وإذا كان ذلك كذلك، فما بالك بمن يتطلع إلى إتقان الكتابة، والتصرف في فنون القول؟ ما بالك بمن تطمح نفسه إلى مثل هذا المطلب الوعر؟ وكم من السنين يجدر به أن يقضيها حتى يصل إلى غايته؟ «ومن يخطب الحسناء لم يغلها مهر.»
ما بالك بمن يريد أن يمتلك ناصية البيان، ويسمو بأسلوبه عن الركاكة، واللبس والتعقيد، وما إلى ذلك من عيوب الكتابة وصعاب اللغة، ويجمع - إلى ذلك - ذوقا فنيا عاليا.
أضف إلى ذلك أن من يريد أن يتعلم فن الإنشاء إنما هو - على الحقيقة - يريد أن يتعلم كيف يفكر، فهو في بحثه عن الكلمة الصحيحة الفصيحة، وتخيره الأسلوب الدقيق الأداء الموفق التعبير، يسلك كثيرا من شعاب القول وفنونه، ويمر بمنعرجاته ومنعطفاته الكثيرة، باحثا منقبا عن الفكرة المنشودة، متخيرا من بينها أمثل طريق، وهو بهذا يتعلم كيف يتعرف الخطأ والصواب، ويميز بين الحسن والأحسن، وكلما سار في هذه الطريق، تفتحت أمامه كنوز اللغة وفرائد المعاني، وكان مثله كمثل «سول» ذلك الفتى الذي تحدثنا الأساطير أنه ذهب يبحث عن جحوش أبيه وعيرانه فظفر بملك عظيم. (2) تمارين الإنشاء
أما تمارين الإنشاء فيجب أن تكون قصيرة، وأنا ألحف في الرجاء أن يعنى حضرات المدرسين بهذا الأمر كل العناية، وأن يجتنبوا دائما المقالات الطويلة، بل أن يحرموها على طلبتهم بتاتا؛ ذلك أنها منهكة لقواهم، مضيعة لوقت المدرسين بلا طائل، وهي - إلى ذلك - تعود الطلبة أن يجمحوا كثيرا، وربما تركوا جوهر الموضوع - كما يحدث ذلك أحيانا - وبعدوا عن أساسه. وشر عيوب الكتابة الشطط.
أضف إلى ذلك أن التطويل يعود الطالب الإهمال في صوغ عباراته بدقة، كما يعوده الإهمال في تخير الألفاظ؛ فلا ترى له إلا كتابة مفككة الأوصال، ركيكة التعبير، على حين أنه لو كتب موضوعا قصيرا لا يتجاوز عشرة أسطر - أحسن تنسيقها وعني بأدائها خير أداء - لكان ذلك أجدى عليه وأعود بالفائدة من كتابة موضوع مسهب في عشر صفحات قد رصفت فيه الكلمات رصفا بلا روية ولا إحكام. ويجدر بالمدرس أن يرشد الطالب إلى الطريق التي يسلكها ثم يدع له وحده تخير الجمل، وصقل الأسلوب.
أما الطالب فهو خليق أن يتخير من الموضوعات والمعاني ما يلائم تفكيره ويتناسب مع ميوله ومداركه؛ حتى يجيد أداءه.
ويجدر بالمدرس أن يصحح التمارين الإنشائية في الفصل - أمام التلاميذ - فإن ذلك أعون على توسيع مدارك الطالب وتنمية عقله، ثم ليقرأ الطالب موضوعه بصوت عال، وتبدأ المناقشة بين المدرس والطلبة في نقط الموضوع، وتبيان وجهات الخطأ والصواب فيه؛ فتتاح للطلبة فرصة الانتقاد، والأخذ والرد، والمناقشة، ويمتلئ الدرس حياة ونشاطا، ويتعود الطلبة الكلام والمحاجة منذ حداثتهم. (3) حوار شائق بين طالب ومدرس
طالب ناشئ يريد أن يصل إلى درجة عالية في فن الإنشاء، ويصبح قادرا على التعبير عن أغراضه بعبارة بليغة وأسلوب دقيق، وقد امتلأت نفسه بهذه الرغبة - التي تملكت عليه مشاعره - فلم يجد أمامه من يسترشد به في معرفة الطريق التي يسلكها للوصول إلى تحقيق غايته غير أستاذه، ولم يكد يوضح لأستاذه غرضه حتى دار بينهما الحوار التالي:
الطالب : «أريد أن أصل إلى درجة عالية في الإنشاء، وأن أصبح قادرا على الكتابة بأسلوب بليغ وعبارة مختارة، فما هي أقرب الطرق إلى ذلك؟»
المدرس : «إن غايتك التي ترمي إليها غاية نبيلة، ومطلبك الذي تسعى إلى تحقيقه مطلب سام جليل، فليس أبهج للنفس من القدرة على أداء الأغراض، والتعبير عن خوالج النفس بعبارة صحيحة بليغة، وسترى من إحكام لغتنا العربية، ووفرة أساليبها، ودقة تعبيرها ما يساعدك على إدراك طلبتك، فلقد تكون لغتنا أغنى لغة في العالم كله!»
Halaman tidak diketahui