إذن؟ - للزينة مدموازل وللنور في بعض الأحايين. - وهل تظنين النور يدخل من هذا الزجاج الأسود؟ أهذا حجابي، لا لا، (طق طق طق!) - قد تكسرين الزجاج مدموازل، فتدفعي ثمنه. - أدفع ثمنه وحبة مسك. - ماذا تقولين، آبا موس؟ - قلت في لغتي مدام: إنني أدفع ثمن الزجاج إذا كسرته، (طق طق طق طق!) والحمد لله فتاح الأبواب والشبابيك، آه، ما أجمل هذا المشهد! - وما أكثر المداخن أمامي، إذا بردت أنظر إليها والدخان يتصاعد منها فتدفئني، الهواء يقتل! الشباك إنما هو للزينة! هذا أعجب ما سمعت في هذه البلاد - بلاد الزينة - سبحان الله، والحمد لله فلا بأس بهذه الغرفة وقد فتحت شباكها، والخمسة أدوار تحتي بل المائة درجة إلى كوخي أصعدها راقصة أتمرن عليها.
وجلست مريم على سريرها تعد مالها ثم قالت: خمسة وثلاثون ذهبا تعيشني هنا أربعة أشهر في الأقل، وإن لم أظفر بمنيتي أثناء ذلك فأقفل هذا الشباك وأستلقي على هذا السرير، وأموت! الله كريم!
ثم جلست إلى منضدة صغيرة في زاوية الغرفة وأخذت طلحية من الورق وكتبت عليها ما يلي: (1)
لقد ولى يا مريم يوم الخمر والسكاير واللهو. (2)
اسعي منذ الآن سعيا متواصلا. (3)
أعرضي عن الرجال واحترسي منهم. (4)
مارسي الرقص ثلاث ساعات كل يوم في الأقل. (5)
لا تسهري خارج بيتك إلا إذا كان في أحد ال «تياترات» للمشاهدة والدرس. (6)
لا تضيعي من وقتك ساعة في ما لا يعينك على نيل رغبتك. (7)
لا تصرفي من مالك فرنكا واحدا إلا في ما يعينك على نيل رغبتك. (8)
طالعي من الكتب ما استطعت وبالأخص ما هو منها في موضوع الرقص. (9)
وأخيرا، لا تقفلي الشباك إلا إذا خفقت في باريس سعيا، وقطعت منها الرجاء.
من الجواذب الاجتماعية في المغرب اليوم، التي تجذب النساء فتبعدهن من نعيم البيت وظل الأبوين، أو من قداسة المهد والأمومة، وتقذف بهن إلى معترك الحياة كالرجال، جاذبان قويان لا مرد لهما ما زالت صحف الأخبار وما زالت المسارح في تلك الديار، فالتمثيل والتأليف - المسرح والقلم - يغريان فتيات شغفهن بالظهور أكثر منه بالعلم والفنون، ولا غرو فقد أمسكت هذه الكأس عن المرأة أحقابا من الزمان؛ أي الكأس التي تكمن العقرب في ثمالتها: كأس الشهرة والمجد الباطل، فالمرأة اليوم تشارك الرجل بها ولا تبالي بما تقاسي منها، والرجل هناك وإن بالغ في احترامه المرأة وإجلالها يشرب غالبا الكأس ويقدم لها الثمالة وما كمن فيها، لذلك كان حظ النساء من المسرح والقلم قليلا والقليل من السم كثير.
على أن منهن من تبتغي غير الشهرة والمجد الباطل، ومنهن من لا تبتغي غيرهما، ومنهن وهن الكثيرات يمسين من أدوات ال «تياتر» مثل سائر العمال يحركهن رجل لا ينبض فيه عرق من عروق الشرف والعطف والحنان، ويا لها من أجزاء صماء في آلة صماء دولابها في يد المدير وزيتها في مال المتفرجين من الناس، قلنا: إن منهن من لا تبتغي الشهرة، وماذا إذن؟ إنها تبتغي التصعيد إلى سلم الاجتماع علها تفوز في الطبقات العالية فوقها بمن يكفل لها نعيما عماده الأمومة والمهد، وهذا حلم جميل إذا صح، هي رغبة شريفة إذا حققتها الليالي.
وشواذ القاعدة نذكره إنصافا، هو أن من النساء من وهبن مثل الرجال مواهب سامية في الفنون الجميلة فيؤثرن الفن على الزواج، ولا يؤثرونه على الحب، يعشن، لا عاش أعداؤهن، كغزلان الفلاة يصدن ويصتدن إلى أن يجيئهن «هادم اللذات ومفرق الجماعات».
أما مريم الناصرية فشغفها بالرقص شغف ذاتي ينحصر مثل توحيد الصوفي بالذات الباطنية، شغف مجرد لا تتصل أسبابه - أي في حالته الباطنية - بواحد من أسباب هذه العاجلة، وإن فتاة ذهنها خال من خزعبلات الاجتماع لا تستهويها الشهرة ولا المجد يغريها، فهي لم تنشأ في وسط غربي تتراجع فيه صباح مساء وليل نهار أصداء البطولة الكاذبة والشهرة العازبة، أحبت الرقص كما يحب الناسك كوخه، والسالك ربه، والسكير كأسه، والشاعر عروس شعره، وصارت تود الظهور على المسرح لتقرب مما ظنته منتهى الكمالات، فعولت على نجيب مراد فخانها، فنبذته من قلبها غير آسفة وتوكلت على الله، توكلت على الله بعد أن حفرت في لوح قلبها تلك الوصايا وعاهدت نفسها أن تقيم عليها وتحتفظ بها جهدها.
وفي اليوم الثاني بعد أن نقلت إلى تلك الغرفة العالية الصغيرة خرجت في ثوب بسيط أنيق من الجوخ الكحلي، فعرجت على بياع الزهور وابتاعت أضمامة من الياسمين فزينت بها صدرها وهي تقول: هذه لازمة في بلاد زينتها أهم ما فيها، والشبابيك في بيوتها تعد من الزينات.
وراحت تقصد أول «تياتر» زارتها في باريس وشرلت الخادمة، فطلبت أن تقابل المدير فقال لها أحد الحجاب: المدير لا يقابل أحدا اليوم. - وهل يقابلني غدا؟ - وما غرضك مدموازل؟
وفي عالم التمثيل حتى العجوز تدعى آنسة. - الرقص. - طالبة؟ - نعم. - تعالي غدا بعد الظهر.
فعادت في الوقت المعين ولبثت تنتظر برهة فخرج المدير من مكتبه وقابلها واقفا وصرفها موجزا متلطفا: لا فراغ عندنا اليوم مدموازل.
فراحت مريم تطلب مقابلة مدير آخر فصدها الحاجب: المدير مدموازل لا يقابل الطالبات. فصوبت خطواتها إلى «تياتر» أخرى فلم تفز برغبتها، وظلت مريم تبحث أسبوعين فأعياها البحث، ولكنه لم يثبط من عزمها وما أورثها القنوط.
أعادت الكرة وقد اتخذت لنفسها خطة جديدة، وقفت ذات يوم في باب إحدى التياترات الكبيرة ونور الأمل يبرق في جبينها وإضمامة الياسمين تؤنس قلبها. - قل للمدير: إن راقصة من الشرق تروم مقابلته. - وما الاسم مدموازل؟ - راقصة من الشرق ماذا يهمك اسمي؟ - قد يهم المدير مدموازل. - الرقص لا الاسم يهم المدير، قل له: إن راقصة مصرية ...
فأعجب الحاجب بلهجة الفتاة الغريبة وبحسنها وعاد بعد هنيهة يقول: إن المدير يقابلك غدا بعد الظهر.
فراحت مريم تعلل نفسها بالآمال وعادت في اليوم الثاني فقابلها المدير بمكتبه، وبعد أن حدثها في ما تحسنه وفي ما تبتغيه قال: الراقصات اللواتي نستخدمهن مدموازل يتعلمن الرقص صغيرات، يدخلن مدرسة ال «أبرا» وهن في الرابعة أو الخامسة من سنهن، فيتدرجن تدريجا إلى كمالات الفن وإلى الشهرة، إني لآسف مدموازل، آسف جدا، نهارك سعيد.
خرجت مريم من المكتب وهي تقول: ما أقسى قلوب هؤلاء الناس! لم يسألني واحد منهم أن أرقص ليعرف ما إذا كنت أحسن الرقص. ووقفت ذات يوم في رواق ال «تياتر فرنسه» حزينة يائسة تشخص بعينيها إلى تمثال الشاعر دي ميسه فخطر لها أن تطرق باب المدير، وقد كانت أحاطت علما بأهمية ال «كوميدي» وبعلو مركزها في عالم التمثيل، ففتحت أحد الأبواب تقدم رجلا وتؤخر أخرى وإذا برجل ذو إهابة وإجلال يتخلل الشيب لحيته ويبرق في عينيه نور الكرم والمعروف خارج من أحد المكاتب، فاستوقفته مريم تعتذر إليه، فرفع قبعته وسألها حاجتها، فأجابته أنها تحب أن تقابل المدير. - وما غرضك مدموازل؟ - الرقص، أحب أن أكون من الراقصات.
فعلم الشيخ أن الفتاة غريبة وعطف عليها لسذاجتها. - وهل تحسنين الرقص؟ - نعم. - وأين تعلمت؟
فاضطرب على مريم. - من أي بلاد أنت مدموازل؟ - من فلسطين.
فرفع الشيخ حاجبيه مدهوشا: وهل رقصت مرة على مسرح ما؟ - لا يا سيدي؟
فاستغرب أمرها ورثى لحالها وأشار بيده إلى باب أن ادخلي، فدخلت مريم إلى مكتب فخم حافل بالصور والتماثيل والكتب والجرائد والمجلات. - اجلسي مدموازل، واعلمي أن الطريقة التي تسلكينها لنيل رغبتك لا تجديك في هذه المدينة نفعا، فإن بين مدراء ال «تياترات» والممثلين طلاب المراكز وهدة عظيمة قد احتلها فريق من الناس يدعون وكلاء وسماسرة، ولا يمكنك أن تفوزي بشيء من أحد المدراء إلا بواسطة أحد الوكلاء، سأعطيك كلمة إلى سيدة من هؤلاء قد تنفعك وقد لا تنفعك.
وكتب الشيخ سطرين على رقعة دون أن يسأل الفتاة اسمها، وسلمها الكتاب قائلا: بن شنس مدموازل، ثم شيعها إلى الخارج ودلها كيف تصل إلى مكتب تلك السيدة ورفع قبعته مودعا، ومكررا: بن شنس مدموازل، وراح يقول في نفسه: ما أبعد أسبابك يا باريس وما أكثر أشراكك! حتى من فلسطين تجتذبينهن فريسات جمالك ومجدك وأضاليلك!
وصلت مريم إلى ذاك المكتب فإذا هو غاص بالممثلات والراقصات الطالبات عملا، وهناك يعنى بأمرهن شاب يسجل اسم كل واحدة وعنوانها في سجل ثم يسألها: في أي مسرح لعبت أو رقصت أخيرا؟ وأي نوع من الرقص رقصها؟ وماذا تطلب أجرة ... إلخ، وإذا كانت الطالبة جديدة يصف الكاتب ملامح وجهها وشكلها وقدها حتى ووزنها كأنه يكتب لها تذكرة مرور، فتدفع إذ ذاك الامرأة رسم الوكالة وتعود إلى بيتها تنتظر جوابا فيه باب مفتوح للارتزاق، وقد تنتظر شهرا بل شهرين فيجيئها جواب لا باب فيه لأمل في صدرها سجين.
أعطت مريم الشاب الكتاب فلما قرأ على الغلاف اسم ال «كوميدي فرنسه» أدخلها داخل الحاجز وقدم كرسيا فجلست، ثم دخل بالكتاب إلى غرفة أخرى وعاد يقول لها: ادخلي.
فدخلت مريم فرحة مستبشرة والطالبات المنتظرات يزلقنها بأنظارهن ويغبطنها على تيسير أمرها، وإذا هي في حضرة سيدة بيضاء الشعر زرقاء العين شاحبة الوجه غليظة اليد تتكلم دون أن تحرك شفتيها. - أنت من فلسطين؟ - نعم مدام. - وكيف وصلت إلى مدير ال «كوميدي»؟
فأبرقت أسارير مريم سرورا لعلمها أن من أعطاها كتاب التعريف هو المدير بعينه. - رأيته خارجا من مكتبه فكلمته.
فقطبت السيدة ما بين عينيها وزمت شفتيها. - وما اسمك؟ - مريم، ثم ترددت ثم قالت: مريم.
فكتبت السيدة على طلحية أمامها مريم مريم ظنا منها أن اسم الفتاة الثاني مثل اسمها الأول. - وأي متى جئت باريس؟ - منذ أربعة أشهر. - ولم تظهري بعد على أحد مسارحها، ولم تتعلمي الرقص في إحدى مدارسها، فاعلمي إذن يا مدموازل أن عليك أن تبتدئ مثل سائر المبتدئات، وهن يعددن بالمئات وسأسعى في سبيلك جهدي؛ لأن مدير ال «كوميدي» أوصاني بك.
ثم أفهمت مريم شروط الوكالة وكبست زرا، فجاء الكاتب فأعطته الورقة التي كتبت عليها اسم مريم وعنوانها. - سجل هذا الاسم في السجل. ادفعي الرسم للكاتب مدموازل.
عادت مريم إلى غرفتها ذاك اليوم والسرور يجول في وجهها، ولبثت تنتظر البشرى من تلك السيدة، ولى الأسبوع يتلوه الأسبوع وكمل الشهر؛ شهر الانتظار ومريم تتجرع مر الصبر وتتمرن أثناء ذلك على الرقص، ولكن كل آت قريب، ففي صباح ذات يوم استلمت كتابا من تلك الوكالة فعمدت لساعتها إلى قبعتها تلبسها وعرجت على بياع الزهور فزينت صدرها بإضمامة من الياسمين وراحت تلبي دعوة السيدة صاحبة الشعر الأبيض والوجه الشاحب القطوب، فأعطتها بطاقة إلى صاحب قهوة في «منمرتر»! وقالت: هذا جل ما تفوز به مثلك الآن، كوني في القهوة الساعة التاسعة صباحا.
ولم تتخلف مريم، بل وصلت قبل الوقت المضروب، فلقيت هناك سربا من البنات الباليات الأثواب، الشاحبات الوجوه، الغائرات العيون، كأن الواحدة منهن عصفور بلله القطر يلبثن منتظرات، ثم جاء رجل غليظ الجثة، سمين الوجه، كث اللحية، ضيق الجبين، جاحظ العين، فأمرهن بالوقوف أمامه، فوقفن صفا وبينهن المسحاء والعجزاء والغراء والدعجاء، والدعشوقة الرسحاء، فنشأ يقلب فيهن نظره ويفحصهن فردا فردا فتدور الواحدة كالتمثال على محورها فيجسها كما يجس الغنام غنما يروم ابتياعها، إلى أن انتقى منهن ستا من لون واحد، وقد واحد، ووزن واحد! وصرف الأخريات ومريم الناصرية منهن، على أنه كلمها وهو يزلقها ببصره قائلا: أنت حاملة هذه البطاقة من السيدة؟ فأحنت مريم رأسها، فشرق الرجل بريقه وهز رأسه وكتفيه وراح يقول في نفسه: جمالها يخسف جمالهن، ولونها يجعلها وحدها محجة الأنظار، لا، لا، لا توافق.
عادت مريم إلى مكتب الوكالة كسيرة القلب، أسيرة الهم والغم، فوعدتها السيدة خيرا، وبعد أسبوعين أعطتها بطاقة أخرى إلى مدير إحدى ال «تياترات» الصغيرة، فراحت وهي تكاد تقطع الأمل تقف مع العشرات مثلها في الصف حسب العادة، فجاء المدير يفحص وينتقي، ووقف عند إحدى الطالبات يجس صدرها وأوراكها، ثم قال: ادخلي تلك الغرفة واخلعي ثيابك. فامتثلت الفتاة أمره ثم جاءت تمثل أمامه عارية، فدارت دورتين وهو يدقق النظر في تقاطيع جسمها، ثم قال: حسن، حسن، البسي ثيابك، ثم أوعز إلى واحدة أخرى أن تعمل ذات العمل، فدخلت الغرفة عجزاء وخرجت منها عارية مسحاء، فضحك المدير وقال: لا حاجة لنا اليوم بالصبيان.
ثم وقف أمام مريم يقيسها بناظريه ويزنها. - أنت من فلسطين الله! الله!
دوري يا «فلسطين»، دوري قليلا، فدارت مريم وهي منكسة الرأس. - عليك خلع ثيابك.
فلبثت مترددة ثم رفعت رأسها تهزه إباء وامتناعا، فضحكت البنات، فتركها المدير يفحص غيرها حتى أنجز الفحص والانتقاء، فأفرد ستا من الطالبات غير المناسبات ولم تكن مريم الناصرية منهن، ثم كتب أسماء المختارات وخاطبهن قائلا: الأجرة ثلاثون فرنكا في الأسبوع، والتمرين الساعة العاشرة صباحا وسنبتدئ غدا، كن هنا في الوقت المعين.
لم تسر مريم كثيرا بهذا الفوز وما ملكتها منه الأحلام الجميلة، فجاءت في اليوم الثاني منقبضة النفس تباشر عملها، فتحققت بعد التمرين ما كانت تخشاه.
جاء المدير يقول: إلى العمل يا بنات، وطفق يجول في المسرح ويلوح بيديه؛ آمرا ناهيا، ناصحا معلما، ناقما صاخبا. - أنت يا جولي خطوتك صغيرة، وأنت برشاقة، برشاقة، إلى الأمام، يديكن كالأجنحة ترفرف، رأسكن إلى الشمال، نظركن إلى اليمين، امشي مشيا يا «فلسطين» ولا ترقصي سابرستي! امشي مشيا، مثل رفيقاتك، لاحظي من إلى يمينك ووافقي بحركات يدك حركات يدها، رأسك إلى الشمال، نظرك إلى اليمين، لا تحركي صدرك، برافوا «فلسطين» برافو، خطوة، خطوتان، ثلاثة، إلى اليمين جولي، إلى الشمال لويز، قفي، قفن كلكن، سابرستي! ليكن الصف مستقيما، حسن، حسن، راجعن ذلك.
فعادت البنات ست منهن إلى جهة الشمال خارج المسرح وست إلى جهة اليمين، ثم دخلن صفين على خط مستقيم فالتقت جولي بلويز ثم تقدمن صفين ثم افترقن، والمدير يعيد الأمثولة: خطوة خفيفة رشيقة، لا قصيرة ولا طويلة، حركي يديك يا «فلسطين»، ثبتي صدرك، رأسك إلى الشمال، نظرك إلى اليمين، صفا صفا، إلى الأمام قليلا، أنت، أنت، إلى الوراء.
وهذا هو الدور كله، تقف هؤلاء البنات في وسط المسرح وراء المغنية الشهيرة بينا تغني دورها وهن يطيبن برءوسهن وبأيديهن، ثم يجتمعن حولها ويدرن راقصات بل لاعبات كالبنات في الحقول في فصل الربيع، ثم يدخل اثنا عشر شابا فيرقصون حولهن، وكل شاب يذارع فتاة ويرجع بها إلى مؤخر المسرح بينا المغني والمغنية يغنيان معا دورهما المشهور.
ساعة من هذا التمرين، فعادت مريم إلى بيتها تقول: ثلاث خطوات على المسرح، وثلاث دورات حول المغنية، وساعة وقوف كالتمثال! أهذا ما سعيت من أجله؟ ورمت بنفسها على السرير أسيرة الهم بل طريدة الفشل، ولكنها لم تيأس، فعولت أن تجرب بادئة علها تتدرج سريعا.
وفي اليوم الرابع أوعز المدير إليهن أن يلبسن ثياب الرقص للتمرين الأخير، فدخلت البنات كل خمس منهن إلى غرفة صغيرة جدرانها مبطنة بصور الراقصات والممثلين مقصوصة من الجرائد والمجلات، وفيها بضع مرايا مكسرة، أمام كل واحدة منها رفرف عليه أصناف شتى من المساحيق والمعاجين والأدهان. - لماذا لا تخلعين ثيابك يا «فلسطين»؟ - «فلسطين» حبيبتي، أتقربك «صالومي» ألا تعرفينها؟ تلك التي قطعت رأس يوحنا المعمدان، ورأسك! أنت أجمل منها. - وما أبدع شعرها، وما أطوله، وما أجمل لونه ترالا لا! وحاولت الراقصة أن تحله فنفرت مريم منها. - اخلعي ثيابك لنتفرج على معاطفك وارتدي هذه السرابيل الحريرية، ولا تستحي. - لله من عينك، يا «فلسطين»، فيهن سحر المجدلية، دعيني أقبلهما. فتفلتت مريم منها حردة ناقمة، فتقدمت إليها راقصة أخرى تقول: اكشفي عن ساقك يا «فلسطين»؛ لنتفرج عليه، وجنبك، ترالا لا! - إليك عنها لا تمسيها، هي مطهرة، هي من الهيكل هيكل عشتروت. - الله! ورائحة شعرها كروائح الند والمسك والبخور. - حلي شعرك، حليه. - مريم المجدلية، ترالا لا! تعالي معي الليلة أجمعك بشاعر شعره مسترسل، ولحيته شقراء، وعيناه زرقاوان، شاعر يشبه المسيح، تعالي معي أيتها المجدلية أجمعك بسيدك.
وكانت مريم أثناء ذلك تخلع ثيابها والحنق من ذا التعذيب والتنكيد يملك نفسها، فتورمت أوداجها واحتدم الغيظ في ناظريها. - لله ما أدق مفصلها الكعبي! أين خلخالك يا «فلسطين»؟ - ولكن ساقها لا يناسبه، ساقها غليظ.
ومرت الفتاة يدها عليه فرفستها مريم وهي تلعن بالعربية أباها، فوقعت مستلقية على ظهرها فضجت الغرفة بالضحك والصياح، فقالت إحداهن: يحق «لصالومي» أن تقطع رأسك.
وقالت الأخرى: يحق «لفلسطين» أن تصلبك.
وقالت الثالثة: يحق للمجدلية أن تشرب دمك. - سأصلب عظامها! سأقور عينيها! نجاسة فلسطين! ساكرنن دي بالاستين! سأدق عنقها، سأفقأ عينيها! وهجمت تلك الفتاة تستل دبوس قبعتها، فوقفت جولي تصدها وتحمي مريم. - دعيني أقور عينيها، فقد أبت اللعينة أن أقبلها. - ردي دبوسك إلى قبعتك، ليس الوقت وقت براز. - يا للعار! يا للعار! إن هي إلا غريبة وإنكن غليظات قاسيات، لا تحردي يا مريم ولا تغضبي، دعيها تقبل عينيك فهي تحبك، وتعجب بجمالك، تعالي، قبليها، سا سا! لتحيا «فلسطين»! فهتفت البنات بصوت واحد: لتحيا «فلسطين»!
ثم خاطبتها جولي مناعمة ملاطفة فقالت: دعيني أساعدك، أين سرابيلك الحريرية؟ مرسي.
وأرتها سرابيل محكمة يلبسها اللاعبون على الحبال، والراقصات. - أليس لديك واحد مثل هذا، أعيرك اليوم مما عندي، وبعد التمرين أذهب وإياك إلى حانوت تشترين سرابيل؛ لأنها للراقصة يا صديقتي ألزم من المجلة للفقيه، والعربة للطبيب، والخادمة للكاهن، السرابيل ألزم للراقصة من خبزها، بل هي خبزها، هي سرها، وهي سلاحها، وإذا ارتدت قميصها بدونها تهلك في السجن جوعا، السرابيل شغاف الفن، شغاف الحب، شغاف العفاف، فإذا اختال الفن عاريا دونها تحترق ال «تياتر» وتحترق باريس وينتهي العالم. - أحسنت يا جولي أحسنت، لست والله في مركزك هنا ينبغي أن تكوني في مجلس النواب. - أحسنت، عهدناها لبيبة، فإذا هي خطيبة. - بل عهدناها زمارة، فإذا هي ثرثارة. - البسي يا مريم وما لنا وهذرهن.
فلبست مريم ذاك اللباس المحكم، وانتعلت نعلا رومانيا، وارتدت قميصا من الحرير مهلهلا، ثم وضعت جولي على رأسها إكليلا من الزهر المصطنع، فنزعته مريم وضربت به عرض الحائط. - ما بالك؟ أتأبين الإكليل؟ - إكليل الهذر والهذيان، إكليل الكذب إكليل السخافة! حرقت الأزاهر الاصطناعية في بلادي أفتلحقني إلى باريس؟ - ولكن لا بد منه يا عزيزتي، إذا لبسنا الثياب اليونانية ولم نلبس الإكليل تديننا ال «أكاديمي» وتجازينا على فعلتنا ال «كوميدي» ويشنقنا مدير ال «أبرا»، وإذا نجونا من الشنق، يضحك منا البوليس، وهذا شر العقوبة، البسي الإكليل، البسيه فها الجرس يقرع، والمدير ينتظر.
بدت مريم في سرابيلها اليونانية، كأنها ابنة آثينا أو عروس من روايات الشاعر بيرون، فسر المدير بها وبإتقانها دورها، ولكن الفتاة الناصرية لم تسر لا بالمدير ولا بالدور ولا بالراقصات رفيقاتها، لم ترض أن تكون هذه بداءة أمرها في الرقص، لم ترض أن تكون من التماثيل المعروضة على الناس صفا، لم ترض أن تكون صفرا إلى الشمال أو كمالة عدد الإقبال، ولم ترض فوق ذلك أن تأخذ رفيقاتها من قلبها ونفسها هدفا لسخرهن وهذرهن، على أنها حبا بالفن قبلت العذاب ، وقدمت نفسها ضحية على مذبحه شهرا كاملا، فاضطر المدير بعدئذ أن يغير الرواية؛ لأنها لم تصادف إقبالا فصرف بعض البنات وكانت مريم منهن، أنقدها أجرتها بعد أن حسم منها عشرة بالمائة للوكالة؛ أي لتلك السيدة صاحبة الوجه الشاحب القطوب التي عادت مريم إليها تسألها السعي مرة أخرى في سبيلها، فدون الكاتب اسمها في سجله ثانية، ثم أنقدته الرسم وراحت تنتظر.
ولى الأسبوع يتلوه الأسبوع ثم الشهر ثم أخوه، ومريم تنتظر صابرة واجلة وهي تنظر إلى كيسها من حين إلى حين كما ينظر المحكوم عليه بالإعدام إلى الساعة في يومه الأخير، دنى الأجل، نفد المال، فجاءت مريم تلح على السيدة فقالت هذه في نفسها متبرمة متأففة: ألا تكفينا بنات فرنسا بل بنات أوربا، يظنن أن مسارح باريس جنة عدن فيتهافتن عليها كالذباب على الحلوى، ثم قالت تخاطب مريم: إن الطالبات عملا في ال «تياترات» ألوف مثلك والمبتدئة تضحك في عبها إذا فازت بشبر على المسرح تقف فيه عارضة وجهها وساقيها؛ لأن ذلك خير لها من أن تعرض نفسها وجسمها في الشوارع.
وتيقني مدموازل أنني باذلة جهدي في سبيلك، ولكني لا أعدك خيرا في المستقبل القريب، معظم ال «تياترات» اليوم مقفولة والأشغال واقفة وسأبذل مع ذلك جهدي، لم لم تطلبي عملا في أحد بيوت «المودة» عند إحدى الخياطات، قدك دقيق جميل وأية خياطة من الخياطات الشهيرات تستخدمك تمثالا «مدل» عندها.
فلما سمعت مريم ذا الكلام وبالأخص الإشارة إلى التمثال نهضت على الفور، فودعت تلك السيدة التي تتكلم دون أن تحرك شفتيها، وعادت إلى غرفتها وقد ساورها من الهم ما لا يحيا إلى جانبه أمل ولا تثبت أمامه عزيمة، أقفلت الباب؛ باب تلك الغرفة الحقيرة فإذا هي فيها وحيدة مخذولة يائسة، نظرت من الشباك إلى مداخن باريس أمامها فأحست أنها واحدة منها، مدخنة بين ألوف المداخن، ليس في صدرها غير نار تتأجج فيتصاعد منها دخان الفشل والغم، ثم جلست على سريرها تسند رأسها بيدها وجعلت تفكر في مصيرها، ثم نهضت على الفور فأخذت سلسلة الذهب التي أهداها إياها نجيب مراد، فنزعت منها الأيقونة الحندقوقية المرصعة بالماس، ووضعت مكانها الذخيرة التي أهداها إياها القس جبرائيل وطفقت تقبلها وتبكي. - آه ما أكرمك خلقا يا قس جبرائيل! وما أعزك نفسا! وما أشرفك قلبا!
وفي اليوم الثاني ذهبت بالأيقونة إلى أحد الصاغة فباعتها بثلاثين ذهبا، ثم صوبت خطواتها إلى شركة البواخر الإفرنسية وهي تقول: كسرتني اليوم يا باريس فلا بد من أن أكسرك غدا.
الفصل الثالث عشر
كان إبراهيم يخدش الأرض بمعوله حيث لا يصل إلى تربتها المحراث، وهو يخدش أذان الفجر والأطيار بأدوار من المواليا.
وكان الراهب الفلاح قد باشر الفلاحة، وثوبه الأسود، وقد شمره من الأمام يبدو كذنب الغراب من الوراء، وتبدو تحته سراويل زرقاء وجوارب بيضاء يقيها من الأرض حذاء ثقيل النعل مرأس الأطراف، وقلنسوته مسترخية بين كتفيه وليس على رأسه غير عرقية سوداء صغيرة. - جز الحشيش يا إبراهيم، جز الحشيش، وأرح صوتك، صباح مبارك يا ابني، أعط المواليا فرصة ساعة، نفرت الأطيار، نكدت البقر، تعال إلى هنا، اترك الزوايا تنقبها بعدئذ، تعال جز الحشيش. - بكرت اليوم يا معلمي. - لتنفر الأطيار وتكدر صفا الأسحار، أوقف لسانك، وحرك يديك، ها قد تعالت الشمس ذراعين فوق الجبل ولم نحرث بعد ثلمين. - لا خوف علينا يا معلمي، الجو صاف والنهار طويل، ولم يبق قدامنا للحراثة غير القليل.
وجاء إبراهيم يمشي الهوينا مشية البقر، ويهول بمنجله ويصيح: يا ظريف الطول يا سن الضحوك! - إذا كنت لا تشفق على صوتك يا إبراهيم فأشفق على البقر، فإن للبقر آذانا، تعال جز الحشيش واسكت، بحياة أبيك برحمة أجدادك أن تسكت، اسكت واشتغل.
وكبس الراهب على السكة برجله والمساس في يده كالرمح في يد فارس من فوارس الجاهلية وخطوته وقد هرولت البقر مذعورة تكاد تكون طول المساس. - آهو! آهو! الله معك «كحلا» الله معك، يمينك «كحلا» يمينك، آهو! عنها «أبلق» عنها - هذا الفدان لا ينفع يا إبراهيم، فقد خدع أبوك هذه المرة، «الأبلق» لا يستأهل علفه. - «الأبلق» يا معلمي زينة البقر، أحسن فدان في البلاد، صيته ملأ المرج وبيسان، ولما اشتريناه واستلمت أنا رسنه جعلت ابنة صاحبه تبكي وتقول: خلوا لي «الأبلق» أو خذوني معه، والله يا معلمي جرحت قلبي وسلبت عقلي. - لا تقدر أن تسلبك ما لا تملك يا إبراهيم. - والله يا معلمي وجهها مثل القمر وشعرها مثل الليل وجبينها مثل نجمة الصبح. وشرق إبراهيم بريقه وهز رأسه وشخص إلى السماء بعينيه، ثم قال وهو يقطع بمنجله قضيبا من البردي: حظي مثل شعرها يا معلمي، لو رضي أبي لسلمته رسن «الأبلق» وسلمتها رسني. - كنا بالأبلق صرنا بنجمة الصبح، لا حول ولا! لسانك يا إبراهيم يلزمه رسن، جز الحشيش يا ابني، ينبغي أن نطعم البقر. آهو! عنها! عنها «أبلق»، لعين هذا «الأبلق» لا أظنني أستطيع أن أفلح يومين عليه، هات الكمامة يا إبراهيم، كمه، كمه، أتخافه؟ يا لضيعة الطول، يا لضيعة العرض، خذه بقرنه ولا تخف، أمسكه بقرنه، يا لك من جبان، إليك عنه، رح غني للقمر وسلم رسنك لنجمة الصبح، طر شاربك ولا تحسن أن تكم الفدان. - وأخذ الراهب الكمامة منه ومر كفه على رقبة الفدان يملسها ويطايبه ثم كمه كما لو كان نعجة حولية، ومسح الزبد الذي تساقط على يده من شدقيه وعمد إلى المحراث والمساس يستأنف الحراثة.
