وَالحَرفُ مِنهُ مُنتَفٍ في الرَسمِ ... وَالفِعلُ مِنهُ ثابتٌ للإسمِ
قد عرفت في تفسير قوله آنفا وغن خلت من صفحة الرقيم أنه يعبر بالحرف في اصطلاح القوم من الحقائق البسيطة، وأن بعض متكلميهم أنهى الحروف إلى ثمانية أقسام، وجعل منها الحروف الروحية، وهي الأرواح النورية، فيكون المعنى أن حقيقة الروح المعبر عنها بالحرف اصطلاحا منتف في ظاهر الرسم وهو البدن المشبه بالصحيفة فليس المدرك إلا إثارة وهو معنى قوله والفعل منه ثابت في الإسم، أي أفعاله الظاهرة ثابتة بإسمه مدركة في الحواس.
إن زالَت العَينَ رأى حالِ العَمى ... حَتى يَرى في أرضِهِ ما في السَماءِ
المراد بالعين هنا ذات الشيء كما هو أحد معانيها، ومعنى زوالها، فناها عن نفسها واستهلاكها في الله تعالى على ما ذكره علماء الطريقة. قال المحقق الشريف في تعريفاته: الفناء، سقوط الأوصاف المذمومة، كما أن البقاء وجود الأوصاف المحمودة، والفناء فناءان: أحدهما ما ذكرنا وهو بكثرة الرياضات، والثاني عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت، وهو الإستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق.
قال الشيخ شهاب الدين السهروردي: وإشارات الشيوخ في الإستغراق والفناء كلها عايدة إلى تحقيق مقام المحبة باستيلاء بنور اليقين وخلاصة الفكر على القلب. وقوله رأى حال العمى، يريد به ما ورد في حديث الجامع عن أبي رزين قال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء تحته هواء وفوقه هو. قال في (النهاية) هو بالفتح والمد، السحاب قال أبو عبيد: لا ندري كيف كان ذلك العماء. وفي رواية في عمى بالقصر ومعناه ليس معه شيء، وقيل: أمر لا يدركه عقول بني آدم ولا يبلغ كنهه الوصف، ولا بد من قولهس: أين كان ربنا من مضاف محذوف كما حذف في قوله تعالى (يَومَ يَأتي رَبُك) فيكون التقدير أين كان عرش ربنا ويدل عليه قوله تعالى وكان عرشه على الماء. قال الأزهري: نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة أي يجري اللفظ على ما جاء عليه من غير تأويل وهذه الطريفة يريدون به المرتبة الأحدية والمعنى في البيت أنه عند زوال العين بالفناء تضمحل الأكوان في شهوده حتى يتحقق قوله: كان الله ولم يكن معه شيء وهو الآن على ما كان عليه. وقوله: حتى يرى في أرضه أي يرى ويدرك وهو في أرضه ما في السماء فلا يغيب عنه شيء من الحقائق لتجرده عن جميع الأسباب والعلائق.
أَفلاكُهُ تَدورُ بِالأفلاكِ ... وَفَلَكُهُ يَسيحُ بِالأَملاكِ
الأفلاك: جمع فلك، محركة مدار النجوم، والفلك بالضم: السفينة. يريد أن أفلاكه التي هي عبارة عن أجساده على طريق الإستعارة تشبيها بأفلاك النجوم التي هي ظرف لما تعلق بها، تدور بدوران الأفلاك السماوية إذا الزمان كما قيل مقدار حركة الفلك، والمراد أنها لا تزال حادثة متعاقبة مدة دوران حركة الفلك، والمراد أنها لا تزال حادثة متعاقبة مدة دوران الأفلاك إلى انقطاع عمر الدنيا. وقوله: وفلكه إلى آخره استعار الفلك لهذا النوع الإنساني ورشجها بذكر السبح، ومعناه لما كانت الملائكة الكرام موكلين بحفظه كاتبين بخيره وشره كان فلكه سابحا في بحر زمانه بمصاحبة الأملاك.
وَها هُنا يَحسِبُهُ الظمآن ... ماءِ فَلا يُسعِدُهُ البَيان
فَإِن تَقُل ما هو فَعَذِب النَهَر ... وَغَصُ لَدرٍ سَرَهُ في البَحر
يعني أن الأوصاف التي ذكرها ﵀ من قوله: إن زالت العين إلى آخره، وقوله: وفلكه يسبح إلى آخره، ربما أشعرت بأن المراد منها الماء وهو لا يسعده البيان بسائر الأوصاف التي هي عنه بمعزل ثم عاد إلى سرد الأوصاف فقال: فإن تقل ما هو يعني إن سألت ما حقيقته فأفزع إلى النهر وعذبه حتى تعلم ما هو ذلك لأن الماء محل حياة أرواح الحيوانات البحرية كما أن الأرض محل حياة الحيوانات البرية وكذلك الكلام على قوله: وغص لدر سره إلى آخره.
فَإِنّهُ وَالنّارُ قَد تَعاشَقا ... وَقَلبُهُ لِقَلبِها قَد وافَقا
قال في (الكشاف): النار جوهر لطيف مضىء بحار محرق، والنور ضؤوها وضوء كل نير، وهو نقيض الظلمة، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا والنور مشتق منها
1 / 18