ويبقى الكلام: في كون الأرواح هل هي مخلوقة قبل الأجسام أم مقارنة لاستعداد محلها بالقبول، فالذي ذهب إليه حجة الإسلام الغزالي وبعض المتكلمين أنها حادثة مع الجسد واحتجوا بدليل عقلي وهو أنه لو كانت النفس قبل الجسد لكانت أما واحدة أو متكثرة ومحال كثرتها، إذ الكثرة مفتقرة إلى تغاير، وإذا فرضت النفس مجردة قبل الجسد فلا عوارض لتغاريرها، ومحال أيضا أن تكون واحدة فهي متصلة بأبدان كثيرة، إذ الاتصال والانفصال من صفات سمات المقادير وقد بطل كونها جسما وثبت كونها جوهرا مجردا بالدلائل السابقة، ولأنه يلزم أيضا أن تكون معلومات الأشخاص الإنسانية واحدة لأن النفس التي يحصل بها العلوم واحدة وليس كذلك، لعلمنا ضرورة أن ما يعلمه زيد يجوز أن يجهله عمرو مثلا، فهي إذا حادثة مع الجسد عند اعتداله من واحب الصور ويمكن أن يجاب عنه أنا نختار كونها متكثرة بخلق الله عزوجل ولا محذور في افتقارها إلى التغاير، قولكم: وإذا فرضت النفس مجردة قبل الجسد فلا عوارض لتغايرها ممنوع وسنده أنه لم لا تكون متغايرة بعوارض أيسرها أن هذه غير تلك ولا يقدح في تجرها إذ المراد به التجرد عن تلبسها بالهيكل الكثيف لا عدم التعلق به تعلق التدبير وإلا لم يصح تسميتها مجردة بعد التعلق وهو خلاف المطلوب، ونقيض ما صرحوا به في تعليقها، وذهب آخرون إلى تقدم الأرواح على الأجسام واحتجوا بالظواهر السمعية منها قوله تعالى (وَإذ أَخَذَ رَبُكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِياتِهِم) الآية.
قال في (جامع البيان (: اعلم أن الأحاديث الصحاح دالة على أن الله تعالى استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة والنار، وأما الإشهاد عليهم هنالك بأنه ربهم، ففي حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمر ﵄، كما حققه الثقات من المحدثين ووافقهما أكثر السلف كأُبي بن كعب ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والسدّي وغيرهم انتهى.
والخطاب بقوله تعالى: (أَلَستُ بِرَبِكُم) ليس إلا لموجود والأصل الحقيقة والعدول إلى غيرها مفتقر إلى دليل، كيف والدليل قائم على الأصل، ومنها قوله ﷺ: إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وقوله ﷺ: (أنا أول الأنبياء وآخرهم بعثا) . وقوله ﷺ: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)، وفي رواية (وآدم منحل في طينته) وقوله ﷺ: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) . وفي الباب أحاديث وآثار قاضية بهذا المعنى فلا تعويل على غيره. وأما الاعتضاد بدليل عقلي، فالحق ما ذكره بعض المحققين أن وجود النفس قبل البدن لم يحصل بذلك برهان عقلي، إلا أن سببها موجود قبل البدن وهي أشرف من البدن، فيكون وجودها قبل البدن وهي المخاطبة بالأمر والنهي وهي عالمة بجميع المعقولات بالقوة وتستفيض المعاني وتفيضها بمجرد الصفاء واللطافة لكن لما تسربلت بسربال الجثمان، وانحصرت في حيز البشر، واحتجبت بحجب الحواس، تعذر عليها استفاضتها إلا بالسمع، وإضافتها إلا بالقول، فجعل الله سآيات السمع والقول في البدن لئلا تنقطع مواد العلم من حول النفوس، فيعبر العالم بلسانه عن المعاني المعلومة في نفسه للمتعلم المستمع، فتلج العبارة في أذنه، فيتصل عالمها ونظمها بالفكرة وصورتها بالحافظة ومعانيها المجردة عن الموارد بالنفس حتى قال: ثم إن غالب النفوس ما دامت في هيكلها البشري لا يقدر على حفظ جميع ما يلقى إليها من القول، ولا ما تنتجه من بيانه فكرها، فألهمها الله صفة الكتابة ليكون لها عونا في حفظ ما تريد حفظه، وليكن ذخيرة للأخلاق من الأسلاف وينتقل العلم من قرن إلى قرن ومن أهل إلى أهل إلى أن يقضي الله أمرا هو فاعله. فكلما حصلت من العلوم حملتها أشكال الحروف وقيدتها بالكتابة في بطون الدفاتر، لأن الحروف أشكال وأمثلة وحقائق، فأشكالها هو المرقوم المدرك بالبصر، وأمثلتها هو القول المدرك بالسمع وحقائقها هو صورة مجردة عن تلك الأمثلة، والأشكال مخزونة في الحافظة والذاكرة، تصورها فتعين لكل حرف صورة تخصها، والأشكال والأمثلة حكاية تلك الصورة الروحانية لاعينها، انتهى كلامه. وإن تعدا سياق البحث فلا يخلو عن إفادة ولبعض علماء الطريقة في هذا المقام نفس طويل، اقتصرنا منه على ما نصه:
1 / 10