وبعد برهة عاد إبراهيم وبيده المنجل وباقة من الحشيش يقول: نسيت أخبرك يا معلمي أننا في رجوعنا من بيسان حيث اشترينا «الأبلق» مررنا بالحمامات فلمحت هنالك الفتاة التي بعثتها مرة إلى بيتنا برسالة إلى أبي كانت جالسة في القهوة تشارب رجلا وتمازحه، فلما رأتني همست في أذنه كلمة ثم سألتني عنك.
فأوقف الراهب المحراث لساعته. - وماذا قلت لها؟ - قلت لها: إن معلمي في البيت بالغوير.
فاكفهر وجه الراهب. - خزاك الله! ومن كلفك بذلك؟ ألم أقل لك ولأبيك ولأمك: إنني أروم العزلة هنا، ألم أفرض السكوت عليكم إذا سئلتم عني؟ - وهل أكذب عليها؟ والرجل الذي كان يشاربها لحقني إلى الخارج وهمس في أذني قائلا: قل لمعلمك إذا جاء إلى قهوة الحمام أية ليلة كانت هذا الأسبوع يشاهد صديقا فيها ويسمع ما يسره. - وغير ذلك يا إبراهيم. - لا شيء يا معلمي. - رح إلى شغلك، رح إلى شغلك، وألجم لسانك.
واستأنف الراهب الحراثة وقد علا وجهه غيمة اضطراب يتخللها بريق الهواجس المحرقة.
وساعة الظهر جاء أبو إبراهيم يحمل إلى سيده الغداء، فحل عن الأبلق والكحلاء النير وربطهما أمام عرمة من الحشيش الأخضر.
ثم فرش عباءة في ظل شجرة عند ضفة الغدير جعلها خوانا وصف عليها الخبز والجبن والزيتون والبصل وبضع سمكات مشوية، فجلس الراهب بعد أن صلى صلاة الظهر وجلس حوله أبو إبراهيم وابنه يتناولون الغذاء، وكان سكوت إبراهيم أثناء الأكل مدهشا ومستحبا، فجعل يقلب نظره في ما على العباءة، فيتناول اللقمة تلو اللقمة والرغيف تلو الرغيف وهو يقرض ويزدرد ويرتشف ولا يميل ببصره يمينا أو شمالا. - بارك الله فيك يا إبراهيم، بارك الله فيك! أولم تعطش يا ابني؟ فهز إبراهيم رأسه واللقمة تملأ فمه، فقال أبوه: قم املأ الإبريق، لو كان يحسن الشغل كما يحسن الأكل. - والثرثرة يا أبا إبراهيم، أصلحه الله.
عاد إبراهيم بالإبريق وقد ملأه من الغدير، فأوعز إليه أبوه أن يباشر نقب الزوايا، وقال: ووالله إذا لقيتك نائما أذبحك بهذا المنجل، ثم قام الأب فساق «الكحلاء» و«الأبلق» إلى الغدير ثم عاد بهما فكدنهما واستأنف الحراثة. فقال الراهب: سترى بعد الامتحان يا أبا إبراهيم أنك خدعت بالأبلق، واستلقى في ظل الشجرة ينام القيلولة. ولما استفاق عمد إلى معول يساعد إبراهيم في نقب الزوايا، ثم جاء إلى ضفة الغدير يصلي صلاة العصر، وفتح كتابه الذي يحمله أبدا في جيبه؛ كتاب الاقتداء بالمسيح يطالع فيه، وما هي إلا برهة حتى جاءت أم إبراهيم تقول: امرأة يا معلمي تطلبك في البيت. - ومن هي؟ وماذا قلت لها؟ - قلت لها: إنك متغيب، فكذبتني بدون حياء قائلة: معلمي القس جبرائيل هنا، أحلف بالله إنه هنا، وأحب أن أقابله.
فقلت لها: إنه في رياضة لا يقابل أحدا من الناس، فقالت مصرة: وقولي له لطيفة العشية التي كانت تطبخ في بيت أخيه بالناصرة تحب مقابلته.
فقال القس جبرائيل يخاطب نفسه: لطيفة، لطيفة، وما غرضها؟ ومن أخبرها يا ترى أنني مقيم هنا؟ لا بأس يا أم إبراهيم، قولي لها، أو بالحري دليها إلى هذا المكان.
وما هي إلا برهة حتى عادت أم إبراهيم تستصحب لطيفة، ولما رأت هذه القس جبرائيل هرولت إليه تقبل أذياله ويديه وتبكي. - حسبك يا لطيفة، اجلسي على هذه الصخرة، وامسحي دموعك، ما خبرك يا بنتي؟ - قصتي طويلة يا معلمي ومحزنة. - أوجزي ولا تبكي. - بعد خروج مريم من السجن طردتني معلمتي الست هند؛ لأنني لم أشهد في المحكمة كما أرادت، لم أقل: إن مريم قاتلة المرحوم أيوب، فضربتني وطردتني ولم تدفع من أجرتي إلا قسما يسيرا، فأصبحت طريدة شريدة. وظللت في الناصرة شهرين أفتش عن عمل، فلم أفز بشيء، ثم سافرت إلى حيفا فتجشمت هنالك بضعة أشهر أخدم في أحد الخانات ثم عدت إلى الناصرة خائبة الأمل، فسمعت فيها من أناس أنك مقيم في بيتك بالغوير، فجئتك مستجيرة مسترحمة علك تدخلني في أحد البيوت بطبريا خادمة أو طابخة، هذه قصتي بالإيجاز. - طيبي نفسا، وقري عينا، وأي متى تركت الناصرة؟ - ظهر البارح. - وكيف حال أخي يوسف؟ - لم أره يا معلمي ولكني سمعت أن عارفا اليوم في حيفا يتعاطى التجارة. - هل سمعت الخبر هذا وأنت في حيفا؟ - نعم. - وهلا رأيت عارفا؟ - لا يا معلمي، وأين مريم اليوم؟ - لا تسألي عما لا يعنيك.
فأشارت لطيفة بنظرها وقد حركت به بين القسيس وأم إبراهيم أنها تروم مساررته، ففهم القس جبرائيل وقال مخاطبا أجيرته: شمي الهواء بضع دقائق يا أم إبراهيم، ما الخبر يا لطيفة؟ عساه أن يكون خيرا. - عرفت يا معلمي بما حل بمريم بعد خروجها من السجن؛ بولادتها، بسرقة طفلها، بسفرها مع السيدة الإفرنسية إلى فرنسا، وليس ذلك بعجيب؛ لأن خبرها انتشر في الناصرة وفي حيفا، ولكن الغريب العجيب ما اطلعت عليه ليلة البارح، فإذا كنت مصيبة في ظني فمجيئي إليك إلهام من الله. - وماذا رأيت؟ - وقفت مساء البارح وأنا قادمة من الناصرة أمام بيت خارج طبريا وقد أنهكني المشي، فقلت في نفسي: أن أسأل المبيت هنا خير لي من الدخول ليلا إلى البلد وأنا غريبة، فوقفت في الباب وإذا بامرأة ترضع طفلا وتضربه وتقول: ارضع ترضع السم، ارضع ترضع الطاعون، فخفت ورجعت أدراجي قائلة في نفسي: إن امرأة هي أشبه بالجن منها بالبشر لا تأويني، ثم فطنت لشيء من المال معي قعدت أسألها حاجتي وأعرض عليها الغرشين كل ما كنت أملك، فأبرقت عيناها لذكر المال واختطفت الغرشين من يدي قائلة وهي تشير إلى الزاوية: نامي هناك، فرميت بنفسي إلى الأرض وقد كدني التعب ونمت من ساعتي، ثم استيقظت في الليل فسمعت الامرأة تكلم فتاة عندها وتسبها، فتناومت أسترق حديثهما، فسمعت الامرأة تقول: تكاد تتم السنة ولم يسأل أحد عنه الله يلعن أباه وأمه، لو كانت أمه امرأة لفتشت عنه ولكنها جنية غولة، لعنها الله. فقالت الفتاة: بعثنا إلى الرجل خبرا وهو الآن مقيم في بيته بالغوير، وقد اتخذ أحمد الأمر على عاتقه، ليطمئن بالك. فصاحت الامرأة: ليطمئن بالي؟ كلفنا ابن الخنا حتى الآن خمسة ذهبات، وأهلكني، لم أعد أستطيع أن أرضعه، نفد حليبي وصار واجبا أن نشتري له حليبا، أكاد أموت والله، إذا كان لا يجد شيء في أمره قريبا أرميه في البحيرة وأستريح منه، الله يلعن الأولاد، الله يلعن البشر!
فقالت الفتاة: صبرنا عشرة أشهر لنصبر عشرة أيام، وقد قال أحمد: إنه لا يسلم الطفل قبل أن يقبض الخمسين ذهبا.
فقالت الامرأة: وأنت صاحبة أحمد تؤاكلينه وتشاربينه، فسيشتبه الرجل بك ويشكوك ويشكوني إلى الحكومة فتهلكين وتهلكيني معك، عليك إذن أن تختفي حالا، سافري إلى صفد غدا، وابقي هناك أسبوعين وأنا أقابل أحمد فنطبخ الطبخة ونترك الطفل حيث لا يعرف مقره أحد غيرنا، انهضي وأسرعي سافري الآن، وغدا أقابل أحمد.
هذا بعض ما سمعته من الحديث الذي دار بين الامرأة والفتاة، فهالني أمره وخطر لي أن ألفت نظر الحكومة إليه، لينجو ذاك الطفل السيئ الطالع، حن قلبي إليه والله ! وأخشى أن ترميه في البحيرة إذا كان أبواه لا يفتشان عنه، وقد فاتني أن أخبرك أن للامرأة طفلا آخر يستطيع المشي ولكن الفرق بين الاثنين عظيم، الطفل الرضيع مثل القمر على وجهه ملامح الأكابر. - وهل تعرفين البيت الذي نمت فيه؟ - نعم أعرفه. - وهل تعرفين الفتاة إذا رأيتها ثانية؟ وهل عرفت اسمها؟ - لم أر وجهها في الليل ولكني سمعت الامرأة تناديها هيلانة، ولما نهضت باكرا أشكر الله على سلامتي لم تكن هناك. - حسن، حسن، روحي وأم إبراهيم إلى البيت، يا أم إبراهيم، فجاءت الامرأة تلبي نداء سيدها، فخاطبها قائلا: أحسني وفادة لطيفة، عشيها، وافرشي لها أحسن فراش عندك. - غابت الشمس والقس جبرائيل جالس عند ضفة الغدير يسمع خرير الماء وينكت الأرض بعصاه فطرق أذنه صوت إبراهيم يغني المواليا على رنات أجراس المواشي، فصعد الراهب الزفرات يبارك الأنعام وما شابهها في حياة البشر من شباب آبد وقلوب خالية ساذجة، نظر إلى السهل وقد لاحت في أساريره خلال أثلامه البنية سيماء الجذل والرضى، فخيل إليه أن كل ثلم فيه إنما هو فم ينطق بالشكر والتسبيح، فقد كان نهاره مقدسا، قدسه الإنسان العامل والقنوع إذ ألقى إليه حبة الحياة؛ ليعيدها في الفصل الآتي سبعين حبة. ورفع إليه هنالك صورة جميلة من صور السعادة البشرية التي يصورها إله الحقول ورب البعث والخلود؛ صورة الفلاح وابنه عائدان في الغسق إلى البيت، يسوقان المواشي ويغنيان الموالي، أبو إبراهيم وقد حمل المحراث الطويل على كتفه يسنده بالمساس، وابنه الشاب وقد حمل النير والمعول فوق حمل من الحشيش الأخضر، و«الأبلق» و«الكحلاء» وأجراسهما تطن عند باب الليل طنينا شجيا، يسيرون كلهم الهوينا عائدين إلى حيث الحب يلاقيهم بإبريق الحياة، والليل يقدم لهم كأسا مزيجها مسك وتسنيم. شاهد القس جبرائيل هذا المشهد فهز رأسه أسفا قائلا: جميل، جميل، ولكنه ناقص، أين أنت الآن يا مريم؟ مريم ابنة سارة أين أنت؟ أي بحر من أبحر الحياة تتقاذفك أمواجه؟ أي نعيم يكحل عينك؟ أي جحيم يحرق فؤادك؟
صعد الزفرات وعاد ينكت الأرض بعصاه أسير الهواجس، سمير الأشجان والذكرى، ولت أشباح الغسق مدبرة تفر من الليل، وما الليل إلا مؤنس الأشباح، جاء يشعل مصابيحه ويدور في الأفلاك دورته السرية فيرافقه القمر وقد أطل من شرفته في الهرمل يبتسم ابتسامة غنجت لها البحيرة، وأبرقت أسارير الأحراج في الحقول وفي الجبال، فجعلت تصر الجنادب على العيدان صريرها، وينوح فوق البحيرة الحمام، وتصوت فيها الأسماك والأمواج الجارية من الأردن تهز في القلب سريرها.
مشى القس جبرائيل في السهل مكشوف الرأس والهواء العليل يناعم وجهه وينعش فؤاده، والليل يؤنسه بأنواره وسكونه، فهز رأسه أسفا قائلا: جميل هذا المشهد جميل، ولكنه ناقص، أين أنت الآن يا مريم؟
لما فرت مريم الربيع الماضي هاربة منه كما يهرب الغسق من الليل أو الليل من الفجر، ظل القس جبرائيل شهرين فريسة نزاع في نفسه شديد بين ما كان وما ينبغي أن يكون، بل بين الحقيقة والخيال، بل بين واجب قدسه الله ومحكمة قدسها العقل وحبر الزمان، فهم مرة أن يتبعها مستقصيا فعادت الحكمة تملك عليه نفسه ففوض أمره إلى الله، ونفض من أمرها يده، ومن أمر ولدها أيضا، ولكنه لم ينقم عليها، ولم ينبذها من قلبه، ولم ينسها مرة في صلواته، أقام في بيته قرب كفر ناحوم معتزلا العالم والناس، ناسكا لا على شكل أجداده النساك بل ناسكا عاملا، ناسكا فلاحا.
ومرت الأيام تتلو الأيام ومريم وذكراها مقيمان في فؤاده يعطران صلواته وتأملاته، وما نام ليلة قبل أن يبتهل إلى الله من أجلها: صنها ربي قها شر الجهل وشر الأهواء وشر الأطماع وشر المستهترين من الناس، وشر المآثم والموبقات، اكحل جفنها بأحلام نعمتك، وابعث في ناظريها بهاء نورك، سدد خطواتها، وثبت في سبيل الخير والحق قدمها، يا فتاح يا رزاق! افتح لها بابا لا يحزنون من يدخلونه، ارزقها خيرا لا ينعمون من يحرمونه ولا يطغون من يرزقونه، يا حليم يا رحيم! اسبغ عليها من سوابغ حلمك، أفض عليها من فيضان رحمتك، اهدها السراط المستقيم حيث كانت وحيث حلت، وإذا كان عبدك الذي يضرع الآن إليك سعيدا في يقينه، ثابتا في إيمانه، قويما في رأيه، صافيا في وجدانه، فاهدها ربي إليه، اهدها إلي، اهدها إلى ابنها، آمين.
صلى هذه الصلاة تلك الليلة حسب عادته وأضاف إليها الجملة الأخيرة ذاكرا ولدها، صلى هذ الصلاة في السهل وهو عائد إلى البيت يفكر بمريم شيقا آسفا، ويفكر مستبشرا بما كشف له في أصيل ذاك النهار، ولما وصل إلى البيت جعل يقلب في أوراقه فعثر على الكتاب الذي كان يطلبه، الكتاب الذي بعث به إليه أخوه يوسف يوم كان في بيروت، فاستلمه بعد أن سافرت مريم إلى فرنسا، فأهمله يومئذ غضبا قانطا، ولكنه أعاد تلك الليلة قراءته.
أخي العزيز القس جبرائيل أطال الله بقاءه
أقبلك وأبثك أشواقي وأرجو أن تكون بخير، ثم أخبرك أنني اجتمعت والحمد لله بابني عارف وهو الان في لبنان، وقد سلمته كتابك وأطلعته على الآخر منك لي، فآنست منه قبولا بما تنصح، وأنا والله يشهد على ما أقول! عامل برأيك ساع سعيك في سبيل تلك الفتاة، ومتى عدنا أنا وعارف إلى الناصرة نتمم ما فيه خير الجميع إن شاء الله.
أخوك: يوسف مبارك
والآن وقد علم أن الولد ولد مريم، لم يزل حيا استحث سابق عزمه واستنهض راقد قصده وهو يعزي نفسه قائلا: ما لا يبلغ كله لا يترك جله، وكأن الله أرسل لطيفة وقد أهداها إلى ذاك البيت لتنبهه إلى واجب أهمله آثما، فنهض صباح اليوم الثاني باكرا يقول لها: تعالي معي.
وذهب ولطيفة إلى السراي في طبريا ليقابل القائمقام.
الفصل الرابع عشر
الحاج محيي الدين صاحب الكازينو بالقاهرة رجل قصير بدين لعين (نريد بالنعت الأخير ما هو متعارف من معناه بين الناس عندما يقفون عنده يجرون الياء منه معجبين، فيقولون مثلا: فلان لعين! ليصفوه بالحذق والمكر والدهاء)، فالحاج محيي الدين إذن قصير بدين لعين! وإنه وإن ارتدى الحرير لأصلب خلقا وخلقا من قماش الخيام الإنكليزي، له رأس ككرة المدفع كبير مستدير، تعلوه عمامة خضراء صغيرة، تحتها إذا أقبل جبهة عرصها خداع، وإذا أدبر سامد الرأس تبدو عكنات رقبته تحت تلك العمامة كأمواج النيل أو كغدد الفيل، وهو غليظ الشفتين كذلك وعريض الوجه لحيم، أما أنفه المشوه فيكاد لصغره يضيع في وجهه، وعيناه الصغيرتان الزايغتان تنفران من أنفه، وشاربه المقصوص هو بين ذاك الأنف وتلك الشفة كخيال قضيب بين كهف وكثيب.
وقف الحاج محيي الدين مودعا السيدة فشيعها إلى الباب تعطفا وهو يعد سبحته ويسبح الله، ويستغفر الله، ويستعين بالله، ثم عاد إلى مجلسه في زاوية الديوان وحبات الكهرباء الكبيرة تطقطق بين أنامله الصفراء كأنها تردد الصدى لنبضات قلبه، ثم جلس مسترخيا يبسط ذراعيه، ويزم شفتيه، وقد أنزل العمامة الخضراء حتى حاجبيه، ولسان حاله يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان شريكه عاطف بك جالسا إلى منضدة يدخن سيكارة ويراقب حركاته معجبا باسما، فقال محيي الدين يخاطبه: أخطأت يا أخي أخطأت، فأجابه عاطف بك: أنت أعلم بالجواري وأنا أعلم بالراقصات.
فعمد الحج محيي الدين إلى الأركيلة يسكن بها غيظه، ثم قال: ولكن رقصها جميل، أجمل ما رأيت حياتي، رقص جديد، مبتكر، غريب، مدهش، وهو فوق ذلك رقص أدبي تزينه الحشمة لا خلاعة في حركاته ولا بذاءة في وقفاته، ولا ... فأغرق عاطف بك في الضحك، وقال: أراك تتكلم كشيخ من مشايخ الأزهر، الله، الله! أحامل «النسخات» يحمل على الخلاعات؟! أصاحب «الكازينو» يمسي صاحب كرامات؟ الله، الله! أنت مازح يا محيي الدين، أوتظن الرقص الأدبي يصلح الأمة؟ أتظنه يسر جيش الاحتلال؟ إذا كنت راغبا بالجلاء فاعرض على أصحابنا الإنكليز هذه الرقصة، نبه الحزب الوطني إليها. - لا تعجبني هذه المداعبة منك، فإن رقصا عاريا من الخلاعة ... - لا ينفعنا ولا ينفع البلاد، أبناء القاهرة لا يقبلون على مثله وعساكر الإنكليز يفرون هاربين منه، وإن أقبلوا عليه بادئ بدء فلا يلبثون أن يملوه، رقص هذه الفتاة يخاطب العقل، والمصريون يودعون عقولهم في البيت قبل أن يشرفوا «الكازينو» والجندي الإنكليزي، ولكنه سبحانه تعالى لا يثقل الجندي عقلا. - على رأسي رأيك في الجندي، ولكني لست من رأيك في الفتاة؛ فإن في رقصها السحر الحلال، يعبث بالقلوب ولا يستأذن العقول، وما قولك بالراقصات الروميات عندنا؟ فإن رقصهن عار من رغبة الناس من مظاهر الخلاعة، ويكاد يكون بليدا، ومع ذلك فالإقبال عليهن عظيم. - لأنهن إفرنجيات يا أخي يا محيي الدين، نفاية الإفرنج هي أعلاق في ذي البلاد، خرز أوروبا هو في نظر المصريين بل الشرقيين درر غوال، صل على النبي! ولا يفوتنك أن الراقصات الروميات لا يكسفن «البلديات» عندنا، كلهن - إفرنجيات ومصريات - من طبقة واحدة فنا وعقلا وحسنا، وإن شئت قل: من طبقة وسطى أو واطية في الفن والعقل والحسن، وجمهور الناس من ذي الطبقة، أما الخاصة فحسبهم ليلة واحدة من الرقص الأدبي في السنة، حسبهم «البالو» الخديوية، لا، لا، لا وسط عند هذه الفتاة الناصرية ولا وسط في نصيب مديرها منها.
فرفع الحاج العمامة فوق جبينه عجبا وهو يزلق بنظره عاطف بك الذي استمر يتكلم غير حافل، فقال مكملا الجملة: فإما أن تكسره وإما أن تغنيه، فلاح الارتياح إذ ذاك في وجهه، وقال: ولماذا لا نختبرها أسبوعا واحدا أو أسبوعين؟ إذا كنا لا نقدم لأبناء بلدنا الجميل من الفن فكيف لهم بمعرفته؟ وليس من العدل أن نحكم عليهم بفساق الذوق قبل أن نختبر ذوقهم. - أنا عالم يا محيي الدين بما يجول في صدرك، صل على النبي! ولكن ظهور الناصرية على مسرح «الكازينو» يغير خطتنا تماما، فنفقد الزبائن الذين لا يروقهم غير رقص ال ... الرقص الذي يخاطب الحواس بالقلم العريض، وجيش الاحتلال في البلاد يزداد يوما فيوما، ولا نعلم ما نكسب من الطبقة الراقية، لو كنت مدير «تياتر» في أوربا لما ترددت والله ترددي الآن، فلا أنكر أن في منشأ الفتاة وفي فنها وجمالها وطموحها وهوسها ما يسترعي الأنظار، لست بجاهل عالم التمثيل في أوروبا، ولقد أحطت علما بطرق المدراء هناك وحيلهم، وكأني بأحدهم وقد حظي بلقاء هذه الفتاة الناصرية، وأدرك السر في أمرها وفنها يعلن عنها بالخط العريض، فيقول: الناصرة منذ ألفي سنة والناصرة اليوم مهد الدين ومهد الرقص، مريم الناصرية ترقص رقصة المريمات في أسبوع الآلام! ولكن بلادنا بلاد إسلامية، فلا ذاك الدين قبلت ولا ذا الرقص تقبل اليوم. - أنت مخطئ في ظنك، علي الخسارة أثناء أسبوعين نختبر الناصرية ورقصها، علي وحدي. - ليست جارية تتاجر بها يا محيي الدين، وقد ظهر لي من حديثها ونظراتها أنها صعبة المراس حادة المزاج. - على عاتقي أمرها. - وإذا مثلت لك السماويات في رقصها ... - والجهنميات أيضا فأنا المسئول. - وأنا قابل، ليكن ما تشاء، وإن شئت أن تدخلها حريمك بعد أن تمتحنها في «الكازينو». - دعنا من ذا الهذر يا أخي. - بل هذا جد مني، فقد أهنتها في حديثك فاغرورقت عيناها وهذا دليل واضح أنها أحبتك، عشقتك. - أنا أعلم بحيل اللقيطات الشريدات. - نعمت بعلمك. •••
أما مريم فعادت إلى منزلها بعد أن قابلت صاحب «الكازينو» ومديرها؛ لتفتش عن الكتاب الذي أعطتها إياه مدام لامار إلى جمال الدين باشا أحد مدراء البنك الفرنساوي في القاهرة، وكانت قد أهملت هذا الكتاب؛ لأنها لم تشأ أن ترجع إلى الخدمة في البيوت وآلت على نفسها وإن كسرت في باريس أن تفوز في مصر، فزارت عند وصولها الكازينو لتشاهد ما هو معروض على مسرحها فتعرف محلها من الإعراب فيها، فسرها ما شاهدت وساءها معا، وقالت وهي خارجة: ها هنا رزقي، ها هنا بداءة حياتي الفنية، ها هنا فوزي، ولكنها أقرت لنفسها بعد المقابلة في اليوم الثاني أن لم تزل الأحلام تخدعها، وكانت تظن أن مدراء التياترات في مصر أسهل مراسا منهم في باريس، ولم يخطر في بالها أنهم أكثر تعنتا وأقل أدبا ومعروفا، فقالت تخاطب نفسها وهي تفتش في حقيبتها عن كتاب مدام لامار: وماذا يهم إذا المدير فحص الراقصة كما لو كانت جارية معروضة في سوق النخاسة، أو جسها كما لو كانت شاة، أو أمرها أن تمثل أمامه عارية، فهو لا يهينها ولا يحتقرها إذا كانت يتيمة أو بائسة مثلي، وهنا في بلادي يهينني المدير ويشيعني إلى الباب، لو استطعت والله لذبحته! لذبحته! ابن ستين كلب يعيرني بأصلي - أصلي ! أصلي؟
وقفت مريم فجأة تسائل نفسها فأبكاها السؤال، ذكرت لأول مرة أبويها فحرقتها الذكرى، خنقتها العبرات، وقد يستغرب القارئ قولنا: إنها لم تذكر أبويها حتى الآن، وقد نكون أخطأنا التعبير، لما كانت مريم في الدير أدركت غامض أصلها ولكنها أقامت هناك وكثيرات مثلها فلم تبالي ولم تذكر والديها شوقا وحنانا، وبعد أن خرجت من الدير أقامت في بيت مبارك وفي ظل القس جبرائيل خلية البال، مشتتة الآمال، فلقيت من الإعزاز ما أشغل نفسها عن الإكرام، ومدام لامار لكرم في أخلاقها تجاهلت ما أدركته من أصل الفتاة لكي لا تهينها ولا تذلها، وكذلك نجيب مراد فلم يفه مرة بكلمة يشتم منها معرفة ما يحزن مريم ذكره، ولا سئلت مرة في باريس عن أصلها ولا نظر أحد إليها شذرا وازدراء.
وأما الآن فصاحب الكازينو المعجب بفنها وبحسنها وبمواهبها يخشن لها الكلام في أول مقابلة، وينظر إليها نظرة الازدراء، وقد مازجه السرور والرضا كأنه يقول: أنت في قبضتي ولا بأس بك. فأدركت لأول مرة أن من الرجال من ينظرون إليها كأنها غنيمة باردة، فساحت بها الأفكار إلى باريس ثانية فجمعتها هناك بنجيب مراد؛ ذاك الذي أحبها كما تحب الفراشة الزهور أو الفارس الجياد، فجعلت تقابل بين الاثنين وتقول: شتان بين من يخدع فتاة ويكرمها ومن يهينها ويخدعها، شتان بين أديب دقيق الحيل كريم النفس، وجلف غليظ الرقبة غليظ الشفتين، كرهته لأول نظرة قبل أن يفوه بكلمة، وبعد أن تكلم وددته ميتا عند قدمي، ميتا ميتا، سيعلم ابن الكلب:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
أولا يحق للفتاة البائسة مثلي أن تتمثل بقول الشاعر كالفتيان؟
لا تقل أصلي وفصلي أبدا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
وأصل الفتاة أيضا، أصل الفتاة أيضا ما قد حصلت.
وهذا ينبغي أن يكون، ولكن الكائن اليوم غير ذلك، وإن عقيدة الناس الاجتماعية بمريم وأمثالها لمثل عقائدهم الدينية قديمة العهد، كثيرة العهود والقيود، والمتمردون عليها ينفعون المجتمع الإنساني وقلما يسعدون.
نورت نفس مريم في بلاد الجليل فاستمدت حياة من تربة رباها، وهواء حقولها، ومياه عيونها، وسماء بحيرتها، وجمال مروجها، وأريج أحراجها، فكانت وردة برية سماوية تليق أن يزين بها الناسك مذبح إلهه، ونفس مريم التي بدأت تنور في المدن في معترك الحياة ترويها مياه الاجتماع الآسنة ويغذيها هواء التمدن الفاسد جعلت تنمو كزهرة الأزاليا كبيرة، قوية، قانية، شديدة ساقها، متينة بتيلاتها، قليل - وا أسفاه - عبيرها، وقد أثرت فيها الخيبة أكثر من سواها، فغيرت الجفوة طباعها، وضاعف الفشل نمو الأزاليا في قلبها، فقد كانت مستهترة في حبها، مستهترة كوردة الحقل لا تروعها هبوب الرياح، ولا ظلمات الليالي، فأصبح قلبها كالأزاهر الجوية التي نصونها تارة من نور الشمس وتارة من الظل وطورا من الهواء، أدركت مريم هذه الحقيقة ولم تدرك بعد كيفية العمل بها، فتعرض أزاهر نفسها إلى الشمس وإلى الظل وإلى الهواء في الأوقات اللازمة النافعة، ولا مشاحة أن العمل جهلا أسهل من العمل علما، وقد يشفي هذا حينا ويسعد ذاك أحيانا، وأن تحب الفتاة وتستسلم خير لها من أن تحب وتتردد، وأن عذابها وهي تحب راغبة طائشة لأقل منه وهي تحب خائفة مرتابة محتقرة كارهة، والحق يقال أن قد دخلت مريم في هذا الطور المحزن من أطوار الحب، ولم ترفع فوق مدارجه السوداء غير واحد في العالم هو القس جبرائيل - ربي! وهل القس جبرائيل أبي؟ وهل يحب الأب ابنته أكثر من حب الراهب فتاة لقيطة؟ أيستطيع أن يزيد أبي على ما أسلفني القس جبرائيل من الصنع الجميل والمعروف والإحسان؟ بل لو كان أبي عالما بي وبسقوطي تلك السقطة المهلكة أكان ينقذني يا ترى من البلاء والعار؟ أيرعاني أبي ويكرمني ويحبني كما رعاني القس جبرائيل وأكرمني وخدمني وأحبني؟ لا أظن ذلك، لا، لا، بل كان يطردني من بيته لو علم بذنبي الذي هو ذنب غيري، ويلاه! ما أمر الحياة! الحق معك يا قس جبرائيل الحق معك.
