إذا عرفت هذا فالروح الإنساني يسمى نورًا وهو أولى باسم النور كما حققه حجة الإسلام في كتابه (مشكاة الأنوار) قال فيه بعد أن ذكر ما في نور الباصرة من أنواع النقصان ما لفظه: فإن كان في الأعيان عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هي أولى باسم النور أو لا، فاعلم أن في قلب الإنسان عين هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح، وتارة بالنفس الإنساني، إلى أن قال: فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة والمجنون، ولنسميه عقلا متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الباصرة لرفعه قدره عن النقائص إلى آخر كلامه، فيكون المعنى حينئذ أن الروح الذي سبقت له هذه الأوصاف هو والنار قد تعاشقا، أي اتفقا في أشرف وصفيهما وهو النورية وإن كان الروح أولى به منها. وقوله: وقلبه لقلبها قد وافق يريد بالقلب وسط كلمتهما، وتوافقهما: اتحادهما من الإشتقاق فإن عين كل منهما واوا إذ أصل نارا نورا تحركت الواو وانفتح ما قبلها وقلبت ألفا.
وَهُوَ إِذا جَنّ الظَلامُ الداجي ... شَعشَعَ شَمسُ الراحِ في الزُجاجِ
وَاستَقبَلَ اللَيلُ بِصفو الراحِ ... حَتى يُنيرُ فَلقُ الصَباحِ
جن الظلام واجنة إذا ستره، ودجى الليل: شدة ظلمته، وشعشع الشراب بالماء إذا خلطه، وشمس الراح من باب لجين الماء، والراح: الخمر، وفلق الصباح بالتحريك: ضؤوه وإنارته، والفلق: الصبح نفسه. والمعنى أنه حين أن يجن الظلام وتأتي على الأنفس نوبة المنام، يتجرد عن الموانع الجسمانية ويتصل بالعوالم الروحانية، فحينئذ يشعشع شمس راح الأفراح في زجاج المسرة والإرتياح بما يشاهده من عالم الأرواح. قال بعض العارفين: لما كان الإنسان أخذ شبها من الملكية والبهيمية فكان للنفس نظرًا إلى عالم الخلق وبهذه اللطيفة أشرف على عالم الغيب إذا صدقت الرؤيا بأن النفس في تلك الحالة تبقى فارغة عن شغل الحواس لتستعد للإتصال بالجواهر العقلية التي فيها نفس الموجودات المعبر عنها في الشرع باللوح المحفوظ وهذا يختلف باختلاف صفاء النفس وكدورتها كالنفوس الصافية عن كدورات الذنوب يقوي إدراكها وينطبع في مرآتها جميع ما قابلته من عالم المثال بخلاف العكس.
وَكَأسُهُ مِن راحِهِ مُصَوَرُ ... وَراحُهُ مِ، كأسِهِ مُتَصِرُ.
لما ذكر الناظم قدس سره من أوصافه أنه إذا جن الظلام شعشع شمس الراح بالزجاج عقبه بما يصرف المعنى عن ظاهره وأنه ليس بهذا الراح المعروف في الزجاج المعهود بل هو نوع غريب ونمط عجيب، وذلك أن كاسه مصور من راحه، وراحه معتصر من كأسه، والمعنى أنه من صفاء جوهره ورقة عنصره لا يفتقر في إدراكه الأشياء إلى آلات وأدوات بل يشاهد الأمور العجيبة الشأن والمعاني التي لا يحيط بها البيان بذاته وجوهره لا غير.
حَياتُهُ عِندَ حُلولِ رَمسِهِ ... وَليلُهُ وَقتَ طُلوعِ شَمسِهِ
الرمس: القبر، استعير لمضجع الرجل عند نومه بجامع المشابهة، فإن النوم أخو الموت. وفي قوله تعالى: (اللَهُ يَتوفى الأنفُس حِينَ مَوتِها) الآية ما يدل على ذلك، وكذا ما جاء من الأدعية المأثورة عند النوم أن يقول الرجل: اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، وعند الإستيقاظ: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور. والمعنى أن حياته الكاملة في تجرده عن الإشتغال بالحواس وذلك عند سكون مضجعه الشبيه بحلول رمسه، وقوله: وليله إلى آخره، يعني أنه عند تطلع الشمس ويرجع الروح إلى هيكلها يحجبها الحواس بما يشغلها عن استقلالها بالتصرف في عالم الملكوت فكأنها داخلة في ظلمة كثيفة كظلمة الليل، ثم قرر هذا المعنى ورشحه بقوله:
ظُلمَتُهُ تُنيرُ في غَيهِبِها ... وَشَمسُهُ تَطلُعُ مِن مَغرِبِها
يعني أن ظلمته الداجية منير صاحبها ومطروقها في غيهبها على الإسناد المجازي، والمراد أن الروح تنير بتجردها وفراغها من شواغل الحواس الظاهرة والباطنة وذلك عند النوم في ظلمة الليل، ومعنى طلوع شمسه أنها بعروجها عند النوم طالعة في آفاق الملكوت من محل غروبها أي غيبتها عن جسمها واستقلالها عنه وإطلاق الشمس عليه استعارة ولفظ مغربها ترشيح.
1 / 19