وأخذت الذخيرة وطفقت تقبلها وتبكي. - أبي، أبي، أين أنت تحميني من الذئاب البشرية؟ آه يا قس جبرائيل حبذا أنت قريبا، لا، لا، مستحيل أن يكون أبي، فلو كان ما رمى بولدي في البحيرة، ولدي! وهل أنا أعلم بتصاريف الزمان وأسرار التقادير من حمام البحيرة وأسماكها؟ لا تكره شيئا لعله خير، أنا الآن أسعى لنفسي وأكاد أهلك جوعا، ولدي! لقد أغناه الله من شقاء الحياة، ووالدي؟ ما لي ووالدي فلا شك أنه أجرم على أمي كما أجرم علي، قد تكون أمي خدعت كما خدعت، وأذلت كما أذللت، وشقيت كما شقيت، أواه! أمي أين أنت الآن؟ أفي عالم الأحياء أنت أم في عالم الأموات؟ أمي ليتك قربي تأخذين بيدي الآن، ترشديني، تسليني، تدفئين نفسي، تجبرين قلبي الكسير، تشفين غليلي بقبلاتك وبكلماتك، تعلميني الكلمة التي فيها صيانة عرضي وصيانة اسمك.
قضت مريم تلك الليلة أسيرة الهموم والأحزان، فخلعت ثيابها وهي تحن شوقا إلى أمها، وأطفأت القنديل وهي تلعن من أهانها.
وفي تلك الليلة حلمت حلما رأت فيه أمها وسمعتها تقول: اخرجي من القاهرة، عودي إلى فلسطين، أقيمي في ظل القس جبرائيل. ولكنه حلم من الأحلام فلم تحفل به، ونهضت صباح اليوم التالي ترتدي ثيابها لتذهب إلى البنك الفرنساوي تطلب مقابلة جمال الدين باشا، فقد وطنت النفس على أن تقيم في القاهرة ولو خادمة في بادئ أمرها أو معلمة أو مربية، أقلعت مكرهة من جون الأمال تسلم إلى الحاجة شراعها، وهي تعلل النفس بالعود القريب، والفوز العجيب، وأما الآن وقد نفد مالها فلا بد من السعي في غير السبيل؛ سبيل المجد، وقد ينفعها الآن كتاب التوصية الذي بيدها، وبين هي خارجة من منزلها تقصد البنك الإفرنسي التقت في الباب بصاحب الكازينو الحاج محيي الدين فوقفت سامدة الرأس مدهوشة. - أريد مقابلتك يا ست مريم. - تفضل. - أعلى الرصيف؟ أفي الشارع تقابلين من يحمل إليك الأخبار السارة؟ - أومثلك يحمل إلى مثلي أخبارا سارة؟ - لا تؤاخذيني، فقد بدر مني البارح ما أسفت له. - عذرك مقبول، وماذا عندك غير الاعتذار؟ ماذا تريد؟ - أريد صالحك. - كثر الله خيرك، صالحي الآن بيدي، وهمت مريم بالذهاب. - كلمة واحدة لأبرهن لك في الأقل على حسن نيتي ورغبتي في قضاء حاجتك، وفي خدمتك.
فوقفت إذ ذاك مريم كأن خطر لها خاطر غير لهجتها وخطتها. - تفضل، تكلم.
فمال الحاج محيي الدين برأسه ينظر إليها متبرما ويشير باسطا ذراعيه إلى الباب. - لا حول ولا ... تفضل!
فمشى الحاج في الزقاق وراءها فوقفت أمام الباب؛ باب غرفتها ففتحته وهي تقول: تفضل، ادخل واجلس ريثما أجيئك بعلبة السكاير. - لا لزوم للسيكارة يا ست مريم.
فلم تحفل مريم برجائه بل ذهبت تسر إلى البربري خادم البيت كلمة وعادت تقدم إلى ضيفها سيكارة، وتقول: أرجوك أن تجلس، وظلت هي واقفة قريب الباب المفتوح. - اعلمي يا ست مريم أنني معجب بك وبرقصك وبمواهبك، وأحب من صميم قلبي أن تظهري عندنا في الكازينو، وقد تباحثت وشريكي في شأنك بعد رجوعك.
وسكت فجأة يحدجها بناظريه، فابتسمت مريم شاكرة. - وسيكون لك ما ترغبين إذا ...
ووقف إذ ذاك الحاج محيي الدين يخطو نحو مريم خطوات أدركت سرها، فلاقته بكرسي تقدمها ملاطفة وتقول: تفضل اجلس فأزاح الحاج الكرسي وتقدم نحو الباب ليرمي سيكارته خارجا، فأدهشته مريم إذ أسرعت إلى الباب وهي تقول: أرجوك، لا تكلف نفسك، أنا أغلق الباب.
وغلقت مريم الباب ووقفت في وسط الغرفة تنظر إلى الزائر ولا تبدي حراكا، فدنا منها معجبا بهذه الحركة وهذا اللطف وقبض على يدها بيسراه، يداعب بيمناه خدها.
فأحست مريم كأن علقات تسرح في وجهها ولكنها وقفت متجلدة كالتمثال. - لا تخافي، أنا صديقك، وستكونين في «الكازينو» تحت رعايتي فلا يعتريك ريب من ذلك.
فتجلدت مريم وهي تحاول إخفاء اضطرابها وقالت ملاطفة: هذا جميل منك.
وقرع إذ ذاك الباب قارع، فتظاهرت بالرعب وبعدت عنه تتنفس سرا الصعداء، فعاد الحاج محيي الدين إلى الديوان يشعل سيكارة.
فتحت مريم الباب، فدخل الخادم قائلا: رسول من البنك الفرنساوي يقول: إن المدير يقابلك اليوم الساعة العاشرة إفرنجية. - ويلي! قد فات الوقت، اعذرني يا سيدي محيي الدين، اعذرني اليوم، لي عند المدير حاجة تقضي علي أن أقابله حالا.
ومدت إليه يدها غانجة باسمة فصافحها ثم ربتها، وخرجت وإياه يتحدثان في ما يختص بظهورها على مسرح الكازينو وبراتبها، ثم ودعها عند الباب قائلا: سأراك غدا فتوقعين على الوثيقة. - غدا إن شاء الله أتشرف بزيارتكم في «الكازينو». - لا بل أنا أتشرف بزيارتك والوثيقة في جيبي. - كما تريد، أتوقع قدومك صباحا في مثل هذا الوقت.
وافترق الاثنان وكلاهما راض بما كان، ولم يكن سرور مريم بما انقلب في تيار حظها أشد من سرور الحاج بما ظنه فوزا في غزوته الأولى، ولكن الفتاة جعلت تفكر في حيلة أخرى تخلصها من مخلصها إلى أن يتم لها ما تريد؛ إلى أن تستلم الوثيقة منه، ولم يضطرها الأمر إلى كثير تفكير؛ لأن خبرتها في باريس تلبي الآن طلبها.
ولما جاء الحاج محيي الدين صباح اليوم الثاني دهش لوجود رجل آخر عند مريم، فطمأنت باله قائلة بعد أن رحبت به: حضرته مدير المقاولات. - صحيح، صحيح، لقد فاتني أمره.
وجلس على الديوان يعد سبحته ويستغفر الله، ثم استخرج من جيبه الوثيقة فقدم منها نسخة إلى مريم لتوقع عليها ففعلت، ثم وقع عليها مدير المقاولات وأعادها إلى محيي الدين، فقدم إليها نسخة أخرى وقد وقع عليها هو وشريكه، وبعد إنجاز العمل جاء الخادم بالقهوة والسكاير، وجلست مريم تحدث زائريها بما رأته من جمال مصر، ثم قال مدير المقاولات وهو ينظر إلى ساعته: إذا أحببت أن أشيعك إلى البنك يا ست مريم فالوقت قد حان، تفضلي. - قد فاتني ذلك، أشكرك لتذكيرك إياي، ولكني لا أكلفك ...
فقاطعها المدير قائلا: ليس في الأمر ثقلة، فإن مكتبي في تلك الناحية والعربة تنتظرني. - لا تؤاخذني يا سيدي محيي الدين، يظهر أن حاجة في البنك بهذه البلد لا تقضى بيوم أو بيومين، وقد وعدت المدير أن أقابله اليوم أيضا.
ولبست مريم قبعتها وعمدت إلى شمسيتها تتكئ عليها وتقول:الأمر هام جدا يا سيدي، ولا أعلم كيف أكفر عن سوء أدبي، يا للفضيحة ويا للعار! عذرا أرجوك، فالعذر من شيم الكرام، وغدا أقابلك إن شاء الله.
فاضطرب الحاج محيي الدين ولم يفه بكلمة جوابا، ولكنه أخذ يد مريم الممدودة إليها فصافحها، وأحس بنظرة من نظراتها تخرق كالشرارة فؤاده، فزادت بنار وجده اضطراما.
وفي ذاك الأسبوع كانت تذهب مريم إلى الكازينو كل يوم لتتمرن على الرقص، وكانت تلجأ إلى أدق الحيل لتتخلص من أشراك الحاج محيي الدين، أما عاطف بك فأحسن معاملتها وبالغ بإكرامها، وأشار عليها أن تغير اسمها؛ لأن مريم اسم عادي، بل اسم مسيحي، ولا يستوقف الأنظار، ولا يليق براقصة، فاقترح عليها اسم «غصن البان» فقبلت مريم الاقتراح.
وبينا هي عائدة إلى منزلها بعد ظهورها على مسرح الكازينو الليلة الأولى، لاح لها قرب بابها شخص، تحققت من عمامته الخضراء ورأسه الكبير أنه الحاج محيي الدين، وكان قد سبقها إلى منزلها تلك الليلة ولبث ينتظر قدومها، فأمرت الحوذي من ساعتها أن يستمر سائقا، فمرت العربة مسرعة أمام بابها وهي متوارية فيها يحجب «الكبوت» وجهها، فلم يرها الحاج المطارد، وظل ينتظر في قهوة قرب ذاك المنزل حتى الساعة الأولى بعد نصف الليل، فعاد بعدئذ إلى بيته يصر أسنانه غيظا ويقول: أبنت بنت الكلب تخدعني؟ أتصدني وترغب بغيري؟ أتتفلت من يدي فتعلق على دبق الأوغاد؟ فلا شك أنها في إحدى الحانات الآن تشارب وتداعب أجلاف جيش الاحتلال، بنت ستين كلب! ستندم والله على فعلتها! ستندم ولا ينفعها الندم.
أما مريم وإن أزعجتها مباغتة الحاج فلم ترعها، ولا اعترضت سرعة خاطرها، ولا أفسدت عليها صفاء نفس ذاقت لأول مرة لذة الفوز في سعيها. ولما سألها الحوذي: إلى أين يا ست؟ بعد أن اجتازت العربة الشارع المقيمة فيه أجابته على الفور: إلى الجيزة، إلى الأهرام.
ورضيت بعد الفكرة ببداهتها؛ لأن الليلة وإن لم تكن مقمرة فقد كانت ناعمة منعشة، خفيف ظلها، عليل هواؤها. فراح الحوذي يحث بالسوط خيله، ومريم تقول في نفسها: نزهة ساعة فيفرجها الله.
ولكن بعد أن اجتازت العربة كبري النيل ملكها وهم مخيف؛ لعلمها أنها وحدها، وفكرت بما احتالت به على الحاج محيي الدين، فظنت أنه رآها لما مرت أمام بابها وأنه الآن يقتفي أثرها، فسألت الحوذي خائفة: أترى عربة وراءنا؟ فقال: لا. فقالت: قف قليلا.
وأصغت ثم قالت: إن عربة وراءنا قريبة منا، أسرع، أسرع.
فامتثل الحوذي أمرها، ودخلت العربة مسرعة في طريق الأهرام الجميلة بين صفين من شجر السنط والكينا تحت قناطر من أغصانها المتعانقة، ولا صوت يزعج سكينة الليل غير صوت حوافر الخيل العادية.
وما هي إلا برهة حتى رفع إلى مريم خيال الهرم الأسود، كأنه قبع الخفاء على رأس الصحراء، فأوقفت الحوذي ثانية وهي لم تزل أسيرة الرعب والأوهام وسألته: وهل من مبيت عند الأهرام؟ - هناك نزل جميل يا ستي. - حسن، أسرع، أسرع!
وبعد قليل وقفت العربة قدام النزل على حدود البادية فترجلت مريم والخوف والجرأة يتناوبانها، فإذا هي لأول مرة أمام الهرم الكبير الواقف كطود من الظلمة في بحر من الرمل راقدة أمواجه، تحت سماء هجرتها نجومها، بل هو قلب الليل وقد جسمه الزمان، فهالها خياله، وهالها ظلامه، وهالتها الوحشة المخيمة حوله وفوقه؛ وحشة البادية، ووحشة الليالي، ووحشة الأجيال والأزمنة.
ومع ذلك فقد أحبت مريم أن تشاهده قريبا في تلك الساعة، فسألت الحوذي أن يرافقها، فتردد خائفا. - ما بالك؟ - ما لنا وله يا ست، الهرم يتكلم في الليل، وربي الموتى فيه ينهضون ليلا ليتنزهوا على الرمال وحق النبي! - كلام صبيان، امش معي، امش قدامي.
فخجل الحوذي ومشى مترددا في الطريق التي توصل إلى الهرم الكبير وهو حائر في أمر هذه السيدة معجب بشجاعتها وإقدامها، وبينا هو صاعد في الدرجات تعثر بشيء صرخ بين قدميه فهلع قلبه ورجع أدراجه، فنهض الحمار الذي كان نائما هناك مذعورا ينادي رفيقه حمارا آخر نائما قربه، يدعى: محيي الدين. - يا محيي الدين، يا محيي الدين.
فوقفت مريم مبهوتة لاستماع هذا الاسم هناك وعادت تسارع إلى العربة، وتسائل نفسها قائلة: كيف سبقنا اللعين؟ كيف سبقنا إلى الأهرام؟ ثم أمرت الحوذي أن يعود إلى البلد مسرعا. - قلت لك يا ست: إن الهرم يتكلم وإن الموتى فيه يخرجون ليلا للنزهة، وحق النبي إن من تعثرت به منهم.
وسقط بسوطه على الخيل يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
ومريم قد أخذتها الرعبة، وملكها مما توهمته الخوف باتت تلك الليلة وطيف مخيف، طيف الحاج محيي الدين يلازمها في يقظتها ويطاردها في نومها.
الفصل الخامس عشر
الرقص فن من الفنون الجميلة تتحرك النفس في السامي من أنواعه قبل أن يتحرك الجسد، ترفعه العفة، فتحطه الخلاعة، تزينه حركة، فتشينه حركات، يعززه الذكاء إذا قرن إلى رقة وكياسة، وتفسده الخفة إذا قرنت إلى فواحش الفكر وسوافل الحواس.
الرقص سراج وهاج يبهر فيسحر، وهو شعلة نار تحرق ولا تنير، هو وحشي إذا ملكته الربلات وسادته الجوارح، وهو سماوي إذا استخدمت هذه فيه كما يستخدم الرسام الألوان والشاعر الألفاظ والقوافي، فأية ذات نهدين يا ترى لا تستطيع أن ترجرج صدرها وتذبذب أردافها فتهيج الحيوان في الإنسان؟ ولكن راقصة ترفع بك إلى ما فوق المبتذل من الشهوات دون أن تلجأ إلى المتبذل من حركات الراقصات، فتشخص إليها مبهورا مسحورا خاشعا، وقد نسيت ذاتك الحيوانية السافلة، لأجدر أن تعد من أرباب الفنون بل من نوابغ الدنيا.
ورقص غصن البان الذي لم يشاهد مثله في القاهرة أبهر إبهارا على ما في بعض مظاهره من ركاكة لا تؤاخذ بها المبتدئات، فصفق الناس لها أول ليلة بدت أمامهم واستعادوها مرارا، وما لبثت أن حققت قول الحاج محيي الدين وظنه، ولم يكن الحاج ليود أن يحقق شيء من ذلك بعد أن أخفق سعيا في مطاردة غصن البان، فكيف له الآن بطردها انتقاما منها على صدها واستكبارها وقد صارت للكازينو مورد رزق عميم، وأصبحت في مصر أشهر من أهرامها فكثر المعجبون بها، الخاطبون ودها، المتغزلون بجمالها العاشقون فنها وحسنها، غص البان حديث القهاوي والحانات، بل حديث المجالس والدواوين؛ فقد كان استحسان الحاج رقصها رمية من غير رام، وصار يود إذلالها بل إهلاكها، ولكنه تمالك نفسه واتخذ خطة في معاملتها جديدة، وهو يقول في نفسه: لقد أصبحت ولي نعمة من كانت ولية نعمتي.
والحاج محيي الدين يدرك الحقيقة ولا يموه على نفسه فيها، فقد أدرك أن غصن البان أكسبت الكازينو شهرة أدبية فصار يؤمها الطبقة الراقية من أصحاب الكياسة والذوق والأدب، والمدير عاطف بك رفع أسعار تذاكر الدخول لتليق بهذه الطبقة الرفيعة من الناس فتضاعف إيراد الكازينو وتضاعف مع ذلك الحضور، حتى إن النساء كن يستصحبن بناتهن - لسنا متأكدين هذا الخبر لأننا ننقله عن صحف الأخبار - ليشاهدن رقص غصن البان «السامي فنا، الحلال سحرا، العاري من الخلاعة، المجرد من فواحش الإشارات والحركات» ثم أثنت الجريدة التي اقتبسنا منها هذه الكلمات على صاحب الكازينو الحاج محيي الدين «الذي لا يألو جهدا في البحث عما يهذب النفس ويرقي الأخلاق فيعرضه للناس مهما كلفه ذلك؛ حبا بتطهير المسارح والمراقص من أسافل الخلاعات، بل غيرة على ذوق الأمة من أن يعتريه الفساد.»
وقد أفاضت الجرائد في الموضوع، فتحمس الكتاب والشعراء وأغرقوا في الثناء على الكازينو وربة الرقص فيها، وفي الطعن على بقية المراقص في البلدة والراقصات: «إن في رقص غصن البان لسحر القريض، وشجي الأنغام، وبلاغة البلغاء، ودقة النقاشين، بل في رقصها نفحات من قداسة الإيمان وأحداء جميلة من تراتيل العذارى في هياكل اليونان.»
هذا ما قاله أحد شعراء مصر الشهيرين مصباح أفندي، لما وقف في اللوج ذات ليلة يتلو قصيدة من نظمه في مديح غصن البان وفنها الجميل العجيب.
ولما قابلها تلك الليلة قبل يدها قائلا: «بل ينبغي أن أقبل رجليك فإنك لتنظمين بهما شعرا وأنغاما وصورا يعجز دونها قريحة الشاعر وبنان الموسيقي وريشة الرسام.»
فقالت غصن البان ودموع الفرح تغشي عينيها: لا أكلفك إلى ذلك، بل أرضى منك بقصيدة تقص فيها قصة محزنة؛ قصة فتاة وحيدة مثلا تحب الحياة حبا جميلا، وتسترسل في تيارها مستهترة، فتذوق شيئا من حلوها وأشياء من مرها كثيرة، فأتلوها على الناس، بل أمثلها راقصة.
فلبى الشاعر طلبها وأعلنت الكازينو أن غصن البان ستتلو على الحضور قصيدة غراء من نظم الشاعر الشهير مصباح أفندي، وطبعت إدارة الكازينو مئات من تلك القصيدة لتوزع على الحضور، فظن الناس أن غصن البان ستتلو القصيدة كما يتبادر إلى الذهن، وقالوا: ولا غرو إذا أبدعت في الإلقاء والتمثيل كما تبدع في الرقص.
ومن عجائب نبوغ غصن البان أنها تولت بنفسها إدارة الموسيقى لرقصتها الجديدة، فكانت في أوقات التمرين تعلم الجوق معاني حركاتها وأسرار وقفاتها ونبراتها ونقلاتها، فيصحبها العود والكمنجة بما يلائم من الأنغام، وكانت إذا شاءت أن تعبر عن الفرح برقصها تسكت الكمنجة وتدير بقية الآلات ناصحة معلمة قائلة: «هذا بطيء، هذا بليد، أسرع يا عواد ولا تتبالد، اضرب الأوتار ولا تخش أن تكسر الريشة.»
ثم إذا مثلت دور الحزن تسكت العود وترقص على أنغام الكمنجة الرخيمة، حتى إذا وصلت إلى سكرة الحب توعز إلى صاحبي الدف والقانون أن يشاركا بقية الجوقة.
غصن البان مخترعة الأنغام! هذه من مظاهر ذكائها التي لم يكن أحد ليتوقعها، فأدهشت مدير الكازينو وصاحبها، وأدهشت كذلك الموسيقيين.
وفي تلك الليلة وقف الشاعر على المسرح فتلا قصيدته ثم بدت غصن البان حافية في قميص متسع شفاف مهلهل، إذا مسكت طرفيه بيديها المنبسطتين تبدو فيه كالفراشة المجسمة أو كطير من أطيار الجنة، فجعلت تنقل نقلات خفيفة، بطيئة، وهي غاضة الطرف، واجلة القلب، كأنها تجس الأرض جسا، أو كأنها تكتب برجليها كلمات الحياء والخوف والتردد، فمثلت الابنة الوحيدة الغريبة وهي تدنو من حياة الاجتماع! من معترك الحياة، فتدخل واجفة واجلة، فتخف طربا لأول مشهد تشاهده من مشاهد الأنس والسرور، فتصل تدريجيا وقد رفعت يديها أمامها ترقص أناملها النحيفة اللدنة إلى جنة الحب وبهجة اللذات، والعود والقانون والدف ترافقها بالأنغام، ثم تقف فجأة كمن تحلم حلما مرعبا فتستفيق مذعورة، فتسكت آلات الطرب وتسكن جوارح الراقصة، فتقف إذ ذاك وقفة معناها الأسى، ويسمع صوت مغنية وراء الستار تغني بصوت رخيم شجي: «يا غزالي كيف عني أبعدوك؟» وغصن البان تحرك قميصها أمام وجهها وحول رأسها كمن تندب حظها، ثم تدخل طورا آخر على رنات العود والقانون وهي تتمايل كشجر الحور في فصل الخريف وذراعاها كزنبقتين هزهما النسيم تنقل نقلات كأنها أبيات من ديوان الحماسة، فترفع ركبة تلو الأخرى حتى قبالة صدرها وهي تهز رأسها وكتفيها مسرعة مقبلة مدبرة، فتحجب وجهها بطرف قميصها تارة وتارة تبديه، كأنها تداعب الأقدار، وما هي إلا فترة حتى تظهر فيها راقصة الهيكل غانجة راغبة هائجة، فيحل شعرها الأسود فيتماوج على منكبيها وجوانبها، وتحتدم النار في عينيها فتبدو كأميرة الجان متمردة على القضاء، فتشرب كأس الغرام ثانية حتى الثمالة.
وتتوارى أنغام الكمنجة في نقرات الدف ورنات العود والقانون، وتمسي حركات غصن البان ارتجاجا متواصلا كارتجاج النور أو الأثير، لا يفصل بين الواحدة والأخرى فاصل ما، كأن نفسها ترقص في الفضاء أمامها وجوارحها كلها تتسابق إليها في سكرة الحياة بل في رقصة الموت، وتتوارى قليلا قليلا وهي شاردة مفترة، جامحة، سافنة.
فضجت التياترو بالتصفيق وهتاف الإعجاب. - أحسنت أحسنت! يعاد! يعاد! برافو، برافو، كمان كمان.
واستعيدت غصن البان مرات عديدة تلك الليلة.
وبعد انتهاء دورها ارتدت ثيابها وقلبها يخفق طربا وغما، فبعثت تستدعي مصباح أفندي فجاء يهنئها ويقبل يدها، فقالت تخاطبه: بل أنت أجدر بالتهنئة. - هذا من لطفك، ولكنك ربة الفن، وما أنا إلا واحد من عبادك، سحرت الناس، فتنت الناس، تيمت الناس. - ولكني يا مصباح منقبضة النفس، الكآبة تملأ قلبي، أفرغت نفسي للناس فلم يبق فيها شيء لي، آه، أواه.
فنظر إليها مصباح أفندي عاطفا واجدا.
فأخذت غصن البان يده تضغط عليها، ثم قالت: تعال معي.
وركبت وإياه عربة أوصلتهما إلى بيتها، وبينا غصن البان تترجل حانت منها التفاتة فأبصرت الحاج محيي الدين واقفا قريبا يراقبها ومن معها، فهتفت قائلة: ربي! ربي! أيتبعني كظلي؟ هذا جزائي؟
والحاج محيي الدين، وقد أدرك أنها رأته يراقبها، انثنى راجعا راضيا. - أينغص هذا اللئيم عيشي؟ أينكد حياتي إلى الأبد؟ - من هو يا غصن البان، من هو؟ - ادخل ولا تسل، اجلس، اجلس أيها الشاعر، ما هو إلا خيال، بل وهم من أوهامي.
وجلست إلى جانبه تشخص إليه، ثم قالت: اسمع، لقد أسكرت الناس وأنا صاحية، مثلت في رقصة الليلة حياتي؛ حياة هذه الفتاة الجالسة الآن إلى جانبك ولم يدرك أحد ذلك، وماذا يهم الناس ما أقاسي؟ أسقيهم وأنا ظمآنة فيشربون، أطعمهم وأنا جائعة فيأكلون، أرقص لهم وأنا حزينة فيطربون، وجزائي ما هو جزائي؟ صياد يخيم على قلبي، يتبعني كظلي، ينكد عيشي، يتعقبني كأني مجرمة أثيمة، هذا الشيطان الذي يملأ جيبه من مالي ويملأ نفسي غما، صرت أخشى يا مصباح أن أختلي بنفسي، أغمض طرفي فأراه أمامي، أفتح عيني فأراه يطاردني، ويلاه، ويلاه! - ومن هو يا غصن البان؟ قولي من هو فأريحك منه إن شاء الله. - لا، لا، ما لنا وله! أشعل السيكارة.
وضربت كفا على كف فحضرت الخادمة. - أتشاركني في زجاجة من الخمر أو تفضل مشروبك الوسكي والسودا؟ - لا أطلق الوسكي والسودا. - ليكن ما تشاء. وبعد قليل جاءت الخادمة تدعو سيدتها إلى غرفة المائدة، فدخلت ومصباح أفندي فأكلا مما أعدته لتلك الساعة من الأطعمة الباردة، وشربا بضع كئوس ثم تناولا القهوة، وعادا إلى الردهة وغصن البان تقول: ألا يحق لمن تطرب الناس أن تذوق من الطرب شيئا يسيرا؟ ألا يحق للساقي أن يرشف ولو ثمالة الكأس؟
فهتف مصباح أفندي قائلا: ووالله لأفرغن نفسي في كأسك أيها الساقي. - أيها الشاعر الحبيب، أنت عزيز، أنت جميل، أنت لذيذ، أنت وإن سكت مطرب، نفسك أعانقها، نفسك أعبدها، نفسك ترقص الآن أمامي كما رقصت منذ ساعة أمام الناس، في عينيك وفي شعرك أنغام شجية، أسمعها إذا لمست شعرك، في أناملك، في فمك، في ساعدك ما يبهج قلبي الآن ويطرب نفسي ويسكر كل جوارحي، لا تقبل عيني، لا تقبل خدي، لا تقبل عنقي آه! أنت جميل أيها الشاعر، أنت جميل. - وأنت في حديثك كما أنت في رقصتك فتانة ساحرة، أنا أعبدك، أنا من عبادك، أنا أسير حبك، ثغرك، آه ما ألذ ثغرك! - وغدا تكرهني، غد تنقلب علي، لا يهمني، لا يهمني، أنت الليلة لي وحدي، كلك، كلك لي، وهذا حقي أيها الشاعر، هذا حقي، وإلا فكيف يمكنني أن أطرب الناس وهم يسألونني حقهم كل ليلة؟ فإن لم أملأ النفس التي أفرغتها، إن لم أغذ القلب الذي بذلته فكيف يمكنني أن أؤدي إلى الناس حقهم غدا؟ لا أعرف ما تفعل غيري من النساء، إذا وجدن في حالتي، ولكن ما تفعله غيري لا يهمني، أظنني أعرف ما أريد، ما أحب وما أكره، وإلى أن ينقضي أجلي سأعيش لما أحب ولمن أحب، وأفر هاربة مما لا أحب وممن يكرهه قلبي.
وجثت إذ ذاك أمام مصباح تقبل يده وفمه وعينيه، وتقول: أنت الليلة حبيبي، بل أنت سيدي، وأنا عبدتك أيها الشاعر، نفسك الليلة ترقص لغصن البان، عيناك تبهجان قلبي، شعرك يطرب نفسي، سيدي حبيبي! غصن البان تجثو أمامك وترمي نفسها بين يديك، صه! لا تفه بكلمة واحدة، لا يعجبني في ذا الوقت حديث الشعراء، انظم غدا ما تريد أن تقوله الليلة وابعث به إلي، ابعث القصيدة يا جميل إلى من أحبتك الليلة وعشقتك ...
وفي صباح اليوم الثاني قدمت غصن البان إلى مصباح أفندي دبوسا لربطة الرقبة؛ ذكرى منها وودعته قائلة: إياك أن تخدع أو تطمع بي، وخير لك أن تظل بعيدا عني، الوداع أيها الشاعر، الوداع! انسني، اجفني، عقني، وإن لم تستطع ذلك فانظم لذكراي قصائد تطرب الناس. - جميل والله أن أودعك ضاحكا، فإن كلامك يضحك، سأراك قريبا. - لا لا لا. - سأراك في الكازينو مساء اليوم، سأراك كل ليلة هناك! - كما يراني الناس، وما المانع؟ الوداع، الوداع.
الفصل السادس عشر
عند انقضاء فصل الشتاء حسب عاطف بك حسابه فأدهشته الأرباح، ولكنه أدرك أن إيراد الكازينو في الأسابيع الأخيرة لم يكن كذي قبل، بل بدأ ينقص قليلا. - ما قولك يا محيي الدين؟ لا أظن الناس يقبلون على غصن البان في الموسم القادم كما أقبلوا عليها هذه السنة. - هذا من باب الحدس والظن، غصن البان متفننة جدا، وقد تجيئنا السنة القادمة برقص جديد، ليس من رأيي أن نتنازل عنها.
فقال عاطف بك وهو يفتل شاربه مبتسما: لا أسألك أن تتنازل عنها ولكن الكازينو ... - دعنا من المزح، سأسافر هذا الصيف إلى سوريا ولبنان. - وتستصحبها؟ لله درك! - بل أتركها لك في مصر وكي لا تتفلت من يدنا ينبغي أن تجدد الوثيقة معها، وأسألك إكراما لي أن تكرمها وتقضي لها ما تسألك قضاءه من الحاجات. - هي الآن بغنى عني وعنك. - وهذا السبب في وجوب إكرامنا. - إذا كان المرء بغنى عنك فإكرامك له تزلف إليه. - ليكن ذلك، المصلحة يا عاطف بك المصلحة. - صل عليها وعلى النبي. ليكن ما تريد.
وكذلك كان. جددت الوثيقة، وقضت غصن البان بعض أشهر الصيف في الرمل بالإسكندرية وبعضها في حلوان، وسافر الحاج محيي الدين إلى سوريا ولبنان وعرج في عودته على حيفا فزار الناصرة وتوصل بعد البحث إلى مقابلة الست هند قرينة صاحب الفضيلة يوسف أفندي مبارك، وعاد إلى مصر مسرورا بما علم من سيرة مريم الخادمة سابقا، الراقصة الشهيرة الآن.
وفي ذات يوم بعد أن فتحت الكازينو أبوابها لتستأنف غصن البان العمل فيها، جاء الحاج محيي الدين يخاطبها فقال: قد نوه بك في حضرة أفندينا، وقد علمت من صديق لي في المعية أن سموه يرغب بإكرامك، وسنسعى جهدنا في ذا السبيل؛ لأنك يا غصن البان أهل لكل إكرام. - أشكرك يا سيدي محيي الدين، وأرجوك أن تعذرني، أن ترحمني، أن ... - وما معناك؟
فشرقت غصن البان بريقها، وقالت: أيحتاج مثلك إلى الشرح والإيضاح؟ ثم وقفت كأنها تطارد أفكارها المتشردة، ثم قالت: اعذرني، اعذرني، لا تبال بما قلت، لا تؤاخذني. - ليس ما يستوجب الاعتذار والمؤاخذة، أنت حرة، وأنا من أبناء العصر القائلين بحرية النساء، وليطمئن بالك.
وبعد أسبوع جاءها يقول: البشرى! لقد أمر أفندينا أن تمثلي أمامه في قصر القبة، وهذا شرف لم تنله راقصة قبلك، لا تشكريني، فلست الساعي بذلك، ولا الفضل لي، إنما نحن نسر لسرورك، ونشاركك أيضا في ذا الشرف وذا الإكرام.
رقصت غصن البان في قصر القبة أمام سمو الخديوي فأعجبه جدا رقصها وأثنى عليها، وجعل أعضاء الأسرة الخديوية وأعيان القاهرة يعزمونها بعد ذلك لترقص في بيوتهم، فغرها الفوز وطمحت نفسها إلى المزيد فيه، ومع أنها أدركت أن هؤلاء الأعيان يعزمونها كراقصة لا كسيدة من أتراب نسائهم، فظلت طامحة شافنة ثابتة في ظنها؛ بل في وهمها أنها لا بد أن تنال منزلة سامية في الهيئة الاجتماعية، وكانت غصن البان تسر لنفسها أن رغبتها الشريفة إنما هي شريعة ينبغي أن يحترمها الناس.
ولما جاءها ذات يوم دعوة إلى البالو الخديوية من السر تشريفات، لم يخطر في بالها أن هذه أيضا من مكارم الحاج محيي الدين؛ بل من دسائسه، بل ظنت أن آمالها بدأت تحقق وأن ذلك من طلائع ما تستوجبه منزلتها.
حضرت غصن البان البالو تستصحب صديقها الشاعر مصباح أفندي، فالتقت هناك بصاحب الكازينو، فجاء يسلم عليها ويهنئها ويلاطفها. - نورت القصر يا غصن البان، يا محجة أنظار الناس يا ... - حسبك من هذا يا سيدي محيي الدين. - كلمة أقولها لك! فمشت وإياه إلى ردهة النخيل وجلسا على ديوان محفوف بأنواع الأزاهر والنباتات، ونجوم السماء تبدو من سقف الزجاج كالعصفر والأقحوان في سهول لبنان. - فضلك يا غصن البان على الكازينو عميم، وقد أصبحت ذات منزلة عالية - لا تقاطعيني ولا تعتذري وتتعللي حسب عادتك - البيت الذي أنت فيه لا يليق بك، فالإدارة تعد لك بيتا مفروشا في شارع قصر النيل، ونرجوك أن تقبلي هديتها فتقيمين فيه ما زلت في القاهرة.
فدهشت غصن البان واغتمت جدا ولم تفه بكلمة جوابا. - ما بالك؟ أترفضين هدية الكازينو؟
فرفعت يدها إلى جبينها كأن صداعا أصابها، وقالت: أدركت يا سيدي محيي الدين دقائق صنعك، قتلي والله تروم بفضلك، إنك لأظلم الناس، لأظلم الناس، تكرمني وأنت تذلني، تكرهني وتحسن إلي، وأنت تعلم أنني لا أحبك، لا أحبك. ارحمني ورق لحالي! ووالله إن ملكتني فلا تملكني حية، اعذر مني حرية قولي وحرية فعلي، هذه شيمتي. - أكرمك فتشتميني، ولا بأس، ولكنك مخطئة في ظنك، لقد أدركت من زمان ما جهرت به الآن فمنعت قلبي عنك، وإن ما نلته من الإكرام في هذه الأيام هو بعض حقك ولا فضل لي في شيء منه، تأكدي ذلك، وليس البيت هدية مني، قلت لك. - حسن حسن، أقبله على شرط أن أحاسب الإدارة به، أدفع الأجرة من كيسي. - لا فرق، لا فرق.
نقلت غصن البان إلى بيتها الجديد فأقامت فيه محفوفة بالخدم ممتعة بنعيم الدنيا؛ نعيم الاجتماع، وبذلت في فرشه وزينته فوق ما كانت تحصله من المال، وأمسى بهوها مجتمع الشعراء والكتاب والباكوات من الطبقة التي قلما تراعي اصطلاحات الاجتماع، ولا يهمهم أن يقال فيهم: إنهم من أتباع راقصة أو مغنية، وكانت تعد لهم المآدب الفاخرة وتدهشهم كل مرة بتحفة جديدة ابتاعتها أو بأثر نادر عجيب، وبكلمة أصبحت غصن البان ربة بيت وصاحبة منزلة، لا تعترض كلمتها في المجالس ولا يرد في مخازن البلد طلبها.
ولكنها مع ذلك ظلت راقصة في اعتبار الناس، وكثيرا ما كانت تتألم حتى من الأقربين إذا تجاوزت حدها، ولا غرو، فالراقصة في الشرق مهما أتقنت فنها وأبدعت لا تستطيع أن تكتسب إكرام الناس الحقيقي المجرد من مشوهات الغرور والادعاء والتعطف، رقصت أمام الخديوي فانتقد بعض الصحافيين سموه وطعن بها طعنا ذميما، حضرت البالو فقيل به: هذه بدعة لا تغتفر! فتحت بيتا في شارع قصر النيل فصاح نساء الأعيان: وغدا تدعونا من أترابها، إلى متى هذا الغرور؟
حاولت غصن البان أن ترفع نفسها اجتماعيا إلى منزلة فنها فلم تفلح، فعادت إلى نفسها تعيش حرة مستقلة كما يطيب لها، وقنعت بشهرتها التي لا تلبث أن تزول، ونعيمها المادي الملازم مثل ذي الشهرات وبمن حام حولها من المتحذلقين والكيسين عشاق جمالها.
ولا يجوز أن نغفل حقيقة هامة في حياتها؛ وهي أنها لم تستسلم إلى الأقدار تمام الاستسلام، فكانت تسعى دائما لنيل ما تتوق إليه نفسها وما يتطلبه عقلها وقلبها، فثبتت في الجهاد حتى الفوز أو الفشل، وهي وإن عاشت لأميالها وأهوائها فلم تكن كسائر الراقصات والغواني، ولكنها فيما شاع عنها من أمر غرامها وحرية اختيارها أثارت عليها خواطر زميلاتها ومن حرم مجلسها وهبات قلبها من الطالبين، وقلما همها ذلك، قالت الراقصات: تعيش مثلنا وتترفع علينا، ما شاء الله! وقال بعض الشبان: إن هي إلا مومسة. وكان الحاج محيي الدين يسمع مثل هذه التهم والفريات فيغضي عليها ويستمر في إكرام غصن البان.
الفصل السابع عشر
جاء ذات ليلة خادم الكازينو يقدم إلى غصن البان بعد أن أتمت رقصها باقة من الورد، فلما وقع نظرها على البطاقة فيها اعتراها هزة مبهجة مزعجة معا، فارتدت ثيابها وهي تفكر بمن خدعها في باريس وجفاها وجاء اليوم يجدد عهد الحب، ولكنها مع ذلك لم تكره نجيب مراد وقد أعجبت الآن بجرأته وإقدامه، ولما قابلته مرحبة باسمة بادرها قائلا: «لا شك أنك ناقمة علي.» - لا لا، وحياتك. - وحياتك إن أمرا هاما استدعاني ذاك اليوم من باريس ولم أتمكن من ...
فقاطعته غصن البان قائلة: لا ذنب مع استغفار، فقد عذرت وصفحت، قل لي: كيف حالك؟ ومتى جئت القاهرة؟ وكيف علمت بوجودي هنا؟ - جئت القاهرة منذ أسبوع ولما قرأت في الجرائد عن الراقصة الشهيرة في الكازينو قلت: هي مريم لا شك. - اسمي الآن غصن البان. - نعم يا ست غصن البان، تفضلي. - إلى أين؟ - إلى نزل كنتيننتال نتناول شيئا من الطعام.
وبينا هما جالسان إلى المائدة عاد نجيب مراد إلى موضوع سفره من باريس، فقاطعته ثانية تقول: غير هذا الموضوع، لا حاجة يا صديقي لاعتذار، أما قصتي بعد أن سافرت فطويلة أقصها عليك في غير ذا الوقت والمكان.
ودخل إذ ذاك مصباح أفندي فأبصر غصن البان، فجاء توا يسلم عليها. - أهلا بشاعري العزيز، تفضل، سأدهشك بعلمي، البارح زارني أحد المشائخ فعلمني آية أتلوها الآن عليك، اجلس حيث يؤخذ بيدك وتبر، لا حيث يؤخذ برجلك وتجر. - ألحنت، واللحن جريمة، تبر وتجر لا تبر وتجر، اذكري ذلك، فلو سمعك الشيخ لنفض منك يديه. - النحو والمشائخ سيان عندي، بل النحو مثل المشائخ شعره أبيض، بارك الله لك فيه، أقدم إليك صديقي نجيب أفندي مراد من أعيان بيروت. - أنعم وأكرم! شرفت بلدنا. - وحضرته ...
فقاطعها نجيب قائلا: حضرته بغنى عن التعريف، مصباح أفندي شرفت فآنست. - جئتك يا غصن البان بخبر مدهش. - وما هو؟ - في القاهرة شخص واحد لا يعجبه رقصك. - من هو ؟ قل لي من هو؟ فقد سئمت من يعجبهم رقصي، فلا شك أن الرجل ممتاز بعقله. - هو واعظ شهير ندد بك على منبره. - أفسدت الطبخة، هو شيخ من مشائخ الأزهر، ولا عجب. - بل هو قسيس من قسس النصارى يعلم في إحدى مدارس الإفرنج هنا. - أنعم وأكرم بشيخك وبقسيسي، ليتك تركتني في وهمي، فقد مثلت لنفسي رجلا مثلك أو مثل نجيب أفندي ووددت التعرف به.
فقال نجيب: لو زرت سوريا ورقصت هناك لشاهدت من مثل هذا الرجل المئات والألوف، كلنا في سوريا هذا الرجل، لا نرى في مثل رقصك ما يراه إخواننا المصريون. - أي إنكم لا تخدعون مثلنا، لتهنأ سوريا بحصافة رجالها! - بل لا نتأثر مثلكم، أرجوك المؤاخذة، فقد أسأت فهمي، أردت والله ثناء. - وأنا كذلك.
فقالت غصن البان ضاحكة: والحمد لله على سلامتي، خطر في بالي المثل السائر، ولكنه لا يليق بذا المقام، فلا بأس إن تقارضتم الثناء باسمي على شرط ألا تشاركوني به، لنشرب سر مصر وسوريا.
فقالت نجيب مراد: وفلسطين أيضا.
فتجهمته غصن البان وقالت على الفور: لا أشرك مع البلاد المقدسة بلادا. - الحق معك، ولكن الفن يا غصن البان يتعدى مثل الدين البلاد، ومصر بلاد الفن قديما وحديثا، سر سوريا ومصر.
ثم قال نجيب مراد ليظهر للشاعر أنه أسبق إلى قلب الراقصة الشهيرة منه: أتذكرين يوم شربنا هذا السر في باريس؟
فاغتاظت غصن البان ولم تكترث بما قال، وفي تلك الآونة قرب من المائدة رجل نحيل الجسم عدل القامة يناهز الأربعين من العمر، حنطي اللون غائر العينين في وجهه أثر الجدري وأثار القصف والتهتك، وهو يلبس عوينة كأكابر الإنجليز ويميل بطربوشه حتى حاجبه الأيمن فيكاد والزجاجة يتماسان، فأبصرته غصن البان قادما إليها فبادرته وهي جالسة بالسلام، ومدت إليه يدها فقبلها. - أهلا بسعادة الباشا، جئت بوقتك لتخلصني من حجر الرحى، أكاد أسحق بين حب سوريا وحب مصر، بل بين التجمل والمسايرة، وأنت لا تجامل حتى غصن البان، ولا عجب فأنا لا أحبك ولكني أحب حديثك، تفضل، اجلس بيني وبين الشاعر، وأجرني منه.
ثم قدمت إليه جليسيها وقالت تعرفهما به: صاحب السعادتين الحائز على الرتبتين المصرية والإنكليزية، بل ولي النعمتين - نعمة الملك ونعمة الأمير - سر همت باشا.
فأحنى سر همت رأسه باسما ابتسامة الازدراء ولسان حاله يقول متهكما: علمت شيئا وفاتت عنك أشياء، ثم أمر الخادم أن يحضر زجاجة من الشمبانيا. وقال يخاطب غصن البان: هل سررت في الإقامة بحلوان؟ - كيف لا وجئت بهذا السعال المكرب؟ أرجوك ألا تذكرني بها، سر همت باشا يا نجيب أفندي عالم أسر ... ما هي الكلمة؟ - أثري. - أثري، أثري، أي إنه لا يهتم لغير الماضي؛ الماضي القديم البعيد، يحفر القبور، ويغازل الموميات. - أخطأت، ننقل القبور إلى القصور، فإنها أجدر بميت كريم من حي لئيم، ونغازل الخالدات الذكر لا الموميات؛ الخالدات الذكر عرائس الحب، لا يهمني من الحاضر غيرهن، والبخور نحرقه في هياكلهن، والخمر نشرب على ذكرهن، وما سوى الحب والخمر هلس كله بهلس، الاحتلال الإنكليزي، والحزب الوطني، ومشائخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، وتحرير المرأة، والبالو الخديوية، ورقص غص البان هذه كلها تدل على أمر واحد هام، وهو أن الناس هربا من فراغ في قلوبهم وظلام في عقولهم وعقم في نفوسهم؛ يتلهون بالخزعبلات السياسية والاجتماعية وبالتخرفات الدينية والفنية، ترقص غصن البان فتعبث بالعقول والقلوب، يخطب مصطفى كامل فيطرب الناس، يتفلسف الشيخ محمد عبده فيسلينا، يعظ شيخ الأزهر فيضحكنا، تصدر أوامر النظارة الخارجية من «دون ستريت» إلى المعتمد الإنجليزي فتبعث بنا إلى الحمام، يصدر قاسم أمين كتابا فترتفع أسعار «النسخات» في البلد، صل على النبي! اكتشفت أمس اكتشافا يزعزع اعتقاد هؤلاء النوابغ كلهم لو أنهم يعلمون، مددت يدي أمس إلى صدر ملكة من ملكات الفراعنة ...
فقاطعته غصن البان هاتفة: يا للفضيحة ويا للعار! - أي والله، جسارة هي بل سوء أدب مني، ولكن العلم في بعض الأحايين فضولي، مددت يدي إلى صدر الملكة فلقيت فيه صفيحة من البردي كتبت فيها هذه الكلمات: «سأوافيك غدا نصف الليل إلى البستان تحت شباك البهو الكبير.» - الله الله! يا دائم يا كريم ! - نعم، كل ما سوى الحب يا ست غصن البان هلس بهلس، كله يزول «سأوافيك نصف الليل إلى البستان تحت شباك البهو الكبير.» لعمري إن في ذي الرسالة سر الحياة كلها، ولكن فيها ما هو أغرب من «سأوافيك» فيها اسم علمت بعد البحث والتنقيب أنه اسم الكاهن الأكبر؛ كاهن الهيكل الملوكي.
ورفع النظارة إلى عينه يثبتها تحت حاجبه وهو ينظر إلى غصن البان كأنه يسائلها رأيها، فقالت: وهل وافته الملكة؟ - وافته إلى البستان ورافقته إلى قدس الأقداس في الهيكل، وماتت في سريره وأوصت أن تدفن الرسالة معها وفي صدرها، إنما هذه الخالدات الذكر، تزول الأديان والأمم ولا يزول الحب، تتغلب العادات والسياسات وتتغير الأزياء والأسماء والحب هو هو - خالد أزلي أبدي، والعاقل لا يهتم في الحاضر لسواه. - وهل عثرت يا سر همت على مومية راقصة من راقصات الزمان القديم، أو على أثر من آثار الرقص في الصور والتماثيل؟ - عندنا كثير منها. - بالله حدثنا بها. - غدا أرافقك إذا شئت إلى المتحف المصري وأطلعك على آثار الرقص وصور الراقصات والراقصين؛ لأن الكهان في قديم الزمان كانوا يرقصون والعذارى في الهياكل ...
فقاطعه مصباح أفندي قائلا: ويدعونهن بعدئذ إلى قدس الأقداس؟! لله من الكهان! - ولكن رقصهم جميل يشابه في بعض حركاته رقص غصن البان.
فقال نجيب مراد: واللبنانيون حتى اليوم يجتمعون في الكروم في عيد مار باخوس؛ أي إله الخمر عند الرومان، فيرقصون رجالا ونساء كما كان الرومانيون قديما يرقصون ما يدعى «باكانال» فيهرجون ويمرجون ويسكرون أيضا رجالا ونساء. - يظهر أن كل جميل مبهج في الحياة أصله الدين، كالرقص مثلا والشعر والتصوير والنحت، كل الفنون الجميلة عند اليونان والرومان قديما وعند الأوروبيين حديثا إنما الدين أوحاها إلى نوابغ البشر، ولكن الأديان اليوم قد أفلست فلا توحي إلى الناس غير الجهل والتعصب والرياء. - ما أسرعكم إلى تجريم الأديان! الجهل يا مصباح أفندي، والتعصب والرياء من حقائق الوجود الملازمة يمازج الخير شرها، الجهل مفيد، لولاه مثلا ما احتل الإنكليز مصر، وغدا يخيم على جيش الاحتلال ويتسلل إلى «دون ستريت» فتنتصر على الإنكليز قوة سياسية جديدة، لولا الجهل مثلا ما ظهر مصطفى كامل وأمثاله في أوروبا من زعماء الشعب الممخرقين، ولا غنى للشعب عن البهلوان يسليهم في ساعات اليأس ويضحكهم أوقات الضجر، البهلوان في السياسة أو في الدين أو في الملاهي ألزم منك يا ست غصن البان، أما التعصب فهو لازم لحفظ التوازن بين الشعوب، وبين عقائدهم السياسية والدينية، التعصب أساس كل اعتقاد، والاعتقاد أساس الإيمان، والإيمان أساس العمل، والعمل! لولا العمل لكانت الأرض قفرا بلقعا، أما الرياء فإن هو إلا درع نتدرع بها على لؤم اللؤماء وجور الأمراء، بل الرياء حجاب تسدله على نفس حساسة تأبى السفور في الاجتماعات، حيث يختلط الحابل بالنابل ويحتك منكب الصعلوك بمنكب الأمير، وها صديقي الحاج محيي الدين أخبث الناس وأشدهم تعصبا قادم إلينا، يا حاج محيي الدين.
فسارع الحاج إلى سر همت يسلم عليه معتذرا مستغفرا. - أثنيت عليك في حديثي، قلت: إنك أخبث الناس وأشدهم تعصبا، فينبغي أن تشاربنا، هذه الكأس فقط. - لا أقبلها إلا من يد غصن البان. - تعطفي إذن يا غصن البان! - فاتك يا سيدي محيي الدين استماع حديث سر همت باشا، فقد حبب إلينا الموت والحب.
فقال الحاج متهكما: بل الحب والموت! رحم الله الفارض:
وإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به
شهيدا وإلا فالغرام له أهل - ونعم، وصرت أود أن أكون مومية من الموميات. - لأفتش في صدرك عن رسائل الغرام؟ ها ها! - دعنا من المزح، فإن حديثكم يا سادتي لذيذ مفيد جدا وبالأخص لفتاة جاهلة مثلي، مدحت الجهل يا سر همت إكراما لي فأهنتني، أودعك ناقمة عليك.
ونهضت إذ ذاك غصن البان فنهض جلساؤها كل يريد تشييعها إلى منزلها، فقال سر همت: نلقي القرعة. - لا لا، قد تقع عليك، نجيب أفندي يشيعني الليلة.
وركبت وصديقها القديم عربة أوصلتهما إلى منزلها، فدخلا الجنينة والحارس نائم في صندوقه عند الباب، فوقفت غصن البان تودع نجيبا، فقال مدهوشا: أتغيرين عادتك معي؟ - لا بل هذه العادة، أنسيت باريس يوم كنت تشيعني إلى منزلي عند مدام لامار. - ولكني لم أنس ...
فقاطعته قائلة: لا لم تنس فوزك بل نسيت مقدماته، نسيت المكارم التي تكلفتها لتنال إربك، وأنا لم أنسها، فقد اتخذتها شرعة حياتي، دقائق الحيل يا نجيب تغتفر إذا علمتنا وهذبتنا، وقد غفرت بعد أن أدركت حيلتك، وسأحفظ لك ذكرا جميلا في قلبي، ليلتك سعيدة.
ولم تقف غصن البان لتسمع جوابه بل دخلت إلى بيتها وأقفلت الباب، فجاءت الخادمة تعينها في خلع ثيابها وتعد لها الحمام.
وفي تلك الآونة طرق الباب طارق، فجاءت الخادمة تفتح، فإذا بمصباح أفندي مضطرب البال مكفهر الوجه يطلب مقابلة سيدته، فارتدت غصن البان ثوب الحمام واستقبلته في باب غرفتها. - أفلا تأذنين لي بالدخول؟ - لا، لا، أهنتني في مجيئك الآن جئتني متجسسا، وهب أن الرجل عندي في هذه الساعة فما حقك علي، ألم أقل لك مرارا: إنني حرة، مستقلة، ولية أمري، ولية نفسي، أمنح من أريد حبي وأحرمه من أريد؟ - وستدركين خطأك وستندمين. إنك يا صديقتي لفي ضلال مبين، من تمنحينه حبك فيمنحك حبه يلقي في قلبك مسئولية عظيمة إذا كنت ذات وجدان، الحب يا غصن البان تقتله الحرية المطلقة كما يقتله الأسر المطلق، إذا أحببتك وكرهتني فرحمة الله عليك، إذا أحببتني وكرهتك فرحمة الله علي. - لا أدرك معناك. - أولا تقولين ادخل فأوضح؟ - لا، لا. - ألأن في الداخل من تؤثرينه علي؟ - ذلك لا يعنيك. - ستندمين على ذا التصرف. - لا أندم على شيء أفعله من تلقاء نفسي، اتركني وحدي. - لو تأكدت أنك وحدك ... - كلمتي شرفي، أترتاب بما أقول؟ - العذاب يذهب بيقيني، الغيرة تذبح إيماني. - وإذا أدخلتك تندم، تندم والله، إذا أدخلتك تقتل في ما هو أعز من اليقين والإيمان لديك. - إما أنا وإما هو. - في دخولك منزلي الليلة خروجك من قلبي إلى الأبد، ادخل، ادخل فتش وأرح نفسك.
فدخل مصباح غرفتها وجعل يفتش كالمجنون تحت السرير وتحت الديوان ووراء السجوف ووقف مذهولا حائرا بل مدحورا مذموما. - أفلا تخجل الآن؟ - وما أدراني؟ - ألم تزل في ريب مما أقول؟ لقد جنيت على نفسك!
وصفقت كفا على كف فجاءت الخادمة. - شيعي مصباح أفندي إلى الباب.
الفصل الثامن عشر
الراهب الذي ذكره مصباح أفندي تلك الليلة في نزل كنتيننتال إنما هو راهب البحيرة؛ ذاك الذي كان في طبريا يستحم بحماماتها المعدنية يوم كان القس جبرائيل مقيما في تلك الناحية ومريم، بل هو القس بولس عمون الذي اجتمع به القس جبرائيل بلبنان، ولما سافر فجأة من طبريا جاء إلى مصر يعلم اللغة العربية في إحدى مدارس الإفرنج، وقد يذكر القارئ أن القس بولس من علماء الكنيسة العصريين، فيلسوف روحي غزير المادة ثاقب الفكر يجمع بين أشد النزعات الدينية والأدبية مؤلفا مقارنا، بهي الطلعة، حاد النظرات فصيح اللسان، شديد العارضة، يحمل في عظاته الرنانة على كفر شبان العصر مستشهدا بفولتير، وعلى تهتكهم وفحشهم مستشهدا بالقديس أوغسطينوس، وما لبث أن اشتهر في مصر وأصبح محترما معززا في قومه يشار إليه بالبنان.
ولما ظهرت غصن البان تحدجها الشهرة من كل مكان، وجعلت الجرائد تنشر الفصول الطوال فيها مطرية مغرقة، والناس من علية القوم وعامتهم يلهجون بذكرها، طفق القس بولس يندد في عظاته بها ويحذر الناس من ذا الجنون بخزعبلات الملاهي والفنون المؤدية إلى فساد في الذوق، وفي الأخلاق، وفي العقول.
والقس بولس حر الكلمة شاذ الطباع لا يحفل بأقوال الناس إذا رام عملا، ولا يهمه انتقاد إخوانه إذا انبرى يناصر ما يظنه حقا وعدلا، فقد ذهب ذات ليلة إلى الكازينو ليشاهد بعينه رقص غصن البان، فلما ظهرت الراقصة على المسرح في مظهرها البسيط الفتان اعترته هزة إعجاب أحدثت في قلبه تأثيرا جديدا، بل استيقظت فيه عاطفة الحنان والوداد - أجل فقد سحر القسيس برهة كسائر الناس، أوقفت حركات الراقصة حركة المنطق فيه والبيان، أفسدت حجته، بلبلت أفكاره، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى علمه وتقاليده - إلى معقوله في الأشياء ومنقوله، واستمر يندد برقصها ويحذر الناس من السم في دسم فنها، ومن الشر في سحرها.
وفي صباح ذات يوم بينا هو ذاهب إلى الكنيسة خطر له خاطر استعاذ بالله منه : أحق ما أقول، أعدل ما أنا فاعل؟ ومن هي يا ترى هذه الفتاة من أين؟ فإن بين رقصها ورقص بقية الراقصات فرقا عظيما، في رقصها شيء من التقوى، شيء من العبادة، شيء من الحزن، أحق ما أقول فيها؟ أعدل ما أنا فاعل؟
وظلت هذه الأفكار تتجاذب معقوله ووجدانه حتى حملته ثانية إلى الكازينو، جاء يطلب مقابلة صاحبها الحاج محيي الدين.
فأدخله الخادم إلى الإدارة فاستقبله الحاج مرحبا وأجلسه على الديوان، فعرف القسيس نفسه إليه قائلا: وقد تظنها خبثا ونفاقا ممن يندد براقصتكم الشهيرة ويرغب بمشاهدة رقصها.
فهتف الحاج مرددا وهو يعد سبحته: أستغفر الله، أستغفر الله، سبحانه تعالى جبلنا كنا من طينة واحدة؛ الحاج والقسيس والراقصة، والله سبحانه يحب الجمال. - وهل لك أن تطلعني على شيء من أمر هذه الفتاة؟ هل هي من مصر؟ - لا يا سيدي، لا، وجاء إذ ذاك الخادم بالقهوة. - تفضل، لا، لا، العفو! وما الغرض من سؤال سيادتكم؟
فسكت القس بولس عن الجواب هنيهة، ثم قال: سمعت أن اسمها غصن البان إنما هو اسم مستعار. - هذا صحيح.
وأطرق الحاج قليلا، ثم نظر إلى جليسه نظرة ساحر يدعي علم الغيب، نظرة خبيثة مزعجة وقال: أشعل سيكارة، وأطرق ثانية. - ممنون.
فرفع إذ ذاك الحاج رأسه فجأة كأنه لقي ما أضاعه، أو كأنه يسائل جليسه: وهل أنت الرجل؟ ثم قال:صحيح، صحيح، اسمها الحقيقي مريم، مريم، وقصتها عجيبة غريبة، سبحانه تعالى يمنح آلاءه من يشاء ويحرمها من يشاء، يرفع الوضيع ويخفض الرفيع، فإن نشوء غصن البان لمن أعجب الأمور، ولا أخشى أن أطلعكم على شيء من أمرها، ولا أكتم سيادتكم - أتأمرون بأركيلة؟ - ممنون لا أدخن. - لا أكتم سيادتكم أن تنديدكم بها ينفعها وينفعنا أكثر من مديح الشعراء وإطراء الصحافيين، ووددت والله لو أن مشايخنا مشايخ الأزهر يقتفون أثركم، ما لنا وهذا؟! مريم يا سيدي ولدت في قرية صغيرة قرب الناصرة، وتربت في دير من أديرة الأيتام فيها، وخدمت سنتين في بيت أحد الوجهاء هناك، و...
وأمال الحاج بعمامته إلى الأمام وتثبت في جلسته على الديوان وهو يحدق النظر بالقسيس، ثم قال: وحدث لها من الحوادث ما لا يليق ذكرها، حوادث محزنة، محزنة جدا، وجاءت القاهرة من باريس، وهي الآن - لا تؤاخذني - ربة الرقص في البلاد، هذه قصتها بإيجاز، سبحانه تعالى وهاب الذكاء، رب النعم والآلاء، يمنحها من يشاء ويحرمها من يشاء، الذكاء نعمة، والجمال نعمة، وغصن البان ...
فقاطعه القس بولس قائلا: وهل لك أن تدلني إلى بيتها؟ - على الرأس والعين.
وصفق كفا على كف فجاء الخادم، فقال يخاطبه: دل سيادة المحترم. - لا، لا، لا أكلفه إلى ذلك، وليس غرضي ... تكرم بعنوانها فقط. - كما تريد، وأدى إليه ورقة كتب فيها عنوان غصن البان.
فأخذها القس بولس ونهض شاكرا مودعا، فشيعه الحاج محيي الدين إلى الباب، وشيعه بنظره وبفكره إلى ما وراء الأبواب وهو يعد سبحته ويهز رأسه متأملا حائرا.
الفصل التاسع عشر
جلست غصن البان إلى المائدة تتناول الفطور وبيدها بضعة تحارير جاءتها صباح ذاك اليوم في البريد، ففتحت الأول فإذا هو من سر همت باشا يسألها مرافقته إلى المتحف المصري، وفتحت الثاني فإذا هو من أحد الشبان المتيمين فمزقته باسمة، والثالث من فراش في الموسكي يلح عليها في تسديد حسابه فمزقته واجمة، والرابع من أحد تجار العاديات يتوعدها بالشكوى إن لم تدفع ما عليها فمزقته حانقة، والخامس مزقته، والسادس كذلك، والأخير وقد أدركت فحواه من العنوان لم تتنازل أن تفضه، وضربت المائدة وهي تقول: لينتظروا مثلما أنتظر، وكيف لي بدفع ما علي والكازينو لا تدفع ما لي؟ يا مرجانة! يا مرجانة! - نعم يا ستي. - ألم تسمعي الجرس، من ذا المبكر يا ترى؟
فراحت الخادمة تفتح الباب وعادت تقول: الصائغ ستي يطلب مقابلتك. - ليجيء بعد الغد، بعد الظهر لا صباحا.
فراحت مرجانة وعادت تقف أمام سيدتها خجلة مضطربة. - ما بالك؟ - هو في الباب يقول: إما أن تعيدي الخواتم وإما أن تدفعي ثمنها الآن.
فنهضت غصن البان تحتدم غيظا ودخلت إلى غرفتها وعادت بعلبتين صغيرتين دفعتهما إلى الخادمة لتسلمهما إلى الصائغ . - قولي له ... وسكتت تحارب غيظها ثم قالت: معلمتي تسلم عليك وتعتذر إليك.
وما كادت تنتهي من فطورها حتى قرع الجرس ثانية ففتحت مرجانة الباب، وإذا براهب يسأل عن غصن البان. - وما اسم سيادتكم؟ - قولي لها: إن راهبا من بلادها يروم مقابلتها.
فجاءت مرجانة تخبر سيدتها فقالت غصن البان كأنها تخاطب نفسها: راهب؟ راهب من بلادي؟ قد هربت من الرهبان، ولا شك أن ذاك الراهب الذي يندد بي وبرقصي، لا، لا، ثم خاطبت الخادمة: قولي له: إنني لم أزل نائمة.
فعاد الراهب في اليوم الثاني فقالت له الخادمة بعد أن قابلت سيدتها: الست مشغولة الآن ولا يمكنها أن تقابلكم.
فلم يحفل بذا التمنع والاستكبار وراح ثالثة يطرق باب غصن البان في شارع قصر النيل، فكان الجواب فصل الخطاب. - لا رغبة للست بمقابلة سيادتكم. - لا بأس، لا بأس.
وانثنى القس بولس عمون راجعا إلى مدرسته كاظما غيظه لائما نفسه على ذا الاهتمام لراقصة غرة ضالة.
وفي ذاك الصباح بين كانت غصن البان تفض تحاريرها وتمزقها كان عاطف بك والحاج محيي الدين في إدارة الكازينو يتحدثان بشأنها. - أوأنت آذنتها أن تبتاع ما تريد باسم الكازينو، تفضل، ودفع عطف بك إلى شريكه ثلاث قوائم من بعض التجار في الموسكي. - لا بأس، لا بأس، ولا بد من وضع حد لذلك، ادفع هذا المبلغ من أجرتها واكتب إلى هؤلاء التجار أننا غير مسئولين من الآن فصاعدا عما تبتاعه غصن البان. - بل أرى من الواجب أن نعلن ذلك في الجرائد، وإلا فتصبح غدا شريكتنا، وقد قلت لك: إن الإقبال على الكازينو هذه السنة لا يكون كالسنة الماضية، فقد أخطأنا في اتكالنا عليها وحدها، أخطأنا، فالناس يملون كل شيء. - لا بأس، لا بأس، في الشهر القادم نغير اللائحة. - من رأيي أن نبتدئ منذ الغد، في البلد جوقة من الرواقص الإفرنسيات. - ولكن وثيقتنا وغصن البان لا ينقضي أجلها حتى آخر الشهر القادم، دعها الآن، ولا تفاتحها بالأمر.
وركب الحاج محيي الدين عربة يقصد إدارة إحدى الجرائد، فأبصر وهو مار بالأزبكية الشاعر مصباحا جالسا في السبلندد بار وحده يشرب الوسكي والسودا، فأوقف العربة وصرف الحوذي وجاء يسلم عليه: يا مصباح أفندي. - والسلام عليكم، تفضل. - ما لي أراك على شيء من الكدر؟ - وهل يصفى الزمان لابن أنثى يا محيي الدين؟ - وهل يرضى الشاعر بالشمس والقمر لو سخرا له يا ترى؟ سبحانك اللهم! أنت الوحيد يا رجل المقرب من غصن البان الممتع بجمالها وحبها، المقيم بنعيم ... - حسبك، حسبك، ونادى مصباح أفندي الخادم، فطلب الحاج محيي الدين فنجان قهوة. - وماذا دهاك قل لي، كنت أظن أن الشاعر حليف النصر دائما في الهوى. - الشاعر يا محيي الدين يحب حبا وثيق العرى قصير المدى، يحب مرة كالفارض ويعشق دائما كالبهاء زهير، يفرغ نفسه في يوم واحد ويعيش مداعيا مموها حزينا بقية أيام حياته. - وهل نبذت غصن البان يا ترى؟ - بل نبذتني، لقد ذاقت قبلي السم في الثمالة فكسرت الكأس. - وكسرت قلبها انتقاما، اتقوا الله أيها الشعراء! - والله لقد كسرت الكأس وكسرت نفسي، حبها نار يا محيي الدين وحب الشاعر نور. - ولكن في غصن البان غير جمالها الظاهر ما يحبب مثلك إليها. إن مواهب نفسها لمما يعجب به أولو الألباب والنهى، ولو أطلعتك على شيء من أمر نشأتها لازداد إعجابك بها وحبك لها، هي نابغة مثلك والله، آية من آيات الدهر.
وجعل يقص عليه ما قصه على القس بولس عمون، فرفع مصباح رأسه مصغيا وأبرقت أسارير وجهه، فاستمر الحاج في الإغراء طي التلبيس والإعجاب. - وقد اتهمت المسكينة بجريمة ارتكبت بسببها في بيت أسيادها في الناصرة، وسجنت خمسة أشهر، قصتها والله عجيبة! وفرت هاربة إلى طبريا مع راهب يقال: إنه أبوها، ووضعت هناك ولدا.
فحملق مصباح عينيه مدهوشا، أصحيح ما تقول؟ - لقد ساقتني التقادير إلى الناصرة في سياحتي الصيف الماضي، والناس هنالك صغيرهم وكبيرهم يعرفون قصتها، والله أحزنني أمرها.
ونظر إذ ذاك إلى مصباح أفندي يستطلع ما كمن وظهر فيه من مفعول ذا الخبر، ثم قال وهو راض بما كان: وأظن أن أباها في القاهرة، أي والله ، قد يكون ذاك القسيس الذي يندد بها وبرقصها. - هذا من أعجب ما سمعت حياتي، وهل أخبرت غصن البان؟ - لم أخبر أحدا غيرك، الأماجد يا مصباح أفندي يسترون العيوب، ولولا ثقتي بك ما أطلعتك على ما أظنك تسره ولا تذيعه، ولكن غصن البان أصبحت الآن سيدة نفسها وسيدة الفن، وقد لا يهمها من ماضيها شيء، سبحانه تعالى يمنح آلاءه من يشاء ويحرمها من يشاء.
فنهض مصباح أفندي على الفور كأن جاءه الوحي وودع محيي الدين معتذرا، وراح مسرعا إلى غرفته يدون الآيات.
والحاج يضحك في نفسه ويقول: ما أغرب أطوار هؤلاء الشعراء، قد يذبح الشاعر مصباح الراقصة غصن البان هذه الليلة، ويرثيها غدا، سبحان الله، سبحان الله.
وفي اليوم التالي نشرت إدارة الكازينو إعلاما في الجرائد مؤداه أنها غير مسئولة عن ديون غصن البان السابقة والحاضرة والمستقبلة، فازداد قلق التجار وحاموا حول الراقصة ملحين ملجين مصرين متوعدين، غدا وبعد غد وبعد بعد غد كلمات لا تسحر التجار، فأصدرت الدعاوى، وأصدرت المحاكم أحكامها، وبوشر كل في برهة شهر واحد تغيب فيه الحاج محيي الدين عن مصر عمدا. ووقف الدلال في البيت الذي أدبت فيه المآدب الفخيمة، وتاهت فيه غصن البان بضعة أشهر عزا ومجدا، يبيع بالمزاد ما فيه من الرياش والتحف والأعلاق والآثار، وكانت الجرائد أثناء ذلك تنشر المقالة تلو المقالة في إفلاس غصن البان وسقوطها، معددة دائنيها وعشاقها، واصفة تلك المآدب الفخمة التي كانت تأدبها لأصحابها ومريديها، مرددة أقوال الحكماء في القصف والإفراط مذكرة، منذرة.
فطالعت غصن البان بعضها ولم تبالي، ولكن مقالة واحدة أثارت كل ما في نفسها من كوامن الغيظ والأسى؛ مقالة عنوانها: «مريم الناصرية» علمت من لهجتها وأسلوبها أنها من قلم الشاعر مصباح أفندي، قص فيها الكاتب قصة غصن البان من حين دخولها بيت مبارك خادمة حتى دخولها الكازينو راقصة، فجاء على ذكر هربها من الدير، وهربها وأحد الرهبان من الناصرة، وهربها من طبريا، ولم يكتف الكاتب بذلك بل قال: إنها هي التي ارتكبت الجريمة في الناصرة وسجنت هناك وخلصها معلمها أحد أعضاء المحكمة، وإنها ابنة راهب من رهبان دير النجاة، وإنها ولدت في طبريا ولدا رماه أبوها في البحيرة، وغير ذلك من الحوادث التي تفسد حقيقتها الإشاعات وتجسمها الغايات والأحقاد.
أحدثت المقالة هذه ضجة في القاهرة وتناقلتها بعض الجرائد في مصر وسوريا وفلسطين، وأمست غصن البان في عارها وبلائها كما كانت في عزها ومجدها حديث المجالس والقهاوي والحانات، وما كاد ينقضي ذاك الشهر الأسود حتى جاءها كتاب من الحاج محيي الدين، كلل به مساعيه الحسنة ومكارمه فكان الضربة القاضية عليها، والكتاب فريد في بابه فلا نضن به على القارئ الكريم:
إلى العزيز المحترمة السيدة غصن البان أطال الله بقاءها
نهديك أطيب التحية والسلام، ونأسف جدا لما دهاك من الدواهي، ووالله وددنا لو أنها حلت بنا لا بك، ونسأله تعالى أن يحسن سلواك ويزيل همومك، ولقد غمنا جدا تغيبنا الشهر الماضي عن القاهرة، فقد كنا بذلنا في سبيلك النفس والنفيس والله! ولكنا لا نظن أن أمر التجار يهمك، ولا يهمنا، المال يفدى بالمال، ونحن لم نزل كما كنا من محبيك وأنصارك ومريديك وما تحتاجينه من المال موقوف لك، ولكن ما نشرته الجرائد غمنا جدا جدا، ونظن أن الجريدة التي نشرت تلك المقالة وفيها من المطاعن بعرضك ما يزعزع الجبال هي مسئولة تجاه القانون، فإذا أحببت أن ترفعي الدعوى عليها فمحامي الكازينو تحت أمرك، يشهد الله والنبي على ما نقول، لقد غمتنا تلك المطاعن جدا جدا، سودت يومنا أدمت فؤادنا.
أما الوثيقة بيننا وبينك فبما أننا متعاهدون سابقا وجوقة من الرواقص الإفرنسيات يرقصن هذا الشهر عندنا، ووجودك معهن يضر بهن بل يكسفهن تماما، فلا نرى الآن إلى تجديدها سبيلا.
أطيب التحيات أيتها العزيز غصن البان.
من محبك الحاج محيي الدين
كتب هذا الكتاب بخطه وأعاد قراءته مرتين مستحسنا معجبا وبعث به إلى «العزيزة المحترمة غصن البان» وهو يردد ضاحكا قول الفارض:
وإن شئت أن تحيى سعيدا فمت به
شهيدا وإلا فالغرام له أهل
وطفق يتمشى ذهابا وإيابا ويعد سبحته ، ويقول: أخطأت يا شيخي يا فارض أخطأت، المرء يقتل من يحب ويعشق، أي والله يقتل من يحب ويعشق، ولكن الأوغاد يقتلون من يحبون بالخناجر، والجبناء بالسم، والمجانين بالمسدس، أما الأماجد فبالمكارم والنعم يقتلون من يحبون، نعم نعم، لو سقطت يا غصن البان من مسرح الكازينو ما ضرك ذلك، ولكن سقوطك من قمة الهرم الكبير؛ من ذروة الشهرة والعز والمجد! الله، الله!
الفصل العشرون
رمى القس بولس عمون بالجريدة إلى الأرض وقبض على لحيته مطرقا مفكرا: ينبغي أن أقابل هذه الفتاة مهما كان من أمرها، ينبغي أن أقابلها.
ونهض من ساعته فارتدى جبته وحمل عصاه وذهب توا إلى البيت في شارع قصر النيل، فوجده مقفلا مهجورا، لا حارس في الباب، ولا أحد في الداخل يلبي الجرس أو النداء، إلا أن الأطيار كانت تغرد في البستان حوله كأنها تردد قولا قديما محزنا: «والطلول الدوارس هجرتها الأوانس.»
انثنى القسيس راجعا فسدد خطواته إلى الكازينو فقال هناك عاطف بك فأعطاه عنوان غصن البان الجديد، فجاء الناحية حول البركة وقرع باب بيت في أحد الأزقة ففتحت له خادمة سوداء تقول: تريد إيه. - غصن البان. - نقلت من هذا البيت الأسبوع الماضي. - إلى أين؟ - لا أعلم، لا أعلم.
وأقفلت الخادمة الباب فجأة دون اعتذار كأنها أبت أن تجيب على سؤال آخر في الموضوع، فعاد القس بولس إلى مدرسته وهو يقول: لا تكرهوا شيئا لعله خير لكم، ولكن الهواجس حالت دون استسلامه، فبلبلت باله وأيقظت في فؤاده المحرق المؤلم من الذكرى، فكتب كلمة لغصن البان أرسلها في البريد إلى عنوانها الأخير، ولبث ينتظر، فمر الأول والثاني فلم يجئه الجواب ولا أعيد كتابه إليه، ثم ذهب إلى إدارة البوليس مستقصيا، فرحب المدير به ووعد أن يبذل الجهد في البحث عن مقر غصن البان.
وبينما كان القس بولس في غرفته ذات يوم يطالع في مجلة إسلامية مقالة في تحرير المرأة والحجاب، جاءه الخادم يقول: قسيس من فلسطين يروم مقابلة سيادتكم.
فنزل القس بولس إلى صاعة الاستقبال، وإذا هو في حضرة القس جبرائيل مبارك! وقف مبهوتا إذ رآه يكاد لا يصدق ناظريه، ثم هتف متأهلا مرحبا، وتعانق الأبوان وجلسا جنبا إلى جنب على الديوان. - كيف حالكم؟ وكيف إخواننا في الناصرة؟ - هجرتهم منذ أربع سنوات.
فقال القس بولس متبحرا: صحيح، صحيح، ورحمة أبيك تخبرني، ألم تكن في طبريا منذ ثلاث سنوات مقيما هناك في زي الأعراب. - دعنا من هذا الآن، فقد رأيتك لما كنت أنت هناك أيضا، سنعود إلى هذا الموضوع. - واستخرج القس جبرائيل جريدة سورية من جيبه فيها المقالة التي نشرت في جرائد مصر؛ المقالة التي عنوانها: «مريم الناصرية». - اقرأ هذه. - قرأتها يا أبتي قرأتها. - إذن لي عندكم حاجة، أنا غريب هنا ولا أحسن التجول في المدينة ولا أحب ذلك. - حاجتكم نقضيها على الرأس والعين، وماذا عساها تكون؟ - مهمتي سرية. - حسن، لنصعد إذن إلى غرفتي. - لا أحب أن يراني أحد هنا. - الغرفة قريبة، والتلاميذ الآن في دروسهم، تفضل.
وصعد القس عمون إلى غرفته يتبعه القس مبارك، فإذا هو عند دخوله في حجرة صغيرة فيها سرير وديوان صغير وكرسيان وحصير، ومنضدة للكتابة ورفرف فوقها طويل، لوح بسيط غير مدهون وغير مصقول أحنت الكتب ظهره، وعلى الحائط صورة القديس أنطونيوس بين صورتي العذراء ويسوع من الصور اللماعة الملونة المطبوعة في ألمانيا.
أقفل القس بولس الباب ودعا الزائر إلى الديوان وجلس على كرسي أمامه، ينصت لحديثه. - جئت القاهرة يا أبتي ملبيا صوت الرب إلهي، جئت أبحث في هذه المدينة عن فتاة من بلادنا لعلك تعرفها، صاحبة هذه القصة، فتاة خاطئة كما تعلم شقية يتيمة وحيدة، أنقذتها من العار والبلاء مرة، فضاقت مني صدرا وهربت إلى فرنسا ثم عادت كما يظهر إلى مصر. المقالة هذه لا تخلو من الحقائق، وقد أحاق بها العار والبلاء ثانية، ماتت أمها في الناصرة منذ خمس سنوات وأوصتني بها، وقد تجلت لي الحقيقة الرائعة في الزهد والتنسك منذ تلك الساعة، ساعة عرفت أمها، ولا يخلص البر والنسك إلا من خلص نفسا غير نفسه، فهل لك أن تساعدني في البحث عن هذه الفتاة وفي خلاصها؟
فأجاب القس بولس والاضطراب باد في وجهه وفي صوته: كأني سمعت قبلك ذاك الصوت الذي سمعته، سبحانه تعالى وتبارك اسمه. - إذا تركنا مريم تذهب فريسة المعاصي والمنكرات، إذا تركناها تموت في موبقات هذه المدينة، فلا النذور تنفعنا يا أبتي ولا نسكنا يرضي الله.
أحب القس بولس أن يسأل محدثه سؤالا؛ فتردد خوفا من استماع الجواب، كأنه تحقق أمرا ود ألا يكون، فآثر السكوت، ثم قال: وأين أنت مقيم؟ - خارج القاهرة، قرب الأهرام، فلقد تعرفت بأحد الفلاحين في السكة وأنا قادم من بورت سعيد وهو يسكن هناك، فاستأجرت منه بيتا بل كوخا قرب بيته؛ لأن إقامتي خارج المدينة أوفق لقصدي، لا أريد أن يعلم أحد بما أنا فاعل، وبالأخص الجرائد، فتفسد سعينا. - حسن، حسن، ولكني أعتذر إليك الآن، علي درس القضية، فهل لك أن تنتظرني هنا قليلا فنستأنف الحديث ونفكر بطريقة نتخذها. - كما تريد. - هذه مجلة إسلامية فيها مقالات تسلي وتضحك، سأعود قريبا.
وخرج القس بولس من غرفته مضطرب البال، أسير الهواجس، تتقاذفه من تقادير الزمان عواصف الهول المجهول، ذهب توا لا إلى المدرسة بل إلى الكنيسة فجثا أمام المذبح يصلي، ثم تلا المزمور الحادي والخمسين: ارحمني يا رب حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك امح معاصي، ألهمني ربي سواء السبيل، إذا كان ما أظنه الواقع فاهدني الطريق المثلى لأخلصها وأخلص نفسي، مدني بنفحات من لدنك فأقوى على الشدة، مدني بنورك الأزلي فينير ظلمات سري المهلكة، وسجد مرارا يقبل الأرض، ولبث هناك خاشعا ضارعا متبحرا متأملا، ثم خرج من الكنيسة ثابت الجأش موطد العزم وقد زال بعض اضطرابه.
وبينا هو عائد إلى غرفته لاقاه في رواق المدرسة خادم فسلمه كتاب من مدير البوليس يستدعيه فيه إلى الإدارة، فلما اجتمع بأخيه القس جبرائيل أخبره أنه كان قد باشر البحث عن غصن البان وأن رغبته بإنقاذها لأشد من رغبته، وأطلعه على كتاب مدير البوليس، ثم قال: أما إذا اهتديت إلى منزلها فلا أظنها تقابلني، لقد حاولت مقابلتها مرارا فأبت مكابرة ، وحضرتكم تعلمون أني معروف في البلد، ولا يمكنني أن أتجول في كل أنحائها وأحيائها، وقد تكون غصن البان ...
فقاطعه القس جبرائيل قائلا: إذا اهتديت إلى البيت فأنا أقصده، أنا أسعى إليها، أنا أقابلها، فقد جئت من فلسطين لهذه الغاية، وهل لك أن ترافقني الآن أهديك إلى كوخي، فتجيئني بعد البحث بالخبر اليقين؟ - نعم، نعم، ولكني لا أكتمك يا أبتي أن في عملك هذا قد تنقذ نفسين وقد تهلك نفسين. - مشيئة الله، لتكمل مشيئة الله.
وخرج الراهبان من المدينة أصيل ذاك النهار وركبا بعد أن وصلا إلى الجيزة «الترامواي» ساكتين لم يفه أحدهما بكلمة واحدة فنزلا قرب الهرم الكبير ومشيا في طريق بين سهول صفراء وخضراء قرب نصف ساعة وإذا هما أمام بيت من اللبن حقير. - هذا منزلي اليوم وهذه الطريق إليه، لا أظنك تضلها سأنتظرك مساء غد هنا، لا أحب التردد إلى المدينة ولا إلى الدير كثيرا، فأستحلفك بالله ألا تتخلف. - بل أكون عندك غدا بعد الظهر، أو عند الغروب، أظن إدارة البوليس قد اهتدت إلى منزل الفتاة، وقبل الوداع يا أبتي أرجوك أن تخبرني ... ولم يكمل القس بولس الجملة، بل وقف مترددا. - قل ما تريد! - قلت: إن أم الفتاة أوصتك بها، فهل تبوح لي باسمها. - وما المانع؟! اسمها يا أبتي سارة. - سارة، سارة!
ورفع القس بولس يده يحجب بها وجهه. - سأوافيك غدا هنا.
وعاد إلى البلد ومراجل الحيرة واليقين تغلي في فؤاده يخاطب نفسه قائلا: سارة، سارة، ما أكثر السارات في فلسطين، قد تكون هي، وقد لا تكون، قد تكون وقد لا تكون، وإذا كانت هي بعينها؟ ربي! أيفرح الآباء بلقاء بنيهم وأحزن عند لقاء بنتي، مريم بنتي، أممكن ذلك؟! ولم اهتمام القس جبرائيل لها؟ قد كان القس جبرائيل في الدير لما خرجت منه وهجرت تلك الامرأة، فعادت من كفر كنا إلى الناصرة، أذكر ذلك، لا، لا، مستحيل، مستحيل، عشرين سنة يدفن سري فتبعثه اليوم حيا أيها الرب لتطهرني، لتهلكني في الدنيا كي لا أهلك في الآخرة، لما أحببت تلك الامرأة واستسلمت إلى عاطفة هي فينا منك يا ربي؛ عاطفة الحب المقدسة، فأنت سبحانك الحب. أكان ذلك لكي تتعذب الأم ويعيش الأب كاللص، وتشقى الابنة شقاء اليتيمة البغي؟ إذا هربت من العار المحيق الآن بي أممكن أن أهرب من وجهك؟ إذا قتلت نفسي أممكن أن أقتل إثمي؟ سيفتضح غدا أمري، سيدهش الناس غدا سري، فيلعنني القاصي والداني وأمسي طريدا شريدا منبوذا ذميما ... وقد لا يكون مما أظن شيء، سارة! ما أكثر السارات في بلادنا! وما أكثر اليتامى وما أكثر المريمات! فلماذا تعذب نفسك بالأوهام أيها الرجل؟ وإذا تحققت الأوهام، آه يا ربي، غصن البان ابنة القس بولس عمون الشهير الحامل على الرقص والرواقص والتهتك والفسق والخلاعة، أواه! ما هذا الحساب الذي تناقشنيه يا رب! بنتي طالما حننت شوقا إليها، طالما أسفت لأن أمها حملتها رضيعا إلى الدير، طالما ندمت على فعلتي، بنتي كم ليلة سهرت متهجدا أسأل الله أن يجمعني بك، وها إني الآن قريب منك، قريب منك؟ ومن يعلم، ألأنني قريب منك أرتجف كالقصبة في الريح العاصفة، ومما أخاف يا ترى؟ أأخاف بنتي؟ أأخشى ملقاك؟ وما الذي يجعلني مخالفا الآباء؟ مخالفا النواميس البشرية الإلهية في الحب؟
إن النذور والترهب والتنسك والتعبد لطرق ضيقة كلها، مظلمة، باردة، إذا قوبلت بطريقك، أيها الحب الإلهي! فإذا عدت إليك، إذا سجدت أمامك، إذا اقتبلت الخزي والعار من أجلك فقليل ذلك قليل، وسأقتبله قانعا، شاكرا، راضيا، تكفيرا عن ذنبي يا سارة بل عن ذنوبي، غصن البان الراقصة الخاطئة الساقطة ابنتي! يا للحبور ويا للسرور! سأضمها غدا إلى قلبي، سأضمها غدا إلى قلبي، سأقبلك أيتها الخطيئة المتجسدة كما قبلك السيد في قديم الزمان، سأبني لك بيتا في فؤادي، سأقضي الليالي ساجدا في نور شمعتك الضئيل أمام الرب إلهي، ارحمني يا الله حسب رحمتك وحسب كثرة رأفتك امح معاصي.
الفصل الحادي والعشرون
في الفضيحة نوع من الشهرة يلبس فريق من الناس ثوبها الأصفر على علاتها شفافا باليا، فيبدون سوءة النفس وإن واروا سوءة الجسد، كيف لا وهم يبذلون في إعلان أنفسهم الأموال الطائلة والفضيحة تعلنهم مجانا؟ ففي أوروبا وأميركا إذا تناولت صحف الأخبار أسرار ممثلة فهتكتها تزداد تلك الممثلة شهرة فيروج سوقها ويتسابق المدراء إلى المتاجرة بها وبفنها، فتنتقل من بلاد إلى أخرى ومن ملهى إلى آخر والإقبال حليفها، والأموال بين يديها تتصرف بها كيف شاءت أميالها وأهواءها، أما في الشرق حيث لا تفصل بين المرء ومهنته بين آدابه وفنه، فالخزي والفشل والعار تحيق به في الحالين.
سقطت غصن البان في القاهرة فنسي الناس رقصها، وأفسدت طلاسم سحرها؛ فجفاها كل أصحابها ما سوى سر همت باشا، ولم يجئها كلمة تعزية أو تشجيع من أحد سوى ذاك الكتاب من الحاج محيي الدين فودت غصن البان أن تغمسه بالسم وتلقمه إياه.
وحيدة، طريدة، منبوذة، فماذا عساها تصنع؟ إلى أين تذهب؟ كيف تتجه الآن بآمالها؟ فكرت في أمرها ثم فكرت وهي تظهر في أشد شداتها هذه من الضعف قوة، فوطنت النفس على أن تقيم في القاهرة ريثما تسكن العواصف وتهدأ الرياح، ونقلت من قلب البلد إلى إحدى زواياها المظلمة؛ هربا من الشماتة، بل هربا ممن يعرفونها ولا يحفلون بها، فهي تطيق عذاب الوحدة والخمول ولا تطيق ظلم الشهرة والخذل.
ولكن اثنين بحثا عنها؛ القس بولس عمون وسر همت باشا واهتديا إلى منزلها في مصر العتيقة. وسر همت سعى إليها ذات يوم يعزيها ويطيب نفسها ويعرض عليها المال، ويرجوها أن تقتبل ضيافته إلى أن تفرج كربتها وييسر الله أمرها. - البيت في الجزيرة مفروش مهجور تقيمين فيه وخدمك. - لا وحياتك لا، أرجوك ألا تحدثني بالبيوت، اعذرني يا صديقي، اعفني، صرت أخشى المعروف كما أخشى الأفاعي، صرت أخشى المكارم كما أخشى الوحوش الضارية. - غصن البان! - أرقص لك يا سر همت وأبسطك، ولكني لست آلة طرب تتناولها الناس فيضربون عليها ويعبثون بها ويسكرون على أنغامها، لا لا، لست كمنجة تؤجر أو تعار أو تشترى، وهب أني آلة طرب يا سر همت يا صديقي فقد تقطعت أوتاري، تقطعت كلها. - ما أنصفت والله ما أنصفت، أسأت فهمي، أهنتني، أسألتك يا غصن البان شيئا من أشياء الحب مرة؟ وهل كنت ممن يحومون حولك ابتغاء هبة من هبات جسدك؟ - لذلك أخشاك. - أنا صديقك، وقد قلت مرارا: إنك لا تحبينني، ولكني ما من مرة شككت في أنك تعتبريني وتكرميني كما أعتبرك وأكرمك، أجل يا أختي مواهبك، وأريد أن أعزز فنك، فنك يكبر على ذي البلاد، مستقبلك يا غصن البان في أوروبا؛ في باريس في لندرا في فيانا في برلين، ولقد فكرت في أمرك كثيرا، اسمعي، لا تنظري إلي عاشقا أو صديقا أو محبا أو وليا، أكلمك الآن كما يكلمك مدير من مدراء التياترات، تعلمين أن أصحابي ومعارفي في لندرا كثيرون، وبينهم ذوو النفوذ في عالم التمثيل هنالك، سأسافر هذا الصيف إلى لندرا وأنوه بك هناك، أطبل وأزمر لك، أنت الآن راقصة شرقية شهيرة، ظهرت في مصر وفزت فيها فوزا مبينا رغم أنوف البغاة والسعاة والحساد، سأخابر أحد المدراء بشأنك هناك، فتظهرين إن شاء الله في لندرا كالشهيرات من الرواقص لا كالمبتدئات وإني واثق بفوزي، دعيني أسعى من أجلك. - لا، لا، لا أريد أن يسعى أحد من أجلي، سأسعى لنفسي. - إن ثقتك هذه بنفسك لجميلة، وجميل إباؤك، سأسعى إذن من أجل الفن؛ فنك لا من أجلك، وإن شئت أن تشاركيني في الأرباح فلا أعف عنها. - إذا كنت ترى في رقصي ما ينبغي أن يراه الأوروبيون، وإذا كنت تعاملني كما يعاملني وكيلي أو مديري، وإذا كنت تقبل مني جزءا من إيرادي، وإذا ... - وإذا، وإذا، وإذا، كفاك من ذي الإذا بل الأذى فقد آذيتني جدا، أعمل كما تشائين. - وأنا قابلة. - وسأسافر هذا الصيف إلى لندرا وعساني أفوز بما أبتغيه فأكتب إليك كي تسافري أو أعود بنفسي فأستصحبك، أنا الآن وكيلك ومدبرك، ولكن إقامتك هنا يا أختي، يا صديقتي! وها إنك لم تزالي تسعلين، بالله أن تقبلي ضيافتي، البيت في الجيزة على شاطئ النيل جميل. - لا تحدثني بالبيوت، لا تحدثني بالضيافة، أنا راضية بما أنا فيه الآن، هذا البيت يكفيني، ومرجانة والحمد لله ومحمود لا يهجرانني. - تبصري بما أقول، البيت في الجيزة مهجور، انقلي إليه تقيمين فيه وخادماك، وإذا أحببت أن تدفعي أجرته أقبلها منك عندما تشتهرين بلندرا. - اعذرني، أفضل أن أبقى هنا، سأقيم في هذا الحي، في هذا البيت إلى أن يجيئني خبر منك، عزمت عزمي ولا أتحول عنه. - كما تريدين، أوترفضين عيادة طبيبي يعالج سعالك؟ - لا. - حسن، بارك الله فيك. - أوترفضين عزيمتي الليلة إلى العشاء؟ - أين؟ - في الكنتينتال، لا أغير عاداتي ولا ينبغي لك أن تغيري عاداتك، أحب أن يراك الناس معي، أفتخر بذلك؛ لأني كما تعلمين أحتقر هؤلاء الناس، كانوا أمس يهتفون لك كالمجانين، واليوم ينبحون عليك كالكلاب عليهم لعنات الله وإبليس، قومي بنا، لا يهمني اليوم بالقاهرة غيرك. - والموميات. - والموميات، عليك نور. - انتظر ريثما ألبس ثيابي. - ولتكن أحسن ما عندك وأجمل.
وخرجت غصن البان من غرفتها الخصوصية بعد نصف ساعة وقد ارتدت ثوبا من الحرير الرمادي، أنيق الزي، بسيط التخريج، وقبعة مخمل من لونه صغيرة شبيهة بالعمامة في مقدمها ريشة بيضاء تبدو فوق جبينها البراق كطائر من الحمام أسف على الماء. - وما هذه الذخيرة يا غصن البان؟ - ألم ترها قبل اليوم؟ هي سلواي الوحيدة ألبسها في أيامي السوداء فتسليني، تشجعني، تعزيني، امش ولا تحفل بها. - بل شوقتني إلى الاطلاع على سرها. - سرها هنا - وأشارت إلى قلبها - امش يا سر همت ولا تكن ... - فضوليا، ممنون، ممنون، تفضلي.
وخرج وإياها من ذاك البيت الحقير، فوقف محمود عند الباب ويده على رأسه، واجتازا زقاقا لا نور فيه غير أنوار القناديل الضئيلة المعلقة فوق الأبواب، فتري المارين أشباحهم ولا تنير سبيلهم، والرواشن فوق رءوسهم إلى الجانبين تكاد تقع بعضها على بعض، ولما وصلا إلى الشارع العمومي ركبا عربة سارت بهما إلى الكنتينتال.
وبعد العشاء ونزهة في الجيزة شيعها سر همت إلى بيتها قرب نصف الليل وودعها عند الباب، وكان محمود لم يزل جالسا هناك ينتظر سيدته، فلما دخلت باب الرواق استفاقت مرجانة فجاءت تفرك عينيها وتقول: أتريدين حاجة مني؟ - لا يا مرجانة، روحي نامي.
وصعدت غصن البان إلى غرفتها منقبضة النفس مضطربة البال تفكر بسر همت ووعوده، وتقول: ومن يصدق منهم يا ترى؟ خدعوني كلهم خدعوني، ولم يزالوا يحاولون، ولكني لست اليوم تلك الساذجة، بيت على شاطئ النيل، شهرة في لندرا، وكيلي، صديقي، ما شاء الله! أوتلام الراقصة الخاملة المسكينة الضعيفة إذا خدعت وابتذلت وامتهنت؟! يتحجر قلبها وتفسد أخلاقها وتتجعد بشرتها، فتتاجر بجسدها كما يتاجر محيي الدين بمكارمه، وسر همت أيضا، سر همت مثله ولا شك، أتلام تلك المسكينة يا ترى إذا قبلت حب من يخطب ودها كما لو كان حقها دون أن تبادله حبها، يخدعها فتخدعه، يهينها فتهينه، يضحك منها فتضحك منه؟! والناس يحتقرونها ويزدرونها ولا يدركون الأسباب التي شوهت نفسها وقتلت فيها الصدق والطهر والوفاء، ولا يحفلون بتلك الأسباب وإن أدركوها.
خلعت برنيطتها ثم نزعت السلسلة من عنقها فرفعت الذخيرة إلى فمها تقبلها.
وبينا هي واقفة أمام المرآة تناجي تلك الذخيرة، كان رجل قادما في ذاك الزقاق يعد إلى يمينه الأبواب، فوصل إلى المقصود منها وإذا بمحمود جالس على الأسكفة تحت القنديل وقد بدت أسنانه كالعاج المنقى يعد سبحته ويتمتم متغنيا ببعض الأشعار على نغمات عود في الحارة المجاورة. - هذا بيت غصن البان؟ - نعم.
فهم الرجل بالدخول فاستوقفه محمود قائلا: حاجتك إيه؟
فدخل الرجل ولم يحفل به فلحقه العبد وأمسكه بجبته. - تريد إيه يا شيخ؟
فتفلت الرجل منه وضربه على وجهه ضربة أطفأت نور عينيه فوقع إلى الأرض، فتركه يئن ويلهث ويسب، وتقدم مسرعا فإذا هو في رواق صغير فيه نوفرة متهدمة جافة بل نائمة لا صوت لها، وإلى يمينه باب ودرج يوصل إلى الدور الثاني، فنظر الرجل إلى الشبابيك فيه فلم ير نورا إلا في واحد منها، فصعد الدرج ومحمود وراءه ينادي: يا مرجانة، يا مرجانة!
وذهب توا إلى الغرفة المنورة فوجد الباب مفتوحا وغصن البان مدبرة تخلع ثيابها، فلما رأت الخيال الأسود منعكسا أمامها في المرآة ذعرت وصاحت مستجيرة، وسارعت إلى الباب تقفله، ثم نادت من الشباك : يا محمود، يا مرجانة، يا مرجانة، يا محمود!
فطمأنها الرجل من الخارج قائلا: لا تخافي يا بنتي، البسي ثيابك يا مريم وافتحي. - يا محمود، يا مرجانة، دهتكم داهية، من الغريب الواقف في الباب؟
فجاء محمود ويده على عينه يصيح ويتوعد الغريب. - يا بنتي يا مريم لا تخافي أنا القس جبرائيل، صديقك القس جبرائيل مبارك، البسي ثيابك وافتحي الباب!
فسمع القس جبرائيل غصن البان تهمس اسمه همسا أشد من الصياح وساد داخل الغرفة سكوت عميق قصير، ثم قالت تخاطب محمودا: دع الرجل يا محمود، رح نم.
وبعد هنيهة فتحت الباب وقد ارتدت غلالة خضراء، ووقفت تحت العتبة كالتمثال لا تبدي حراكا، نظرت إلى الراهب نظرة جامدة باردة، ثم قالت: وماذا تبتغي مني اليوم؟ - ما أبتغيه من خمس سنوات ولم أزل أبتغيه. - وكانت بغيتك قريبة منك فلم تظفر بها، فكيف إذا أصبحت بعيدة عنك بعد السماء من الأرض؟ - البعيد من الله أقرب إليه من القريب منه. - اتركني إذن قريبة من الله.
ولاح في عينيها بريق الشقاء المستهتر وهي تبتسم ابتسامة التهكم. في السنين التي قضتها نائية عن وصيها ومرشدها - خارج السجن - في نعيم الحياة وبؤسها، نشأ فيها خلق الازدراء والتفوق، فكان يخفي في بعض الأحيان فطرتها الطيبة، زالت سذاجتها كما يزول لون الزهرة وشذاها إذا قطفت وعرضت للشمس، ولكن تلك الغريزة الحميدة كمنت في قلبها كما تكمن في الزهرة بذور الحياة الخالدة، والخلق المكتسب فيها؛ خلق الغواني والممثلات منشأ الغرور والتفوق، خلق من يقفن كل ليلة أمام الناس فتسكرهن ضجات الاستحسان والإعجاب، ذاك الخلق الأنيق الباهر الكذوب خانها تلك الآونة، ولم تكن لتستطيع أن تخفي ما جاش في صدرها من جيشان الغم والأسى، فلما أجابت القس جبرائيل الجواب الذي ظنته قاطعا مفحما عبس بها وأجابها قائلا: ما جئت أمازحك.
فارتعدت فرائصها وتساقطت منها حلي الغرور والتصنع كما تتساقط من الأشجار أثمارها المتهرئة، فوقفت لا كغصن البان أمام أحد مريديها معتزة شافنة، بل كمريم الناصرية أمام الله صاغرة خاشعة، نظرة من نظرات القسيس القاسية أحيت فيها حقيقة حالها، كأنه تناول الوردة البالية فنفخ بها فتطايرت بتلاتها وبدت في قلبها العاري بذور الحقيقة الرائعة؛ بذور الحياة الطاهرة، فمدت غصن البان يدها إلى الراهب كأنها تقول: خذ ما تبقى في قلبي وازرعه حيث شئت. - ما جئت أمازحك.
ثم قال دون أن يقترب منها: تعالي معي. - إلى أين؟ - إلى حيث أشاء. - سيدي القس جبرائيل. - ولا كلمة، هاتي يدك، ومد يده إليها. - لي كلمة واحدة أقولها، ادخل يا مولاي، ادخل بيتي وإن كان لا يليق بك.
وأخذت يده فأدخلته غرفتها وأجلسته على الديوان أمام سريرها، فاعترت الراهب هزة حين شاهد وجهها في نور القنديل، سبحانك اللهم! أتكذب المآثم، أتخطئ الدعارة؟ هذه النضارة وهذا الرونق في وجهها، لقد زادتها السنون جمالا، وليس في عينيها ولا في فمها أثر من آثار الخطيئة، إلا أن نظراتها ولهجتها في بعض الأحايين كانت تزعجه. - أجئت تنقذني مرة ثانية يا مولاي؟ هل تعرف من أنا الآن؟ لما هربت وإياك إلى طبريا كنت بنتا جني عليها فصرت أما؛ أما حزينة، ثم فررت من تلك البلاد ومنك هاربة، فخضت عباب الحياة راغبة طامحة مستهترة، نسيت ولدي ونسيتك إلا في أوقات ال ... نسيتك ونسيت قديم بلائي، قاتلت أهوائي واسترسلت في أهوائي، مددت يدي إلى الثمار المحرمة، الثمار التي اشتهتها نفسي، فقال الناس: إني راقصة بغي، قاتلت من حاول هتك عرضي ممن يكرههم قلبي فغلبوني، لقيت منهم الويل والبلاء، وقال الناس: هذا الترفع كذب وهذا التمنع صاغته حيل النساء! رأوني ساعة استهتاري ولم يروني في ساعات عذابي، رأوني راقصة بغيا، ولم يروا ما في قلبي من الأماني العالية والمطامع الشريفة، فكرهت نفسي الرجال وطردت من قلبي الحب وذكراه، إلا أن زوايا هذا القلب الكسير، في زواياه المظلمة الباردة شيء واحد أعزه وأقدسه وأهتدي به، شيء واحد يشفع بي أمامك وأمام الله، أبتي القس جبرائيل، مولاي، منقذي، لا تنظر إلي غضبا، عبوسا، أخاف هاته النظرات، ترجفني كلماتك، سامحني، ارحمني، ارث لحالي.
خرت غصن البان أمامه جاثية وطفقت تقبل يديه وتنظر إليه تارة خاشعة حزينة وتارة بهيجة غانجة، نفس مريم في قلب غصن البان، قلب غصن البان في نفس مريم، إنما هذه الامرأة التي خرت أمام القس جبرائيل جاثية فأحزنته كلماتها، وأزعجته حركاتها، وعذبته منها تلك النظرات المريبة، وارتعشت جوارحه من قبلاتها الحارة، فأبعدها عنه قائلا: انهضي انهضي، وسيري معي. - لا، لا، إليك عني، دعني في بلائي، في وحدتي، في وحشتي، إن يدك لا تصل إلي لتنقذني ثانية، وإذا حاولت ذلك قد تسقط معي، سر في سبيلك، ودعني في شقائي. - إني لأعرف ما في قلبك وما ليس في قلبك امشي معي. - مستحيل، مستحيل. - امشي قدامي.
وأخذها بيدها فتفلتت منه نافرة حانقة. - البلاء المحيق اليوم بي خير من القساوة التي تمد إلي يدها، الشقاء المكتنفني خير من تبرد كلماتك. - السعادة تناديك وتنتظر قدومك، امشي معي. - ولكن رسول السعادة لا يكون ظالما قاسيا. - مخطئة أنت. - برهانك، برهانك أني مخطئة، أنظرت إلى ما في أعماق قلبي وبششت له، أأريك ما لم أزل أقدسه فلا تحفل به؟ - ومن قال لك ذلك يا مريم؟ إن أوهامك باطلة، انظري إلي، تقدمي مني، أأسألك عن هذه الذخيرة وهي بادية لناظري، عزيزة عندي كريمة مقدسة؟! - وأخذ الذخيرة يقبلها ويقول في نفسه: رحمة الله عليك يا سارة، فلاحت إذ ذاك في وجه غصن البان ابتسامة السرور والرضى وسكتت هنيهة، ثم أخذت يديه بيديها وقالت: لا تقساني، لا تظلمني، لا تعاملني كمن ظفر بالحياة فأذلها، عاملني كمن يحب الحياة وإن أذلته، مولاي القس جبرائيل، أنا رهينة إشارتك، أنا خاتم في بنصرك، ولكني لا أجسر اليوم أن أسألك ما سألتكه مرة، لقد أفسد الخير سذاجتي، فصرت أخشى ما أعلم وما أجهل، أنت تعرف ما أريد، أنت تدرك بغيتي القصوى، فقد حفظتها مقدسة هذه السنوات كلها، وكنت في نعيم الحياة شقية حزينة، كنت أبكي وأنتحب حين تعتريني لذكراه هزة الشوق، ولدي، ولدي. - سيري معي فيكون لك ما تبتغين، السعادة تناديك وتنتظر قدومك. - إلى حيث شئت، إلى حيث تريد، حتى إلى الجحيم . - نحن الآن في الجحيم، أسرعي، أسرعي لنخرج منه. - الآن؟ - الآن، هذه الساعة، هذه الدقيقة. - وبيتي وأمتعتي و... - غدا يجيء من يعتني بذلك، انفضي الآن يدك من كل شيء وسيري معي إلى بيتي، دعي خادمتك نائمة، وخادمك، البسي ما يقيك هواء الليل البارد، اقفلي الباب، هاتي المفتاح. - بارك الله فيك.
ومشت والقس جبرائيل إلى منعطف الجادة فإذا بعربة تنتظر هناك، فركبت وإياه وراح الحوذي يحث خيله إلى الجيزة، ومنها إلى ناحية الأهرام، وبعد سير ساعة وما يزيد وقفت العربة، فترجل القس جبرائيل وصرف الحوذي ودخل وغصن البان في بستان من النخيل ماشين مسرعين جنبا إلى جنب. - إلى أين يا قس جبرائيل؟ - إلى بيتي. - ويلي! هذه الظلمة مخيفة مرعبة.
اجتازا في ذاك البستان إلى الصحراء فأصبحا بعيدين عن الحقول والسبل فيها، ضل القس جبرائيل الطريق تاه ورفيقته في البادية، في بحر من الرمال وبحر من الظلمة، مشيا ساعة فأعياهما المشي، فرمت غصن البان بنفسها على الرمل تئن من التعب والخوف. - أين بيتك يا قس جبرائيل، ربي! ما عساك تصنع؟ إلى أين، آه ما ألطف هذا الهواء! دعني أستريح قليلا، اجلس تسترح، اجلس هنا إلى جانبي، هواء الليل منعش وظلمة الليل إذا كنت قربي لا تخيفني.
وقف القس جبرائيل وقد أحس من نفسه وهنا ينظر غربا وشرقا وجنوبا وشمالا يسأل الله الهداية، ولكن البادية كلها طريق والليل كله طريق أخرى ولا حاجز في الطريقين ولا حد لهما. - انهضي يا بنتي، امشي، امشي، الله معنا، ها قد تراءت لي ظلمة أشد ظلاما من الليل واقفة كالطود هناك، هذا الهرم، لله! ما أقرب الطريق إلى الجحيم وما أبعدها منه، ما أقصرها ذهابا وما أطولها إيابا!
واستأنف ورفيقته السير ثم وقف فجأة يسند رأسه بيديه من صداع بل دوار أصابه. - ما بالك يا قس جبرائيل؟ لماذا لا تجلس قليلا فتستريح، دعنا ننتظر هنا ريثما يطلع الفجر، النوم على الرمل تحت السماء لذيذ. - امشي يا بنتي امشي، هذا الهرم، قد اهتدينا إلى الطريق، وقريبا نصل إلى البيت .
وهب إذ ذاك الهواء البارد رسول الفجر فجعل يصفر في نخاريب حجارة الهرم فيستحيل صفيره صياحا بشريا وعويلا، فخيل إلى القس جبرائيل لما اعتراه من العياء والدوار أن أناسا هناك يقهقهون ويضحكون منه، بل سمع أصواتا تقول: صفقوا للناسك! قد فاز بقوت قلبه. - حيوا الناسك وعروسه! - خذوا الدفوف واضربوا وارقصوا!
وكان صدى العويل والصفير يتراجع في هبوب الرياح، فسمع الراهب تلك الأصوات حول الهرم كأنها أصوات خارجة منه. - لو أحبها لرحمها، لتركها تنعم في جحيمها. - لو أحبها لعاش وإياها هناك. - لو أحبها لقتلها. - تبارك ضلاله! وتباركت أوهامها! - خذوا الدفوف واضربوا وارقصوا ...
هدأت الريح قليلا ولم يهدأ ما أثارته في قلب القس جبرائيل من الهواجس والأوهام، فقبض على يد غصن البان وقد تصور أنها تحاول الفرار منه وأسرع في مشيه، لقد سمع أصواتا لم تسمعها، ولكنها أحست باضطرابه وسمعت تنهداته، وكادت نار يده تحرق معصمها. - ما بالك يا قس جبرائيل؟ ما بالك؟ - لا شيء يزعج يا بنتي، لا شيء.
ولكنه كان يسائل نفسه قائلا: وما هي يا ترى هذه الأصوات المرعبة؟ أتضحك الأموات منا؟ أتنذرني بحبوط مسعاي؟ - يا قس جبرائيل ... - وصلنا يا بنتي، وصلنا.
وما كاد يقف في باب كوخه حتى تراءى له خيال أبيض حول رأسه هالة من النور، فسمعه يقول: أنا الرحمة، أنا المحبة، من يميت نفسه يحييها، ومن يحيي نفسا أخرى يحيي نفسه.
دخل إلى الكوخ يرتعد وجلا وغصن البان لم تزل في قبضته، فأجلسها على مرتبة من الخشب فيه وأشعل القنديل. - هذا سريرك، نامي يا بنتي، لقد أعياك المشي وأراك ترتعدين بردا، نامي قليلا.
ثم خلع جبته وغطاها بها. - نامي قليلا لنقوى على السفر غدا.
ثم أطفأ القنديل وخرج من الكوخ، فجلست غصن البان على تلك المرتبة ورأسها بين يديها تفكر في مصيرها، والقس جبرائيل يتمشى على الرمل قلقا معذبا يردد ما أسمعه الوهم من أصوات الليل والقبور. - لو أحببتها لتركتها في الجحيم! لو أحببتها لأقمت وإياها هناك، لو أحببتها لقتلتها! شياطين الجحيم! أتتبعني لتهزأ بي، لتسخر مني، لتضحك من مسعاي، هيهات هيهات! أواه، رأسي يلتهب وهواء الفجر لا ينعشني. من أمات نفسه أحياها، من قتل نفسه أحياها، رب الأكوان! إن نجومك ورمالك لتخفي الصغير والكبير من أسرارك، من أحيا نفسا أخرى أحيا نفسه، والنفس إذا عادت إليها حياتها الدنيا عادت الرغبات معها والأهواء والشهوات، كانت مريم ضالة فوجدت، ومن وجدها؟ من أنقذها؟ من ذا الذي عاد بها إلى الحياة إلى مطهر القلوب؟ أنا الفقير إليك يا ربي، فهل ينبغي لي أن أقتل النفس الجديدة في تلك التي أحييتها، لك المجد، بتحقيق آمالي وبتوفيق مسعاي؟ لم تزل تظن أن الذخيرة مني، مسكينة واهمة، سأكشف لها السر، سأطلعها عليه، فتكرهني لذلك، تلعنني، وقد تتفلت من يدي فيخفق مسعاي ثانية، ما العمل؟ ما العمل؟
جلس على الرمل قبالة الكوخ يتأمل الربع الأخير من القمر وقد ظهر في الأفق فوق الرمال يرفع سجفا من سجوف الظلام، وأقبلت طلائع الفجر الأولى تطارد الليل فتميزت الصحراء والسهول وبدت رءوس النخيل قرب الهرم كأحمال من الرتم حول الأتون، وهب نسيم الفجر فأنعش الراهب وجدد فيه العزم والثبات. - سنسافر اليوم، سنسافر اليوم.
ورفع رأسه فإذا بغصن البان واقفة في باب الكوخ تنظر إليه، والقمر ينير وجهها، والنسيم يداعب شعرها، فنادته بصوت متلجلج مضطرب ودنت منه تخاطبه قائلة: ظننتك هجرتني، وقد تفعل، من يعلم؟ اسمع يا قس جبرائيل، أحب أن أعرف إلى أين ذاهب بي؟ وما الغاية من سعيك هذا؟ أتريد أن تنقذني من موبقات المدينة؟ هذا مستحيل، الموبقات ليست في المدينة بل في قلبي، رح يا سيدي في سبيلك، ودعني أعود إلى شقائي، إلى بؤسي، إلى وحدتي، إلى جحيمي، لا تقترب مني أدنسك، يدي ملطخة بالإثم، جسمي مدهون بزيوت الفحش والعار، في صدري تحتدم نيران الشهوات، في عيني رماد كان بالأمس نار رغبات سماوية، في شعري سم قبلات العشاق والمحبين، لا تقترب مني أدنسك، سر في سبيلك، عد إلى نعيمك، ودعني أعد إلى جحيمي. - سنسافر اليوم، هذه الساعة إن شئت، إلى طبريا حيث السعادة تنتظرك، تناديك من تلك الأرض المقدسة، لا تسترسلي في الأوهام، وطدي ثقتك بالله، لا ترتابي ... - أرتاب في أنك صليبي. - وستسافرين معي إلى طبريا فتلتقين هناك ومن تحبينه. - ومن أحبه؟ عساك تحلم بزواجي، أنت مخطئ، ليست غصن البان تلك الفتاة مريم التي كنت تعرفها، خاطرك الوداع، أدعو لك بالتوفيق حيث سرت، وحيث حللت. - وهمت بالذهاب فأمسكها القس جبرائيل بيدها وأوقفها. - اتركني! - قفي قليلا، ادخلي، اسمعي كلمتي الأخيرة. - لا، لا.
فجرها إلى الباب فوقفت هناك متمنعة متمردة. - دعني أذهب إلى سبيلي. - عبثا تحاولين التفلت من يدي. - اتركني، لا تكرهني.
فضغط على معصميها فصرخت متأوهة والتوت تحت وجهه الناظر إلى وجهها كغصن هصرته الرياح، فنهض بها حتى كاد خدها يلامس لحيته، وهو ينظر إليها بعين لاح فيها وميض الشهوة التي طالما خدعتها فأصبحت بين يديه كالعصفور رماه الصائد، لا تبدي حراكا، فحملها إلى داخل الكوخ وهي ترتعد بردا وحبا وجزعا، وما لبثت أن أغمي عليها، فمددها القس جبرائيل على المرتبة وطفق يفرك يديها ورجليها ويناديها باسمها مطمئنا مطايبا.
وفي تلك الساعة دخل القس بولس عمون قادما من البلد، فوقف في الباب والقس جبرائيل مدبر يعالج غصن البان. - المجد لله يا أبتي.
فالتفت القس جبرائيل مذعورا وإذ شاهد القس بولس تنفس الصعداء: جئت في وقتك، هذه الابنة مريم ابنتنا، لقد أغمي عليها من شدة التعب، ساعدني لنعيد إليها رشدها، تقدم، افرك رجليها.
فدنا القس بولس ينظر إلى وجهها فشاهد الذخيرة على صدرها، فتأملها فإذا هي بعينها تلك الذخيرة التي أعطاها إلى أمها سارة يوم كانت حاملا، فقبلها وقبل مريم هاتفا: بنتي! بنتي! سبحانك اللهم، ارحمني يا ربي وارحمها.
جمد الدم في عروق القس جبرائيل ووقف كالشبح بين البنت والراهب محملقا: وهل أنت الأخ إيلياس؟! - نعم أنا إيلياس البلان، أنا هو.
فصفق القس جبرائيل كفا على كف معجبا مبتهجا، ثم بسط ذراعيه إلى القس بولس، فضمه إليه يقبله ويقول: غفر الله ذنوبنا أجمعين، لقد سامحتك سارة وغفرت ذنبك وهي على فراش الموت، يا مريم، يا مريم، استفيقي يا بنتي، استفيقي، افرحي تهللي، ها قد ظهر قسم من سعادتك، ها هو ذا أبوك. - أبي، أبي! - نعم أبوك.
فأيقظتها الدهشة وجلست تنظر إلى الراهبين حائرة بائرة. - أبي أين أبي؟ من هو أبي؟
فضمها القس بولس إليه هاتفا: بنتي الحبيبة، بنتي مريم! أجثو أمام أمك فيك، أسأل الله أن يغفر ذنبي، رحم الله أمك، غفر الله ذنبي.
وضمها إليه وطفق يقبلها مبتهجا، مضطربا، باكيا.
الفصل الثاني والعشرون
على شاطئ البحيرة عند تلحوم امرأة تناهز الأربعين من العمر تحدث أحد النوتيين، وولد صغير صبوح الوجه، أشقر الشعر، حاد النظرات، أنيق الثياب لا يتجاوز الرابعة من سنه يلعب على الرمل ويراقب القوارب القادمة من طبريا وسمخ. - يا لطيفة، يا لطيفة، زات السختولا.
فأدارت الامرأة وجهها وإذا بالصبي قريب من الماء، فصاحت به مذعورة: فريد، فريد! يا ربي، يا مريم العذرا! وركضت إليه تجذبه بيده وتضربه عليها. - قلت لك ألف مرة لا تقترب من الموج، قم نرجع إلى البيت، ما جاء أحد اليوم.
فصرخ فريد متأوها وجلس على الرمل يقبض على رجله بيده كأنها حرقت أو جرحت. - عرفت حيلتك، قم يا حبيبي، قم اركب على ظهري. - فركب فريد ضاحكا متثبتا، وعادت به إلى البيت؛ بيت القس جبرائيل في السهل وهي تغني له:
والدوم ويلي عالدوم
راحت يا حرام الشوم
راحت لكن راح ترجع
راح ترجع صباح اليوم.
ولكنها لم تعد لا صباح ذاك اليوم ولا صباح تواليه، فملت لطيفة الانتظار؛ وإشفاقا على فريد من الخطر في لعبه قرب الماء لم تجئ به بعدئذ إلى شاطئ البحيرة. - اليوم نطلع إلى الربوة ونأخذ العنزة معنا. - والسلة للهندبا أنا أهملها. - طيب احمل السلة واركب على ظهري. - أتعب عاضهرك، مباره وزعتيني، سديتي بيدي كتيل. - مليح، اركب على كتفي، على رقبتي، الله يجيرني منك! - أمسي يا لطيفة، بكله أغني عاقبرك. - واليوم غن لي عالدوم، غن.
فجعل فريد يردد بلثغة الأطفال الجميلة:
عالدوم ويلي على الدوم
لاهت يا هلام السوم
لاهت لكن لاه تلزع
لاه تلزع صباه اليوم. - يسلم فمك، ومن يرجع يا حبيبي؟ - الماما. - وأين هي الماما؟ - الماما بمصل. - وأنت مشتاق إليها؟ - كتيل، كتيل. - ولما تجيء ماذا تقول لها؟
قلا: يا ماما العنب استوى وبطلع معا علكلم وبقطفلا العنقود.
الصليب حولك، الصليب حولك. - غني أنت، غني: وطلعت عالاس الزبل.
وجعلت لطيفة تغني له الأغاني والأهازيج وهي في الحقل تملأ سلتها من الهندباء وهو يختار من عسيب العفص أطرى الأغصان ويلقمها العنزة.
وفي ذات يوم بينا كان عائدا إلى البيت راكبا على عنق لطيفة يهز رجليه ويغني «عالدوم» رأى قاربا في البحيرة بعيدا فهتف قائلا: سختولا، سختولا، زات الماما، زات الماما.
وظل يلح ويبكي حتى جاءت به لطيفة ذاك اليوم إلى «فلهوم» أي كفر ناحوم، ولبثت تنتظر قدوم القوارب من طبريا، فجلست وإياه على الشاطئ تجمع له الأصداف تعلله بها، ولما وصل أحد القوارب ونزل منه بعض الإفرنج المقيمين في دير بتلك النواحي طفق فريد يبكي، ورمى في البحيرة غيظا كل ما جمعته لطيفة من الصدف. - لا تحرد يا حبيبي، لا تبك، غدا تجيء الماما، قم نرجع اليوم إلى البيت.
وما كادت تجتاز وإياه الشاطئ حتى سمعت صوتا يناديها: يا لطيفة يا لطيفة! فتلفتت ملبية كأنها عرفت صاحب الصوت، وإذا بقارب آخر يقل امرأة وراهبين وبضعة صناديق من الأمتعة، فعادت تركض والصغير على ظهرها يحثها من شدة الفرح برجليه، ويصيح: الماما، الماما.
ولقد أعد القس جبرائيل مريم لهذه الدهشة المفرحة العظيمة قبل السفر من مصر، فقص عليها قصة الطفل منذ سرق تلك الليلة إلى يوم استرجاعه من الشقية أم هيلانة وإلقائها في السجن، ولولا ولدها ما عادت مريم وإياه إلى فلسطين.
ولما اقترب القارب من الشاطئ قال القس جبرائيل يخاطب مريم: البحيرة التي مشى عليها السيد إنما هي أم العجائب، سلبتك ابنك طفلا رضيعا فأعادته إليك صبيا بهيجا، ها هو فريد ابن البحيرة تحمله رفيقتك القديمة لطيفة، اسمعيه يناديك.
وكان فريد على الشاطئ يرقص ويشير بيديه مناديا الماما، فلما وطأت أمه الثرى ركض إليها باسطا ذراعيه فتعلق بعنقها يقبلها ويقول: أين كنت يا ماما؟ وهي تقبله وتبكي، جلست على الرمل وأجلسته في حجرها تحدجه بنظرها منصتة إلى كلماته وسؤالاته لا تدري ما تقول، فأصابها من شدة التهيج والبكاء نوبة سعال دامت بضع دقائق، فأخذ القس جبرائيل الصبي وأسعف القس بولس ابنته وسار الجميع توا إلى البيت.
وفي تلك الليلة نامت مريم تضم ابنها إلى صدرها وهي تحس بلذة جديدة بهيجة عجيبة، أسكنت جوارحها وضمدت جراح قلبها.
وفي الصباح باكرا نهض فريد يوقظ أمه ويقول: ماما، استوى العنب، اطلعي أقطفلك العنقود.
فنهضت تداعبه وتلاعبه وتضمه إلى صدرها وتقبله، وجاءت به إلى فناء البيت تحمله على ذراعها فأحست من نفسها وهنا. - لا أستطيع أن أحملك يا حبيبي. - أنا أمسي علكلم. - سنطلع إلى الكرم يا عمري، تعال قبلني.
فركض فريد إليها يعانقها ثم قبلها في فمها، فأبعدته تقول: لا، لا، قبلني هنا (مشيرة إلى خدها) وهنا (مشيرة إلى عنقها).
ثم أبعدته منها قيد ذراع وهي تنظر إليه بعين كئيبة حزينة ترقرق الدمع فيها.
ودخلت إذ ذاك لطيفة تحمل طبقا من القش عليه الخبز والجبن والزيتون والعسل والقريش ومقلاة فيها بيضات مقلية وسفود من الشواء فألقت الطبق على طاولة قرب الديوان وهي تخاطب مريم: لا تؤاخذيني إذا ناديتك حسب العادة القديمة باسمك، لقد سمعت بما كنت فيه من العز بمصر وفرحت كثيرا، ولكنك دائما تلك المريم عندي، سبحان من يغير ولا يتغير، أنسيت لطيفة العشية التي كانت تلعب وإياك «البوكر»؟ أتذكرين تلك الليالي والفولات، والأزهار التي حرقتها، وال ...
فقاطعتها مريم تقول: لا تذكريني بتلك الأيام يا لطيفة! - وما بالك تبكين يا بنتي، أنت أعز من بنتي، أتبكين فرحا للقاء فريد، يحق لك، لولاي ... - علمت بفضلك يا لطيفة، وأنا شاكرة لك ممتنة. - وإذا غبت يوما واحدا عن فريد يضيع عقلي.
وأخذت الصغير من ذراعيها وطفقت تقبله وتردد النكات التي يسر بها، غن للماما يا حبيبي غن لها: وطلعت عاراس الجبل.
فوقف فريد قدام أمه وهو يجول بنظره فرحا بينها وبين الطابخة ويشير بيديه وبرأسه إشارات لطيفة فتانة.
وطلعت عالاس الزبل
أسلف على البهلا
وسمعت الهمام ينوه
ينوه على البهلا
قلت لو يا همام
صلي صلاتك ونام ...
صلي صلاتك ونام ... - كمل كمل، أنسيتها؟ راحت ... - بلى، بلى، اسكتي.
قلت لو يا همام
صلي صلاتك ونام
لاهت أمك تسوه
الله يعطيك غيلا.
ونظر إلى أمه فرآها تضحك وتمسح بالمنديل عينيها، ثم ركضت إليه فجثت أمامه وطوقته بذراعيها تقبله هاتفة. - ولدي، حبيبي، حياتي، مهجتي، نور عيني.
ثم تبعده عنها قليلا فتحدق فيه كأنها تنظر إلى شيء عزيز توارى عنها، ثم تضمه إليها مسرعة متلهفة كأنها تحميه من حيوان يحاول افتراسه. - ماما، قومي نطلع علكلم.
فأخذته لطيفة وأجلسته على الكرسي قائلة: بعد الفطور يا حبيبي، تقدمي يا بنتي قبل أن يبرد اللحم والبيضات.
فجلست مريم إلى المائدة تلقم ابنها وتحاول إشحاذ شهيتها بشيء من عسل بلادها وقريشه، ولم تأكل إلا قليلا.
ثم نهضت مستسلمة إلى فريد وقد خرج من البيت يجر لطيفة بذيلها.
فحملته على ظهرها ومشت قدام مريم إلى الكرم، فاعترتها في الطريق نوبة سعال شديدة وردت منها الوجنتين وأخفت هنيهة حدقة عينها.
وبينا هي وولدها ولطيفة في الكرم كان القس جبرائيل والقس بولس يتحدثان بشأنها. - لا يجوز أن تقيم هنا. - سننقلها إلى لبنان بعد أن يتم ما حدثتك به وعليك أن تساعدني، فإن في الزواج خلاصها وسعادتها. - وهل ابن أخيك راغب؟ - بل مصر وملح في ذلك، وقد أنبأته برجوعنا وسيجيء من حيفا اليوم أو غدا. - وإذا كانت لا تريد ما نريده لها. - لا أشك في أنها ترضى بما فيه خيرها، وفي كل حال كنت ناصحا لها مرشدا مثلي، حبب إليها الزواج، فإنه نافع لها ولابنها ولوالده، بل لازم متحتم، هو الحق الذي ليس غير الخير فيه، زواجها بابن أخي عارف يرفع عن الولد ذنبا ليس ذنبه؛ يزيل من حياته ظلمات الغش ولطخة العار، وعارف في هذا العمل يكفر عن إثمه، ومريم تصادف فيه ولا شك زوجا فاضلا محبا كريما عطوفا حنونا، لقد هذبه الدهر وعلمته تجارب الأيام، لقد أصلح الشاب شأنه. - ولكن مريم ... - هب أني مخطئ في ظني فلست متحولا عن عزمي، زواجهما لازم ضروري، متحتم عليهما، ينبغي أن يكون للولد أب معروف فلا يلعنه في مستقبل حياته، ينبغي أن يتزوج عارف بمريم ليغفر الله ذنبه، ولا يهمني عاشت وإياه بعدئذ أم لم تعش، الحق يا قس بولس؛ حق الله يعلو ولا يعلى عليه، والعدل قبل السعادة، العدل فوق السعادة ...
جلست مريم تحت الدالية تنظر إلى السهل المنبسط أمامها وإلى البحيرة الزرقاء الراكدة، وقد ظللتها شمس الصباح بظلال الجبال القائمة حولها شرقا وغربا، لقد لقيت أباها، ولقيت ابنها، ولم تكن تتوقع بعد هاته الدهشات المحزنة المبهجة دهشة أخرى، لم تكن تحلم بما يضمره لها القس جبرائيل وبما تكشفه لها مخبآت الزمان. - وماذا يهمني أبي؟ إذا جهرت به إذا ادعيته أفضحه، فينبغي أن أنساه. أما القس جبرائيل فقد صنع صنعا جميلا ليس في إمكان بشر أن يكافئه عليه، صحيح، صحيح، ولكني مع ذلك أكرهه، خدعني مرتين، عذبني ليخلصني مما يظنه إثما فرماني بما هو أشد عذابا وويلا. ومرضي من يخلصني منه؟ جاء بي إلى هذه الديار القاصية، إلى هذا الغور المهلك ليجمعني بابني، وكان في إمكانه أن يستصحبه إلى مصر، إن في كل ما يصنعه شيئا غامضا خفيا، سريا يدل على حب الذات والكبرياء والاعتداد بالنفس، يكسر قلوب الناس ليقيم رأيه، يزدري أشياء الغير ليعزز أشياءه، يجر على الناس الويل والبلاء باسم «الحق السماوي» وباسم الله، فينبغي أن أنساه أيضا، سأشكره في الآخرة يوم أقف أمام الرب إلهي.
آه ما أمر الحياة! لقيت ولدي فلذة كبدي ولا أستطيع أن أفرح بلقائه، لقيت والدي وكأنني لقيت عدوي، ألم يكن عدو أمي؟ أكنت شقيت يا ترى لولاه؟ أكنت لقيت من الحياة أمرها لو أنه أحب أمي وأكرمها فاحتضنتني ورعتني بالتربية، قذف بي إلى هذا العالم وفر هاربا، جبان رعديد! لئيم أثيم! يستحق الذبح. وأين أبوك أنت يا مهجتي، يا حياتي! أتجتمع به يا ترى بعد موتي كما اجتمعت أمك بك فازدادت حزنا وغما؟ معلمي عارف أفندي! ابن الأكابر! الأديب السري! ويل الشبان أمثالك! ولكني أحببته فجنى علي، أحببته حبا ضحك مني عليه، كنت ساذجة في تلك الأيام، وخطيئتي الكبرى أنني إذا أحببت أحب حبا لا يدرك حدودا ولا يعرف خداعا، لو علمت اليوم مقره لذهبت إليه وولدي بيد والخنجر باليد الأخرى، شقيت الأم فلا يجوز أن يشقى ابنها، لا، وحياة الله!
بمثل هذه الأفكار كانت تزيد نفسها اضطرابا وغمها غما، ولا ريب أن اشتداد وطأة المرض عليها أظلم فؤادها وحرمها لذة العطف والحنان، «الحياة لعنة في الأرض!» هذا أحسن ما قاله القس جبرائيل، فالجميل في الحياة إنما هو الطعم في شبكة الصائد، اللذات حبائل وأشراك مهلكة، والبعد عن اللذات عذاب لا يطاق، ما العمل إذن، ما العمل؟ الحياة لعنة في الأرض!
ولما وصلت إلى البيت عائدة من الكرم وولدها سألها أبوها: لما أنت مضطربة كئيبة؟
فلم تجبه، دخلت إلى البيت ورمت بنفسها على الديوان وقد أعياها المشي، وأظلم وجهها وقلبها ونفسها من التأملات المحزنة، فاقترب منها القص بولس يطايبها ويطمئنها ويمسح بمنديله العرق المتصبب من جبينها. - لا تخافي يا بنتي.
فقالت على الفور كأنها تضربه بما تقول: لست بنتك، لو كنت أبي لما تركتني أشقى. - أخطأت يا بنتي وندمت على خطيئتي. - وما نفع الندم وقد جوزيت أنا على فعلتك، عشرون سنة من البؤس والعذاب والذل تقاضاها الدهر من دمي ولحمي ونفسي وفؤادي لقاء خطيئتك، ثمن إثمك، ما أجمل هذا الدين دينكم! تقترفون المآثم وتجرون البلاء على العباد وتملأون الأرض فسادا ثم تلبسون المسح وتذرون الرماد على رءوسكم، ثم ... - مريم، مريم، بنتي!
ولم يستطع أن يفوه بكلمة أخرى، خنقته العبرات، ولكن مريم لم تحفل به: أي نعم، تلبسون المسح وتذرون على رءوسكم الرماد ثم هللوا، هللوا، ادخلوا مجد ربكم آمنين. والله لأذبحنك وأذبح ابني وأذبح والده لو كان لي أن أراه، وألبس بعد ذلك المسح وأذري على رأسي الرماد وأعيش على الخبز المبلول بالماء فأموت قديسة وأدخل مهللة مجد ربي، إذا كانت الحياة لعنة في الأرض فمجد ربي أضحوكة ذميمة، دعني في شقائي، اتركني، إليك عني.
وخرجت إلى المصطبة قدام الباب فجلست هنالك تسند رأسها بيديها وتتأمل أمرها ومصيرها.
فلحقها القس جبرائيل وأخذ يدها بيده فرفعت رأسها حانقة ناقمة ثم أحنته يائسة مستسلمة، فقال يخاطبها: انهضي يا مريم وادخلي غرفتك تستريحين قليلا، انهضي الله معك، فمشت وإياه نحو الغرفة. - ادخلي رضي الله عنك، نامي قليلا، استلقي على فراشك لقد أتعبتك النزهة، واطردي من قلبك مثل هذه الأفكار التي جرحت بها قلب والدك، اطردي من فكرك كل ما يؤلمك ولا يعينك على الشفاء من مرضك، نامي يا بنتي قليلا تستريحي.
ثم جاء يخاطب القس بولس قائلا: لا تكلمها بالأمر الذي تحدثنا به، دعني أعالجه وأعالجها وحدي.
الفصل الثالث والعشرون
دخل فريد إلى البيت راكضا ينادي الماما، فأمسكه القس بولس وأجلسه على ركبته يقبله، ويقول: الماما نائمة الآن، ألا تحبني يا ابني؟ - من أنت؟ - أنا أبوك.
فهز فريد رأسه مشككا ثم قال: لا، لا، عمي القس جبرائيل قلي البابا ساب ظليف. - صحيح يا ابني، واليوم نراه إن شاء الله. - اليوم؟ البابا؟ البابا كمان؟
وجعل يصفق بيديه طربا. - أي نعم. - ومن أي بزي؟ - من حيفا. - وأين هيفا؟ - حيفا عند البحر. - البحر في تلهوم؟ - لا، لا، البحر بعيد،
فهز فريد رأسه عابسا. - لا يزي البابا اليوم.
وكان الصغير مصيبا في ظنه؛ لأن عارف مبارك سافر من حيفا ذاك النهار إلى الناصرة فبات في بيته هناك، وعول على أن ينهض باكرا فيركب العربة إلى طبريا فيصل إلى بيت عمه في الغور قرب الظهر، وليلة كان في بيته بالناصرة قص على والديه بعض قصة مريم وابنها وأخبرهما بما هو عازم، فسكت أبوه مطرقا واستشاطت أمه غيظا. - جننت يا عارف، والله بالله! إذا فعلت هذه الفعلة؛ إذا تزوجت بهذه الفتاة الساقطة لا ترى وجهي فيما بعد، رح اعمل ما تشاء، عمك مجنون، وقد أصبت بعدوى جنونه، ابن مبارك يتزوج براقصة ساقطة، بل بخادمة من خادمات بيته ، يا ربي يا ربي! أي ذنب اقترفنا ليكون هذا قصاصنا؟ أستحلفك بالله وبأجدادك يا عارف أن تقلع عن قصدك، أن تسمع كلمتي، أن تعمل بإرادتي؛ إكراما لأمك الحزينة، عد إلى رشدك، ارجع غدا إلى أشغالك بحيفا، اترك هذه الفتاة وشأنها، اتركها لعمك القسيس المجنون، هو يخلصها ببركاته وصلواته.
فانتهرها زوجها قائلا: اسكتي يا امرأة، اسكتي، في الأمر ما لا تدركينه أنت، القس جبرائيل أعلم مني ومنك بما هو حق وما هو باطل، وعارف بعد هذا وذاك راشد يحسن إدارة شئونه بنفسه، هو الآن ولي أمره، رح يا ابني، اعمل ما تشاء وفقك الله! - وأنت أيضا مجنون، أنت أيضا تريد أن ترمي بابنك إلى التهلكة ولا تهمك الفضيحة والعار.
فانتهرها زوجها ثانية فخرجت الست هند تسبه وتسب أخاه وتدعو على ولدها وعليهما بالموت العاجل.
وفي صباح اليوم الثاني لما كان عارف راكبا العربة قاصدا طبريا جاء القس جبرائيل يسأل مريم أن ترافقه في نزهة إلى تلحوم ليريها خرائب تلك البلد القديمة، وكان قد سكن جأش مريم ذاك الصباح سكونا يتلو العواصف أو يتقدمها منذرا بها، فحدثها القسيس في الطريق بما قد يكون اليوم من أمرها وكشف لها الأخير من ستور السر المحجوب، فنظرت مريم إلى ما وراءه ساكتة باهتة غير حافلة، وبعد أن فكرت قليلا قالت لمحدثها: عملت دائما بما تشاء فلا أقاوم اليوم إرادتك، إنني راضية إكراما لولدي، سأقبله زوجا لي وإن كنت لا أستطيع أن أعيش وإياه. - بل ستعيشين وإياه سعيدة إن شاء الله، عارف يعشقك ولقد ذرف الدموع فرحا حين أطلعته على خبرك وبشرته برجوعك. - ولقد كدت أغرق في بحر من دموع العشاق المخادعين، ويا ليتك لم تنقذني منه حية. - انسي الماضي ماضيك يا مريم، انسي تلك الأيام السوداء.
فنظرت مريم إليه نظرة حادة محرقة، وهتفت قائلة: الماضي؟ ماضي؟ هو شبح مفزع يمشي أمامي، يظلم الأفق في ناظري منه، يحبس عني نور الشمس، يقود نفسي إلى الهاوية، الماضي يا قس جبرائيل سوس ينخر في عظمي، نار تتأجج في دمي، نمل يدب في جسمي، الماضي؟ ليتك تعرف كيف تعيش المومسات - وقد دعيت بمصر مومسة - ليتك تعرف كيف تعيش المومسات، وكيف تموت القديسات البارات؟ تلبس البائسات الحرير فيظن أنهن راتعات في بحبوحة من العيش باهرة زاهرة، وإن لم يلبسن الحرير يمتن جوعا، حريرهن مسوحهن، والطيوب التي يذرينها على شعورهن وصدورهن إنما هي رماد التقشف والتقوى، المومسة يا قس جبرائيل إنما هي القديسة، تمشي وراء ماضيها إلى النار مستشهدة، وأنا الآن أمشي وراء ماضي، ومهما كان من مستقبلي فإن ما أساق إليه هو هو، لا ينقص بلاؤه ولا يزيد، أنت يا قس جبرائيل مخلصي وأنت صليبي، قبلتك وحملتك صابرة راضية، ولكني لعنتك مرارا في قلبي ولم أزل أكرهك.
فحاول القسيس أن يسكن روعها ويعزيها ببعض كلمات ذاكرا مريم المجدلية، فنهضت عن الحجر الذي كانت جالسة عليه في ظل صفصافة قديمة، وغيظ التهكم واليأس يحتدم في ناظريها. - أي نعم، مريم المجدلية! المومسة القديسة، شهيدة الإيمان والغرام والأوهام، وأنا، أنا ...
ثم أشارت بيدها باسمة إلى سلسبيل من الماء قريبا. - تفضل يا مولاي، هذا الماء وهذي يدي وهذا شعري، تفضل يا مولاي إلى الغدير! أظنك اليوم تبارك إكليلي، فتحرمني إكليل الاستشهاد.
وضحكت ضحكة أعادت الإثم إلى جفنيها واللعنة إلى فمها، فأغضى القس جبرائيل على ما بدا من تغيظها وتجديفها وقام يناعمها ويطايبها وهو عائد وإياها إلى البيت.
وبينا هما عائدان كان قد وصل عارف من الناصرة فاستقبلته لطيفة طاهية بيتهم القديمة وفريد الصغير.
يقال: إن الغريزة أصدق من العقل، ولا ريب أنها تصح غالبا بين الآباء والبنين، لما شاهد عارف الولد الذي لم يره قط حياته ضمه إليه وسأله عن الماما، وكان الصغير يحدجه بنظرات من نظرات الأطفال المبهمة كأنه يستطلع حقيقة أمره، ثم قال وهو يقبل الغريب: أنت البابا؟ - نعم يا ابني، أنا البابا. - الماما لاهت تسم الهوا مع عمي القس جبلايل، وتفلت منه إذا شاهد أمه وركض يلاقيها ويبشرها بقدوم أبيه وهو يصفق بيديه طربا: يا ماما، يا ماما، زا البابا، زا البابا!
فوقفت مريم في الباب والدم واقف في عروقها تنظر إلى الشاب الذي لم تشاهده منذ خمس سنوات نظرة الغريب القريب، بل نظرة الهاجر المحب، فتقدم إليها يقول: أتسامحيني؟ أتغفرين لي؟
فأحنت مريم رأسها ولبثت ساكتة، فمد عارف إليها يديه مستغفرا مستعطفا: سامحيني، اغتفري، اصفحي.
فبدت على وجنتيها الدموع كالطل على الورد وأخذت يده ذاهلة ساكتة واجفة، صافحته اليد منها ولم تصافحه النفس، وليس عارف ممن يشعرون لأول وهلة ببشاشة النفس أو بتجهمها، فظل قابضا على يدها وتقدم وإياها فأجلسها على الديوان يعتذر إليها ويستغفرها.
فدبت كلماته في قلب مريم دبيب النار المدخنة في جوانب البيت فأدفأته وأظلمته معا، أحست بحنو طالما تاقت إليه في هذه الأيام؛ حنو صاف لا تمازجه الغايات السافلة ولا يشوبه حب المكارم والجميل، فجاءها كالعاصفة دفعة واحدة فضاقت منه صدرا، على أنه وإن كانت قد ضعفت بل ضاعت ثقتها بالناس وصارت تخشى حتى المعروف منهم والإحسان، رضيت بما ساقته إليها الأقدار إكراما لولدها.
جلست على الديوان تنصت إلى كلمات عارف، معلمها السابق، والد ابنها، خطيبها الآن، ولم تفه بكلمة واحدة، وفي تلك الآونة دخل القس بولس فسلم على عارف مبارك، فانبرى القس جبرائيل يتمم واجبات التعريف فاضطرب عليه، فأراحه القس بولس من حيرته وتردده قائلا: أعرفك بنفسي، أنا زوج سارة الراعية التي توفيت في الناصرة منذ خمس سنوات، والفتاة الجالسة إلى جنبك بنتي.
فبهت عارف لهذا الخبر وشرع يقلب نظره بمريم وبوالدها القسيس. - لا تتعجب من جهري، من لا يخجل من الصدق أمام الله لا يخجل منه أمام الناس.
فقاطع القس جبرائيل الحديث قائلا: دعونا من هذا الآن، لقد أشرقت الشمس؛ شمس الحب والحق وأزفت الساعة، أترضى يا عارف مريم زوجة لك؟ - نعم، نعم. - أترضين يا مريم عارفا زوجا لك؟
فلم تجب مريم فأعاد القسيس السؤال: أتقبلين عارف مبارك عريسا لك؟ - ولماذا تسألني؟ ألم أبح لك بسر قلبي، كمل عملك وأرحني منك. - سري عنك يا بنتي خففي من روعك، هذي ساعة فرحك، لتكمل مشيئة الله .
ونادى إذ ذاك أجيره أبا إبراهيم ولطيفة، فقال يخاطبهما: عندنا الآن عرس يا أولادي، كوني أنت الأشبينة يا لطيفة، وأنت يا أبا إبراهيم الأشبين.
وبدأ القس جبرائيل بالصلاة، وكان فريد الصغير أثناء ذلك واقفا إلى جنب أمه متمسكا بردائها رصينا عبوسا حائرا بما هو جار أمامه، ولما بارك القسيس إكليل العروسين ركض فريد إلى لطيفة يقول: الخلوف زاع، اسمعيه يمعق، روهي أطعميه، ثم جاء يقول لأمه: اطلعي نطلع علكلم ونأخذ البابا معنا، العنب استوى، وأنا أقطفله العنقود.
فضحك القس جبرائيل معجبا، وقال: خذوا الحقيقة من هؤلاء الصغار، أجل لقد استوى العنب وحان وقت القطاف، ليبارككما الله ليبارككما الله!
فنظرت إليه مريم نظرة ودت لو أنها خنجرا في فؤاده.
ثم هنأهما القس بولس وودعهما قائلا: إذا كنتم تستحيون بي فسأخفي منذ الآن وجهي وأمري عن الناس، وأقيم والقس جبرائيل متنسكا في هذه الديار. - لا يا أبي لا، بل يجب أن تقيم معنا - معي أنا، لا طاقة لي على فراقك، سامحني أبي، اغفر لي، لقد أهنتك وجرحت قلبك ساعة كنت متألمة متعذبة، سامحني.
وأخذت يده تقبلها باكية، فقبلها القس بولس ووعدها أن يقيم قربها: إكراما لأمك وإكراما لك يا بنتي، ويا ليتني توفقت في شبابي إلى هذه السعادة التي أنعم الله بها عليك يا عارف، ليتني ألهمت إلى مثل شهامتك ومروءتك ووفائك، بارككما الله ومتعكما.
ثم قالت مريم تخاطب زوجها: قم بنا نطلع إلى الكرم إكراما لفريد، احمله على ظهرك، امش قدامي على مهل، لا تسرع فالمشي يتعبني.
وبينا هم سائرون في البرية جلست تحت صفصافة تستريح وقد اعترتها نوبة سعال شديدة، فسألها زوجها: أمن زمن تسعلين؟ - منذ أشهر، ولم تشتد علي الوطأة إلا في هذا الشهر. - وهل استشرت الطبيب؟ - لا تسل عما يزيد بآلامي.
ثم نهضت مستنشطة تظهر من الضعف قوة ومشت مصعدة حتى وصلت إلى الكرم على رأس الجبل. - ما أبدع هذا النهار، وما أجمل المشاهد حولنا! تغيب الشمس فتودعها حمائم البحيرة نائحة باكية، ثم تشرق فتستقبلها نائحة باكية، كأنها تدرك ما لا يدركه الإنسان من أسرار الحياة وحقائق الوجود، أنا بائسة يا عارف وأنت قليل الحظ، سيئ الطالع، عدت إلي مستعطفا مستغفرا يوم لا أستحق أن أرى وجهك ولا أن أسمع كلماتك، لقد تدنس جسمي، وتدنس قلبي، وتدنست نفسي، آه أواه! حياتي نغمة من نوح الحمام، حياتي قطرة من دم طائر مذبوح، حياتي شعاع من هذه الشمس الغاربة، شعاع لامس الأرض فتبدد نوره، نقطة دم امتزجت بالتراب فاعتراها الفساد، أغنية سمعتها آذان البشر فضحكت منها قلوب البشر، راقصة ...
فقاطعها فريد وهو قادم إليها يقول: ماما، هذا عنقود للبابا. - خذه منه، هذا عنقود السعادة، إذا ظل على الدالية يبلى، وإذا قطف لا يدوم، بل هذا الصغير الحبيب عنقود سعادتنا، ويلاه! لولاه اليوم لكنت سعيدة، لولاه لعرفت ما أفعل، لعرفت مصيري، لقررت أمري، لأنهيت حياتي. - ما بالك يا حبيبتي، ولم هذا اليأس؟ إذا كان مرضك يقلق بالك فمرضك إن شاء الله يزول، غدا أعود بك إلى حيفا نستشير الطبيب، وإن كنت لا تحبين الإقامة هناك فأقيم وإياك حيث تشائين، ننتقل إلى لبنان، إلى مصر، إلى باريس، إلى حيث يميل قلبك. - قلبي لا يميل إلى شيء، كان قلبي نارا موقدة فصار رمادا، وبلاد الله في عيني كالغور، وحياتي كالنبع المالح الذي شاهدته اليوم، الكامن في الأدغال تحيط به الدفلى وورق البردي والقصب والشوك، فإذا اخترقتها سالما تشاهد غديرا بهيجا مترقرقا يركض إلى البحيرة منشدا نشيد السرور، فتهتف قائلا: ما أجمل وجهك في ظلال الدفلى والقصب، وما أبدع صوتك في سكينة الأدغال! ولكنك إذا شربت منه تجد مياهه مذقة مالحة. - كفاك من هذه التأملات المحزنة، كفاك من هذه الأوهام، تعالي نشاهد من ذاك المطل مشهدا يزيل الأكدار ويبهج القلوب. - أين فريد؟
ونهضت مريم مذعورة تتلفت منادية ابنها، فأجابها من تحت الدكة ثم صعد الدرجة وجاء راكضا هاتفا: ماما، ماما، عسفول، عسفول.
وكان الولد قد رأى عصفورا متفلتا من قضيب نصبه هناك أحد الصبيان ولم يزل على جنحه شيء من الدبق، فلحقه وأمسكه وجاء والديه يريهما إياه بهجا طربا: عسفول عسفول، مسكته تحت الهفه.
فتأمله عارف وقال مخاطبا عروسه: قلبك مثل جنح هذا العصفور، حط على قضيب الصائد ثم تفلت ولم يزل الدبق عليه يمنعه من الطيران، لذلك أنت حردة يائسة. - وما أقل حظ من يمسكني ويغسل جنحي، تعال يا حبيبي نمشي والبابا. - ماما، بكله أغسل العسفول وأربطه بخيط. - برافو فريد، برافو! لقد رد صغيرنا عليك وأفحمك، اركب على ظهري، هات يديك، مكن رجليك، امش قدامنا يا حبيبتي فنماشيك، على مهل، على مهل.
ولما وصلوا إلى ذاك المشرف العالي بدت البلاد أمامهم في حلة باهية حاكتها شمس المغيب، فأكسبت مروجها رونقا وآفاقها اتساعا، هنا سهل الغوير يزدهي ببساتينه وتترقرق فيه الينابيع ماء طهورا، وماء أجاجا، وهناك إلى جوانب البحيرة جبال شامخة قائمة كالقلاع على ضفاف البحار، وسواد أحراجها وأدغالها يستحيل من نور المغيب ازرقاقا فاحمرارا فاصفرارا، والبحيرة كالطفل على صدر أمه هادئة ساكنة تنصت إلى هديل الحمام وتسمع فوق الهديل حفيف أجنحة النسور، وهنالك شمالا يبدو جبل الهرمل أبيض اللمة يحيي الجبال المتوارية وراء قمة طابور، والشمس فوق الناصرة المحجوبة عمن وقف فوق سهل الغوير تشع بأشعتها الصفراء المائتة فتملأ السهول المنورة حزنا وتصفر لفراقها وجوه الربى، وفي هذه السكينة يسمع الواقف على ذاك الجبل طنين أجراس المواشي عائدة إلى زرائبها وأجراس خيل العربات في الطريق المختبئة تحت جفن الجبل.
فقالت مريم وهي في وسط ذا المشهد: أجمل وأحزن ما فيه؛ غروب الشمس غروب الحياة.
ثم ضم فريد صوته إلى أصوات الحمام والأجراس سائلا: بابا، أين تلوه الشمس؟ - تسوح في الأرض يا حبيبي. - وبكله تلزع؟ - بلى. - وليس تلوه الليلة إذا كانت بدها تلزع بكله، ما تتعب من المسي في الليل؟
فضحك أبوه وقال مطمئنا: غدا نعزمها تبيت عندنا.
فضرب فريد كفا على كف هاتفا: أيوا، وبكله أنام أنا والسمس، أنا أهب السمس.
فضمته أمه إلى صدرها وجعلت تقبله ضاحكة باكية.
ولما عادت وإياه وزوجها إلى البيت كان القس بولس والقس جبرائيل ينتظرانهم للعشاء، وكانت لطيفة قد أعدت لهم مائدة فخمة من سمك البحيرة المشوي والمقلي، ولحم الضأن المطبوخ بالخمر والدجاج المحمر والأرز المفلفل والمحاشي والرمان المفروط بالسكر، والجبن والعسل وتوابعهما، فقدمت الألوان دفعة واحدة على طبق كبير من النحاس الأبيض الشامي المنقوش، وهي تقول: لو كنت أحسن الكتابة يا بنتي مريم لكتبت لك لائحة الطعام، تفضلوا.
ولم يفهم غير مريم هذه الإشارة، فابتسمت وأشارت إلى لطيفة أن اسكتي، وجلس الجميع على مساند إلى المائدة، ولطيفة واقفة تنتظر الأوامر وتقص عليهم بين الفصل والفصل من قصص فريد وعجائب ذكائه.
وقد كان إصغاء مريم إلى هذا الحديث أكثر من أكلها، وبعد العشاء قدمت القهوة وجاءت لطيفة بأركيلة إلى سيدها عارف أفندي، وخرجت ومريم إلى المصطبة قدام الباب تستنشق الهواء، ثم عادت تقول لزوجها: غدا نسافر من هذه الأديار، لا أقدر أن أعيش هنا، الوحشة تروعني، والحر يهلكني، أكاد أختنق. - مؤكد، مؤكد، سنسافر غدا.
ودخلت مريم إلى غرفتها تخلع ثيابها، ثم جلست أمام الشباك تتأمل الظلمات المخيمة على السهول والجبال، وكان الليل ليل الغور هادئا خامدا ساكنا لا يحركه من أصوات الأرض غير خرير الينابيع التي لا تسمع في النهار، وصرير الجنادب الذي لا يتعشق غير الظلمة ولا يتحمس في أناشيده لها إلا إذا سكت الليل من شدة الحر منصتا، وكانت ترى بين الأدغال وفي جوانب الربى أقساما من مجاري المياه تتلألأ كأنها سيوف وحراب امتشقتها العبيد السود ليدفعوا عنها بلية مقبلة، نظرت إلى السماء فرأت النجوم تهتز فيها كأنها دراهم في يد بخيل أو أزاهر من النيلوفر في بحيرات يداعبها النسيم.
شربت مريم كأسا من يد الليل فزادتها أرقا وغما، نظرت من شباكها في وجه هذا الليل الأسود، وفي عيونه المتعددة البيضاء الصفراء، فهالها جموده وسكوته وأرقها منه تلك اليد الممدودة تحمل كأسا أخرى؛ كأس الذكرى والأسى، وكأنها سمعت تنهداته وهو واقف أمامها حزينا مثلها يقول: تعالي أحملك إلى بلاد النسيان، تعالي أسقيك في بيتي غير هذه الكأس، في بيتي عند باب الشمس.
أحست مريم بشيء يشتعل في فؤادها، بل كادت تسمع فيه تأجج النيران، فهتفت صارخة: ليت شعلة من الجحيم تحرق جسدي، جسدي هذا الذي تضن به نفسي علي.
وراحت إلى الباب فأقفلته، ثم عادت تفكر بما جرى لها في فترة من الزمن قصيرة، وبما صادفته من أسباب السعادة التي تسعد أية فتاة في غير حالها. - لقيت ابني بعد أن ظننته ميتا، لقيت أبي فإذا هو أب محب حنون رقيق الشعور كريم السجايا عظيم الخلق، وعاد من قطف زهرة حبي يستر حملي مستغفرا فاعتنق ذنبي وتزوج عاري، أرى حولي أيادي لا تتحرك في غير خدمتي، أسمع حولي أصواتا لا تردد غير كلمات الحب والمعروف والعطف والحنان، القس جبرائيل يغمرني بإحسانه، والدي يدهشني بعطفه وحنانه، عارف يحزنني بمروءته وشهامته ووفائه، وولدي ولدي! آه من نغمات صوته وأزاهر ابتسامه وضياء نظراته، لولاها لكنت سعيدة، لسلمت نفسي إلى الليل يحملني إلى عالم النسيان يدفنني في قلب ظلماته، نعم نعم، بنوا لي هيكلا من أزاهر السعادة فدخلته فإذا هو خربة تصفر فيها الرياح، آه ثم أواه، ما أجملك، أيام الصبوة! أيام السذاجة، ما أبهاك! يوم كنا نقطف زهرة الأقحوان فنعد بتلاتها مؤمنين بما تقول واثقين بما تحكم كأنها صوت من السماء، واليوم اليوم؟ إن أصوات السماء المتجسدة حبا وإحسانا لتقع على آذان منا صماء وقلوب مستحجرة، ربي ما أجمل جسد الحب، وما أقبح نفسه! ما أبهجه في عيني، وما أكرهه في فؤادي! ما أجمل الفضيلة بعيدة وما أقبحها قريبة! تنادينا من العلاء فننصت إليها ونجيبها ونسعى إليها طاقتنا، ثم تلمسنا بيدها المحناة بعناء الجميل فننفر منها هاربين.
وسمعت إذ ذاك بومة تنعق فاستنكرت صوتها ونهضت عن الكرسي مذعورة، فجلست على الديوان قرب السرير تمسح العرق المتصبب من جبينها ووجنتيها وصدرها، فعثرت بالذخيرة المعلقة في عنقها، فجعلت تقبلها مناجية أمها، وذكرت الليلة التي حلمت ذاك الحلم، فسمعت أمها تقول لها: اخرجي من القاهرة. - خرجت من القاهرة التي فزت فيها وسقطت فيها، وها أنا في محيط من السعادة أسمع أصوات الحياة ؛ حياة الفن، حياة الجهاد، حياة المجد، حياة الشقاء، فأود أن ألبيها، أمي، أمي! أنت الوحيدة التي لا يغير البعد ولا القرب حبها ولا الموت ولا الحياة، ليتك الآن إلى جانبي أشعر بلمس يدك وأسمع صوت حنانك اللذيذ.
وقفت أمام الشباك كأنها تنادي أمها، فسمعت زوجها يطرق الباب فلم تفتح، فظنها عارف نائمة وعاد إلى غرفته، ولكن مريم حاولت أن تنام فحال الحر دون رغبتها فخرجت من غرفتها إلى الفناء تمشي حافية على البلاط، فسرت في رجليها إلى قلبها نفحات باردة أنعشتها، ثم تحرك الليل فهب نسيمه فبرد جسمها المحترق وجفف العرق المتصبب منه، ولامست نفحات السحر جفنيها فأخذها النعاس.
دخلت غرفتها ونامت ساعة فأيقظتها نوبة من السعال شديدة أقامتها فجأة من سريرها، فسمعها عارف تسعل فنهض من فراشه مسرعا وجاء يحمل شمعة مضيئة، فتح الباب ودنا من مريم يسند رأسها وهي تسعل، فأحس برعشة غريبة مضنكة إذ لامست يده شعرها المبلل بالعرق البارد، وجمد الدم في عروقه حين رأى الدم في الطشت أمامه، فمرت في مخيلته كالبرق صورة عمه القسيس وسمع صدى لعنات رددها في قلبه.
عادت مريم إلى سريرها فجلس عارف على كرسي إلى جانبها يربت يديها ويواسيها. - اتركني يا عارف، لا بأس علي وحدي، رح نم يا أخي، رح نم، أعطني الإبريق قبل أن تتركني، وملعقة من تلك القنينة، سلمت يداك، اتركني الآن، وأقفل الباب.
الفصل الرابع والعشرون
كان القس جبرائيل منشغلا بفحص أوراق له قديمة حينما دخل عليه القس بولس والقلق باد في وجهه، فحياه يسأله عن حاله: وما لي أراك مضطرب البال؟ - هل أخطأت في ما فعلت؟ - لم أفهم ما تريد؟ - هل أخطأت في جهري أن مريم بنتي؟
فعمد القس جبرائيل إلى أوراقه يقلبها وهو يقول دون أن ينظر إلى أخيه الراهب: وهل أنت مرتاب بما تظنه حقا؟
ثم دفع إليه تلك الورقة التي لقيها عند حمامات طبريا لما كان هناك واحتفظ بها، فقرأ ما فيها القس بولس مدهوشا وقد علم أنها من أوراقه، من أوراقه ، وبخط يده. - فيها جواب على سؤالك. - نعم، نعم، وفيها ما هو أرسخ بنفسي من التعاليم الدينية والأدبية، هذا يا قس جبرائيل من أوراقي، أنا كتبتها وحق ما كتبت: «لولاك يا ربي لمن يعترف المجرم الأثيم»، «الاعتراف مرهم النفس» حق هذا، حق ما كتبت، وبهذا أبشر، وبهذا أنا عامل، ولكني أحس من نفسي الآن وهنا فاعذرني إذا لجأت إليك، العلم لا ينفع في الشدات نفع نفحة من نفس سامية أو شذرة عزاء وتشجيع من ذي خلق مجيد عظيم، فلا تضن علي باليسير من كثيرك، إني متيقن يا قس جبرائيل أن أيامي ستكون كلها سوداء إذا قضيتها بعيدا من بنتي، وإذا أقمت معها أو قربها أكون عليها وعلى زوجها منشأ عار دائم وبلاء مستمر، أنا معذب بين واجبين؛ واجب بشري وواجب إلهي، بنتي أحبها ولا أطيق وحياة الله فراقها، ولما جهرت بالحقيقة أمام عارف زلقني ببصره كأن يرميني بأفظع الآثام، طعنني طعنة أدمت فؤادي كسرت نفسي، فعلمت آسفا أن من المستحيل أن أرى ابنتي بعد أن تنتقل إلى بيته. - ستراها هنا، ستجيء مريم من حين إلى حين في فصل الشتاء لتقضي عندنا بضعة أسابيع. - ولكنها لا تقيم وزوجها بلاي. - كلام النساء، فإنها لتنساك حين تشفى من مرضها وتنساني، فتنصرف عنك وعني إلى زوجها وولدها. - وهل تظنها تشفى من ذا المرض، إني لأخشى عليها منه، ولا أحب أن أفارقها ما زالت مريضة، أسفت لجهري المبتسر، ليتني لم أفعل. - إن ما فعلت حق، وقد تكون واهما في ما تظنه بعارف، فهو كريم الأخلاق شريف النفس. - لا أنكر ذلك، ولكنه لا يطيق أن يرى في بيته الراهب الذي هو والد زوجته، ولقد طالعت ذلك في عينيه، ولا لوم عليه، على أني أظن أنه مساق إلى ما فعل بما تقول أنت يا أبتي، لا تسئ فهمي، أظنه وزوجته ينجذبان إليك مطيعان لك، عاملان رغم إرادتهما بمشيئتك، ولا أظنهما يعيشان سعيدين، إذا شفيت البنت من مرضها. - يا قس بولس، أنت أطول مني باعا في العلم والفلسفة والآداب ، ولكن نفسي ترى ما لا يراه علمك، إنما رجل الله يا قس بولس من عمل بحق الله، واقتبل شاكرا مستسلما كل نتائجه وعواقبه، وحق الله ما تم عندنا البارح، وحق الله أن نعيش صادقين مخلصين وإن عشنا تعيسين بائسين. - وأنا اليوم كسير القلب، كسير النفس، بل أنا اليوم أشد الناس بؤسا وبلاء بنتي، بنتي، حرمت رؤيتها عشرين سنة ولم أنسها يوما واحدا، واليوم وقد حقق الله بغيتي القصوى يفسدها علي عبده، أيمنحني الله نعمة فيحرمنيها الإنسان؟ لا وحياة الله لا، سأقيم قربها ولو متنكرا سأزورها ولو شحاذا. - لو كنت خامل الذكر لاستطعت ذلك، ولكنك معروف مشهور حيث سرت وحيث أقمت، والجرائد اليوم تلهج بذكرك، وا أسفاه، اقرأ ما كتبته عن غصن البان وأصحابها الرهابين، قد وصلتني هذه الجرائد اليوم.
طالع القس بولس مقالة في إحداها ونهض يلطم خديه ومنكبيه: «قد فتن القس بولس عمون الواعظ الشهير بغصن البان الراقصة وفر هاربا وإياها.» هذه الكلمات في الجريدة سملت عينيه ومزقت أحشاءه - رحماك ربي! رحماك ربي! إن بلايا أيوب كلها لو بليت بها لأخف علي من هذه البلية، سأطلعهم على الحقيقة، سأطلعهم على الحقيقة، نعم نعم من السر سريرة ألبسه الله رداءها، ليعلم العالم إذن بدخيلتي، بسري، بذنبي، بعاري.
وعمد إلى القلم والورق يكتب كتابا عموميا إلى جرائد القاهرة، يقول فيه: إن غصن البان بل مريم الناصرية هي ابنته من لحمه ودمه، وشخص تلك الساعة إلى طبريا فسلم الكتاب إلى مدير البريد هناك فنفثت بعض كربته، وعاد إلى البيت في الغوير ماشيا يجتاز في طريق جميلة تطوق الربى إلى جانب البحيرة متغلغلة في البساتين منسابة في الحقول، فدخل المجدل والشمس تميل إلى المغيب وجلس إذا وصل إلى تلحوم يستريح، فشاهد في خرائب تلك البلد ما رسمته الشمس في أطلالها من الأظلال والأضواء المتقطعة، فقال في نفسه: وما أشبه الدين اليوم والبر والتقوى بهذه الخرائب المقدسة وما يتخللها من نور زائل وظل يميل إلى الزوال، وكل ينكر الشمس ويظنها ذراعا من النور؛ نور الله الأزلي الأبدي، وأنت أيتها الشمس، بل أنت أيها السيد المسيح محجوب سناؤك، مشحوب بهاؤك، الويل لك يا كفر ناحوم، الويل لك يا بيت صيدا، يا كفر ناحوم مصر، يا كفر ناحوم فرنسا، الويل ثم الويل لك، بل الويل ثم الويل لكتبة هذا الجيل وفريسي هذا الزمان، وأنا منهم، أنا القس بولس عمون، أنا إيلياس البلان منهم، أقمت بينهم خمس عشرة سنة، اردد رطاناتهم، وأزين خزعبلاتهم، وأسلك مسلكهم، عابدا تزاويقهم، متناهيا في سبيل معبوداتهم، بلى، بلى، أفلم يرقني رقص غصن البان فحملت عليه؟ أولم أقل في نفسي ليس في ذا الرقص ما يفسد الأخلاق ويخل بالآداب ثم نددت به من على منبري؟ قريبا، أحسست بميل إلى تلك الفتاة وفنها فلعنت الاثنين؛ لأن التقليد كان مستعبدا نفسي والخبث مالكا معقولي، ارحمني يا الله حسب رحمتك وحسب كثرة رأفتك امح معاصي، ومهما كان من أمري وأمر بنتي فإن حناني الأبوي - اللهم - حنانك، وما حبي اللهم إلا ذرة من حبك.
صلى القس بولس في خرائب كفر ناحوم صلاة المساء وعاد إلى البيت يناجي نفسه ويقول: الرقي الحقيقي والدين الحقيقي والآداب الحقيقية إنما هي في خروجنا من أنفسنا حين يتهدم هيكلها وتغيب شمسها، حين تمسي بلى، بلى. ولماذا حمل بياني على ما أقره وجداني؟ لأني ولا مشاحة كنت كالطلل الدارس في الغور الدامس، حين تمسي مثل كفر ناحوم.
نام تلك الليلة وفكرة جديدة تشرق في نفسه، وفي صباح اليوم الثاني أخبره عارف بما قاسته مريم ولامه على مجيئهم بها إلى الغور. فقال القس بولس: والأجدر بك أن تلوم عمك. - عمي؟ لا أدري ما يصنع عمي، أعماله تحير العقول.
ثم جاءت مريم تقبل يد أبيها وتقول: سنسافر اليوم، هذه الساعة، ألست متأهبا يا أبي؟ - لا يا بنتي، لا يمكنني أن أسافر وإياكم، ولا أن أقيم في المدينة معكم، ولكني سأزورك من حين إلى حين.
فصاحت مريم وقد اغرورقت عيناها: أتهجرني أبي؟ أتهجرني في شدتي. - ولكن زوجك يا بنتي خير رفيق وخير أب لك. - لا وحياة الله! لا أسافر بلاك، سأبقى هنا، سأقيم وإياك وولدي حيث تقيم، وسأخدمك وأكون لك ابنة محبة طائعة لا يهمها في العالم غير ابنها وأبيها. - ولكنك في حالة تقضي عليك بمشورة الطبيب، وتقضي علينا بخدمتك والاعتناء بك. - ولماذا تتركني إذن، دخيلك أبي، تعال معنا.
فقال عارف معقبا بلهجة باردة على كلام مريم: تعال يا أبتي معنا، تعال وعمي تقيمان في البيت عندنا على الرحب والسعة، وليس ما يوجب عليك أن تطلع الناس على دخيلة أمرك.
فقال القسيس والنار تحتدم في ناظريه: ليس ما يوجب علي الصدق والإخلاص؟ أنت شاب يا ابني تبتسم للحياة فتبتسم الحياة لك، ولا تدرك ما في أعماقها من البؤس والشقاء، أطلعتك على سري فازدريتني ولا حق عليك، ولست أنا لصا ولست نبيا، فأسلبك راحتك وأنذرك بما قد يكون من أمرك، كشفت لك سري؛ لأني لا أريد أن أخدعك فتخدع نفسك وتخدع زوجتك، فهل تنكرني الآن فتخدع الناس وتخدع الله؟ سأبقى بعيدا منك وإذا أنكرتني أنا عمك والد امرأتك فلا أحرك ساكنا في تكذيبك، اعمل ما تشاء وما تطمئن له نفسك ونفس زوجتك. - لا تطمئن نفسي يا أبي إلا بقربك مني، والدي العزيز لا تهجرني بعد أن لقيتني، هذه ذخيرة أمي على صدري أستحلفك بها أن تسافر وإيانا وتقيم عندنا، وإذا كان عارف لا يريد ذلك فأنا أفضل الإقامة وإياك في هذه البرية، فأموت بين يديك سعيدة، نعم، نعم، أفضل أن أموت بقربك على أن أعيش بعيدا منك.
وجاء إذ ذاك القس جبرائيل يقول: وهل وطنتم النفس على السفر؟ فقال عارف: نعم. وقالت مريم: لا.
فأسر القس جبرائيل إلى القس بولس كلمة، ثم قال: سافري يا بنتي مع زوجك وولدك، وبعد يومين أزورك والقس بولس في بيتك الجديد، وإذا اصطفتم في لبنان نرافقكم ونقيم وإياكم هناك. - أصحيح ما تقول؟ أتسافر وإيانا إلى لبنان يا أبي، إذن لنسافر من هنا. - ذلك مستحيل، ينبغي لي أن أعود اليوم إلى حيفا لقضاء بعض حاجات وسنسافر إذا شئت من هناك بحرا. - ليكن ذلك يا بنتي، سافري اليوم وزوجك. - وهل تسافر وإيانا إلى لبنان. - نعم، نعم. - وبعد يومين أشاهدك بحيفا عندنا؟ أتزورنا بعد يومين؟ - نعم، نعم. - ونسافر يومئذ إلى لبنان. - نسافر إلى لبنان.
وبينا كان القس جبرائيل يتناول العشاء وضيفه ليلة ذلك النهار خاطبه قائلا: ما ضرك لو أقمت عند بنتك؟ - لا يضر ذلك بي بل يضر بها وبزوجها. - وهل أنت متيقن؟ هل أنت مؤكد أن عملك هذا إنما هو إكراما لهما فقط، لا تجبني على هذا السؤال، أجب نفسك، أجب ربك. - كل كلمة من كلماتك يا قس جبرائيل تفتح بابا من الحق للنفس وبابا من العذاب. - والعذاب في سبيل الحق عذب، وإنه لمحتم علينا قبول ما جره السالف من أعمالنا وذنوبنا، القضاء لا يرد، والله سبحانه لا ترد أحكامه، وإن الحقيقة التي تطهر النفس لفوق السعادة، أي نعم، وما شأن السعادة يا ترى إذا قابلناها بفضائل النفس السامية، بالصدق والإخلاص والبطولة والصبر والاستشهاد في سبيل الحق، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، ما كان مكتوما سيعلن وما كان مختبئا سيظهر، لتكمل مشيئة الله.
فطأطأ القس بولس رأسه مرددا: لتكمل مشيئة الله.
وفي صباح اليوم الثاني نهض باكرا يودع القس جبرائيل. - إلى أين يا أبتي؟ - إلى حيفا.
فأحنى القس جبرائيل رأسها قائلا: رافقتك السلامة.
الفصل الخامس والعشرون
وقفت مريم في شرفة البيت بحيفا تنظر تارة إلى البحر وتارة إلى جبل الكرمل ثم تدور ببصرها وبقلبها إلى فريد الواقف قربها يسائلها عن البواخر في المرفأ، البحر فالسفر فالحرية فالجهاد فالإقبال فالمجد، لقد لاحت هذه الكلمات في جوانب نفسها كوميض البرق فأنارت هنيهة ظلامها واستفزت الخامد في منازعها.
ونظرت إلى الدير على قمة الجبل المقدس فأخذتها رعدة دبت إلى صدرها فأثارت كوامن غمها، ذكرت أيامها في الدير بالناصرة فصعدت الزفرات، وذكرت يوم سافرت من هذا الشاطئ ومدام لامار فاعترتها هزة أيقظت فيها رواقد الرغبات والهمات.
وهب هواء البحر فوق البساتين يحمل إليها شذا الورد والفل والياسمين فأنعش فؤادها وأحيا المائت من آمالها، فجثت أمام ولدها تضمه إلى صدرها، وتقول: شفيت يا حياتي، شفيت يا عمري، وغدا نسافر، غدا، غدا.
وكان زوجها وهو ينتظر قدوم الطبيب جالسا على الديوان في فناء الدار منقبض النفس مستسلما إلى الأفكار والهواجس: إذا كانت تفضل أن تقيم ووالدها لم قبلت بعقد الزواج يا ترى؟ ولكنها معذورة، المرض يذهب بمحاسن الخلق والخلق، وهذا الراهب أبوها، راهب مجنون، سيجيء غدا بيتي يقيم فيه وابنته، على رأسي الابنة، أما الأب؟ فلا أعرفه ولا أحب أن أعرفه، لا والله، حسبي ما اقتبلت وما قاسيت، أمي أبي أهلي الناس كلهم ينظرون إلي شذرا ويضحكون مني، وإذا علموا بأمر الراهب يسلقونني بألسنتهم، تأكلني نار الشماتة والسخرية، لا والله لا، إذا جاء هذا البيت يجد الباب مقفلا دونه، ليرجع إلى ديره يستر فيه عاره.
جاء الطبيب يلهث وينفخ مستعيذا بالله من الحر والغبار، فجلس على الديوان يستريح ونزع طربوشه يمسح العرق المتصبب من جبينه، وبعد أن شرب كأس الشربات الذي قدم على صينية من الفضة، دخل إلى غرفة مريم ففحصها فحصا بسيطا؛ جس نبضها، وأخذ حرارتها، وألقى رأسه على صدرها ثم قال: ظننت الأمر خطرا يا خواجة عارف فجئت كما ترى مسرعا، فلا شيء والحمد لله يزعج البال، التهاب خفيف في شعب الرئة ودرجة واحدة من الحمى.
وكتب الوصفة وسلمها إلى الخادم، وجلس على الديوان يدخن بالأركيلة التي أعدت له ويشرب القهوة، وبعد أن هنأ عارفا وطمأنه وباحثه في القديم والحديث من أخبار الدولة والدول ودع وانصرف.
ولكن عارفا ظل مشككا، وبعث يستدعي الطبيب الإفرنجي الشهير ليتحقق ما قاله الطبيب السوري، فعاد الخادم يقول: الحكيم يكون هنا الساعة الثامنة مساء، والموعد في لغة إفرنج الشرق وقت غير محدود، ففي الساعة التاسعة سمع ضجيج سيارة في البستان، سيارة الحكيم! دخل حضرته والقبعة في يده، فسلم باللغة العربية التي يحسن شيئا منها، وراح توا يفحص المريضة فحصا دقيقا؛ وضع قلم الحرارة في فمها وأخذ نبضها يجسه والساعة في يده الأخرى، ثم فحص لسانها وقبض على لحيته واجما، ثم استخرج من جيبه آلة فوضعها على صدرها وظهرها يستطلع خبر رئتيها فهز رأسه مرتابا، ثم ضرب بقضيب من النحاس عظم ساقها وقطب جفنيه، ثم سألها أن تمد يدها وتبسط أناملها فشاهد فيها اهتزازا قليلا، فضجرت مريم وتأففت ولم تجب الطبيب إلا على بعض سؤالاته المتعددة.
خرج حضرته وعارف إلى فناء الدار يحدثه بأمرها، وسأله سؤالين امتقع لهما وجهه ولم يدر ما يقول جوابا: مرض الست على ما يظهر مزدوج، يلزمها راحة بال وهواء نقي وغذاء، لتفتح شبابيك غرفتها ليل نهار، لتلازم سريرها بضعة أيام، وبعدئذ انقلها إلى الجبال؛ جبال لبنان حيث يكثر الصنوبر، وسأعودها بعد يومين.
ودفع إلى عارف الوصفات التي خطتها أنامله وأملاها عليه علمه الغزير؛ أربع وصفات لا غير. - لتشرب من هذا قبل الأكل ومن هذا بعده، ولتدهن من هذا، ولتتنشق من هذا. - وهل من خطر على حياتها؟
فبزم الحكيم شفتيه وذوى ما بين عينيه وأمال برأسه مفكرا، ثم قال: في كل مرض خطر على الحياة وأمل بها، والأمل بشفاء الست أكبر من الخطر.
وأمر عند الوداع أن تفرد أواني الأكل والشرب عن أوانيها، فعاد عارف يهز رأسه ويقول: هذا ما توقعت، هذا ما خشيت، وخطر في باله أن يسأل الحكيم سؤالا آخر فلم يلحقه في الباب، كر دولاب السيارة وراحت تهدر خارج البستان.
وفي اليوم الثاني أحست مريم بتحسين في حالها، ولم تفتح واحدة من القناني التي وصفها النطاسي الإفرنجي الشهير، ونزل عارف إلى مكتبه يتفقد أشغاله، فسمع من أقوال الناس والإشاعات عن امرأته وأبيها الراهب ما أثار شجونه وهاج كوامن غيظه، وعزم أن ينقل مريم إلى لبنان ريثما ينتسى أمرها.
وبينا كان عارف في مكتبه جاء القس بولس، وكان قد وصل ذاك اليوم ليتفقد ابنته، فوقف في باب البيت بحيفا كما وقف في ذاك الباب في شارع قصر النيل. - مستحيل يا محترم الخواجا في المكتب، الست مريضة والطبيب لا يؤذن لأحد بمقابلتها. - هذا قانون للغرباء. - لكل الناس يا محترم. - لا بد من أن أدخل.
وهم القس بولس بالدخول فأوقفه الخادم قائلا: لا لوم على خادم يعمل بأوامر سيده، أرجوك أن تخرج.
فصاح القس بولس به: ياو ياو! سيدتك بنتي، بنتي، ألا يؤذن لوالد أن يرى ابنته؟ - لو جاء السلطان اليوم ما أذنت له بالدخول.
فطأطأ القس بولس رأسه وانثنى راجعا، فجلس تحت نخلة في البستان ينظر إلى البيت والنفس منه حزينة حتى الموت.
وكانت لطيفة ربيبة فريد قد سمعت ما دار من الحديث بين الخادم والقسيس فجاءت مسرعة تخبر سيدتها، فاستشاطت مريم غيظا وراحت تنادي أباها فالتقت بالخادم في الباب. - ومن أعطاك هذه الأوامر؟ - الخواجا عارف يا ستي. - داهتك داهية أنت والخواجا عارف.
وخرجت إلى البستان تنادي - أبي أبي! فسارع القسيس إليها مجيبا وجلس وإياها على مجلس في الجنينة تحت النخيل. - أزورك هنا يا بنتي، لا أدخل البيت. - بلى، بلى، دخيلك أبي. - وغدا أزورك يا بنتي، أنا مقيم في النزل، وسأظل في البلد إلى أن تشفي، وسأزورك هنا في البستان كل يوم. - ولكن الطبيب أشار بالسفر إلى لبنان. - فأسافر وإياك كما وعدت.
وفي تلك الآونة جاء عارف عائدا من مكتبه فسلم على القس بولس ولعنه في قلبه، فقالت مريم مخاطبة زوجها: أفلا تريد يا عارف أن يزورني أبي؟! أمرك يا سيدي مطاع، أمرك مطاع.
ثم ودعت أباها قائلة: سأزورك أنا في النزل يا أبي، ولا أكلفك إلى ما فيه إهانتك.
ودخلت وزوجها إلى البيت تصر بأسنانها وتحاول كظم غيظها، فلم تنم تلك الليلة إلا قليلا.
وفي اليوم الثاني اشتدت وطأة الحمى عليها، واستمرت تصعد الحرارة حتى درجة الخطر، فبعثت تستدعي أباها إليها فجاء مسرعا، دخل الغرفة فوجد عارفا جالسا إلى جانب السرير منكسا رأسه، وسمع مريم تهذي فهتفت إذ رأته: أبي، أبي، أقم عندي، قربي، لا تفارقني، سأموت، سأموت، ولكني أموت سعيدة وأنت قربي، إلى جانبي، لقد انشرح صدري الآن، قد زالت آلامي، شفيت، شفيت، وغدا نسافر إلى لبنان، غدا صباحا، أنا وإياك وفريد، نقيم في ظلال الصنوبر، سأرقص في ظلال الصنوبر، أتلو عليك قصيدة الابنة الحزينة البائسة ، الله ما أجمل أنغام الكمنجة، الكمنجة وحدها، وحدها، أنغامها تذيب قلبي، تطرب نفسي، سكرة الحياة ما أحبها، سكرة الموت ما أبدعها! أيها الشاعر نفسي الليلة حزينة، حزينة حتى الموت، سأموت وأسافر إلى باريس، إلى باريس، الله ما أجملك يا باريس، تموج شوارعك بالناس، بالأزياء، بالأبهة، بالجمال، بالفنون، ضجيج شوارعك وقهاويك مثل الأغاريد في أذني، العربات والسيارات والجماهير والبوليس في وسط الشارع رداؤه على كتفه وصولجانه الأبيض في يده واقف، ما ألطف بوليسك يا باريس وما أعظم سطوته! وأنوارك والناس في بهائها رائحين جائين كل إلى جنبت من يحبه ويهواه. وها قد جاء المعاز بقطيعه
1
ما ألطف قصب المعاز وطنين أجراس القطيع، جاء المعاز: حليب، حليب، هاتي يا بنت دلوك، قصب الراعي في أسواق باريس، اسمعوا قصب الراعي، وغدا نسمعه في لبنان، غدا، غدا أموت، آه، أواه، غدا أموت ولا أسمع صوت أجراس القطيع، عارف أستغفرك هات يدك، سامحني، أنا مائتة، أنا مائتة، خذ يد أبي صافحه واستغفره، استغفره يا عارف، لله ما أحلى الصفاء وما أجمل القلوب الصافية اسمعوا صوت القصب، اسمعوا صوت أجراس القطيع، سأرقص لكم على أنغامها، سأرقص لكم رقصة الابنة الحزينة البائسة.
وهمت أن تنهض من سريرها فلم تستطع، هاج الهذيان سعالها، وأنهكت الحمى قواها.
وجاء يومئذ النطاسي الإفرنجي يعودها، فوجدها في تلك الحال فوصف لها الحمامات الباردة.
ثم جاء الطبيب السوري فوصف الكينا، وقال مستعيذا بالله: الحمامات الباردة تجهز عليها، تجهز عليها، هي نوبة حمى يا خواجا عارف وستزول غدا أو بعد غد إن شاء الله.
الفصل السادس والعشرون
وفي لبنان دواء للنفوس شاف، ودواء للأبدان، على ربوة بنية الأديم زاهرة الجوانب، بين قمم تحتها خضراء، يعطر الصنوبر هواؤها، وقمم فوقها بيضاء، ثلجها لا يزول، في بيت هنالك تحيط الكروم به والغابات، ويشاهد من إحدى شرفتيه الوادي ومن الأخرى البحر، أقامت مريم وابنها وأبوها ثلاثة أشهر مباركة، زاهرة أيامها، صافية لياليها.
وكلما وقفت في الشرفة تنظر إلى البحر بعيدا، وقد بدا في الأفق الغربي كسجف أزرق غامق متدل من السماء اللازوردية، والبواخر والقوارب كالطيور رسمت عليه والسوسن، كانت تجول المطامع والنزعات في صدرها جولات فتسمعها صوتا يردد هاتفا: البحر، فالسفر، فالحرية، فالجهاد، فالإقبال، فالمجد!
وكلما وقفت في الشرفة الأخرى تنظر إلى الوادي العميق القرار، المظلم الجوانب والأسرار، الكثير الأكناف والأخطار، كان يخيل إليها أن بينها وبين تلك المطامع والرغبات وهدة مثل هذه الوهدة عظيمة مخيفة، فيستحوذ الكرب عليها.
ولكن صوت القصب هنالك على تلك الربوة في الجانب الآخر من الوادي صوت مؤنس سماوي إلهي، ينعش قلبها، ويطرب نفسها، فيبعث فيها كامن عزمها، ويحيي الجميل من أحلامها، صوت القصب في المساء المهيب، إنما هو حنين الجبال إلى الجبال، والعشاق فيها إلى العشاق، بل هو حنين القلوب في سجونها، حنين صغار الطير في وكناتها، حنين النفس إلى سرب من النفوس مثلها تنضم إليه فتبسط جناحيها ناشطة جذلة راغبة تقاسم أخواتها السراء في الجهاد والضراء، صوت القصب يناديها، وبينها وبينه وهدة عميقة مخيفة مظلمة، صوت القصب في ذاك الجبل بعيدا، صوت القصب وراء البحار في أسواق باريس.
وفي ذات ليلة من ليالي الخريف بينا كانت وأباها ينصتان إلى حنينه المحزن المطرب المهيج، والقمر وقد أحيطت به الغيوم البيضاء يفرش ظلالها للأحلام وأرباب الأحلام على المروج وبين الصخور وحول الينابيع، نظرت مريم إلى أبيها وخاطبته قائلة:والآن وقد شفيت يا أبي علي أن أعود إلى بيتي، إلى بيت نفسي، إلى بيت قلبي، إلى بيت آمالي وأميالي، ولكن عارفا يجيئنا الأسبوع القادم ليعيدني إلى بيته، هيهات، هيهات! أبي، حبيبي، ولي قلبي، لقد شفيت بفضل الله وفضل هذه الجبال المقدسة، فسأكشف الستار إذن عن مكنونات صدري، أبي، إن في قلبي ما لا أستطيع أن أشارك به إنسانا، ولا يمكنني أن أحب رجلا إلا إذا محضته حبي، وقد كنت أظن أن القس جبرائيل يزدلف إلي ويخادعني، ولكنه علمني ألا أخادع ولا أحابي، حقي أن أعمل بما يوحيه إلي ضميري، بما يطالبني به فؤادي، بما يفرضه علي محض حبي، هذا حق، ولقد طالما قال القس جبرائيل: إنما الحق فوق السعادة، فإذا أقمت وزوجي وفي قلبي ما لا أستطيع أن أشاركه به، في قلبي ما يمسكه الحب عنه، أكون مخادعة، خائنة، ناهيك ببؤسي وغمي، وببؤسه من جراء ذلك وغمه، فلا سعادة في مثل ذا العمل ولا حق، أحلف بالله يا أبي إني إذا أقمت وإياه لا يقيم وإياه قلبي، ولا جزء صغير منه، وما الفرق بين البغي والزوجة التي تهب زوجها جسدها وتمسك عنه قلبها، بل هناك فرق عظيم يظهر في الخداع والخيانة والنفاق، وعندي أن الامرأة التي تقيم وزوجها على هذه الحال إنما هي أشر البواغي وأخبثهن.
لقد تمم القس جبرائيل قصده بي، ليهنأ بذلك، والآن قد أبعدني الله منه أبوح لك بسري؛ بل بسبب حزني وغمي لما كنت في طبريا، فقد كنت أشعر وأنا في ظل القس جبرائيل أنني آلة صماء يعالجني كيف شاء، لا رغبة لي ولا رأي، ولا عزم، ولا إرادة، كنت أشعر أنني عائشة مائتة، أفرغت نفسي من فضائل الحياة كلها فملأها نفوذه علي كربا وحزنا وغما، وأما الآن فأنت رفيقي، أنت أبي، أنت ولي قلبي، وأنت أيضا معذب في شئونك، تجاذبك الحرية ويجاذبك الأسر، إذا أقمت في هذه البلاد فإما أن تنبذ الثوب وإما أن تعيش منبوذا، وفي كل حال تعيش مغموما محزونا مدحورا مذموما.
وهب أنك أقمت في الرهبانية مكرما معززا فهل تسعد أبي في بعدك مني؟ أنا وإن كنت في سابع سموات الإقبال والمجد لا أسعد ولا أنعم في بعدي منك، أبي ذنوبنا تعلمنا الحق، التجارب تؤدبنا، وأنا بفضلها الآن أميرة نفسي، وقد سكن الليل وصفا أديمه، وتلألأت الكواكب في قبة عرشه الفخم ناشطة، عازمة، طامحة، وسأعود منتضية حسام النفس إلى مضمار الحياة، وأنت أبي إلى جانبي، وفريد على صدري، الحرية يا أبي مقدسة، حرية المرأة، وحرية الولد، وحرية الرجل، حرية فريد وحريتك وحريتي، حرية فريد في ظل أمه، وحريتك في ظل علمك ووجدانك، وحريتي أنا في ظل أبي، نعم، نعم، سيظهر فريد حياتي، وسيظهر فني وسأسعى لك وله ولنفسي ... صوت القصب يناديني ويناديك، ينادينا كلنا، صوت القصب هناك، هنالك، في ذاك الجبل، بل وراء قامات البحار، قد كانت نفسي كالزيز محبوسة في الشرنقة فأصبحت الآن فراشة حرة، ونفسك أبي كذلك، نفسك كذلك، سنلبي إذن صوت القصب، صوت الحياة، صوت الحرية، صوت الحق، صوت القصب يناديني ويناديك أبي، صوت القصب ينادينا كلنا.
فقال أبوها: كنت أهدي الناس يا بنتي وأنت اليوم تهديني، بارك الله فيك، بارك الله فيك.
وفي اليوم التالي كتبت مريم كتابا إلى الخواجا عارف مبارك بحيفا تكشف له سريرتها وتعلمه بقصدها، وكتابا آخر إلى القس جبرائيل مبارك تشكر له جميل صنعه وإحسانه وتخبره أنها متبعة فيما هي فاعلة الحق الذي علمها إياه، الحق لا تعلو حتى السعادة عليه.
وسافرت وأباها وابنها من سوريا يتبعون نور الشمس.
Halaman tidak diketahui